موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الجمعة 18 رمضان 1445 هجرية الموافق ل29 مارس 2024


الآية [64] من سورة  

لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلْءَاخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ


ركن التفسير

64 - (لهم البشرى في الحياة الدنيا) فسرت في حديث صححه الحاكم بالرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرى له (وفي الآخرة) الجنة والثواب (لا تبديل لكلمات الله) لا خلف لمواعيده (ذلك) المذكور (هو الفوز العظيم)

في قوله "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة" قال "الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" وقال ابن جرير حدثني أبو السائب حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء في قوله "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"قال سأل رجل أبا الدرداء عن هذه الآية فقال: لقد سألت عن شيء ما سمعت أحدا سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال "هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له بشراه في الحياة الدنيا وبشراه في الآخرة الجنة" ثم رواه ابن جرير عن سفيان عن ابن المنكدر عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر أنه سأل أبا الدرداء عن هذه الأية فذكر نحو ما تقدم ثم قال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح قال: سمعت أبا الدرداء سئل عن هذه الآية "الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى" فذكر نحوه سواء وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبان حدثنا يحيى عن أبي سلمة عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة" فقال "لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي - أو قال أحد قبلك - تلك الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له" وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن عمران القطان عن يحيى بن أبي كثير به ورواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير فذكره ورواه علي بن المبارك عن يحيى عن أبي سلمة قال: نبئنا عن عبادة بن الصامت سأل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن هذه الآية فذكره وقال ابن جرير حدثني أبو حميد الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عمر بن عمرو بن عبدالأخموشي عن حميد بن عبدالله المزني قال: أتى رجل عبادة بن الصامت فقال آية في كتاب الله أسألك عنها قول الله تعالى "لهم البشرى في الحياة الدنيا" فقال عبادة ما سألني عنها أحد قبلك سألت عنها نبي الله فقال مثل ذلك "ما سألني عنها أحد قبلك الرؤيا الصالحة يراها العبد المؤمن في المنام أو ترى له" ثم رواه من حديث موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد بن صفوان عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلي الله عليه وسلم صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم" لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة" فقد عرفنا بشرى الآخرة الجنة فما بشرى الدنيا؟ قال "الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له; وهي جزء من أربعة وأربعين جزءا أو سبعين جزءا من النبوة" وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا بهز حدثنا حماد حدثنا أبو عمران عن عبدالله بن الصامت عن أبي ذر أنه قال يا رسول الله الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه ويثنون عليه به فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم "تلك عاجل بشرى المؤمن" رواه مسلم وقال أحمد أيضا حدثنا حسن يعني الأشيب حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن عبدالرحمن بن جبير عن عبدالله بن عمرو عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال "لهم البشرى في الحياة الدنيا" - قال - الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن جزء من تسعة وأربعين جزءا من النبوة فمن رأى ذلك فليخبر بها ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليحزنه فلينفث عن يساره ثلاثا وليكبر ولا يخبر بها أحدا". لم يخرجوه وقال ابن جرير حدثني يونس أنبأنا ابن وهب حدثني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن عبدالرحمن بن جبر عن عبدالله بن عمرو عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال "لهم البشرى في الحياة الدنيا" الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة". وقال أيضا ابن جرير حدثني محمد بن أبي حاتم المؤدب حدثنا عمار بن محمد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة" - قال - "في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له وهي في الآخرة الجنة" ثم رواه عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال: الرؤيا الحسنة بشرى من الله وهي من المبشرات هكذا رواه من هذه الطريق موقوفا وقال أيضا حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر حدثنا هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "الرؤيا الحسنة هي البشرى يراها المسلم أو ترى له" وقال ابن جرير حدثني أحمد بن حماد الدولابي حدثنا سفيان عن عبيدالله بن أبي يزيد عن أبيه عن سباع بن ثابت عن أم كريز الكعبية سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول "ذهبت النبوة وبقيت المبشرات" وهكذا روى عن ابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير ويحي بن أبي كثير وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وغيرهم أنهم فسروا ذلك بالرؤيا الصالحة وقيل المراد بذلك بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة كقوله تعالي "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم" وفي حديث البراء رضي الله عنه أن المؤمن إذا حضره الموت جاءه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب فقالوا أخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان ورب غير غضبان فتخرج من فمه كما تسيل القطرة من فم السقاء وأما بشراهم في الآخرة فكما قال تعالى "لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون" - وقال تعالى "يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم" وقوله "لا تبديل لكلمات الله " أي هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف ولا يغير بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة ذلك هو الفوز العظيم".

