ركن التفسير
38 - (إلى يوم الوقت المعلوم) وقت النفخة الأولى
فلما تحقق النظرة قبحه الله.
﴿قالَ رَبِّ فَأنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ ﴿قالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ﴾ ﴿إلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ سُؤالُهُ النَّظِرَةَ بَعْدَ إعْلامِهِ بِأنَّهُ مَلْعُونٌ إلى يَوْمِ الدِّينِ فاضَ بِهِ خُبْثُ جِبِلَّتِهِ البالِغُ نِهايَةِ الخَباثَةِ الَّتِي لا يَشْفِيها إلّا دَوامُ الإفْسادِ في هَذا العالَمِ، فَكانَتْ هَذِهِ الرَّغْبَةُ مُجْلِبَةً لِدَوامِ شِقْوَتِهِ. (p-٤٨)ولَمّا كانَتِ اللَّعْنَةُ تَسْتَمِرُّ بَعْدَ انْعِدامِ المَلْعُونِ إذا اشْتَهَرَ بَيْنَ النّاسِ بِسُوءٍ لَمْ يَكُنْ تَوْقِيتُها بِالأبَدِ مُقَيِّدًا حَياةَ المَلْعُونِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِإبْلِيسَ غِنًى بِقَوْلِهِ تَعالى إلى يَوْمِ الدِّينِ عَنْ أنْ يَسْألَ الإبْقاءَ إلى يَوْمِ الدِّينِ لِيَكُونَ مَصْدَرَ الشُّرُورِ لِلنُّفُوسِ قَضاءٌ لِما جُبِلَ عَلَيْهِ مِن بَثِّ الخُبْثِ، فَكانَ بِذَلِكَ حَرِيصًا عَلى دَوامِها بِما يُوَجَّهُ إلَيْهِ مِنَ اللَّعْنَةِ، فَسَألَ النَّظِرَةَ حُبًّا لِلْبَقاءِ لِما في البَقاءِ مِنَ اسْتِمْرارِ عَمَلِهِ. وخاطَبَ اللَّهَ بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ تَخَضُّعًا وحَثًّا عَلى الإجابَةِ، والفاءُ في فَأنْظِرْنِي فاءُ التَّفْرِيعِ، فَرَّعَ السُّؤالَ عَنِ الإخْراجِ، ووَسَّطَ النِّداءَ بَيْنَ ذَلِكَ. وذُكِرَتْ هَذِهِ الحالَةُ مِن أوْصافِ نَفْسِيَّتِهِ بَعْثًا لِكَراهِيَتِهِ في نُفُوسِ البَشَرِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أنَّ حَقَّ النَّفْسِ الأبِيَّةِ أنْ تَأْنَفَ مِنَ الحَياةِ الذَّمِيمَةِ المُحَقَّرَةِ، وذَلِكَ شَأْنُ العَرَبِ، فَإذا عَلِمُوا هَذا الحَوْصَ مِن حالِ إبْلِيسَ أبْغَضُوهُ واحْتَقَرُوهُ فَلَمْ يَرْضَوْا بِكُلِّ عَمَلٍ يُنْسَبُ إلَيْهِ. والإنْظارُ: الإمْهالُ والتَّأْخِيرُ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ، والمُرادُ تَأْخِيرُ إماتَتِهِ؛ لِأنَّ الإنْظارَ لا يَكُونُ لِلذّاتِ، فَتَعَيَّنَ أنَّهُ لِبَعْضِ أحْوالِها وهو المَوْتُ بِقَرِينَةِ السِّياقِ. وعَبَّرَ عَنْ يَوْمِ الدِّينِ بِـ يَوْمِ يُبْعَثُونَ تَمْهِيدًا لِما عَقَدَ عَلَيْهِ العَزْمَ مِن إغْواءِ البَشَرِ، فَأرادَ الإنْظارَ إلى آخِرِ مُدَّةِ وُجُودِ نَوْعِ الإنْسانِ في الدُّنْيا، وخَلَقَ اللَّهُ فِيهِ حُبَّ النَّظِرَةِ الَّتِي قَدَّرَها اللَّهُ لَهُ وخَلَقَهُ لِأجْلِها وأجْلِ آثارِها؛ لِيَحْمِلَ أوْزارَ تَبِعَةِ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَسْبِهِ واخْتِيارِهِ تِلْكَ الحالَةَ، فَإنَّ ذَلِكَ الكَسْبَ والِاخْتِيارَ هو الَّذِي يَجْعَلُهُ مُلائِمًا لِما خُلِقَ لَهُ، كَما أوْمَأ إلى ذَلِكَ البَيانُ النَّبَوِيُّ بِقَوْلِهِ «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ» . (p-٤٩)وضَمِيرُ يُبْعَثُونَ لِلْبَشَرِ المَعْلُومِينَ مِن تَرْكِيبِ خَلْقِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وأنَّهُ يَكُونُ لَهُ نَسْلٌ ولا سِيَّما حَيْثُ خُلِقَتْ زَوْجُهُ حِينَئِذٍ فَإنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ مِنهُما نَسْلٌ. وعَبَّرَ عَنْ يَوْمِ البَعْثِ بِـ ﴿يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ تَفَنُّنًا تَفادِيًا مِن إعادَةِ اللَّفْظِ قَضاءً لِحَقِّ حُسْنِ النَّظْمِ، ولِما فِيهِ مِنَ التَّعْلِيمِ بِأنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ الأجَلَ، فالمُرادُ: المَعْلُومُ لَدَيْنا، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ المَعْلُومُ لِلنّاسِ أيْضًا عِلْمًا إجْمالِيًّا. وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ مَن لَمْ يُؤْمِنُوا بِذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ النّاسِ لا يَعْبَأُ بِهِمْ؛ فَهم كالعَدَمِ. وهَذا الإنْظارُ رَمْزٌ إلَهِيٌّ عَلى أنَّ نامُوسَ الشَّرِّ لا يَنْقَضِي مِن عالَمِ الحَياةِ الدُّنْيا، وأنَّ نِظامَها قائِمٌ عَلى التَّصارُعِ بَيْنَ الخَيْرِ والشَّرِّ والأخْيارِ والأشْرارِ، قالَ تَعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلى الباطِلِ، وقالَ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والباطِلَ. فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَغْنِ نِظامُ العالَمِ عَنْ إقامَةِ قَوانِينِ العَدْلِ والصَّلاحِ وإيداعِها إلى الكَفاةِ لِتَنْفِيذِها والذَّوْدِ عَنْها. وعُطِفَتْ مَقُولاتُ هَذِهِ الأقْوالِ بِالفاءِ؛ لِأنَّ كُلَّ قَوْلٍ مِنها أثارَهُ الكَلامُ الَّذِي قَبْلَهُ فَتَفَرَّعَ عَنْهُ.