ركن التفسير
77 - (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) أي صلوا (واعبدوا ربكم) وحدوه (وافعلوا الخير) كصلة اللاحم ومكارم الأخلاق (لعلكم تفلحون) تفوزون بالبقاء في الجنة
اختلف الأئمة- رحمهم الله - في هذه السجدة الثانية من سورة الحج هل هو مشروع السجود فيها أم لا ؟ على قولين وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبه بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم " فضلت سورة الحج بسجدتين فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما ".
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا واعْبُدُوا رَبَّكم وافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ لَمّا كانَ خِطابُ المُشْرِكِينَ فاتِحًا لِهَذِهِ السُّورَةِ وشاغِلًا لِمُعْظَمِها عَدا ما وقَعَ اعْتِراضًا في خِلالِ ذَلِكَ. فَقَدْ خُوطِبَ المُشْرِكُونَ بِـ (يا أيُّها النّاسُ) أرْبَعَ مَرّاتٍ، فَعِنْدَ اسْتِيفاءِ ما سِيقَ إلى المُشْرِكِينَ مِنَ الحُجَجِ والقَوارِعِ والنِّداءِ عَلى مَساوِي أعْمالِهِمْ. خُتِمَتِ السُّورَةُ بِالإقْبالِ عَلى خِطابِ المُؤْمِنِينَ بِما يُصْلِحُ أعْمالَهم ويُنَوِّهُ بِشَأْنِهِمْ. (p-٣٤٦)وفِي هَذا التَّرْتِيبِ إيماءٌ إلى أنَّ الِاشْتِغالَ بِإصْلاحِ الِاعْتِقادِ مُقَدَّمٌ عَلى الِاشْتِغالِ بِإصْلاحِ الأعْمالِ. والمُرادُ بِالرُّكُوعِ والسُّجُودِ الصَّلَواتُ. وتَخْصِيصُهُما بِالذِّكْرِ مِن بَيْنِ أعْمالِ الصَّلاةِ لِأنَّهُما أعْظَمُ أرْكانِ الصَّلاةِ إذْ بِهِما إظْهارُ الخُضُوعِ والعُبُودِيَّةِ. وتَخْصِيصُ الصَّلاةِ بِالذِّكْرِ قَبْلَ الأمْرِ بِبَقِيَّةِ العِباداتِ المَشْمُولَةِ لِقَوْلِهِ ﴿واعْبُدُوا رَبَّكُمْ﴾ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الصَّلاةَ عِمادُ الدِّينِ. والمُرادُ بِالعِبادَةِ: ما أمَرَ اللَّهُ النّاسَ أنْ يَتَعَبَّدُوا بِهِ مِثْلُ الصِّيامِ والحَجِّ. وقَوْلُهُ ﴿وافْعَلُوا الخَيْرَ﴾ أمْرٌ بِإسْداءِ الخَيْرِ إلى النّاسِ مِنَ الزَّكاةِ، وحُسْنِ المُعامَلَةِ: كَصِلَةِ الرَّحِمِ، والأمْرِ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وسائِرِ مَكارِمِ الأخْلاقِ، وهَذا مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ وبَيَّنَتْ مَراتِبَهُ أدِلَّةٌ أُخْرى. والرَّجاءُ المُسْتَفادُ مِن ﴿لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى تَقْرِيبِ الفَلاحِ لَهم إذا بَلَغُوا بِأعْمالِهِمُ الحَدَّ المُوجِبَ لِلْفَلاحِ فِيما حَدَّدَ اللَّهُ تَعالى. فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الرَّجاءِ. وأمّا ما يَسْتَلْزِمُهُ الرَّجاءُ مِن تَرَدُّدِ الرّاجِي في حُصُولِ المَرْجُوِّ فَذَلِكَ لا يَخْطُرُ بِالبالِ لِقِيامِ الأدِلَّةِ الَّتِي تُحِيلُ الشَّكَ عَلى اللَّهِ تَعالى. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا﴾ إلى ﴿لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ اخْتَلَفَ الأئِمَّةُ في كَوْنِ ذَلِكَ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ مِن سُجُودِ القُرْآنِ. والَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الجُمْهُورُ أنْ لَيْسَ ذَلِكَ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ وهو قَوْلُ مالِكٍ في المُوَطَّأِ والمُدَوَّنَةِ، وأبِي حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيِّ. وذَهَبَ جَمْعٌ غَفِيرٌ إلى أنَّ ذَلِكَ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ، ورَوى الشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وفُقَهاءُ المَدِينَةِ، ونَسَبَهُ ابْنُ العَرَبِيِّ إلى مالِكٍ (p-٣٤٧)فِي رِوايَةِ المَدَنِيِّينَ مِن أصْحابِهِ عَنْهُ. وقالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ في الكافِي: ومِن أهْلِ المَدِينَةِ قَدِيمًا وحَدِيثًا مَن يَرى السُّجُودَ في الثّانِيَةِ مِنَ الحَجِّ قالَ: وقَدْ رَواهُ ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ. وتَحْصِيلُ مَذْهَبِهِ أنَّها إحْدى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ في المُفَصَّلِ مِنها شَيْءٌ، فَلَمْ يَنْسِبْهُ إلى مالِكٍ إلّا مِن رِوايَةِ ابْنِ وهْبٍ، وكَذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ في المُقَدِّماتِ: فَما نَسَبَهُ ابْنُ العَرَبِيِّ إلى المَدَنِيِّينَ مِن أصْحابِ مالِكٍ غَرِيبٌ. ورَوى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ مِشْرَحٍ «عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ قالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ فُضِّلَتْ سُورَةُ الحَجِّ لِأنَّ فِيها سَجْدَتَيْنِ ؟ قالَ: نَعَمْ، ومَن لَمْ يَسْجُدْهُما فَلا يَقْرَأْهُما» اهـ. قالَ أبُو عِيسى: هَذا حَدِيثٌ إسْنادُهُ لَيْسَ بِالقَوِيِّ اهـ، أيْ مِن أجْلِ أنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ ضَعَّفَهُ يَحْيى بْنُ مَعِينٍ. وقالَ مُسْلِمٌ: تَرَكَهُ وكِيعٌ، والقَطّانُ، وابْنُ مَهْدِيٍّ. وقالَ أحْمَدُ: احْتَرَقَتْ كُتُبُهُ فَمَن رَوى عَنْهُ قَدِيمًا أيْ قَبْلَ احْتِراقِ كُتُبِهِ قُبِلَ.