﴿ألا إنَّ أوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ ﴿لَهُمُ البُشْرى في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ اسْتِئْنافٌ لِلتَّصْرِيحِ بِوَعْدِ المُؤْمِنِينَ المُعَرَّضِ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا كُنّا عَلَيْكم شُهُودًا إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ﴾ [يونس: ٦١] الآيَةَ، (p-٢١٦)وبِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ ﷺ عَلى ما يُلاقِيهِ مِنَ الكُفّارِ مِن أذًى وتَهْدِيدٍ، إذْ أعْلَنَ اللَّهُ لِلنَّبِيءِ والمُؤْمِنِينَ بِالأمْنِ مِن مَخافَةِ أعْدائِهِمْ، ومِنَ الحُزْنِ مِن جَرّاءَ ذَلِكَ، ولَمَّحَ لَهم بِعاقِبَةِ النَّصْرِ، ووَعَدَهُمُ البُشْرى في الآخِرَةِ وعْدًا لا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ ولا التَّخَلُّفَ تَطْمِينًا لِنُفُوسِهِمْ، كَما أشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ ﴿لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ﴾ وافْتِتاحُ الكَلامِ بِأداةِ التَّنْبِيهِ إيماءً إلى أهَمِّيَّةِ شَأْنِهِ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿ألا إنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ﴾ [البقرة: ١٢] في سُورَةِ البَقَرَةِ، ولِذَلِكَ أُكِّدَتِ الجُمْلَةُ بِـ ”إنَّ“ بَعْدَ أداةِ التَّنْبِيهِ. وفِي التَّعْبِيرِ بِـ ﴿أوْلِياءَ اللَّهِ﴾ دُونَ أنْ يُؤْتى بِضَمِيرِ الخِطابِ كَما هو مُقْتَضى وُقُوعِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: وما تَعْمَلُونَ مِن عَمَلٍ يُؤْذِنُ بِأنَّ المُخاطَبِينَ قَدْ حَقَّ لَهم أنَّهم مِن أوْلِياءِ اللَّهِ مَعَ إفادَةِ حُكْمٍ عامٍّ شَمِلَهم ويَشْمَلُ مَن يَأْتِي عَلى طَرِيقَتِهِمْ. وجُمْلَةُ ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ خَبَرُ إنَّ والخَوْفُ: تَوَقُّعُ حُصُولِ المَكْرُوهِ لِلْمُتَوَقَّعِ، فَيَتَعَدّى بِنَفْسِهِ إلى الشَّيْءِ المُتَوَقَّعِ حُصُولُهُ. فَيُقالُ: خافَ الشَّيْءَ، قالَ - تَعالى: ﴿فَلا تَخافُوهم وخافُونِ﴾ [آل عمران: ١٧٥] . وإذا كانَ تَوَقُّعُ حُصُولِ المَكْرُوهِ لِغَيْرِ المُتَوَقِّعِ يُقالُ لِلْمُتَوَقَّعِ: خافَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ - تَعالى: ﴿إنِّيَ أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ٥٩] وقَدِ اقْتَضى نَظْمُ الكَلامِ نَفْيَ جِنْسِ الخَوْفِ لِأنَّ ”لا“ إذا دَخَلَتْ عَلى النَّكِرَةِ دَلَّتْ عَلى نَفْيِ الجِنْسِ، وأنَّها إذا بُنِيَ الِاسْمُ بَعْدَها عَلى الفَتْحِ كانَ نَفْيُ الجِنْسِ نَصًّا وإذا لَمْ يُبْنَ الِاسْمُ عَلى الفَتْحِ كانَ نَفْيُ الجِنْسِ ظاهِرًا مَعَ احْتِمالِ أنْ يُرادَ نَفْيُ واحِدٍ مِن ذَلِكَ الجِنْسِ إذا كانَ المَقامُ صالِحًا لِهَذا الِاحْتِمالِ، وذَلِكَ في الأجْناسِ الَّتِي لَها أفْرادٌ مِنَ الذَّواتِ مِثْلَ رَجُلٍ، فَأمّا أجْناسُ المَعانِي فَلا يَتَطَرَّقُ إلَيْها ذَلِكَ الِاحْتِمالُ فَيَسْتَوِي فِيها رَفْعُ اسْمِ ”لا“ وبِناؤُهُ عَلى الفَتْحِ، كَما في قَوْلِ إحْدى نِساءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ ”زَوْجِي كَلَيْلِ تِهامَةَ لا حَرٌّ ولا قَرٌّ ولا مَخافَةَ ولا سَآمَةَ“ فَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الأسْماءُ بِالرَّفْعِ وبِالبِناءِ عَلى الفَتْحِ. (p-٢١٧)فَمَعْنى ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ أنَّهم بِحَيْثُ لا يَخافُ عَلَيْهِمْ خائِفٌ، أيْ هم بِمَأْمَنٍ مِن أنْ يُصِيبَهم مَكْرُوهٌ يُخافُ مِن إصابَةِ مِثْلِهِ، فَهم وإنْ كانُوا قَدْ يَهْجِسُ في نُفُوسِهِمُ الخَوْفَ مِنَ الأعْداءِ هَجْسًا مِن جِبِلَّةِ تَأثُّرِ النُّفُوسِ عِنْدَ مُشاهَدَةِ بَوادِرِ المَخافَةِ، فَغَيْرُهم مِمَّنْ يَعْلَمُ حالَهم لا يَخافُ عَلَيْهِمْ لِأنَّهُ يَنْظُرُ إلى الأحْوالِ بِنَظَرِ اليَقِينِ سَلِيمًا مِنَ التَّأثُّرِ بِالمَظاهِرِ، فَحالُهم حالُ مَن لا يَنْبَغِي أنْ يَخافَ، ولِذَلِكَ لا يَخافُ عَلَيْهِمْ أوْلِياؤُهم لِأنَّهم يَأْمَنُونَ عَلَيْهِمْ مِن عاقِبَةِ ما يَتَوَجَّسُونَ مِنهُ خِيفَةً، فالخَوْفُ الَّذِي هو مَصْدَرٌ في الآيَةِ يُقَدَّرُ مُضافًا إلى فاعِلِهِ وهو غَيْرُهم لا مَحالَةَ، أيْ لا خَوْفٌ يَخافُهُ خائِفٌ عَلَيْهِمْ، وهم أنْفُسُهم إذا اعْتَراهُمُ الخَوْفُ لا يَلْبَثُ أنْ يَنْقَشِعَ عَنْهم وتَحُلَّ السَّكِينَةُ مَحَلَّهُ، كَما قالَ - تَعالى: ﴿وضاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ ولَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة: ٢٥] ﴿ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ٢٦]، وقالَ لِمُوسى ﴿لا تَخافُ دَرَكًا ولا تَخْشى﴾ [طه: ٧٧]، وقالَ ﴿إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهم طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإذا هم مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠١] . «وكانَ النَّبِيءُ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ يَدْعُو اللَّهَ بِالنَّصْرِ ويُكْثِرُ مِنَ الدُّعاءِ ويَقُولُ: اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هَذِهِ العِصابَةَ لَمْ تُعْبَدْ في الأرْضِ. ثُمَّ خَرَجَ وهو يَقُولُ ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر»: ٤٥] . ولِهَذا المَعْنى الَّذِي أشارَتْ إلَيْهِ الآيَةُ تَغَيَّرَ الأُسْلُوبُ في قَوْلِهِ: ﴿ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ فَأسْنَدَ فِيهِ الحُزْنَ المَنفِيَّ إلى ضَمِيرِ أوْلِياءَ اللَّهِ مَعَ الِابْتِداءِ بِهِ، وإيرادِ الفِعْلِ بَعْدَهُ مُسْنَدًا مُفِيدًا تَقَوِّي الحُكْمِ؛ لِأنَّ الحُزْنَ هو انْكِسارُ النَّفْسِ مِن إثْرِ حُصُولِ المَكْرُوهِ عِنْدَها فَهو لا تُوجَدُ حَقِيقَتُهُ إلّا بَعْدَ حُصُولِهِ، والخَوْفُ يَكُونُ قَبْلَ حُصُولِهِ، ثُمَّ هم وإنْ كانُوا يَحْزَنُونَ لِما يُصِيبُهم مِن أُمُورٍ في الدُّنْيا كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «وإنّا لِفِراقِكَ يا إبْراهِيمُ لَمَحْزُنُونَ» فَذَلِكَ حُزْنٌ وِجْدانِيٌّ لا يَسْتَقِرُّ بَلْ يَزُولُ بِالصَّبْرِ، ولَكِنَّهم لا يَلْحَقُهُمُ الحُزْنُ الدّائِمُ وهو حَزْنُ المَذَلَّةِ وغَلَبَةِ العَدُوِّ عَلَيْهِمْ وزَوالِ دَيْنِهِمْ وسُلْطانِهِمْ، ولِذَلِكَ جِيءَ في جانِبِ نَفْيِ الحُزْنِ عَنْهم بِإدْخالِ حَرْفِ النَّفْيِ عَلى تَرْكِيبٍ مُفِيدٍ لِتَقَوِّيِ الحُكْمِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ لِأنَّ جُمْلَةَ ﴿هم يَحْزَنُونَ﴾ يُفِيدُ تَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ فِيها تَقَوِّي الحُكْمِ الحاصِلِ بِالخَبَرِ الفِعْلِيِّ، فالمَعْنى لا يَحْصُلُ لَهم خَوْفٌ مُتَمَكِّنٌ ثابِتٌ يَبْقى فِيهِمْ ولا يَجِدُونَ تَخَلُّصًا مِنهُ. (p-٢١٨)فالكَلامُ يُفِيدُ أنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِأوْلِيائِهِ أنْ لا يَحْصُلَ لَهم ما يَخافُونَهُ وأنْ لا يَحُلَّ بِهِمْ ما يُحْزِنُهم. ولَمّا كانَ ما يُخافُ مِنهُ مِن شَأْنِهِ أنْ يُحْزِنَ مَن يُصِيبُهُ كانَ نَفْيُ الحُزْنِ عَنْهم مُؤَكِّدًا لِمَعْنى نَفْيِ خَوْفِ خائِفٍ عَلَيْهِمْ. وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ حَمَلُوا الخَوْفَ والحُزْنَ المَنفِيَّيْنِ عَلى ما يَحْصُلُ لِأهْلِ الشَّقاوَةِ في الآخِرَةِ بِناءً عَلى أنَّ الخَوْفَ والحُزْنَ يَحْصُلانِ في الدُّنْيا، كَقَوْلِهِ: ﴿فَأوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى﴾ [طه: ٦٧] . وقَدْ عَلِمْتَ ما يُغْنِي عَنْ هَذا التَّأْوِيلِ، وهو يَبْعُدُ عَنْ مُفادِ قَوْلِهِ: ﴿لَهُمُ البُشْرى في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ والوَلِيُّ: المُوالِي، أيِ المُحالِفُ والنّاصِرُ. وكُلُّها تَرْجِعُ إلى مَعْنى الوَلْيِ (بِسُكُونِ اللّامِ)، وهو القُرْبُ وهو في مَعْنى الوَلِيِّ كُلُّها قُرْبٌ مَجازِيٌّ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿قُلْ أغَيْرَ اللَّهِ أتَّخِذُ ولِيًّا﴾ [الأنعام: ١٤] في سُورَةِ الأنْعامِ. وهو قُرْبٌ مِنَ الجانِبَيْنِ، ولِذَلِكَ فَسَّرُوهُ هُنا بِأنَّهُ الَّذِي يَتَوَلّى اللَّهَ بِالطّاعَةِ ويَتَوَلّاهُ اللَّهُ بِالكَرامَةِ. وقَدْ بَيَّنَ أوْلِياءَ اللَّهِ في هَذِهِ الآيَةِ بِأنَّهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا واتَّقَوْا، فاسْمُ المَوْصُولِ وصِلَتُهُ خَبَرٌ وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ، أوْ يُجْعَلُ جُمْلَةُ ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ خَبَرَ إنَّ ويُجْعَلُ اسْمُ المَوْصُولِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ حَذْفًا جارِيًا عَلى الِاسْتِعْمالِ، كَما سَمّاهُ السَّكّاكِيُّ في حَذْفِ المُسْنَدِ إلَيْهِ. وأيًّا ما كانَ فَهَذا الخَبَرُ يُفِيدُ أنْ يَعْرِفَ السّامِعُ كُنْهَ مَعْنى أوْلِياءِ اللَّهِ اعْتِناءً بِهِمْ عَلى نَحْوِ ما قِيلَ في قَوْلِ أوْسِ بْنِ حَجَرٍ: ؎الألْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّنَّ كَأنْ قَدْ رَأى وقَدْ سَمِعا ودَلَّ قَوْلُهُ: ﴿وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ عَلى أنَّ التَّقْوى مُلازِمَةٌ لَهم أخْذًا مِن صِيغَةِ ”كانُوا“ وأنَّها مُتَجَدِّدَةٌ مِنهم أخْذًا مِن صِيغَةِ المُضارِعِ في قَوْلِهِ: يَتَّقُونَ. وقَدْ كُنْتُ أقُولُ في المُذاكِّراتِ مُنْذُ سِنِينَ خَلَتْ في أيّامِ الطَّلَبِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ هي أقْوى ما يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ في تَفْسِيرِ حَقِيقَةِ الوَلِيِّ شَرْعًا وأنَّ عَلى حَقِيقَتِها يُحْمَلُ مَعْنى قَوْلِهِ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ الَّذِي رَواهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ قالَ ”«قالَ اللَّهُ - تَعالى - مَن عادى لِي ولِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِحَرْبٍ» “ . وإشارَةُ الآيَةِ إلى تَوَلِّي اللَّهِ إيّاهم بِالكَرامَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَهُمُ البُشْرى في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ وتَعْرِيفُ البُشْرى تَعْرِيفُ الجِنْسِ فَهو صادِقٌ بِبِشاراتٍ كَثِيرَةٍ. (p-٢١٩)وفي الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ حالٌ مِنَ البُشْرى. والمَعْنى: أنَّهم يُبَشَّرُونَ بِخَيْراتٍ قَبْلَ حُصُولِها: في الدُّنْيا بِما يَتَكَرَّرُ مِنَ البِشاراتِ الوارِدَةِ في كَلامِ اللَّهِ - تَعالى - وكَلامِ رَسُولِهِ ﷺ، وفي الآخِرَةِ بِما يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ المَلائِكَةِ وما يَسْمَعُونَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ بِهِمْ إلى النَّعِيمِ المُقِيمِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أنَّ لَهم جَنّاتٍ﴾ [البقرة: ٢٥] ورَوى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ «أنَّهُ سَألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿لَهُمُ البُشْرى في الحَياةِ الدُّنْيا﴾ فَقالَ: ما سَألَنِي عَنْها أحَدٌ غَيْرُكَ مُنْذُ أُنْزِلَتْ فَهي الرُّؤْيا الصّالِحَةُ يَراها المُسْلِمُ أوْ تُرى لَهُ» قالَ التِّرْمِذِيُّ: ولَيْسَ فِيهِ عَطاءُ بْنُ يَسارٍ أيْ لَيْسَ في الحَدِيثِ أنَّ أبا صالِحٍ يَرْوِيهِ عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ كَما هو المَعْرُوفُ في رِوايَةِ أبِي صالِحٍ إلى أبِي الدَّرْداءِ، وعَلَيْهِ فالحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ غَيْرُ مُتَّصِلِ السَّنَدِ. وقَدْ رَواهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدَيْنِ آخَرَيْنِ فِيهِما عَطاءُ بْنُ يَسارٍ عَنْ رَجُلٍ مِن أهْلِ مِصْرَ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ وذَلِكَ سَنَدٌ فِيهِ مَجْهُولٌ، فَحالَةُ إسْنادِ هَذا الخَبَرِ مُضْطَرِبَةٌ لِظُهُورِ أنَّ عَطاءً لَمْ يَسْمَعْهُ مِن أبِي الدَّرْداءِ. ومَحْمَلُ هَذا الخَبَرِ أنَّ الرُّؤْيا الصّالِحَةَ مِن جُمْلَةِ البُشْرى في الحَياةِ الدُّنْيا لِأنَّها تُؤْذِنُ صاحِبَها بِخَيْرٍ مُسْتَقْبَلٍ يَحْصُلُ في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ، أوْ كَأنَّ السّائِلَ سَألَ عَنْ بُشْرى الحَياةِ فَأمّا بُشْرى الآخِرَةِ فَكانَتْ مَعْرُوفَةً بِقَوْلِهِ: ﴿يُبَشِّرُهم رَبُّهم بِرَحْمَةٍ مِنهُ﴾ [التوبة: ٢١] الآيَةَ ونَحْوَها مِنَ الآياتِ. وفِي المُوَطَّأِ عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ كانَ يَقُولُ في هَذِهِ الآيَةِ ﴿لَهُمُ البُشْرى في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ قالَ: هي الرُّؤْيا الصّالِحَةُ يَراها الرَّجُلُ أوْ تُرى لَهُ. ومِنَ البُشْرى الوَعْدُ بِأنَّ لَهم عاقِبَةَ النَّصْرِ عَلى الأعْداءِ، وتَمْكِينُهم مِنَ السُّلْطانِ في الدُّنْيا، وأنَّ لَهُمُ النَّعِيمَ الخالِدَ في الآخِرَةِ. ومُقابَلَةُ الحُزْنِ بِالبُشْرى