ركن التفسير
70 - (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل) على الإيمان بالله ورسله (وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول) منهم (بما لا تهوى أنفسهم) من الحق كذبوه (فريقا) منهم (كذبوا وفريقا) منهم (يقتلون) كزكريا ويحيى والتعبير به دون قتلوا حكاية للحال الماضية للفاصلة
قال تعالى "وحسبوا أن لا تكون فتنة " أي وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا فترتب وهو أنهم عموا عن الحق وصموا فلا يسمعون حقا ولا يهتدون إليه ثم" تاب الله عليهم" أي مما كانوا فيه ثم عموا وصموا أي بعد ذلك كثير منهم" والله بصير بما يعملون" أى مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم.
﴿لَقَدْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ وأرْسَلْنا إلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهم رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أنْفُسُهم فَرِيقًا كَذَّبُوا وفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ . اسْتِئْنافٌ عادَ بِهِ الكَلامُ عَلى أحْوالِ اليَهُودِ وجَراءَتِهِمْ عَلى اللَّهِ وعَلى رُسُلِهِ. وذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِاليَأْسِ مِن هَدْيِهِمْ بِما جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ وبِأنَّ ما قابَلُوا بِهِ دَعْوَتَهُ لَيْسَ بِدْعًا مِنهم بَلْ ذَلِكَ دَأْبُهم جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى أخْذِ المِيثاقِ عَلى اليَهُودِ غَيْرَ مَرَّةٍ. أُولاها في سُورَةِ البَقَرَةِ. والرُّسُلُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إلَيْهِمْ هم مُوسى وهارُونُ ومَن جاءَ بَعْدَهُما مِثْلُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ وأشْعِيا وأرْمِيا وحِزْقِيالَ وداوُدَ وعِيسى. فالمُرادُ بِالرُّسُلِ هُنا الأنْبِياءُ: مَن جاءَ مِنهم بِشَرْعٍ وكِتابٍ، مِثْلُ مُوسى وداوُدَ وعِيسى، ومَن جاءَ مُعَزِّزًا لِلشَّرْعِ مُبَيِّنًا لَهُ، مِثْلُ يُوشَعَ وأشْعِيا وأرْمِيا. وإطْلاقُ الرَّسُولِ عَلى النَّبِيءِ الَّذِي لَمْ يَجِئْ بِشَرِيعَةٍ إطْلاقٌ شائِعٌ في القُرْآنِ كَما تَقَدَّمَ؛ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ أنَّهم قَتَلُوا فَرِيقًا مِنَ الرُّسُلِ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الرُّسُلِ بِالأنْبِياءِ فَإنَّهم ما قَتَلُوا إلّا أنْبِياءَ لا رُسُلًا. وقَوْلُهُ ﴿كُلَّما جاءَهم رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أنْفُسُهم فَرِيقًا كَذَّبُوا﴾ إلَخْ، انْتَصَبَ (كُلَّما) عَلى الظَّرْفِيَّةِ لِأنَّهُ دالٌّ عَلى اسْتِغْراقِ أزْمِنَةِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ فَيَدُلُّ عَلى اسْتِغْراقِ الرُّسُلِ تَبَعًا لِاسْتِغْراقِ أزْمِنَةِ مَجِيئِهِمْ، إذِ اسْتِغْراقُ أزْمِنَةِ وُجُودِ شَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ اسْتِغْراقَ أفْرادِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَما ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ دالَّةٌ عَلى الزَّمانِ. وانْتَصَبَ (كُلَّ) عَلى النِّيابَةِ عَنِ الزَّمانِ لِإضافَتِهِ إلى اسْمِ الزَّمانِ المُبْهَمِ، وهو (p-٢٧٣)(ما) الظَّرْفِيَّةُ المَصْدَرِيَّةُ. والتَّقْدِيرُ: في كُلِّ أوْقاتِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ كَذَّبُوا ويَقْتُلُونَ. وانْتَصَبَ كُلَّما بِالفِعْلَيْنِ وهو (كَذَّبُوا) و(يَقْتُلُونَ) عَلى التَّنازُعِ. وتَقْدِيمُ (كُلَّما) عَلى العامِلِ اسْتِعْمالٌ شائِعٌ لا يَكادُ يَتَخَلَّفُ، لِأنَّهم يُرِيدُونَ بِتَقْدِيمِهِ الِاهْتِمامَ بِهِ، لِيَظْهَرَ أنَّهُ هو مَحَلُّ الغَرَضِ المَسُوقَةِ لَهُ جُمْلَتُهُ، فَإنَّ اسْتِمْرارَ صَنِيعِهِمْ ذَلِكَ مَعَ جَمِيعِ الرُّسُلِ في جَمِيعِ الأوْقاتِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ التَّكْذِيبَ والقَتْلَ صارا سَجِيَّتَيْنِ لَهم لا تَتَخَلَّفانِ، إذْ لَمْ يَنْظُرُوا إلى حالِ رَسُولٍ دُونَ آخَرَ ولا إلى زَمانٍ دُونَ آخَرَ، وذَلِكَ أظْهَرُ في فَظاعَةِ حالِهِمْ، وهي المَقْصُودُ هُنا. وبِهَذا التَّقْدِيمِ يُشْرَبُ ظَرْفُ (كُلَّما) مَعْنى الشَّرْطِيَّةِ فَيَصِيرُ العامِلُ فِيهِ بِمَنزِلَةِ الجَوابِ لَهُ، كَما تَصِيرُ أسْماءُ الشَّرْطِ مُتَقَدِّمَةً عَلى أفْعالِها وأجْوِبَتِها في نَحْوِ (أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ) . إلّا أنَّ (كُلَّما) لَمْ يُسْمَعِ الجَزْمُ بَعْدَها ولِذَلِكَ لَمْ تُعَدَّ في أسْماءِ الشَّرْطِ لِأنَّ (كُلَّ) بَعِيدٌ عَنْ مَعْنى الشَّرْطِيَّةِ. والحَقُّ أنَّ إطْلاقَ الشَّرْطِ عَلَيْها في كَلامِ بَعْضِ النُّحاةِ تَسامُحٌ. وقَدْ أطْلَقَهُ صاحِبُ الكَشّافِ في هَذِهِ الآيَةِ، لِأنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَها سَبَبًا لَفْظِيًّا يُوجِبُ تَقْدِيمَها بِخِلافِ ما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أفَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [البقرة: ٨٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وفي قَوْلِهِ ﴿أوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنهُمْ﴾ [البقرة: ١٠٠] في تِلْكَ السُّورَةِ؛ فَإنَّ التَّقْدِيمَ فِيهِما تَبَعٌ لِوُقُوعِهِما مُتَّصِلَتَيْنِ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ كَما ذَكَرْناهُ هُنالِكَ، وإنْ كانَ قَدْ سَكَتَ عَلَيْهِما في الكَشّافِ لِظُهُورِ أمْرِهِما في تَيْنِكَ الآيَتَيْنِ. فالأحْسَنُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ (فَرِيقًا كَذَّبُوا) حالًا مِن ضَمِيرِ (إلَيْهِمْ) لِاقْتِرانِها بِضَمِيرٍ مُوافِقٍ لِصاحِبِ الحالِ، ولِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ الخَبَرِ تَفْظِيعُ حالِ بَنِي إسْرائِيلَ في سُوءِ مُعامَلَتِهِمْ لِهُداتِهِمْ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا بِاعْتِبارِ كَوْنِ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ هَذِهِ حالُهم مَعَ رُسُلِهِمْ. ولَيْسَتْ جُمْلَةُ فَرِيقًا كَذَّبُوا وما تَقَدَّمَها مِن مُتَعَلِّقِها اسْتِئْنافًا، إذْ لَيْسَ المَقْصُودُ الإخْبارَ بِأنَّ اللَّهَ أرْسَلَ إلَيْهِمْ رُسُلًا بَلْ بِمَدْلُولِ هَذا الحالِ. وبِهَذا يَظْهَرُ لَكَ أنَّ التَّقْسِيمَ في قَوْلِهِ ﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا وفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ لَيْسَ لِرَسُولٍ مِن قَوْلِهِ ﴿كُلَّما جاءَهم رَسُولٌ﴾ بَلْ لِـ رُسُلًا؛ لِأنَّنا اعْتَبَرْنا قَوْلَهُ ﴿كُلَّما جاءَهم (p-٢٧٤)رَسُولٌ﴾ مُقَدَّمًا مِن تَأْخِيرٍ. والتَّقْدِيرُ: وأرْسَلْنا إلَيْهِمْ رُسُلًا كَذَّبُوا مِنهم فَرِيقًا وقَتَلُوا فَرِيقًا كُلَّما جاءَهم رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ. وبِهَذا نَسْتَغْنِي عَنْ تَكَلُّفاتٍ وتَقْدِيرٍ في نَظْمِ الآيَةِ الآتِي عَلى أبْرَعِ وُجُوهِ الإيجازِ وأوْضَحِ المَعانِي. وقَوْلُهُ ﴿بِما لا تَهْوى أنْفُسُهُمْ﴾ أيْ بِما لا تُحِبُّهُ. يُقالُ: هَوِيَ يَهْوى بِمَعْنى أحَبَّ ومالَتْ نَفْسُهُ إلى مُلابَسَةِ شَيْءٍ. إنَّ بَعْثَةَ الرُّسُلَ القَصْدُ مِنها كَبْحُ الأنْفُسِ عَنْ كَثِيرٍ مِن هَواها المُوقِعِ لَها في الفَسادِ عاجِلًا والخُسْرانِ آجِلًا، ولَوْلا ذَلِكَ لَتُرِكَ النّاسُ وما يَهْوَوْنَ؛ فالشَّرائِعُ مُشْتَمِلَةٌ لا مَحالَةَ عَلى كَثِيرٍ مِن مَنعِ النُّفُوسِ مِن هَواها. ولَمّا وُصِفَتْ بَنُو إسْرائِيلَ بِأنَّهم يُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ ويَقْتُلُونَهم إذا جاءُوهم بِما يُخالِفُ هَواهم عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يَخْلُ رَسُولٌ جاءَهم مِن أحَدِ الأمْرَيْنِ أوْ كِلَيْهِما: وهُما التَّكْذِيبُ والقَتْلُ، وذَلِكَ مُسْتَفادٌ مِن ﴿كُلَّما جاءَهم رَسُولٌ﴾، فَلَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ ﴿بِما لا تَهْوى أنْفُسُهُمْ﴾ فائِدَةٌ إلّا الإشارَةَ إلى زِيادَةِ تَفْظِيعِ حالِهِمْ مِن أنَّهم يُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ أوْ يَقْتُلُونَهم في غَيْرِ حالَةٍ يَلْتَمِسُونَ لِأنْفُسِهِمْ فِيها عُذْرًا مِن تَكْلِيفٍ بِمَشَقَّةٍ فادِحَةٍ، أوْ مِن حُدُوثِ حادِثِ ثائِرَةٍ، أوْ مِن أجْلِ التَّمَسُّكِ بِدِينٍ يَأْبَوْنَ مُفارَقَتَهُ، كَما فَعَلَ المُشْرِكُونَ مِنَ العَرَبِ في مَجِيءِ الإسْلامِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ مُخالَفَةِ هَوى أنْفُسِهِمْ بَعْدَ أنْ أخَذَ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ فَقَبِلُوهُ فَتَتَعَطَّلُ بِتَمَرُّدِهِمْ فائِدَةُ التَّشْرِيعِ وفائِدَةُ طاعَةِ الأُمَّةِ لِهُداتِها. وهَذا تَعْلِيمٌ عَظِيمٌ مِنَ القُرْآنِ بِأنَّ مِن حَقِّ الأُمَمِ أنْ تَكُونَ سائِرَةً في طَرِيقِ إرْشادِ عُلَمائِها وهُداتِها، وأنَّها إذا رامَتْ حَمْلَ عُلَمائِها وهُداتِها عَلى مُسايَرَةِ أهْوائِها، بِحَيْثُ يُعْصَوْنَ إذا دَعَوْا إلى ما يُخالِفُ هَوى الأقْوامِ فَقَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الخُسْرانُ كَما حَقَّ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، لِأنَّ في ذَلِكَ قَلْبًا لِلْحَقائِقِ ومُحاوَلَةَ انْقِلابِ التّابِعِ مَتْبُوعًا والقائِدِ مَقُودًا، وأنَّ قادَةَ الأُمَمِ وعُلَماءَها ونُصَحاءَها إذا سايَرُوا الأُمَمَ عَلى هَذا الخُلُقِ كانُوا غاشِّينَ لَهم، وزالَتْ فائِدَةُ عِلْمِهِمْ وحِكْمَتِهِمْ واخْتَلَطَ المَرْعِيُّ بِالهَمَلِ والحابِلُ بِالنّابِلِ، وقَدْ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «مَنِ اسْتَرْعاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَغَشَّها لَمْ يَشَمَّ رائِحَةَ الجَنَّةِ» . فالمُشْرِكُونَ مِنَ العَرَبِ أقْرَبُ إلى المَعْذِرَةِ لِأنَّهم قابَلُوا الرَّسُولَ مِن أوَّلِ وهْلَةٍ (p-٢٧٥)بِقَوْلِهِمْ ﴿إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٢]، وقالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ ﴿أصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا﴾ [هود: ٨٧]، بِخِلافِ اليَهُودِ آمَنُوا بِرُسُلِهِمُ ابْتِداءً ثُمَّ انْتَقَضُوا عَلَيْهِمْ بِالتَّكْذِيبِ والتَّقْتِيلِ إذا حَمَلُوهم عَلى ما فِيهِ خَيْرُهم مِمّا لا يَهْوُونَهُ. وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ في قَوْلِهِ (فَرِيقًا كَذَّبُوا) لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ بِالتَّفْصِيلِ لِأنَّ الكَلامَ مَسُوقٌ مَساقَ التَّفْصِيلِ لِأحْوالِ رُسُلِ بَنِي إسْرائِيلَ بِاعْتِبارِ ما لاقَوْهُ مِن قَوْمِهِمْ، ولِأنَّ في تَقْدِيمِ مَفْعُولِ (يَقْتُلُونَ) رِعايَةً عَلى فاصِلَةِ الآيِ، فَقَدَّمَ مَفْعُولَ (كَذَّبُوا) لِيَكُونَ المَفْعُولانِ عَلى وتِيرَةٍ واحِدَةٍ. وجِيءَ في قَوْلِهِ (يَقْتُلُونَ) بِصِيغَةِ المُضارِعِ لِحِكايَةِ الحالِ الماضِيَةِ لِاسْتِحْضارِ تِلْكَ الحالَةِ الفَظِيعَةِ إبْلاغًا في التَّعْجِيبِ مِن شَناعَةِ فاعِلِيها. والضَّمائِرُ كُلُّها راجِعَةٌ إلى بَنِي إسْرائِيلَ بِاعْتِبارِ أنَّهم أُمَّةٌ يَخْلُفُ بَعْضُ أجْيالِها بَعْضًا، وأنَّها رَسَخَتْ فِيها أخْلاقٌ مُتَماثِلَةٌ وعَوائِدُ مُتَّبَعَةٌ بِحَيْثُ يَكُونُ الخَلَفُ مِنهم فِيها عَلى ما كانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ؛ فَلِذَلِكَ أُسْنِدَتِ الأفْعالُ الواقِعَةُ في عُصُورٍ مُتَفاوِتَةٍ إلى ضَمائِرِهِمْ مَعَ اخْتِلافِ الفاعِلِينَ، فَإنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا بَعْضَ الأنْبِياءِ فَرِيقٌ غَيْرُ الَّذِينَ اقْتَصَرُوا عَلى التَّكْذِيبِ.