موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الأربعاء 18 رمضان 1446 هجرية الموافق ل19 مارس 2025


الآية [1] من سورة  

سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ


ركن التفسير

سورة الإسراء 1 - (سبحان) أي تنزيه (الذي أسرى بعبده) محمد صلى الله عليه وسلم (ليلا) نصب على الظرف والإسراء سير الليل وفائدة ذكره الاشارة بتنكيره إلى تقليل مدته (من المسجد الحرام) أي مكة (إلى المسجد الأقصى) بيت المقدس لبعده منه (الذي باركنا حوله) بالثمار والأنهار (لنريه من آياتنا) عجائب قدرتنا (إنه هو السميع البصير) أي العالم بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله فأنعم عليه بالإسراء المشتمل على اجتماعه بالأنبياء وعروجه إلى السماء ورؤية عجائب الملكوت ومناجاته له تعالى فإنه صلى الله عليه وسلم

سورة الإسراء: قال الإمام الحافظ المتقن أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري: حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت عبدالرحمن بن يزيد سمعت ابن مسعود رضي الله عنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأول وهن من تلادى. وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالرحمن حدثنا حماد بن زيد عن مروان عن أبي لبابة سمعت عائشة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم وكان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر. يمجد تعالى نفسه ويعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه فلا إله غيره ولا رب سواه "الذي أسرى بعبده" يعني محمدا صلى الله عليه وسلم "ليلا" أي في جنح الليل "من المسجد الحرام" وهو مسجد مكة "إلى المسجد الأقصى" وهو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا جمعوا له هناك كلهم فأمهم في محلتهم ودارهم فدل على أنه هو الإمام الأعظم والرئيس المقدم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. وقوله تعالى "الذي باركنا حوله" أي في الزروع والثمار "لنريه" أي محمدا "من آياتنا" أي العظام كما قال تعالى "لقد رأى من آيات ربه الكبرى" وسنذكر من ذلك ما وردت به السنة من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى "إنه هو السميع البصير" أي السميع لأقوال عباده مؤمنهم وكافرهم مصدقهم ومكذبهم البصير بهم فيعطي كلا منهم ما يستحقه في الدنيا والآخرة. "ذكر الأحاديث الواردة في الإسراء: رواية أنس بن مالك رضي الله عنه" قال الإمام أبو عبدالله البخاري: حدثني عبدالعزيز بن عبدالله حدثنا سليمان - هو ابن بلال عن شريك بن عبدالله قال: سمعت أنس بن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم أيهم هو؟ فقال أوسطهم هو خيرهم فقال آخرهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه - وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم - فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشو إيمانا وحكمة فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه - ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل السماء من هذا؟ فقال جبريل قالوا ومن معك؟ قال معي محمد قالوا وقد بعث إليه؟ قال نعم قالوا فمرحبا به وأهلا يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم فوجد في السماء الدنيا آدم فقال له جبريل هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلم عليه ورد عليه آدم فقال مرحبا وأهلا بابني نعم الابن أنت فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال "ما هذان النهران يا جبريل؟" قال هذان النيل والفرات عنصرهما ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال "ما هذا يا جبريل" قال هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ثم عرج به إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الملائكة الأولى من هذا؟ قال جبريل قالوا ومن معك؟ قال محمد صلى الله عليه وسلم قالوا وقد بعث إليه؟ قال نعم قالوا مرحبا به وأهلا ثم عرج به إلى السماء الثالثة فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية ثم عرج به إلى السماء الرابعة فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء الخامسة فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء السادسة فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى فقال موسى رب لم أظن أن ترفع على أحدا ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله عز وجل حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله إليه فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة ثم هبط به حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال "عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة" قال إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار تعالى وتقدس فقال وهو في مكانه "يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا" فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبدانا وأبصارا وأسماعا فأرجع فليخفف عنك ربك كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبريل فرفعه عند الخامسة فقال "يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم فخفف عنا" فقال الجبار تبارك وتعالى: "يا محمد قال لبيك وسعديك" قال إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك فرجع إلى موسى فقال كيف فعلت؟ فقال "خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها" قال موسى قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا موسى قد والله استحييت من ربي عز وجل مما أختلف إليه "قال فاهبط باسم الله قال واستيقظ وهو في المسجد الحرام هكذا ساقه البخاري في كتاب التوحيد ورواه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه أبي بكر عبدالحميد عن سليمان بن بلال ورواه مسلم عن هارون بن سعيد عن ابن وهب عن سليمان قال فزاد ونقص وقدم وأخر وهو كما قال مسلم فإن شريك بن عبدالله بن أبي نمر اضطرب في هذا الحديث وساء حفظه ولم يضبطه كما سيأتي بيانه إن شاء الله في الأحاديث الأخر ومنهم من يجعل هذا مناما توطئة لما وقع بعد ذلك والله أعلم. وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي في حديث شريك زيادة تفرد بها على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى عز وجل يعني قوله "ثم دنا" الجبار رب العزة "فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى" قال وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤيته جبريل أصح وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله في هذه المسألة هو الحق فإن أبا ذر قال يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال "نور أنى أراه" وفي رواية "رأيت نورا" أخرجه مسلم وقوله "ثم دنا فتدلى" إنما هو جبريل عليه السلام كما ثبت ذلك في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين وعن ابن مسعود وكذلك هو في صحيح مسلم عن أبي هريرة ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه الآية بهذا وقال الإمام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس فربطت الدابة بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل: أصبت الفطرة قال ثم عرج بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل له من أنت؟ قال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد قيل وقد أرسل إليه؟ قال قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل له من أنت؟ قال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد قيل وقد أرسل إليه؟ قال قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى فرحبا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل له من أنت؟ قال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد قيل وقد أرسل إليه؟ قال قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل من أنت؟ قال جبريل فقيل ومن معك؟ قال محمد فقيل وقد أرسل إليه؟ قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير ثم يقول الله تعالى "ورفعناه مكانا عليا" ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة قال جبريل فقيل من أنت؟ قال جبريل فقيل ومن معك؟ قال محمد فقيل قد أرسل إليه؟ قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل من أنت؟ قال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد فقيل وقد بعث إليه؟ قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى عليه السلام فرحب بى ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل من أنت؟ قال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد فقيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام وإذا هو مستند إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى يستطيع أن يصفها من حسنها قال فأوحى الله إلي ما أوحى وقد فرض علي في كل يوم وليلة خمسين صلاة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى قال ما فرض ربك على أمتك؟ قلت خمسين صلاة في كل يوم وليلة قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال فرجعت إلى ربي فقلت أي رب خفف عن أمتي فحط عني خمسا فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال ما فعلت فقلت قد حط عني خمسا فقال إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحط عني خمسا خمسا حتى قال: يا محمد هن خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب فإن عملها كتبت سيئة واحدة. فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت" ورواه مسلم عن شيبان بن فروخ عن حماد بن سلمة بهذا السياق وهو أصح من سياق شريك. قال البيهقي وفي هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسري به عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس وهذا الذي قاله هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به مسرجا ملجما ليركبه فاستصعب عليه فقال له جبريل ما يحملك على هذا فوالله ما ركبك قط أكرم على الله منه قال فارفض عرقا ورواه الترمذي عن إسحاق بن منصور عن عبد الرزاق وقال غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وقال أحمد أيضا حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثني راشد بن سعيد وعبدالرحمن بن جبير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما عرج بي إلى ربي عز وجل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" وأخرجه أبو داود من حديث صفوان بن عمرو به ومن وجه آخر ليس فيه أنس فالله أعلم. وقال أيضا حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن سليمان التيمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مررت ليلة أسري بي على موسى عليه السلام قائما يصلي في قبره" ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن سليمان بن طرخان التيمي وثابت البناني كلاهما عن أنس قال النسائي هذا أصح من رواية من قال سليمان عن ثابت عن أنس. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن التيمي عن أنس قال أخبرني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر على موسى وهو يصلي في قبره وقال أبو يعلى حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة حدثنا معتمر عن أبيه قال سمعت أنسا أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر بموسى وهو يصلي في قبره قال أنس ذكر أنه حمل على البراق فأوثق الدابة أو قال الفرس قال أبو بكر صفها لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هي كذه وذه" فقال أشهد أنك رسول الله وكان أبو بكر رضي الله عنه قد رآها وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا سعيد بن منصور حدثنا الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بينا أنا نائم إذ جاء جبريل عليه السلام فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمست فالتفت إلى جبريل كأنه حلس لاط فعرفت فضل علمه بالله علي وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور الأعظم وإذا دون الحجاب رفرف الدر والياقوت وأوحى إلي ما شاء الله أن يوحى" ثم قال ولا نعلم روى هذا الحديث إلا أنس ولا نعلم رواه عن أبي عمران الجوني إلا الحارث بن عبيد وكان رجلا مشهورا من أهل البصرة. ورواه الحافظ البيهقي في الدلائل عن أبي بكر القاضي عن أبي جعفر محمد بن علي بن دحيم عن محمد بن الحسين بن أبي الحسين عن سعيد بن منصور فذكره بسنده مثله ثم قال وقال غيره في هذا الحديث في آخره ولط دوني أو قال