مِن مُحَسِّناتِ الطِّباقِ. وجُمْلَةُ ﴿لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ﴾ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنى تَأْكِيدِ الوَعْدِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: ﴿لَهُمُ البُشْرى في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾، تَذْكِيرًا لَهم بِأنَّ ما وعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ البَشائِرِ مِثْلَ النَّصْرِ (p-٢٢٠)وحُسْنِ العاقِبَةِ - أمْرٌ ثابِتٌ لا يَتَخَلَّفُ لِأنَّهُ مِن كَلِماتِ اللَّهِ، وقَدْ نُفِيَ التَّبْدِيلُ بِصِيغَةِ التَّبْرِئَةِ الدّالَّةِ عَلى انْتِفاءِ جِنْسِ التَّبْدِيلِ. والتَّبْدِيلُ: التَّغْيِيرُ والإبْطالُ؛ لِأنَّ إبْطالَ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ إيجادَ نَقِيضِهِ. و﴿كَلِماتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: ٢٧] الأقْوالُ الَّتِي أوْحى بِها إلى الرَّسُولِ في الوَعْدِ المُشارِ إلَيْهِ، ويُؤْخَذُ مِن عُمُومِ ﴿كَلِماتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: ٢٧] وعُمُومِ نَفْيِ التَّبْدِيلِ أنَّ كُلَّ ما هو تَبْدِيلٌ مَنفِيٌّ مِن أصْلِهِ. رُوِيَ أنَّ الحَجّاجَ خَطَبَ فَذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقالَ: إنَّهُ قَدْ بَدَّلَ كِتابَ اللَّهِ. وكانَ ابْنُ عُمَرَ حاضِرًا فَقالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: لا تُطِيقُ ذَلِكَ أنْتَ ولا ابْنُ الزُّبَيْرِ ﴿لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ﴾ وجُمْلَةُ ﴿ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ ﴿لَهُمُ البُشْرى﴾ ومُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِها فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. والإشارَةُ بِذَلِكَ إلى المَذْكُورِ مِن مَضْمُونِ الجُمَلِ الثَّلاثِ المُتَقَدِّمَةِ، واخْتِيارُ اسْمِ الإشارَةِ لِأنَّهُ أجْمَعُ لِما ذُكِرَ، وفِيهِ كَمالُ تَمْيِيزٍ لَهُ لِزِيادَةِ تَقْرِيرِ مَعْناهُ. وذُكِرَ ضَمِيرُ الفَصْلِ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ لِزِيادَةِ التَّأْكِيدِ ولِإفادَةِ القَصْرِ، أيْ هو الفَوْزُ العَظِيمُ لا غَيْرُهُ مِمّا يَتَقَلَّبُ فِيهِ المُشْرِكُونَ في الحَياةِ الدُّنْيا مِن رِزْقٍ ومَنَعَةٍ وقُوَّةٍ؛ لِأنَّ ذَلِكَ لا يُعَدُّ فَوْزًا إذا عاقَبَتْهُ المَذَلَّةُ والإهانَةُ في الدُّنْيا وبَعْدَهُ العَذابُ الخالِدُ في الآخِرَةِ، كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعالى: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا في البِلادِ﴾ [آل عمران: ١٩٦] ﴿مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهم جَهَنَّمُ وبِئْسَ المِهادُ﴾ [آل عمران: ١٩٧]


ركن الترجمة

For them is good news in the life of the world and in the life to come. There is no changing the words of God. That will be the great triumph.

Il y a pour eux une bonne annonce dans la vie d'ici-bas tout comme dans la vie ultime. - Il n'y aura pas de changement aux paroles d'Allah -. Voilà l'énorme succès!

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :