ركن التفسير
143 - (ولما جاء موسى لميقاتنا) أي للوقت الذي وعدناه بالكلام فيه (وكلمه ربه) بلا واسطة كلاماً سمعه من كل جهة (قال رب أرني) نفسك (أنظر إليك قال لن تراني) أي لا تقدر على رؤيتي ، والتعبير به دون لن أُرى يفيد إمكان رؤيته تعالى (ولكن انظر إلى الجبل) الذي هو أقوى منك (فإن استقر) ثبت (مكانه فسوف تراني) أي تثبت لرؤيتي وإلا فلا طاقة لك (فلما تجلى ربه) أي ظهر من نوره قدر نصف أنملة الخنصر كما في حديث صححه الحاكم (للجبل جعله دكا) بالقصر والمد أي مدكوكاً مستوياً بالأرض (وخر موسى صعقاً) مغشياً عليه لهول ما رأى (فلما أفاق قال سبحانك) تنزيهاً لك (تبت إليك) من سؤال ما لم أؤمر به (وأنا أول المؤمنين) في زماني
يخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء لميقات الله تعالى وحصل له التسليم من الله سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال "رب أرني أنظر إليك قال لن تراني" وقد أشكل حرف لن ههنا على كثير من العلماء لأنها موضوعة لنفي التأبيد فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة وهذا أضعف الأقوال لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة كما سنوردها عند قوله تعالى "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" وقوله تعالى إخبارا عن الكفار "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" وقيل إنها لنفي التأبيد في الدنيا جمعا بين هذه الآية وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة وقيل إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير" وقد تقدم ذلك في الأنعام وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام "يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده" ولهذا قال تعالى "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا" قال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية: حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي حدثنا قرة بن عيسى حدثنا الأعمش عن رجل عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما تجلى ربه للجبل أشار بأصبعه فجعله دكا" وأرانا أبو إسماعيل بأصبعه السبابة هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم ثم قال حدثني المثنى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد عن ليث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا" قال "هكذا بأصبعه" ووضع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر "فساخ الجبل" هكذا وقع في هذه الرواية حماد بن سلمة عن ثابت عن ليث عن أنس كما قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا" قال "ووضع الإبهام قريبا من طرف خنصره" قال "فساخ الجبل" قال حميد لثابت يقول هكذا فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس وأنا أكتمه؟ وهذا رواه الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو المثنى معاذ بن معاذ العنبري حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "فلما تجلى ربه للجبل" قال: قال "هكذا" يعني أنه أخرج طرف الخنصر. قال أحمد أرانا معاذ فقال له حميد الطويل ما تريد إلى هذا يا أبا محمد قال: فضرب صدره ضربة شديدة وقال من أنت يا حميد وما أنت يا حميد يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما تريد إليه؟ وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن عبدالوهاب بن الحكم الوراق عن معاذ بن معاذ به وعن عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به ثم قال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق عن حماد بن سلمة به وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ورواه أبو محمد الحسن بن محمد بن علي الخلال عن محمد بن علي بن سويد عن أبي القاسم البغوي عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة فذكره وقال هذا إسناد صحيح لا علة فيه وقد رواه داود بن المحبر عن شعبة عن ثابت عن أنس مرفوعا وهذا ليس بشيء لأن داود بن المحبر كذاب رواه الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بن مردويه من طريقين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مرفوعا بنحوه وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا ولا يصح أيضا رواه الترمذي وصححه الحاكم وقال على شرط مسلم وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى "فلما تجلى ربه للجبل" قال ما تجلى منه إلا قدر الخنصر "جعله دكا" قال ترابا "وخر موسى صعقا" قال مغشيا عليه رواه ابن جرير. وقال قتادة: وخر موسى صعقا قال ميتا. وقال سفيان الثوري: ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب معه. وقال سنيد عن حجاج بن محمد الأعور عن أبي بكر الهذلي "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا" انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة رواه ابن مردويه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شيبة حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني حدثنا عبدالعزيز بن عمران عن معاوية بن عبدالله عن الجلد بن أيوب عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لما تجلى الله للجبال طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ووقع بمكة حراء وثبير وثور" وهذا حديث غريب بل منكر وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن محمد بن عبدالله بن أبي البلح حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا عثمان بن حصين بن العلاف عن عروة بن رويم قال: كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صماء ملساء فلما تجلى الله لموسى على الطور دك وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف. وقال الربيع بن أنس "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر مومس صعقا" وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور صار مثل دك من الدكاك وقال بعضهم جعله دكا أي فتنة وقال مجاهد في قوله "ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" فإنه أكبر منك وأشد خلقا "فلما تجلى ربه للجبل" فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على أوله ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقا. وقال عكرمة: جعله دكا قال نظر الله إلى الجبل فصار صحرا ترابا وقد قرأ بهذه القراءة بعض القراء واختارها ابن جرير وقد ورد فيها حديث مرفوع رواه بن مردويه والمعروف أن الصعق هو الغشي ههنا كما فسره ابن عباس وغيره لا كما فسره قتادة بالموت وإن كان ذلك صحيحا في اللغة كقوله تعالى "ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" فإن هناك قرينة تدل على الموت كما أن هنا قرينة تدل على الغشي وهي قوله "فلما أفاق" والإقامة لا تكون إلا عن غشي "قال سبحانك" تنزيها وتعظيما وإجلالا أن يراه أحد من الدنيا إلا مات وقوله "تبت إليك" قال مجاهد أن أسألك الرؤية "وأنا أول المؤمنين" قال ابن عباس ومجاهد من بني إسرائيل واختاره ابن جرير وفي رواية أخرى عن ابن عباس "وأنا أول المؤمنين" أنه لا يراك أحد وكذا قال أبو العالية قد كان قبله مؤمنون ولكن يقول أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة وهذا قول حسن له اتجاه وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره ههنا أثرا طويلا فيه غرائب وعجائب عن محمد بن إسحاق بن يسار وكأنه تلقاه من الإسرائيليات والله أعلم وقوله "وخر موسى صعقا" فيه أبو سعيد وأبن هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما حديث أبي سعيد فأسنده البخاري في صحيحه ههنا فقال حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه وقال: يا محمد إن رجلا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي قال "ادعوه" فدعوه قال "لم لطمت وجهه؟" قال: يا رسول الله إني مررت باليهودي فسمعته يقول والذي اصطفى موسى على البشر قال وعلى محمد؟ قال فقلت وعلى محمد وأخذتني غضبة فلطمته قال "لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه ومسلم في أحاديث الأنبياء من صحيحه وأبو داود في كتاب السنة من سننه من طرق عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني الأنصاري المدني عن أبيه عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري به. وأما حديث أبي هريرة فقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبدالرحمن وعبدالرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: استب رجلان رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم والذي اصطفى محمد على العالمين فقال اليهودي والذي اصطفى موسى على العالمين فغضب المسلم على اليهودي فلطمه فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى ممسك بجانب العرش فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل" أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به وقد روى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا رحمه الله أن الذي لطم اليهودي في هذه القضية هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولكن تقدم في الصحيحين أنه رجل من الأنصار وهذا هو أصح وأصرح والله أعلم. والكلام في قوله عليه السلام "لا تخيروني على موسى" كالكلام على قوله "لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى" قيل من باب التواضع وقيل قبل أن يعلم بذلك وقيل نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب وقيل على وجه القول بمجرد الرأي والتشهي والله أعلم وقوله "فإن الناس يصعقون يوم القيامة" الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات القيامة يحصل أمر يصعقون منه والله أعلم به وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء وتجلى للخلائق الملك الديان كما صعق موسى من تجلي الرب تبارك وتعالى ولهذا قال عليه السلام: "فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" وقد روى القاضي عياض في أوائل كتابه الشفاء بسنده عن محمد بن محمد بن مرزوق: حدثنا قتادة حدثنا الحسن عن قتادة عن يحيى بن وثاب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما تجلى الله لموسى عليه السلام كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ ثم قال ولا يبعد على هذا أن يختص نبيا بما ذكرناه من هذا الباب بعد الإسراء والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى انتهى ما قاله وكأنه صحح هذا الحديث وفي صحته نظر ولا تخلو رجال إسناده من مجاهيل لا يعرفون ومثل هذا إنما يقبل من رواية العدل الضابط عن مثله حتى ينتهي إلى منتهاه والله أعلم.
) قوله تعالى ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنينقوله تعالى ولما جاء موسى لميقاتنا أي في الوقت الموعود وكلمه ربه أي أسمعه كلامه من غير واسطة .قال رب أرني أنظر إليك سأل النظر إليه ; واشتاق إلى رؤيته لما أسمعه كلامه .قال لن تراني أي في الدنيا . ولا يجوز الحمل على أنه أراد : أرني آية عظيمة لأنظر إلى قدرتك ; لأنه قال إليك و قال لن تراني ولو سأل آية لأعطاه الله ما سأل ، كما أعطاه سائر الآيات . وقد كان لموسى عليه السلام فيها مقنع عن طلب آية أخرى ; فبطل هذا التأويل .ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ضرب له مثالا مما هو أقوى من بنيته وأثبت . أي فإن ثبت الجبل وسكن فسوف تراني ، وإن لم يسكن فإنك لا تطيق رؤيتي ، كما أن الجبل لا يطيق رؤيتي . وذكر القاضي عياض عن القاضي أبي بكر بن الطيب ما معناه : أن موسى عليه السلام رأى الله فلذلك خر صعقا ، وأن الجبل رأى ربه فصار دكا بإدراك خلقه الله له . واستنبط ذلك من قوله : ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني . ثم قال فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا وتجلى معناه ظهر ; من قولك : جلوت العروس أي أبرزتها . وجلوت السيف أبرزته من الصدأ ; جلاء فيهما . وتجلى الشيء انكشف . وقيل : تجلى أمره وقدرته ; قاله قطرب وغيره . وقراءة أهل المدينة وأهل البصرة دكا ; يدل على صحتها دكت الأرض دكا وأن الجبل مذكر . وقرأ أهل الكوفة دكاء أي جعله مثل أرض دكاء ، وهي الناتئة لا تبلغ أن تكون جبلا . والمذكر أدك ، وجمع دكاء دكاوات ودك ; مثل حمراوات وحمر . قال الكسائي : الدك من الجبال : العراض ، واحدها أدك . غيره : والدكاوات جمع دكاء : رواب من طين ليست بالغلاظ . والدكداك كذلك من الرمل : ما التبد بالأرض فلم يرتفع . وناقة دكاء لا سنام لها . وفي التفسير : فساخ الجبل في الأرض ; فهو يذهب فيها حتى الآن . وقال ابن عباس : جعله ترابا . عطية العوفي : رملا هائلا .وخر موسى صعقا أي مغشيا عليه ; عن ابن عباس والحسن وقتادة . وقيل : ميتا ; يقال : صعق الرجل فهو صعق . وصعق فهو مصعوق . وقال قتادة والكلبي : خر موسى صعقا يوم الخميس يوم عرفة ، وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر .فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك قال مجاهد : من مسألة الرؤية في الدنيا . وقيل : سأل من غير استئذان ; فلذلك تاب . وقيل : قاله على جهة الإنابة إلى الله والخشوع له عند ظهور الآيات . وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية ; فإن الأنبياء معصومون . وأيضا عند أهل السنة والجماعة الرؤية جائزة . وعند المبتدعة سأل لأجل القوم ليبين لهم أنها غير جائزة ، وهذا لا يقتضي التوبة . فقيل : أي تبت إليك من قتل القبطي ; ذكره القشيري . وقد مضى في " الأنعام " بيان أن الرؤية جائزة . قال علي بن مهدي الطبري : لو كان سؤال موسى مستحيلا ما أقدم عليه مع معرفته بالله ; كما لم يجز أن يقول له يا رب ألك صاحبة وولد . وسيأتي في " القيامة " مذهب المعتزلة والرد عليهم ، إن شاء الله تعالى .قوله تعالى وأنا أول المؤمنين قيل : من قومي . وقيل : من بني إسرائيل في هذا العصر . وقيل : بأنك لا ترى في الدنيا لوعدك السابق ، في ذلك . وفي الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأرفع رأسي فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فيمن صعق فأفاق قبلي أو حوسب بصعقته الأولى . أو قال كفته صعقته الأولى . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال : إن الله تبارك وتعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله وسلم عليهما ; فكلمه موسى مرتين ، ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين .
