ركن التفسير
80 - (ترى) يا محمد (كثيرا منهم يتولون الذين كفروا) من أهل مكة بغضا لك (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم) من العمل لمعادهم الموجب لهم (أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون)
قوله تعالى "ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا" قال مجاهد يعني بذلك المنافقين وقوله" لبئس ما قدمت لهم أنفسهم" يعني بذلك موالاتهم للكافرين وتركهم موالاة المؤمنين التي أعقبتهم نفاقا في قلوبهم وأسخطت الله عليهم سخطا مستمرا إلى يوم معادهم ولهذا قال" أن سخط الله عليهم" وفسر بذلك ما ذمهم به ثم أخبر عنهم أنهم" في العذاب خالدون" يعني يوم القيامة قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا مسلم بن علي عن الأعمش بإسناد ذكره قال: يا معشر المسلمين إياكم والزنا فإن فيه ست خصال ثلاثة فى الدنيا وثلاثة فى الآخرة فأما التي في الدنيا: فإنه يذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما التي فى الآخرة: فإنه يوجب سخط الرب وسوء الحساب والخلود في النار ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم" لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون" هكذا ذكره ابن أبي حاتم وقد رواه ابن مردويه عن طريق هشام بن عمار عن مسلم من الأعمش عن شقيق عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وساقه أيضا من طريق سعيد بن عفير عن مسلم عن أبي عبد الرحمن الكوفي عن الأعمش عن شقيق عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله وهذا حديث ضعيف على كل حال والله أعلم.
﴿تَرى كَثِيرًا مِنهم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهم أنْفُسُهم أنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وفي العَذابِ هم خالِدُونَ﴾ ﴿ولَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيءِ وما أُنْزِلِ إلَيْهِ ما اتَّخَذُوهم أوْلِياءَ ولَكِنَّ كَثِيرًا مِنهم فاسِقُونَ﴾ . اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ ذُكِرَ بِهِ حالُ طائِفَةٍ مِنَ اليَهُودِ كانُوا في زَمَنِ الرَّسُولِ ﷺ وأظْهَرُوا الإسْلامَ وهم مُعْظَمُ المُنافِقِينَ وقَدْ دَلَّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، لِأنَّهُ لا يُسْتَغْرَبُ إلّا لِكَوْنِهِ صادِرًا مِمَّنْ أظْهَرُوا الإسْلامَ فَهَذا انْتِقالٌ لِشَناعَةِ المُنافِقِينَ. والرُّؤْيَةُ في قَوْلِهِ تَرى بَصَرِيَّةٌ، والخِطابُ لِلرَّسُولِ. والمُرادُ بِـ كَثِيرٌ مِنهم كَثِيرٌ مِن يَهُودِ المَدِينَةِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَرى، وذَلِكَ (p-٢٩٥)أنَّ كَثِيرًا مِنَ اليَهُودِ بِالمَدِينَةِ أظْهَرُوا الإسْلامَ نِفاقًا، نَظَرًا لِإسْلامِ جَمِيعِ أهْلِ المَدِينَةِ مِنَ الأوْسِ والخَزْرَجِ فاسْتَنْكَرَ اليَهُودُ أنْفُسَهم فِيها، فَتَظاهَرُوا بِالإسْلامِ لِيَكُونُوا عَيْنًا لِيَهُودِ خَيْبَرَ وقُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ. ومَعْنى يَتَوَلَّوْنَ يَتَّخِذُونَهم أوْلِياءً. والمُرادُ بِـ الَّذِينَ كَفَرُوا مُشْرِكُو مَكَّةَ ومَن حَوْلَ المَدِينَةِ مِنَ الأعْرابِ الَّذِينَ بَقُوا عَلى الشِّرْكِ. ومِن هَؤُلاءِ اليَهُودِ كَعْبُ بْنُ الأشْرَفِ رَئِيسُ اليَهُودِ فَإنَّهُ كانَ مُوالِيًا لِأهْلِ مَكَّةَ وكانَ يُغْرِيهِمْ بِغَزْوِ المَدِينَةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُمُ المُرادُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ والطّاغُوتِ ويَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ [النساء: ٥١] . وقَوْلُهُ ﴿أنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ (أنْ) فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ دَخَلَتْ عَلى الفِعْلِ الماضِي وهو جائِزٌ، كَما في الكَشّافِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ﴾ [الإسراء: ٧٤]، والمَصْدَرُ المَأْخُوذُ هو المَخْصُوصُ بِالذَّمِّ. والتَّقْدِيرُ: لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ بِهِمْ أنْفُسُهم سُخْطُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَسُخْطُ اللَّهِ مَذْمُومٌ. وقَدْ أفادَ هَذا المَخْصُوصُ أنَّ اللَّهَ قَدْ غَضِبَ عَلَيْهِمْ غَضَبًا خاصًّا لِمُوالاتِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وذَلِكَ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ في الكَلامِ فَهَذا مِن إيجازِ الحَذْفِ. ولَكَ أنْ تَجْعَلَ المُرادَ بِسُخْطِ اللَّهِ هو اللَّعْنَةُ الَّتِي في قَوْلِهِ ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [المائدة: ٧٨] . وكَوْنُ ذَلِكَ مِمّا قَدَّمَتْ لَهم أنْفُسُهم مَعْلُومٌ مِنَ الكَلامِ السّابِقِ. وقَوْلُهُ ﴿ولَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيءِ﴾ إلَخْ. الواوُ لِلْحالِ مِن قَوْلِهِ ﴿تَرى كَثِيرًا مِنهُمْ﴾ بِاعْتِبارِ كَوْنِ المُرادِ بِهِمُ المُتَظاهِرِينَ بِالإسْلامِ بِقَرِينَةِ ما تَقَدَّمَ، فالمَعْنى: ولَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ إيمانًا صادِقًا ما اتَّخَذُوا المُشْرِكِينَ أوْلِياءً. والمُرادُ بِالنَّبِيءِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وبِما أُنْزِلَ إلَيْهِ القُرْآنُ، وذَلِكَ لِأنَّ النَّبِيءَ نَهى المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوالاةِ المُشْرِكِينَ، والقُرْآنُ نَهى عَنْ ذَلِكَ في غَيْرِ ما آيَةٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٢٨] . وقَدْ جَعَلَ مُوالاتَهم لِلْمُشْرِكِينَ عَلامَةً عَلى عَدَمِ إيمانِهِمْ بِطَرِيقَةِ القِياسِ الِاسْتِثْنائِيِّ، لِأنَّ المُشْرِكِينَ أعْداءُ الرَّسُولِ فَمُوالاتُهم لَهم عَلامَةٌ عَلى عَدَمِ الإيمانِ بِهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. (p-٢٩٦)وقَوْلُهُ ﴿ولَكِنَّ كَثِيرًا مِنهم فاسِقُونَ﴾ هو اسْتِثْناءُ القِياسِ، أيْ ولَكِنَّ كَثِيرًا مِن بَنِي إسْرائِيلَ فاسِقُونَ. فالضَّمِيرُ عائِدٌ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ تَرى كَثِيرًا مِنهم. وفاسِقُونَ كافِرُونَ، فَلا عَجَبَ في مُوالاتِهِمُ المُشْرِكِينَ لِاتِّحادِهِمْ في مُناواةِ الإسْلامِ. فالمُرادُ بِالكَثِيرِ في قَوْلِهِ ولَكِنَّ كَثِيرًا مِنهم فاسِقُونَ عَيْنُ المُرادِ مِن قَوْلِهِ ﴿تَرى كَثِيرًا مِنهم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَقَدْ أُعِيدَتِ النَّكِرَةُ نَكِرَةً وهي عَيْنُ الأُولى إذْ لَيْسَ يَلْزَمُ إعادَتُها مَعْرِفَةً. ألا تَرى قَوْلَهُ تَعالى ﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: ٥] ﴿إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: ٦] . ولَيْسَ ضَمِيرٌ مِنهم عائِدًا إلى (كَثِيرًا) إذْ لَيْسَ المُرادُ أنَّ الكَثِيرَ مِنَ الكَثِيرِ فاسِقُونَ بَلِ المُرادُ كُلُّهم.