﴿ولَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ولَكِنُ انْظُرْ إلى الجَبَلِ فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وخَرَّ مُوسى صَعِقًا فَلَمّا أفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وأنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿قالَ يا مُوسى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلى النّاسِ بِرِسالَتِي وبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ﴾ جُعِلَ مَجِيءُ مُوسى في الوَقْتِ المُعَيَّنِ أمْرًا حاصِلًا غَيْرَ مُحْتاجٍ لِلْإخْبارِ عَنْهُ، لِلْعِلْمِ بِأنَّ مُوسى لا يَتَأخَّرُ ولا يَتْرُكُ ذَلِكَ، وجُعِلَ تَكْلِيمُ اللَّهِ إيّاهُ في خِلالِ ذَلِكَ المِيقاتِ أيْضًا حاصِلًا غَيْرَ مُحْتاجٍ لِلْإخْبارِ عَنْ حُلُولِهِ، لِظُهُورِ أنَّ المُواعَدَةَ المُتَضَمِّنَةَ لِلْمُلاقاةِ تَتَضَمَّنُ الكَلامَ؛ لِأنَّ مُلاقاةَ اللَّهِ بِالمَعْنى الحَقِيقِيِّ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، فَلَيْسَ يَحْصُلُ مِن شُئُونِ المُواعَدَةِ إلّا الكَلامُ الصّادِرُ عَنْ إرادَةِ اللَّهِ وقُدْرَتِهِ، فَلِذَلِكَ كُلِّهِ جُعِلَ مَجِيءُ مُوسى لِلْمِيقاتِ وتَكْلِيمُ اللَّهِ إيّاهُ شَرْطًا لِحِرْفِ (لَمّا) لِأنَّهُ كالمَعْلُومِ، وجُعِلَ الإخْبارُ مُتَعَلِّقًا بِما بَعْدَ ذَلِكَ وهو اعْتِبارٌ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وجَلالِهِ، فَكانَ الكَلامُ ضَرْبًا مِنَ الإيجازِ بِحَذْفِ الخَبَرِ عَنْ جُمْلَتَيْنِ اسْتِغْناءً عَنْهُما بِأنَّهُما جُعِلَتا شَرْطًا لَلَمّا. ويَجُوزُ أنْ تُجْعَلَ الواوُ في قَوْلِهِ ﴿وكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ زائِدَةً في جَوابِ (لَمّا) كَما قالَهُ الأكْثَرُ في قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ: ؎فَلَمّا أجَزْنا ساحَةَ الحَيِّ وانْتَحى بِنا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي حِقافٍ عَقَنْقَلِ أنَّ جَوابَ لَمّا هو قَوْلُهُ وانْتَحى، وجَوَّزُوهُ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فَلَمّا أسْلَما وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: ١٠٣] ﴿ونادَيْناهُ أنْ يا إبْراهِيمُ﴾ [الصافات: ١٠٤] الآيَةَ، أنْ يَكُونَ ونادَيْناهُ هو جَوابَ (لَمّا) فَيَصِيرُ (p-٩٠)التَّقْدِيرُ: لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا كَلَّمَهُ رَبُّهُ، فَيَكُونُ إيجازًا بِحَذْفِ جُمْلَةٍ واحِدَةٍ، ولا يُسْتَفادُ مِن مَعْنى إنْشاءِ التَّكْلِيمِ الطَّمَعُ في الرُّؤْيَةِ إلّا مِن لازِمِ المُواعَدَةِ. واللّامُ في قَوْلِهِ لِمِيقاتِنا صِنْفٌ مِن لامِ الِاخْتِصاصِ، كَما سَمّاها في الكَشّافِ ومَثَّلَها بِقَوْلِهِمْ: أتَيْتُهُ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنَ الشَّهْرِ، يَعْنِي أنَّهُ اخْتِصاصُ ما، وجَعَلَها ابْنُ هِشامٍ بِمَعْنى عِنْدَ وجَعَلَ ذَلِكَ مِن مَعانِي اللّامِ وهو أظْهَرُ، والمَعْنى: فَلَمّا جاءَ مُوسى مَجِيئًا خاصًّا بِالمِيقاتِ أيْ: حاصِلًا عِنْدَهُ لا تَأْخِيرَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ - تَعالى - ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء: ٧٨] وفي الحَدِيثِ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ أيُّ الأعْمالِ أفْضَلُ فَقالَ: الصَّلاةُ لِوَقْتِها» أيْ عِنْدَ وقْتِها ومِنهُ ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] . ويَجُوزُ جَعْلُ اللّامِ لِلْأجْلِ والعِلَّةِ، أيْ جاءَ لِأجْلِ مِيقاتِنا، وذَلِكَ لِما قَدَّمْناهُ مِن تَضَمُّنِ المِيقاتِ مَعْنى المُلاقاةِ والمُناجاةِ، أيْ جاءَ لِأجْلِ مُناجاتِنا. والمَجِيءُ: انْتِقالُهُ مِن بَيْنِ قَوْمِهِ إلى جَبَلِ سِينا المُعَيَّنِ فِيهِ مَكانُ المُناجاةِ. والتَّكْلِيمُ حَقِيقَتُهُ النُّطْقُ بِالألْفاظِ المُفِيدَةِ مَعانِي بِحَسَبِ وضْعٍ مُصْطَلَحٍ عَلَيْهِ، وهَذِهِ الحَقِيقَةُ مُسْتَحِيلَةٌ عَلى اللَّهِ - تَعالى - لِأنَّها مِن أعْراضِ الحَوادِثِ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ إسْنادُ التَّكْلِيمِ إلى اللَّهِ مَجازًا مُسْتَعْمَلًا في الدَّلالَةِ عَلى مُرادِ اللَّهِ - تَعالى - بِألْفاظٍ مِن لُغَةِ المُخاطَبِ بِهِ بِكَيْفِيَّةٍ يُوقِنُ المُخاطَبُ بِهِ أنَّ ذَلِكَ الكَلامَ مِن أثَرِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلى وفْقِ الإرادَةِ ووَفْقِ العِلْمِ، وهو تَعَلُّقٌ تَنْجِيزِيٌّ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُعْتادٍ، فَيَجُوزُ أنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الكَلامَ في شَيْءٍ حادِثِ سَمِعَهُ مُوسى كَما رُوِيَ أنَّ اللَّهَ خَلَقَ الكَلامَ في الشَّجَرَةِ الَّتِي كانَ مُوسى حَذْوَها، وذَلِكَ أوَّلُ كَلامٍ كَلَّمَهُ اللَّهُ مُوسى في أرْضِ مَدْيَنَ في جَبَلِ (حُورِيبَ)، ويَجُوزُ أنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الكَلامَ مِن خِلالِ السَّحابِ وذَلِكَ الكَلامُ الواقِعُ في طُورِ سِينا وهو المُرادُ هُنا. وهو المَذْكُورُ في الإصْحاحِ ١٩ مِن سِفْرِ الخُرُوجِ. والكَلامُ بِهَذِهِ الكَيْفِيَّةِ كانَ يَسْمَعُهُ مُوسى حِينَ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ النّاسِ في المُناجاةِ أوْ نَحْوِها، وهو أحَدُ الأحْوالِ الثَّلاثَةِ الَّتِي يُكَلِّمُ اللَّهُ بِها أنْبِياءَهُ كَما في قَوْلِهِ - تَعالى - وما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلّا وحْيًا الآيَةَ في سُورَةِ الشُّورى، وهو حادِثٌ لا مَحالَةَ ونِسْبَتُهُ إلى اللَّهِ أنَّهُ صادِرٌ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ مُعْتادَةٍ لا تَكُونُ إلّا بِإرادَةِ اللَّهِ أنْ يُخالِفَ (p-٩١)بِهِ المُعْتادَ تَشْرِيفًا لَهُ، وهو المُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ أوْ مِن وراءِ حِجابٍ، وقَدْ كَلَّمَ اللَّهُ - تَعالى - مُحَمَّدًا ﷺ لَيْلَةَ الإسَراءِ، وأحْسَبُ الأحادِيثَ القُدْسِيَّةَ كُلَّها أوْ مُعْظَمَها مِمّا كَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا ﷺ، وأمّا إرْسالُ اللَّهِ جِبْرِيلَ بِكَلامٍ إلى أحَدِ أنْبِيائِهِ فَهي كَيْفِيَّةٌ أُخْرى وذَلِكَ بِإلْقاءِ الكَلامِ في نَفْسِ المَلِكِ الَّذِي يُبَلِّغُهُ إلى النَّبِيءِ، والقُرْآنُ كُلُّهُ مِن هَذا النَّوْعِ، وقَدْ كانَ الوَحْيُ إلى مُوسى بِواسِطَةِ المَلَكِ في أحْوالٍ كَثِيرَةٍ وهو الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ في التَّوْراةِ بِقَوْلِها قالَ اللَّهُ لِمُوسى. وقَوْلُهُ ﴿قالَ رَبِّ أرِنِي﴾ هو جَوابُ (لَمّا) عَلى الأظْهَرِ، فَإنْ قَدَّرْنا الواوَ في قَوْلِهِ وكَلَّمَهُ زائِدَةً في جَوابِ (لَمّا) كانَ قَوْلُهُ (قالَ) واقِعًا في طَرِيقِ المُحاوَرَةِ فَلِذَلِكَ فُصِلَ. وسُؤالُ مُوسى رُؤْيَةَ اللَّهِ - تَعالى - تَطَلُّعٌ إلى زِيادَةِ المُعْرِفَةِ بِالجَلالِ الإلَهِيِّ؛ لِأنَّهُ لَمّا كانَتِ المُواعِدَةُ تَتَضَمَّنُ المُلاقاةَ. وكانَتِ المُلاقاةُ تَعْتَمِدُ رُؤْيَةَ الذّاتِ وسَماعَ الحَدِيثِ، وحَصَلَ لِمُوسى أحَدُ رُكْنَيِ المُلاقاةِ وهو التَّكْلِيمُ، أطْمَعَهُ ذَلِكَ في الرُّكْنِ الثّانِي وهو المُشاهَدَةُ، ومِمّا يُؤْذِنُ بِأنَّ التَّكْلِيمَ هو الَّذِي أطْمَعَ مُوسى في حُصُولِ الرُّؤْيَةِ جَعْلُ جُمْلَةِ (﴿وكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾) شَرْطًا لِحَرْفِ (لَمّا) لِأنَّ (لَمّا) تَدُلُّ عَلى شِدَّةِ الِارْتِباطِ بَيْنَ شَرْطِها وجَوابِها، فَلِذَلِكَ يَكْثُرُ أنْ يَكُونَ عِلَّةً في حُصُولِ جَوابِها كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فَلَمّا ذاقا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما﴾ [الأعراف: ٢٢] في هَذِهِ السُّورَةِ، هَذا عَلى جَعْلِ (وكَلَّمَهُ) عَطْفًا عَلى شَرْطِ (لَمّا) ولَيْسَ جَوابَ (لَمّا)، ولا نَشُكُّ في أنَّهُ سَألَ رُؤْيَةً تَلِيقُ بِذاتِ اللَّهِ - تَعالى - وهي مِثْلُ الرُّؤْيَةِ المَوْعُودِ بِها في الآخِرَةِ، فَكانَ مُوسى يَحْسَبُ أنَّ مِثْلَها مُمْكِنٌ في الدُّنْيا حَتّى أعْلَمَهُ اللَّهُ بِأنَّ ذَلِكَ غَيْرُ واقِعٍ في الدُّنْيا، ولا يَمْتَنِعُ عَلى نَبِيءٍ عَدَمُ العِلْمِ بِتَفاصِيلِ الشُّئُونِ الإلَهِيَّةِ قَبْلَ أنْ يُعَلِّمَها اللَّهُ إيّاهُ، وقَدْ قالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤]، ولِذَلِكَ كانَ أيِمَّةُ أهْلِ السُّنَّةِ مُحِقِّينَ في الِاسْتِدْلالِ بِسُؤالِ مُوسى رُؤْيَةَ اللَّهِ عَلى إمْكانِها بِكَيْفِيَّةٍ تَلِيقُ بِصِفاتِ الإلَهِيَّةِ لا نَعْلَمُ كُنْهَها وهو مَعْنى قَوْلِهِمْ ”بِلا كَيْفٍ“ . وكانَ المُعْتَزِلَةُ غَيْرَ مُحِقِّينَ في اسْتِدْلالِهِمْ بِذَلِكَ عَلى اسْتِحالَتِها بِكُلِّ صِفَةٍ. وقَدْ يَئُولُ الخِلافُ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ إلى اللَّفْظِ، فَإنَّ الفَرِيقَيْنِ مُتَّفِقانِ عَلى اسْتِحالَةِ (p-٩٢)إحاطَةِ الإدْراكِ بِذاتِ اللَّهِ واسْتِحالَةِ التَّحَيُّزِ، وأهْلُ السُّنَّةِ قاطِعُونَ بِأنَّها رُؤْيَةٌ لا تُنافِي صِفاتِ اللَّهِ - تَعالى -، وأمّا ما تَبَجَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ في الكَشّافِ فَذَلِكَ مِن عُدْوانِ تَعَصُّبِهِ عَلى مُخالِفِيهِ عَلى عادَتِهِ، وما كانَ يَنْبَغِي لِعُلَماءِ طَرِيقَتِنا التَّنازُلُ لِمُهاجاتِهِ بِمِثْلِ ما هاجاهم بِهِ، ولَكِنَّهُ قالَ فَأوْجَبَ. واعْلَمْ أنَّ سُؤالَ مُوسى رُؤْيَةَ اللَّهِ - تَعالى - طَلَبٌ عَلى حَقِيقَتِهِ كَما يُؤْذِنُ بِهِ سِياقُ الآيَةِ ولَيْسَ هو السُّؤالَ الَّذِي سَألَهُ بَنُو إسْرائِيلَ المَحْكِيَّ في سُورَةِ البَقَرَةِ بِقَوْلِهِ ﴿وإذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] وما تَمَحَّلَ بِهِ في الكَشّافِ مِن أنَّهُ هو ذَلِكَ السُّؤالُ تَكَلُّفٌ لا داعِيَ لَهُ. ومَفْعُولُ (أرِنِي) مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ الضَّمِيرِ المَجْرُورِ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ (إلَيْكَ) . وفُصِلَ قَوْلُهُ ﴿قالَ لَنْ تَرانِي﴾ لِأنَّهُ واقِعٌ في طَرِيقِ المُحاوَرَةِ. و(لَنْ) يُسْتَعْمَلُ لِتَأْيِيدِ النَّفْيِ ولِتَأْكِيدِ النَّفْيِ في المُسْتَقْبَلِ، وهُما مُتَقارِبانِ، وإنَّما يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِهَذِهِ الحَياةِ المُعَبَّرِ عَنْها بِالأبَدِ، فَنَفَتْ (لَنْ) رُؤْيَةَ مُوسى رَبَّهُ نَفْيًا لا طَمَعَ بَعْدَهُ لِلسّائِلِ في الإلْحاحِ والمُراجَعَةِ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أنَّ طِلْبَتَهُ مُتَعَذَّرَةُ الحُصُولِ، فَلا دَلالَةَ في هَذا النَّفْيِ عَلى اسْتِمْرارِهِ في الدّارِ الآخِرَةِ. والِاسْتِدْراكُ المُسْتَفادُ مِن (لَكِنْ) لِرَفْعِ تَوَهُّمِ المُخاطَبِ الِاقْتِصارَ عَلى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ بِدُونِ تَعْلِيلٍ ولا إقْناعٍ، أوْ أنْ يَتَوَهَّمَ أنَّ هَذا المَنعَ لِغَضَبٍ عَلى السّائِلِ ومَنقَصَةٍ فِيهِ، فَلِذَلِكَ يَعْلَمُ مِن حَرْفِ الِاسْتِدْراكِ أنَّ بَعْضَ ما يَتَوَهَّمُهُ سَيُرْفَعُ، وذَلِكَ أنَّهُ أمَرَهُ بِالنَّظَرِ إلى الجَبَلِ الَّذِي هو فِيهِ هَلْ يَثْبُتُ في مَكانِهِ، وهَذا يَعْلَمُ مِنهُ أنَّ الجَبَلَ سَيَتَوَجَّهُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِن شَأْنِ الجَلالِ الإلَهِيِّ، وأنَّ قُوَّةَ الجَبَلِ لا تَسْتَقِرُّ عِنْدَ ذَلِكَ التَّوَجُّهِ العَظِيمِ فَيَعْلَمُ مُوسى أنَّهُ أحْرى بِتَضاؤُلِ قُواهُ الفانِيَةِ لَوْ تَجَلّى لَهُ شَيْءٌ مِن سُبُحاتِ اللَّهِ - تَعالى - . وعُلِّقَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ (إنْ) لِأنَّ الغالِبَ اسْتِعْمالُها في مَقامِ نُدْرَةِ وُقُوعِ الشَّرْطِ أوِ التَّعْرِيضِ بِتَعَذُّرِهِ، ولَمّا كانَ اسْتِقْرارُ الجَبَلِ في مَكانِهِ مَعْلُومًا لِلَّهِ انْتِفاؤُهُ، صَحَّ تَعْلِيقُ الأمْرِ المُرادِ تَعَذُّرُ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ دَلِيلِ الِانْتِفاءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ في هَذا التَّعْلِيقِ حُجَّةٌ لِأهْلِ السُّنَّةِ عَلى المُعْتَزِلَةِ تَقْتَضِي أنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ - تَعالى - جائِزَةٌ عَلَيْهِ - تَعالى -، خِلافًا لِما اعْتادَ كَثِيرٌ مِن عُلَمائِنا مِنَ الِاحْتِجاجِ بِذَلِكَ. (p-٩٣)وقَوْلُهُ ﴿فَسَوْفَ تَرانِي﴾ لَيْسَ بِوَعْدٍ بِالرُّؤْيَةِ عَلى الفَرْضِ لِأنَّ سَبْقَ قَوْلِهِ لَنْ تَرانِي أزالَ طَماعِيَّةَ السّائِلِ الرُّؤْيَةَ، ولَكِنَّهُ إيذانٌ بِأنَّ المَقْصُودَ مِن نَظَرِهِ إلى الجَبَلِ أنْ يَرى رَأْيَ اليَقِينِ عَجْزَ القُوَّةِ البَشَرِيَّةِ عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ - تَعالى - بِالأحْرى، مِن عَدَمِ ثَباتِ قُوَّةِ الجَبَلِ، فَصارَتْ قُوَّةُ الكَلامِ: أنَّ الجَبَلَ لا يَسْتَقِرُّ مَكانَهُ مِنَ التَّجَلِّي الَّذِي يَحْصُلُ عَلَيْهِ، فَلَسْتَ أنْتَ بِالَّذِي تَرانِي، لِأنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَمَنزِلَةُ الشَّرْطِ هُنا مَنزِلَةُ الشَّرْطِ الِامْتِناعِيِّ الحاصِلِ بِحَرْفِ (لَوْ) بِدَلالَةِ قَرِينَةِ السّابِقِ. والتَّجَلِّي حَقِيقَةُ الظُّهُورِ وإزالَةُ الحِجابِ، وهو هُنا مَجازٌ، ولَعَلَّهُ أُرِيدَ بِهِ إزالَةُ الحَوائِلِ المُعْتادَةِ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ حِجابًا بَيْنَ المَوْجُوداتِ الأرْضِيَّةِ وبَيْنَ قُوى الجَبَرُوتِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ - تَعالى - بِتَصْرِيفِها عَلى مَقادِيرَ مَضْبُوطَةٍ ومُتَدَرِّجَةٍ في عَوالِمَ مُتَرَتِّبَةٍ تَرْتِيبًا يَعْلَمُهُ اللَّهُ. وتَقْرِيبُهُ لِلْإفْهامِ شَبِيهٌ بِما اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الحُكَماءُ في تَرْتِيبِ العُقُولِ العَشَرَةِ، وتِلْكَ القُوى تُنْسَبُ إلى اللَّهِ - تَعالى - لِكَوْنِها آثارًا لِقُدْرَتِهِ بِدُونِ واسِطَةٍ، فَإذا أزالَ اللَّهُ الحِجابَ المُعْتادَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنَ الأجْسامِ الأرْضِيَّةِ وبَيْنَ شَيْءٍ مِن تِلْكَ القُوى المُؤَثِّرَةِ تَأْثِيرًا خارِقًا لِلْعادَةِ اتَّصَلَتِ القُوَّةُ بِالجِسْمِ اتِّصالًا تَظْهَرُ لَهُ آثارٌ مُناسِبَةٌ لِنَوْعِ تِلْكَ القُوَّةِ، فَتِلْكَ الإزالَةُ هي الَّتِي اسْتُعِيرَ لَها التَّجَلِّي المُسْنَدُ إلى اللَّهِ - تَعالى - تَقْرِيبًا لِلْأفْهامِ، فَلَمّا اتَّصَلَتْ قُوَّةٌ رَبّانِيَّةٌ بِالجَبَلِ تُماثِلُ اتِّصالَ الرُّؤْيَةِ انْدَكَّ الجَبَلُ، ومِمّا يُقَرِّبُ هَذا المَعْنى ما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ وغَيْرُهُ، مِن طُرُقٍ عَنْ أنَسٍ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأ قَوْلَهُ - تَعالى - ﴿فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ﴾ فَوَضَعَ إبْهامَهُ قَرِيبًا مِن طَرَفِ خِنْصَرِهِ يُقَلِّلُ مِقْدارَ التَّجَلِّي» . وصَعِقَ مُوسى مِنَ انْدِكاكِ الجَبَلِ فَعَلِمَ مُوسى أنَّهُ لَوْ تَوَجَّهَ ذَلِكَ التَّجَلِّي إلَيْهِ لانْتَثَرَ جِسْمُهُ فُضاضًا. وقَرَأ الجُمْهُورُ دَكًّا - بِالتَّنْوِينِ - والدَّكُّ مَصْدَرٌ وهو والدَّقُّ مُتَرادِفانِ وهو الهَدُّ وتَفَرُّقُ الأجْزاءِ كَقَوْلِهِ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا، وقَدْ أُخْبِرَ عَنِ الجَبَلِ بِأنَّهُ جُعِلَ دَكًّا لِلْمُبالَغَةِ، والمُرادُ أنَّهُ مَدْكُوكٌ أيْ: مَدْقُوقٌ مَهْدُومٌ. وقَرَأ الكِسائِيُّ، وحَمْزَةُ، وخَلَفٌ ”دَكّاءَ“ بِمَدٍّ بَعْدَ الكافِ وتَشْدِيدِ الكافِ، والدَّكّاءُ: النّاقَةُ الَّتِي لا سَنامَ لَها، فَهو تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أيْ كالدَّكّاءِ أيْ ذَهَبَتْ قُنَّتُهُ، والظّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ الَّذِي انْدَكَّ مِنهُ لَمْ يَرْجِعْ ولَعَلَّ آثارَ ذَلِكَ الدَّكِّ ظاهِرَةٌ فِيهِ إلى الآنِ. (p-٩٤)والخُرُورُ السُّقُوطُ عَلى الأرْضِ. والصَّعْقُ: وصْفٌ بِمَعْنى المَصْعُوقِ، ومَعْناهُ المَغْشِيُّ عَلَيْهِ مِن صَيْحَةٍ ونَحْوِها، مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الصّاعِقَةِ وهي القِطْعَةُ النّارِيَّةُ الَّتِي تَبْلُغُ إلى الأرْضِ مِن كَهْرَباءِ البَرْقِ، فَإذا أصابَتْ جِسْمًا أحْرَقَتْهُ، وإذا أصابَتِ الحَيَوانَ مِن قَرِيبٍ أماتَتْهُ، أوْ مِن بَعِيدٍ غُشِيَ عَلَيْهِ مِن رائِحَتِها، وسُمِّيَ خُوَيْلِدُ بْنُ نُفَيْلٍ الصَّعِقَ عَلَمًا عَلَيْهِ بِالغَلَبَةِ، وإنَّما رَجَّحْنا أنَّ الوَصْفَ والمَصْدَرَ مُشْتَقّانِ مِنَ اسْمِ الصّاعِقَةِ دُونَ أنْ نَجْعَلَ الصّاعِقَةَ مُشْتَقًّا مِنَ الصَّعْقِ لِأنَّ أيِمَّةَ اللُّغَةِ قالُوا: إنَّ الصَّعْقَ الغَشْيُ مِن صَيْحَةٍ ونَحْوِها، ولَكِنْ تَوَسَّعُوا في إطْلاقِ هَذا الوَصْفِ عَلى مَن غُشِيَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَدَّةٍ أوْ رَجَّةٍ وإنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنَ الصّاعِقَةِ. والإفاقَةُ: رُجُوعُ الإدْراكِ بَعْدَ زَوالِهِ بِغَشْيٍ، أوْ نَوْمٍ، أوْ سُكْرٍ، أوْ تَخَبُّطِ جُنُونٍ. وسُبْحانَكَ مَصْدَرٌ جاءَ عِوَضًا عَنْ فِعْلِهِ أيْ: أُسَبِّحُكَ وهو هُنا إنْشاءُ ثَناءٍ عَلى اللَّهِ وتَنْزِيهٍ عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ، لِمُناسَبَةِ سُؤالِهِ مِنهُ ما تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ لا يَلِيقُ بِهِ سُؤالُهُ دُونَ اسْتِئْذانِهِ وتَحَقُّقِ إمْكانِهِ كَما قالَ - تَعالى - لِنُوحٍ فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ في سُورَةِ هُودٍ. وقَوْلُهُ (﴿تُبْتُ إلَيْكَ﴾) إنْشاءٌ لِتَوْبَةٍ مِنَ العَوْدِ إلى مِثْلِ ذَلِكَ دُونَ إذْنٍ مِنَ اللَّهِ، وهَذا كَقَوْلِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿رَبِّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ [هود: ٤٧] . وصِيغَةُ - الماضِي مِن قَوْلِهِ تُبْتُ مُسْتَعْمَلَةٌ في الإنْشاءِ فَهي مُسْتَعْمَلَةٌ في زَمَنِ الحالِ مِثْلَ صِيَغِ العُقُودِ في قَوْلِهِمْ بِعْتُ وزَوَّجْتُ، مُبالَغَةً في تَحَقُّقِ العَقْدِ. وقَوْلُهُ ﴿وأنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ﴾ أُطْلِقَ (الأوَّلُ) عَلى المُبادِرِ إلى الإيمانِ، وإطْلاقُ الأوَّلِ عَلى المُبادِرِ مَجازٌ شائِعٌ مُساوٍ لِلْحَقِيقَةِ، والمُرادُ بِهِ هُنا وفي نَظائِرِهِ - الكِنايَةُ عَنْ قُوَّةِ إيمانِهِ، حَتّى إنَّهُ يُبادِرُ إلَيْهِ حِينَ تَرَدُّدِ غَيْرِهِ فِيهِ، فَهو لِلْمُبالَغَةِ وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ولا تَكُونُوا أوَّلَ كافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلِهِ ﴿وأنا أوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٣] في سُورَةِ الأنْعامِ. والمُرادُ بِالمُؤْمِنِينَ مَن كانَ الإيمانُ وصْفَهم ولَقَبَهم، أيِ الإيمانُ بِاللَّهِ وصِفاتِهِ كَما يَلِيقُ بِهِ، فالإيمانُ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ اللَّقَبِيِّ، ولِذَلِكَ شُبِّهَ الوَصْفُ بِأفْعالِ السَّجايا فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ، ومَن ذَهَبَ مِنَ المُفَسِّرِينَ يُقَدِّرُ لَهُ مُتَعَلِّقًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ نَهْجِ المَعْنى. (p-٩٥)وفُصِلَتْ جُمْلَةُ ﴿قالَ يا مُوسى﴾ لِوُقُوعِ القَوْلِ في طَرِيقِ المُحاوَرَةِ والمُجاوَبَةِ، والنِّداءُ لِلتَّأْنِيسِ وإزالَةِ الرَّوْعِ. وتَأْكِيدُ الخَبَرِ في قَوْلِهِ أنِّي اصْطَفَيْتُكَ لِلِاهْتِمامِ بِهِ إذْ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْإنْكارِ. والِاصْطِفاءُ افْتِعالُ مُبالَغَةٍ في الإصْفاءِ وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّفْوِ، وهو الخُلُوصُ مِمّا يُكَدِّرُ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحًا﴾ [آل عمران: ٣٣] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ وضُمِّنَ اصْطَفَيْتُكَ مَعْنى الإيثارِ والتَّفْضِيلِ فَعُدِّيَ بِعَلى. والمُرادُ بِالنّاسِ: جَمِيعُ النّاسِ، أيِ المَوْجُودِينَ في زَمَنِهِ، فالِاسْتِغْراقُ في النّاسِ عُرْفِيُّ أيْ هو مُفَضَّلٌ عَلى النّاسِ يَوْمَئِذٍ لِأنَّهُ رَسُولٌ، ولِتَفْضِيلِهِ بِمَزِيَّةِ الكَلامِ وقَدْ يُقالُ: إنَّ مُوسى أفْضَلُ جَمِيعِ النّاسِ الَّذِينَ مَضَوْا يَوْمَئِذٍ، وعَلى الِاحْتِمالَيْنِ: فَهو أفْضَلُ مِن أخِيهِ هارُونَ لِأنَّ مُوسى أُرْسِلَ بِشَرِيعَةٍ عَظِيمَةٍ، وكَلَّمَهُ اللَّهُ، وهارُونَ أرْسَلَهُ اللَّهُ مُعاوِنًا لِمُوسى ولَمْ يُكَلِّمْهُ اللَّهُ، ولِذَلِكَ قالَ ﴿بِرِسالَتِي وبِكَلامِي﴾ وما ورَدَ في الحَدِيثِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الأنْبِياءِ مَحْمُولٌ عَلى التَّفْضِيلِ الَّذِي لا يَسْتَنِدُ لِدَلِيلٍ صَرِيحٍ، أوْ عَلى جَعْلِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الأنْبِياءِ شُغُلًا لِلنّاسِ في نَوادِيهِمْ بِدُونِ مُقْتَضٍ مُعْتَبَرٍ لِلْخَوْضِ في ذَلِكَ. وهَذا امْتِنانٌ مِنَ اللَّهِ وتَعْرِيفٌ. ثُمَّ فُرِّعَ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ﴾ والأوَّلُ تَفْرِيعٌ عَلى الإرْسالِ والتَّكْلِيمِ، والثّانِي تَفْرِيعٌ عَلى الِامْتِنانِ، وماصَدَقَ ما آتَيْتُكَ قِيلَ هو الشَّرِيعَةُ والرِّسالَةُ، فالإيتاءُ مُجازٌ أُطْلِقَ عَلى التَّعْلِيمِ والإرْشادِ، والأخْذُ مَجازٌ في التَّلَقِّي والحِفْظِ، والأظْهَرُ أنْ يَكُونَ ما آتَيْتُكَ إعْطاءَ الألْواحِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ﴿وكَتَبْنا لَهُ في الألْواحِ﴾ [الأعراف: ١٤٥] وقَدْ فُسِّرَ بِذَلِكَ، فالإيتاءُ حَقِيقَةٌ، والأخْذَ كَذَلِكَ، وهَذا ألْيَقُ بِنَظْمِ الكَلامِ مَعَ قَوْلِهِ ﴿فَخُذْها بِقُوَّةٍ﴾ [الأعراف: ١٤٥] ويَحْصُلُ بِهِ أخْذُ الرِّسالَةِ والكَلامِ وزِيادَةٌ. والإخْبارُ عَنْ (كُنْ) بِقَوْلِهِ مِنَ الشّاكِرِينَ أبْلَغُ مِن أنْ يُقالَ (كُنْ شاكِرًا) كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿قَدْ ضَلَلْتُ إذًا وما أنا مِنَ المُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: ٥٦] في سُورَةِ الأنْعامِ. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، ورَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ: (بِرِسالَتِي) بِصِيغَةِ الإفْرادِ، وقَرَأ البَقِيَّةُ ﴿بِرِسالاتِي﴾، بِصِيغَةِ الجَمْعِ، وهو عَلى تَأْوِيلِهِ بِتَعَدُّدِ التَّكالِيفِ والإرْشادِ الَّتِي أُرْسِلَ بِها.