دون الحجاب رفرف الدر والياقوت ثم قال هكذا رواه الحارث بن عبيد ورواه حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن محمد بن عمير بن عطارد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ملإ من أصحابه فجاءه جبريل فنكت في ظهره فذهب به إلى الشجرة وفيها مثل وكري الطير فقعد في أحدهما وقعد جبريل في الآخر "فنشأت بنا حتى بلغت الأفق فلو بسطت يدى إلى السماء لنلتها فدلي بسبب وهبط إلي النور فوقع جبريل مغشيا عليه كأنه حلس فعرفت فضل خشيته على خشيتي فأوحي إلي: نبيا ملكا أو نبيا عبدا وإلى الجنة ما أنت فأومأ إلي جبريل وهو مضطجع أن تواضع قال قلت لا بل نبيا عبدا" قلت وهذا إن صح يقتضي أنها واقعة غير ليلة الإسراء فإنه لم يذكر فيها بيت المقدس ولا الصعود إلى السماء فهي كائنة غير ما نحن فيه والله أعلم. وقال البزار أيضا حدثنا عمرو بن عيسى حدثنا أبو بحر حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل وهذا غريب. وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا يونس حدثنا عبدالله بن وهب حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن عبدالرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن أنس بن مالك قال: لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق فكأنها حركت ذنبها فقال لها جبريل مه يا براق فوالله ما ركبك مثله وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بعجوز على جانب الطريق فقال "ما هذه يا جبريل؟ قال سر يا محمد قال فسار ما شاء الله أن يسير فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق فقال هلم يا محمد فقال له جبريل سر يا محمد فسار ما شاء الله أن يسير قال فلقيه خلق من خلق الله فقالوا السلام عليك يا أول السلام عليك يا آخر السلام عليك يا حاشر فقال له جبريل اردد السلام يا محمد فرد السلام ثم لقيه الثانية فقال له مثل مقالته الأولى ثم الثالثة كذلك حتى انتهى إلى بيت المقدس فعرض عليه الخمر والماء واللبن فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن فقال له جبريل أصبت الفطرة ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك ولو شربت الخمر لغويت ولغوت أمتك ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء عليهم السلام فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ثم قال له جبريل: أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلا كما بقي من عمر تلك العجوز وأما الذي أراد أن تميل إليه فذاك عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وهكذا رواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة من حديث ابن وهب وفي بعض ألفاظه نكارة وغرابة "طريق أخرى" عن أنس بن مالك وفيها غرابة ونكارة جدا وهي في سنن النسائي المجتبى ولم أرها في الكبير قال: حدثنا عمرو بن هشام حدثنا مخلد هو ابن الحسين عن سعيد بن عبدالعزيز حدثنا يزيد بن أبي مالك حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل خطوها عند منتهى طرفها فركبت ومعي جبريل عليه السلام فسرت فقال انزل فصل فصليت فقال أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة ثم قال انزل فصل فصليت فقال أتدري أين صليت؟ صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى ثم قال انزل فصل فصليت فقال أتدري أين صليت صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء عليهم السلام فقدمني جبريل عليه السلام حتى أممتهم ثم صعد بي إلى السماء الدنيا فإذا فيها آدم عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء الثانية فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فإذا فيها يوسف عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فإذا فيها هارون عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فإذا فيها إدريس عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها موسى عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء السابعة فإذا فيها إبراهيم عليه السلام ثم صعد بي فوق سبع سموات وأتيت سدرة المنتهى فغشتني ضبابة فخررت ساجدا فقيل لي إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك فرجعت بذلك حتى أمر بموسى عليه السلام فقال ما فرض ربك على أمتك؟ قلت خمسين صلاة قال فإنك لاتستطيع أن تقوم بها لا أنت ولا أمتك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فرجعت إلى ربي فخفف عني عشرا ثم أتيت موسى فأمرني بالرجوع فرجعت فخفف عني عشرا ثم ردت إلى خمس صلوات قال فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتين فما قاموا بهما فرجعت إلى ربي عز وجل فسألته التخفيف فقال إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمس صلوات فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك قال فعرفت أنها من الله عز وجل صري فرجعت إلى موسى عليه السلام فقال ارجع فعرفت أنها من الله عز وجل صري - يقول أي حتم - فلم أرجع" "طريق أخرى" وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام ابن عمار حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس أتاه جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل حمله جبريل عليها ينتهي خفها ح

﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا إنَّهُ هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ الِافْتِتاحُ بِكَلِمَةِ التَّسْبِيحِ مِن دُونِ سَبْقِ كَلامٍ مُتَضَمِّنٍ ما يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ؛ يُؤْذِنُ بِأنَّ خَبَرًا عَجِيبًا يَسْتَقْبِلُهُ السّامِعُونَ دالًّا عَلى عَظِيمِ القُدْرَةِ مِنَ المُتَكَلِّمِ، ورَفِيعِ مَنزِلَةِ المُتَحَدَّثِ عَنْهُ. (p-١٠)فَإنَّ جُمْلَةَ التَّسْبِيحِ في الكَلامِ الَّذِي لَمْ يَقَعْ فِيهِ ما يُوهِمُ تَشْبِيهًا أوْ تَنْقِيصًا لا يَلِيقانِ بِجَلالِ اللَّهِ تَعالى مِثْلُ ﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: ١٨٠] يَتَعَيَّنُ أنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً في أكْثَرِ مِنَ التَّنْوِيهِ، وذَلِكَ هو التَّعْجِيبُ مِنَ الخَبَرِ المُتَحَدَّثِ بِهِ كَقَوْلِهِ ﴿قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذا سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٦]، وقَوْلِ الأعْشى: ؎قَدْ قُلْتُ لَمّا جاءَنِي فَخْرُهُ سُبْحانَ مِن عَلْقَمَةَ الفاخِرِ ولَمّا كانَ هَذا الكَلامُ مِن جانِبِ اللَّهِ تَعالى والتَّسْبِيحُ صادِرًا مِنهُ؛ كانَ المَعْنى تَعْجِيبَ السّامِعِينَ؛ لِأنَّ التَّعْجِيبَ مُسْتَحِيلَةٌ حَقِيقَتُهُ عَلى اللَّهِ؛ لا لِأنَّ ذَلِكَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ في مَحامِلِ الكَلامِ البَلِيغِ لِإمْكانِ الرُّجُوعِ إلى التَّمْثِيلِ، مِثْلُ مَجِيءِ الرَّجاءِ في كَلامِهِ تَعالى نَحْوُ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ، بَلْ لِأنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ تَعَجُّبُ المُتَكَلِّمِ مِن فِعْلِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ مَعْنى التَّعْجِيبِ فِيهِ مِن قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: أتَعْجَبُ مِن قَوْلِ فُلانٍ كَيْتَ وكَيْتَ. ووَجْهُ هَذا الِاسْتِعْمالِ أنَّ الأصْلَ أنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ عِنْدَ ظُهُورِ ما يَدُلُّ عَلى إبْطالِ ما لا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعالى، ولَمّا كانَ ظُهُورُ ما يَدُلُّ عَلى عَظِيمِ القُدْرَةِ مُزِيلًا لِلشَّكِّ في قُدْرَةِ اللَّهِ، ولِلْإشْراكِ بِهِ كانَ مِن شَأْنِهِ أنْ يَنْطِقَ المُتَأمِّلُ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعالى، أيْ تَنْزِيهِهِ عَنِ العَجْزِ. وأصْلُ صِيَغِ التَّسْبِيحِ هو كَلِمَةُ سُبْحانَ اللَّهِ الَّتِي نُحِتْ مِنها السَّبْحَلَةُ، ووَقَعَ التَّصَرُّفُ في صِيَغِها بِالإضْمارِ نَحْوُ: سُبْحانَكَ وسُبْحانَهُ، وبِالمَوْصُولِ نَحْوُ ﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها﴾ [يس: ٣٦] ومِنهُ هَذِهِ الآيَةُ. والتَّعْبِيرُ عَنِ الذّاتِ العَلِيَّةِ بِطَرِيقِ المَوْصُولِ دُونَ الِاسْمِ العَلَمِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى ما تُفِيدُهُ صِلَةُ المَوْصُولِ مِنَ الإيماءِ إلى وجْهِ هَذا التَّعْجِيبِ والتَّنْوِيهِ وسَبَبِهِ، وهو ذَلِكَ الحادِثُ العَظِيمُ والعِنايَةُ الكُبْرى، ويُفِيدُ أنَّ حَدِيثَ الإسْراءِ أمْرٌ فَشا بَيْنَ القَوْمِ، فَقَدْ آمَنُ بِهِ المُسْلِمُونَ، وأكْبَرَهُ المُشْرِكُونَ. (p-١١)وفِي ذَلِكَ إدْماجٌ لِرِفْعَةِ قَدْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وإثْباتُ أنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، وأنَّهُ أُوتِيَ مِن دَلائِلِ صِدْقِ دَعْوَتِهِ ما لا قِبَلَ لَهم بِإنْكارِهِ، فَقَدْ كانَ إسْراؤُهُ إطْلاعًا لَهُ عَلى غائِبٍ مِنَ الأرْضِ، وهو أفْضَلُ مَكانٍ بَعْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ. و(أسْرى) لُغَةٌ في سَرى، بِمَعْنى سارَ في اللَّيْلِ، فالهَمْزَةُ هُنا لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ؛ لِأنَّ التَّعْدِيَةَ حاصِلَةٌ بِالباءِ، بَلْ (أسْرى) فِعْلٌ مُفْتَتَحٌ بِالهَمْزَةِ مُرادِفُ سَرى، وهو مِثْلُ أبانَ المُرادِفُ (بانَ)، ومِثْلُ أنْهَجَ الثَّوْبُ بِمَعْنى (نَهَجَ) أيْ بَلِيَ، فَـ ﴿أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ بِمَنزِلَةِ ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧] . ولِلْمُبَرِّدِ والسُهَيْلِيِّ نُكْتَةٌ في التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّعْدِيَةِ بِالهَمْزَةِ والتَّعْدِيَةِ بِالباءِ: بِأنَّ الثّانِيَةَ أبْلَغُ؛ لِأنَّها في أصْلِ الوَضْعِ تَقْتَضِي مُشارَكَةَ الفاعِلِ المَفْعُولَ في الفِعْلِ، فَأصْلُ ذَهَبَ بِهِ أنَّهُ اسْتَصْحَبَهُ، كَما قالَ تَعالى ﴿وسارَ بِأهْلِهِ﴾ [القصص: ٢٩]، وقالَتِ العَرَبُ: أشْبَعَهم شَتْمًا، وراحُوا بِالإبِلِ، وفي هَذا لَطِيفَةٌ تُناسِبُ المَقامَ هُنا إذْ قالَ ﴿أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ دُونَ سَرى بِعَبْدِهِ، وهي التَّلْوِيحُ إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ مَعَ رَسُولِهِ في إسْرائِهِ بِعِنايَتِهِ وتَوْفِيقِهِ، كَما قالَ تَعالى ﴿فَإنَّكَ بِأعْيُنِنا﴾ [الطور: ٤٨]، وقالَ ﴿إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ [التوبة: ٤٠] . فالمَعْنى: الَّذِي جَعَلَ عَبْدَهُ مُسْرَيًا، أيْ سارِيًا، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَأسْرِ بِأهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: ٨١] . وإذْ قَدْ كانَ السُّرى خاصًّا بِسَيْرِ اللَّيْلِ كانَ قَوْلُهُ لَيْلًا إشارَةً إلى أنَّ السَّيْرَ بِهِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى كانَ في جُزْءِ لَيْلَةٍ، وإلّا لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ إلّا تَأْكِيدًا، عَلى أنَّ الإفادَةَ كَما يَقُولُونَ خَيْرٌ مِنَ الإعادَةِ. وفِي ذَلِكَ إيماءٌ إلى أنَّهُ إسْراءٌ خارِقٌ لِلْعادَةِ لِقَطْعِ المَسافَةِ الَّتِي بَيْنَ مَبْدَأِ السَّيْرِ ونِهايَتِهِ في بَعْضِ لَيْلَةٍ، وأيْضًا لِيَتَوَسَّلَ بِذِكْرِ اللَّيْلِ إلى تَنْكِيرِهِ المُفِيدِ لِلتَّعْظِيمِ. فَتَنْكِيرُ لَيْلًا لِلتَّعْظِيمِ، بِقَرِينَةِ الِاعْتِناءِ بِذِكْرِهِ مَعَ عِلْمِهِ مِن فِعْلِ أسْرى، وبِقَرِينَةِ عَدَمِ تَعْرِيفِهِ، أيْ هو لَيْلٌ عَظِيمٌ بِاعْتِبارِ جَعْلِهِ زَمَنًا (p-١٢)لِذَلِكَ السُّرى العَظِيمِ، فَقامَ التَّنْكِيرُ هُنا مَقامَ ما يَدُلُّ عَلى التَّعْظِيمِ، ألا تَرى كَيْفَ احْتِيجَ إلى الدَّلالَةِ عَلى التَّعْظِيمِ بِصِيغَةٍ خاصَّةٍ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ وما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ﴾ [القدر: ١] إذْ وقَعَتْ لَيْلَةُ القَدْرِ غَيْرَ مُنَكَّرَةٍ. و(عَبْدُ) المُضافُ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ هَنا هو مُحَمَّدٌ ﷺ كَما هو مُصْطَلَحُ القُرْآنِ، فَإنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ لَفْظُ العَبْدِ مُضافًا إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ الرّاجِعِ إلى تَعالى إلّا مُرادًا بِهِ النَّبِيُّ ﷺ؛ ولِأنَّ خَبَرَ الإسْراءِ بِهِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ قَدْ شاعَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وشاعَ إنْكارُهُ بَيْنَ المُشْرِكِينَ، فَصارَ المُرادُ بِعَبْدِهِ مَعْلُومًا. والإضافَةُ إضافَةُ تَشْرِيفٍ لا إضافَةُ تَعْرِيفٍ؛ لِأنَّ وصْفَ العُبُودِيَّةِ لِلَّهِ مُتَحَقِّقٌ لِسائِرِ المَخْلُوقاتِ فَلا تُفِيدُ إضافَتُهُ تَعْرِيفًا. والمَسْجِدُ الحَرامُ هو الكَعْبَةُ والفِناءُ المُحِيطُ بِالكَعْبَةِ بِمَكَّةَ المُتَّخَذُ لِلْعِبادَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالكَعْبَةِ مِن طَوافٍ بِها، واعْتِكافٍ عِنْدَهُ، وصَلاةٍ. وأصْلُ المَسْجِدِ: أنَّهُ اسْمُ مَكانِ السُّجُودِ، وأصْلُ الحَرامِ: الأمْرُ المَمْنُوعُ؛ ولِأنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الحَرْمِ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وهو المَنعُ، وهو يُرادِفُ الحَرَمَ، فَوَصْفُ الشَّيْءِ بِالحَرامِ يَكُونُ بِمَعْنى أنَّهُ مَمْنُوعٌ اسْتِعْمالُهُ اسْتِعْمالًا يُناسِبُهُ، نَحْوُ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣] أيْ أكْلُ المِيتَةِ، وقَوْلُ عَنْتَرَةَ: حَرُمَتْ عَلَيَّ ولَيْتَها لَمْ تَحْرُمِ أيْ مَمْنُوعٌ قُرْبانُها؛ لِأنَّها زَوْجَةُ أبِيهِ، وذَلِكَ مَذْمُومٌ بَيْنَهم، ويَكُونُ بِمَعْنى المَمْنُوعِ مِن أنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَمَلٌ ما، ويُبَيَّنُ بِذِكْرِ المُتَعَلَّقِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ، وقَدْ لا يُذْكَرُ مُتَعَلَّقُهُ إذا دَلَّ عَلَيْهِ العُرْفُ، ومِنهُ قَوْلُهم (الشَّهْرُ (p-١٣)الحَرامُ) أيِ الحَرامُ فِيهِ القِتالُ في عُرْفِهِمْ، وقَدْ يُحْذَفُ المُتَعَلَّقُ لِقَصْدِ التَّكْثِيرِ، فَهو مِنَ الحَذْفِ لِلتَّعْمِيمِ فَيَرْجِعُ إلى العُمُومِ العُرْفِيِّ، فَفي نَحْوِ: (البَيْتُ الحَرامُ) يُرادُ المَمْنُوعُ مِن عُدْوانِ المُعْتَدِينَ، وغَزْوِ المُلُوكِ والفاتِحِينَ، وعَمَلِ الظُّلْمِ والسُّوءِ فِيهِ. والحَرامُ: فَعالٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، كَقَوْلِهِمْ: امْرَأةٌ حَصانٌ، أيْ مَمْنُوعَةٌ بِعَفافِها عَنِ النّاسِ. فالمَسْجِدُ الحَرامُ هو المَكانُ المُعَدُّ لِلسُّجُودِ، أيْ لِلصَّلاةِ، وهو الكَعْبَةُ والفِناءُ المَجْعُولُ حَرَمًا لَها، وهو يَخْتَلِفُ سَعَةً وضِيقًا بِاخْتِلافِ العُصُورِ مِن كَثْرَةِ النّاسِ فِيهِ لِلطَّوافِ والِاعْتِكافِ والصَّلاةِ. وقَدْ بَنى قُرَيْشٌ في زَمَنِ الجاهِلِيَّةِ بُيُوتَهم حَوْلَ المَسْجِدِ الحَرامِ، وجَعَلَ قُصَيٌّ بِقُرْبِهِ دارَ النَّدْوَةِ لِقُرَيْشٍ، وكانُوا يَجْلِسُونَ فِيها حَوْلَ الكَعْبَةِ، فانْحَصَرَ لَمّا أحاطَتْ بِهِ بُيُوتُ عَشائِرِ قُرَيْشٍ، وكانَتْ كُلُّ عَشِيرَةٍ تَتَّخِذُ بُيُوتَها مُتَجاوِرَةً، ومَجْمُوعُ البُيُوتِ يُسَمّى شِعْبًا بِكَسْرِ الشِّينِ، وكانَتْ كُلَّ عَشِيرَةٍ تَسْلُكُ إلى المَسْجِدِ الحَرامِ مِن مَنفَذِ دُورِها، ولَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ الحَرامِ جِدارٌ يُحْفَظُ بِهِ، وكانَتِ المَسالِكُ الَّتِي بَيْنَ دُورِ العَشائِرِ تُسَمّى أبْوابًا؛ لِأنَّها يُسْلَكُ مِنها إلى المَسْجِدِ الحَرامِ، مِثْلُ بابِ بَنِي شَيْبَةَ، وبابِ بَنِي هاشِمٍ، وبابِ بَنِي مَخْزُومٍ، وهو بابُ الصَّفا، وبابُ بَنِي سَهْمٍ، وبابُ بَنَيِ تَيْمٍ، ورُبَّما عُرِفَ بَعْضُ الأبْوابِ بِجِهَةٍ تَقْرُبُ مِنهُ مِثْلُ بابِ الصَّفا ويُسَمّى بابَ بَنِي مَخْزُومٍ، وبابَ الحَزْوَرَةِ سُمِّيَ بِمَكانٍ كانَتْ بِهِ سُوقٌ لِأهْلِ مَكَّةَ تُسَمّى الحَزْوَرَةُ، ولا أدْرِي هَلْ كانَتْ أبْوابًا تُغْلَقُ أمْ كانَتْ مَنافِذَ في الفَضاءِ، فَإنَّ البابَ يُطْلَقُ عَلى ما بَيْنَ حاجِزَيْنِ. وأوَّلُ مَن جَعَلَ لِلْمَسْجِدِ الحَرامِ جِدارًا يُحْفَظُ بِهِ هو عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الهِجْرَةِ. (p-١٤)ولُقِّبَ بِالمَسْجِدِ؛ لِأنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ جَعَلَهُ لِإقامَةِ الصَّلاةِ في الكَعْبَةِ كَما حَكى اللَّهُ عَنْهُ ﴿رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [إبراهيم: ٣٧]، ولَمّا انْقَرَضَتِ الحَنِيفِيَّةُ، وتَرَكَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ الصَّلاةِ تَناسَوْا وصْفَهُ بِالمَسْجِدِ الحَرامِ فَصارُوا يَقُولُونَ: البَيْتَ الحَرامَ. وأمّا قَوْلُ عُمَرَ: إنِّي نَذَرْتُ في الجاهِلِيَّةِ أنْ أعْتَكِفَ لَيْلَةً في المَسْجِدِ الحَرامِ، فَإنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِهِ في الإسْلامِ. فَغَلَبَ عَلَيْهِ هَذا التَّعْرِيفُ التَّوْصِيفِيُّ؛ فَصارَ لَهُ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ في اصْطِلاحِ القُرْآنِ، ولا أعْرِفُ أنَّهُ كانَ يُعْرَفُ في الجاهِلِيَّةِ بِهَذا الِاسْمِ، ولا عَلى مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ في عَصْرِ تَحْرِيمِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرائِيلَ، وقَدْ تَقَدَّمَ وجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٤٤] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وعِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أنْ صَدُّوكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [المائدة: ٢] في أوَّلِ العُقُودِ. وعَلَمِيَّتُهُ بِمَجْمُوعِ الوَصْفِ والمَوْصُوفِ، وكِلاهُما مُعَرَّفٌ بِاللّامِ، فالجُزْءُ الأوَّلُ مِثْلُ النَّجْمِ، والجُزْءُ الثّانِي مِثْلُ الصَّعِيقِ، فَحَصَلَ التَّعْرِيفُ بِمَجْمُوعِهِما، ولَمْ يَعُدَّ النُّحاةُ هَذا النَّوْعَ في أقْسامِ العَلَمِ بِالغَلَبَةِ، ولَعَلَّهُمُ اعْتَبَرُوهُ راجِعًا إلى المُعَرَّفِ بِاللّامِ، ولا بُدَّ مِن عَدِّهِ؛ لِأنَّ عَلَمِيَّتَهُ صارَتْ بِالأمْرَيْنِ. والمَسْجِدُ الأقْصى هو المَسْجِدُ المَعْرُوفُ بِبَيْتِ المَقْدِسِ الكائِنِ بِإيلِياءَ، وهو المَسْجِدُ الَّذِي بَناهُ سُلَيْمانُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. والأقْصى، أيِ الأبْعَدُ، والمُرادُ بُعْدُهُ عَنْ مَكَّةَ، بِقَرِينَةِ جَعْلِهِ نِهايَةَ الإسْراءِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ، وهو وصْفٌ كاشِفٌ اقْتَضاهُ هُنا زِيادَةُ التَّنْبِيهِ عَلى مُعْجِزَةِ هَذا الإسْراءِ وكَوْنُهُ خارِقًا لِلْعادَةِ؛ لِكَوْنِهِ قَطَعَ مَسافَةً طَوِيلَةً في بَعْضِ لَيْلَةٍ. وبِهَذا الوَصْفِ الوارِدِ لَهُ في القُرْآنِ صارَ مَجْمُوعُ الوَصْفِ والمَوْصُوفِ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ عَلى مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ كَما كانَ المَسْجِدُ الحَرامُ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ عَلى مَسْجِدِ مَكَّةَ، . وأحْسَبُ أنَّ هَذا العَلَمَ لَهو مِن مُبْتَكَراتِ القُرْآنِ، فَلَمْ يَكُنِ العَرَبُ يَصِفُونَهُ بِهَذا الوَصْفِ، ولَكِنَّهم لَمّا سَمِعُوا هَذِهِ الآيَةَ فَهِمُوا المُرادَ مِنهُ أنَّهُ مَسْجِدُ إيلِياءَ. ولَمْ يَكُنْ مَسْجِدٌ لِدِينٍ إلَهِيٍّ غَيْرَهُما يَوْمَئِذٍ. (p-١٥)وفِي هَذا الوَصْفِ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ بِاعْتِبارِ أصْلِ وضْعِها مُعْجِزَةٌ خَفِيَّةٌ مِن مُعْجِزاتِ القُرْآنِ إيماءً إلى أنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَ المَسْجِدَيْنِ مَسْجِدٌ عَظِيمٌ هو مَسْجِدُ طِيبَةَ الَّذِي هو قَصِيٌّ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ، فَيَكُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ المَقْدِسِ أقْصى مِنهُ حِينَئِذٍ. فَتَكُونُ الآيَةُ مُشِيرَةً إلى جَمِيعِ المَساجِدِ الثَّلاثَةِ المُفَضَّلَةِ في الإسْلامِ عَلى جَمِيعِ المَساجِدِ الإسْلامِيَّةِ، والَّتِي بَيَّنَها قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلّا إلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ: مَسْجِدُ الحَرامِ، ومَسْجِدُ الأقْصى، ومَسْجِدِي. وفائِدَةُ ذِكْرِ مَبْدَأِ الإسْراءِ ونِهايَتِهِ بِقَوْلِهِ ﴿مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى﴾ أمْرانِ: أحَدُهُما التَّنْصِيصُ عَلى قِطَعِ المَسافَةِ العَظِيمَةِ في جُزْءِ لَيْلَةٍ؛ لِأنَّ كُلًّا مِنَ الظَّرْفِ وهو لَيْلًا ومِنَ المَجْرُورَيْنِ ﴿مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى﴾ قَدْ تَعَلَّقَ بِفِعْلِ أسْرى، فَهو تَعَلُّقٌ يَقْتَضِي المُقارَنَةَ، لِيُعْلَمَ أنَّهُ مِن قَبِيلِ المُعْجِزاتِ. وثانِيهِما الإيماءُ إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى يَجْعَلُ هَذا الإسْراءَ رَمْزًا إلى أنَّ الإسْلامَ جَمَعَ ما جاءَتْ بِهِ شَرائِعُ التَّوْحِيدِ والحَنِيفِيَّةِ مِن عَهْدِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الصّادِرُ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى ما تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنَ الشَّرائِعِ الَّتِي كانَ مَقَرُّها بَيْتَ المَقْدِسِ ثُمَّ إلى خاتِمَتِها الَّتِي ظَهَرَتْ مِن مَكَّةَ أيْضًا، فَقَدْ صَدَرَتِ الحَنِيفِيَّةُ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ، وتَفَرَّعَتْ في المَسْجِدِ الأقْصى، ثُمَّ عادَتْ إلى المَسْجِدِ الحَرامِ، كَما عادَ الإسْراءُ إلى مَكَّةَ؛ لِأنَّ كُلَّ سُرًى يَعْقُبُهُ تَأْوِيبٌ، وبِذَلِكَ حَصَلَ رَدُّ العَجُزِ عَلى الصَّدْرِ. ومِن هُنا يَظْهَرُ مُناسَبَةُ نُزُولِ التَّشْرِيعِ الِاجْتِماعِيِّ في هَذِهِ السُّورَةِ في الآياتِ المُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣]، فَفِيها ﴿ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ [الإسراء: ٣٣]، ﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٣٤] (p-١٦)﴿وأوْفُوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ وزِنُوا بِالقُسْطاسِ المُسْتَقِيمِ﴾ [الإسراء: ٣٥] إيماءٌ إلى أنَّ هَذا الدِّينَ سَيَكُونُ دِينًا يَحْكُمُ في النّاسِ، وتُنَفَّذُ أحْكامُهُ. والمَسْجِدُ الأقْصى هو ثانِي مَسْجِدٍ بَناهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَما ورَدَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَفي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ أوَّلٌ ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ ؟ قالَ: المَسْجِدُ الأقْصى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُما ؟ قالَ: أرْبَعُونَ سَنَةً» . فَهَذا الخَبَرُ قَدْ بَيَّنَ أنَّ المَسْجِدَ الأقْصى مِن بِناءِ إبْراهِيمَ؛ لِأنَّهُ حُدِّدَ بِمُدَّةٍ هي مِن مُدَّةِ حَياةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقَدْ قُرِنَ ذِكْرُهُ بِذِكْرِ المَسْجِدِ الحَرامِ. وهَذا مِمّا أهْمَلَ أهْلُ الكِتابِ ذِكْرَهُ، وهو مِمّا خَصَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِمَعْرِفَتِهِ، والتَّوْراةُ تَشْهَدُ لَهُ، فَقَدْ جاءَ في سِفْرِ التَّكْوِينِ في الإصْحاحِ الثّانِي عَشَرَ: أنَّ إبْراهِيمَ لَمّا دَخَلَ أرْضَ كَنْعانَ - وهي بِلادُ فِلَسْطِينَ - نَصَبَ خَيْمَتِهِ في الجَبَلِ شَرْقِيَّ بَيْتِ إيلَ (بَيْتُ إيلَ مَدِينَةٌ عَلى بُعْدِ أحَدَ عَشَرَ مِيلًا مِن أُورْشَلِيمَ إلى الشَّمالِ، وهو بَلَدٌ كانَ اسْمُهُ عِنْدَ الفِلَسْطِينِيِّينَ ( لَوْزًا) فَسَمّاهُ يَعْقُوبُ: بَيْتُ إيلَ، كَما في الإصْحاحِ الثّامِنِ والعِشْرِينَ مِن سِفْرِ التَّكْوِينِ ) وغَرْبِيَّ بِلادِ عايِ (مَدِينَةٌ عِبْرانِيَّةٌ تُعْرَفُ الآنَ الطَّيِّبَةُ) وبَنى هُنالِكَ مَذْبَحا لِلرَّبِّ. وهم يُطْلِقُونَ (المَذْبَحَ) عَلى المَسْجِدِ؛ لِأنَّهم يَذْبَحُونَ القَرابِينَ في مَساجِدِهِمْ، قالَ عُمَرُ بْنُ أبِي رَبِيعَةَ: ؎دُمْيَةٌ عِنْدَ راهِـبٍ قِـسِّـيسٍ ∗∗∗ صَوَّرُوها في مَذْبَحِ المِحْرابِ أيْ مَكانِ المَذْبَحِ مِنَ المَسْجِدِ؛ لِأنَّ المِحْرابَ هو مَحَلُّ التَّعَبُّدِ، فالَ تَعالى ﴿وهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي في المِحْرابِ﴾ [آل عمران: ٣٩] . ولا شَكَّ أنَّ مَسْجِدَ إبْراهِيمَ هو المَوْضِعُ الَّذِي تَوَخّى داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَضَعَ عَلَيْهِ الخَيْمَةَ، وأنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ مِحْرابَهُ، أوْ أوْحى إلَيْهِ اللَّهُ بِذَلِكَ، وهو الَّذِي أوْصى ابْنَهُ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ المَسْجِدَ، أيِ الهَيْكَلَ، وقَدْ ذَكَرَ مُؤَرِّخُو العِبْرانِيِّنَ ومِنهم (يُوسِيفُسُوسُ) أنَّ الجَبَلَ الَّذِي سَكَنَهُ إبْراهِيمُ (p-١٧)بِأرْضِ كَنْعانَ اسْمُهُ (نابُو) وأنَّهُ الجَبَلُ الَّذِي ابْتَنى عَلَيْهِ سُلَيْمانُ الهَيْكَلَ، وهو المَسْجِدُ الَّذِي بِهِ الصَّخْرَةُ. وقِصَّةُ بِناءِ سُلَيْمانَ إيّاهُ مُفَصَّلَةٌ في سِفْرِ المُلُوكِ الأوَّلِ مِن أسْفارِ التَّوْراةِ. وقَدِ انْتابَهُ التَّخْرِيبُ ثَلاثَ مَرّاتٍ: أُولاها حِينَ خَرَّبَهُ بُخْتُنَصَّرَ مَلِكُ بابِلَ سَنَةَ ٥٧٨ قَبْلَ المَسِيحِ، ثُمَّ جَدَّدَهُ اليَهُودُ تَحْتَ حُكْمِ الفُرْسِ. الثّانِيَةُ: خَرَّبَهُ الرُّومانُ في مُدَّةِ طِيطُوسَ بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ اليَهُودِ وأُعِيدَ بِناؤُهُ، فَأكْمَلَ تَخْرِيبَهُ أدْرِيانُوسُ سَنَةَ ١٣٥ لِلْمَسِيحِ، وعَفّى آثارَهُ فَلَمْ تَبْقَ مِنهُ إلّا أطْلالٌ. الثّالِثَةُ: لَمّا تَنَصَّرَتِ المَلِكَةُ (هِيلانَةُ) أُمُّ الإمْبِراطُورِ قُسْطَنْطِينَ مَلِكِ الرُّومِ (بِيزَنْطَةَ) وصارَتْ مُتَصَلِّبَةً في النَّصْرانِيَّةِ، وأُشْرِبَ قَلْبُها بُغْضَ اليَهُودِ؛ بِما تَعْتَقِدُهُ مِن قَتْلِهِمُ المَسِيحَ كانَ مِمّا اعْتَدَتْ عَلَيْهِ حِينَ زارَتْ أُورْشَلِيمَ أنْ أمَرَتْ بِتَعْفِيَةِ أطْلالِ هَيْكَلِ سُلَيْمانَ، وأنْ يُنْقَلَ ما بَقِيَ مِنَ الأساطِينِ، ونَحْوِها فَتُبْنى بِها كَنِيسَةٌ عَلى قَبْرِ المَسِيحِ - المَزْعُومِ عِنْدَهم - في مَوْضِعٍ تَوَسَّمُوا أنْ يَكُونَ هو مَوْضِعَ القَبْرِ، والمُؤَرِّخُونَ مِنَ النَّصارى يَشُكُّونَ في كَوْنِ ذَلِكَ المَكانِ هو المَكانُ الَّذِي يُدْعى أنَّ المَسِيحَ دُفِنَ فِيهِ، وأنْ تُسَمِّيَها كَنِيسَةَ القِيامَةِ، وأمَرَتْ بِأنْ يُجْعَلَ مَوْضِعُ المَسْجِدِ الأقْصى مَرْمى أزْبالِ البَلَدِ وقِماماتِهِ؛ فَصارَ مَوْضِعُ الصَّخْرَةِ مَزْبَلَةً تَراكَمَتْ عَلَيْها الأزْبالُ فَغَطَّتْها، وانْحَدَرَتْ عَلى دَرَجِها. ولَمّا فَتَحَ المُسْلِمُونَ بَقِيَّةَ أرْضِ الشّامِ في زَمَنِ عُمَرَ، وجاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ؛ لِيَشْهَدَ فَتْحَ مَدِينَةِ إيلِيّا، وهي المَعْرُوفَةُ مِن قَبْلِ (أُورْشَلِيمَ) (p-١٨)وصارَتْ تُسَمّى (إيلِياءَ) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وكَسْرِ اللّامِ، وكَذَلِكَ كانَ اسْمُها المَعْرُوفُ عِنْدَ العَرَبِ عِنْدَما فَتَحَ المُسْلِمُونَ فِلَسْطِينَ، وإيلِياءُ اسْمُ نَبِيٍّ مِن بَنِي إسْرائِيلَ كانَ في أوائِلِ القَرْنِ التّاسِعِ قَبْلَ المَسِيحِ، قالَ الفَرَزْدَقُ: ؎وبَيْتانِ بَيْتُ اللَّهِ نَحْنُ وُلاتُهُ ∗∗∗ وبَيْتٌ بِأعْلى إيلِياءَ مُشَرَّفُ وانْعَقَدَ الصُّلْحُ بَيْنَ عُمَرَ وأهْلِ تِلْكَ المَدِينَةِ وهم نَصارى، قالَ عُمَرُ لِبِطْرِيقٍ لَهُمُ اسْمُهُ (صَفْرُونِيُوسَ): دُلَّنِي عَلى مَسْجِدِ داوُدَ، فانْطَلَقَ بِهِ حَتّى انْتَهى إلى مَكانِ البابِ، وقَدِ انْحَدَرَ الزِّبْلُ عَلى دَرَجِ البابِ فَتَجَشَّمَ عُمَرُ حَتّى دَخَلَ ونَظَرَ فَقالَ: اللَّهُ أكْبَرُ، هَذا والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَسْجِدُ داوُدَ الَّذِي أخْبَرَنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إلَيْهِ، ثُمَّ أخَذَ عُمَرُ والمُسْلِمُونَ يَكْنُسُونَ الزِّبْلَ عَنِ الصَّخْرَةِ حَتّى ظَهَرَتْ كُلُّها، ومَضى عُمَرُ إلى جِهَةِ مِحْرابِ داوُدَ فَصَلّى فِيهِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ مِن بَلَدِ القُدْسِ إلى فِلَسْطِينَ. ولَمْ يَبْنِ هُنالِكَ مَسْجِدًا إلى أنْ كانَ في زَمَنِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوانَ أمَرَ بِابْتِداءِ بِناءِ القُبَّةِ عَلى الصَّخْرَةِ، وعِمارَةِ المَسْجِدِ الأقْصى، ووَكَّلَ عَلى بِنائِها (رَجاءَ بْنَ حَيْوَةَ) الكَنَدِيَّ أحَدَ عُلَماءِ الإسْلامِ، فابْتَدَأ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ وسِتِّينَ، وكانَ الفَراغُ مِن ذَلِكَ في سَنَةِ ثَلاثٍ وسَبْعِينَ. كانَ عُمَرُ أوَّلَ مَن صَلّى فِيهِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وجَعَلَ لَهُ حُرْمَةَ المَساجِدِ. ولِهَذا فَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ المَكانِ بِالمَسْجِدِ الأقْصى في القُرْآنِ تَسْمِيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ اعْتُبِرَ فِيها ما كانَ عَلَيْهِ مِن قَبْلُ؛ لِأنَّ حُكْمَ المَسْجِدِيَّةِ لا يَنْقَطِعُ عَنْ أرْضِ المَسْجِدِ، فالتَّسْمِيَةُ بِاعْتِبارِ ما كانَ، وهي إشارَةٌ خَفِيَّةٌ إلى أنَّهُ سَيَكُونُ مَسْجِدًا بِأكْمَلِ حَقِيقَةِ المَساجِدِ. واسْتَقْبَلَهُ المُسْلِمُونَ في الصَّلاةِ مِن وقْتِ وُجُوبِها المُقارِنِ لَيْلَةَ الإسْراءِ إلى ما بَعْدَ الهِجْرَةِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ نُسِخَ اسْتِقْبالُهُ وصارَتِ الكَعْبَةُ هي القِبْلَةَ الإسْلامِيَّةَ. (p-١٩)وقَدْ رَأيْتُ أنَّ سائِحًا نَصْرانِيًّا اسْمَهُ (ارْكُولْفَ) زارَ القُدْسَ سَنَةَ ٦٧٠ م، أيْ بَعْدِ خِلافَةِ عُمَرَ بِأرْبَعٍ وثَلاثِينَ سَنَةً، وزَعَمَ أنَّهُ رَأى مَسْجِدًا بَناهُ عُمَرُ عَلى شَكْلٍ مُرَبَّعٍ مِن ألْواحٍ وجُذُوعِ أشْجارٍ ضَخْمَةٍ، وأنَّهُ يَسَعُ نَحْوَ ثَلاثَةِ آلافٍ. والظّاهِرُ أنَّ نِسْبَةً المَسْجِدِ الأقْصى إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وهْمٌ مِن أوْهامِ النَّصارى اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ كَشْفُ عُمَرَ مَوْضِعَ المَسْجِدِ فَظَنُّوهُ بِناءً، وإذا صَدَقَ (ارْكُولْفُ) فِيما ذَكَرَ مِن أنَّهُ رَأى مَكانًا مُرَبَّعًا مِن ألْواحٍ وعَمَدِ أشْجارٍ؛ كانَ ذَلِكَ شَيْئًا أحْدَثَهُ مُسْلِمُو البِلادِ لِصِيانَةِ ذَلِكَ المَكانِ عَنِ الِامْتِهانِ. وقَوْلُهُ ﴿الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ﴾ صِفَةٌ لِلْمَسْجِدِ الأقْصى، وجِيءَ في الصِّفَةِ بِالمَوْصُولِيَّةِ؛ لِقَصْدِ تَشْهِيرِ المَوْصُوفِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ حَتّى كَأنَّ المَوْصُوفَ مُشْتَهَرٌ بِالصِّلَةِ عِنْدَ السّامِعِينَ، والمَقْصُودُ: إفادَةُ أنَّهُ مُبارَكٌ حَوْلَهُ. وصِيغَةُ المُفاعَلَةِ هُنا لِلْمُبالَغَةِ في تَكْثِيرِ الفِعْلِ، مِثْلُ: عافاكَ اللَّهُ. والبَرَكَةُ: نَماءُ الخَيْرِ، والفَضْلُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ بِوَفْرَةِ الثَّوابِ لِلْمُصَلِّينَ فِيهِ بِإجابَةِ دُعاءِ الدّاعِينَ فِيهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ البَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿مُبارَكًا وهُدًى لِلْعالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٦] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. وقَدْ وُصِفَ المَسْجِدُ الحَرامُ بِمِثْلِ هَذا في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وهُدًى لِلْعالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٦]، ووَجْهُ الِاقْتِصارِ عَلى وصْفِ المَسْجِدِ الأقْصى في هَذِهِ الآيَةِ بِذِكْرِ هَذا التَّبْرِيكِ أنَّ شُهْرَةَ المَسْجِدِ الحَرامِ بِالبَرَكَةِ وبِكَوْنِهِ مَقامَ إبْراهِيمَ مَعْلُومَةٌ لِلْعَرَبِ، وأمّا المَسْجِدُ الأقْصى فَقَدْ تَناسى النّاسُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فالعَرَبُ لا عِلْمَ لَهم بِهِ والنَّصارى عَفَّوْا أثَرَهُ مِن كَراهِيَتِهِمْ لِلْيَهُودِ، واليَهُودُ قَدِ ابْتَعَدُوا عَنْهُ، وأيِسُوا مِن عَوْدِهِ إلَيْهِمْ، فاحْتِيجَ إلى الإعْلامِ بِبَرَكَتِهِ. (p-٢٠)وحَوْلَ يَدُلُّ عَلى مَكانٍ قَرِيبٍ مِن مَكانِ اسْمِ ما أُضِيفَ (حَوْلَ) إلَيْهِ. وكَوْنُ البَرَكَةِ حَوْلَهُ كِنايَةٌ عَنْ حُصُولِ البَرَكَةِ فِيهِ بِالأوْلى؛ لِأنَّها إذا حَصَلَتْ حَوْلَهُ فَقَدْ تَجاوَزَتْ ما فِيهِ، فَفِيهِ لَطِيفَةُ التَّلازُمِ، ولَطِيفَةُ فَحَوى الخِطابِ، ولَطِيفَةُ المُبالَغَةِ بِالتَّكْثِيرِ، وقَرِيبٌ مِنهُ قَوْلُ زِيادٍ الأعْجَمِ: ؎إنَّ السَّماحَةَ والمُرُوءَةَ والنَّدى ∗∗∗ في قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلى ابْنِ الحَشْرَجِ ولِكَلِمَةِ (حَوْلَهُ) في هَذِهِ الآيَةِ مِن حُسْنِ المُوَقِّعِ ما لَيْسَ لِكَلِمَةِ (في) في بَيْتِ زِيادٍ، ذَلِكَ أنَّ ظَرْفِيَّةَ (في) أعَمُّ، فَقَوْلُهُ (في قُبَّةٍ) كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِها في ساكِنِ القُبَّةِ، لَكِنْ لا تُفِيدُ انْتِشارَها وتَجاوُزَها مِنهُ إلى ما حَوْلَهُ. وأسْبابُ بَرَكَةِ المَسْجِدِ الأقْصى كَثِيرَةٌ كَما أشارَتْ إلَيْهِ كَلِمَةُ حَوْلَهُ، مِنها أنَّ واضِعَهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ومِنها ما لَحِقَهُ مِنَ البَرَكَةُ بِمَن صَلّى بِهِ مِنَ الأنْبِياءِ مِن داوُدَ وسُلَيْمانَ ومَن بَعْدَهُما مِن أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ، ثُمَّ بِحُلُولِ الرَّسُولِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وإعْلانِهِ الدَّعْوَةَ إلى اللَّهِ فِيهِ، وفِيما حَوْلَهُ، ومِنها بَرَكَةُ مَن دُفِنَ حَوْلَهُ مِنَ الأنْبِياءِ، فَقَدْ ثَبَتَ أنَّ قَبْرَيْ داوُدَ وسُلَيْمانَ حَوْلَ المَسْجِدِ الأقْصى، وأعْظَمُ تِلْكَ البَرَكاتِ حُلُولُ النَّبِيءِ ﷺ فِيهِ، ذَلِكَ الحُلُولُ الخارِقُ لِلْعادَةِ، وصَلاتُهُ فِيهِ بِالأنْبِياءِ كُلِّهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا﴾ تَعْلِيلُ الإسْراءِ بِإرادَةِ إراءَةِ الآياتِ الرَّبّانِيَّةِ، تَعْلِيلٌ بِبَعْضِ الحِكَمِ الَّتِي لِأجْلِها مَنَحَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنحَةَ الإسْراءِ، فَإنَّ لِلْإسْراءِ حِكَمًا جَمَّةً تَتَّضِحُ مِن حَدِيثِ الإسْراءِ المَرْوِيِّ في الصَّحِيحِ، وأهَمُّها وأجْمَعُها إراءَتُهُ مِن آياتِ اللَّهِ تَعالى، ودَلائِلِ قُدْرَتِهِ ورَحْمَتِهِ، أيْ لِنُرِيَهُ مِنَ الآياتِ فَيُخْبِرُهم بِما سَألُوهُ عَنْ وصْفِ المَسْجِدِ الأقْصى. ولامُ التَّعْلِيلِ لا تُفِيدُ حَصْرَ الغَرَضِ مِن مُتَعَلَّقِها في مَدْخُولِها، وإنَّما اقْتَصَرَ في التَّعْلِيلِ عَلى إراءَةِ الآياتِ؛ لِأنَّ تِلْكَ العِلَّةَ أعْلَقُ بِتَكْرِيمِ المُسْرى بِهِ، والعِنايَةِ بِشَأْنِهِ؛ لِأنَّ إراءَةَ الآياتِ تَزِيدُ يَقِينَ الرّائِي بِوُجُودِها (p-٢١)الحاصِلِ مِن قَبْلِ الرُّؤْيَةِ، قالَ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: ٧٥] . فَإنَّ فِطْرَةَ اللَّهِ جَعَلَتْ إدْراكَ المَحْسُوساتِ أثْبَتَ مِن إدْراكِ المَدْلُولاتِ البُرْهانِيَّةِ، قالَ تَعالى ﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّ أرِنِي كَيْفَ تُحَيِّي المَوْتى قالَ أوَلَمْ تُؤْمِن قالَ بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]، ولِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ بَعْدَ هَذا التَّعْلِيلِ: أوْلَمَ يَطْمَئِنَّ قَلْبُكَ؛ لِأنَّ اطْمِئْنانَ القَلْبِ مُتَّسِعُ المَدى لا حَدَّ لَهُ فَقَدْ أنْطَقَ اللَّهُ إبْراهِيمَ عَنْ حِكْمَةِ نُبُوءَةٍ، وقَدْ بادَرَ مُحَمَّدًا ﷺ بِإراءَةِ الآياتِ قَبْلَ أنْ يَسْألَهُ إيّاها تَوْفِيرًا في الفَضْلِ. قالَ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ الظّاهِرِيُّ، وأجادَ: ؎ولَكِنْ لِلْعِيانِ لَطِيفُ مَعْنى ∗∗∗ لَهُ سَألَ المُعايَنَةَ الكَلِـيمُ واعْلَمْ أنَّ تَقْوِيَةَ يَقِينِ الأنْبِياءِ مِنَ الحِكَمِ الإلَهِيَّةِ؛ لِأنَّهم بِمِقْدارِ قُوَّةِ اليَقِينِ يَزِيدُونَ ارْتِقاءً عَلى دَرَجَةِ مُسْتَوى البَشَرِ، والتِحاقًا بِعُلُومِ عالَمِ الحَقائِقِ، ومُساواةً في هَذا المِضْمارِ لِمَراتِبِ المَلائِكَةِ. وفِي تَغْيِيرِ الأُسْلُوبِ مِنَ الغَيْبَةِ الَّتِي في اسْمِ المَوْصُولِ وضَمِيرَيْهِ إلى التَّكَلُّمِ في قَوْلِهِ بارَكْنا. . . ولِنُرِيَهُ مِن آياتِنا سُلُوكٌ لِطَرِيقَةِ الِالتِفاتِ المُتَّبَعَةِ كَثِيرًا في كَلامِ البُلَغاءِ، وقَدْ مَضى الكَلامُ عَلى ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] في سُورَةِ الفاتِحَةِ، والِالتِفاتُ هُنا امْتازَ بِالطّائِفِ: مِنها أنَّهُ لَمّا اسْتُحْضِرَتِ الذّاتُ العَلِيَّةُ بِجُمْلَةِ التَّسْبِيحِ، وجُمْلَةِ المَوْصُولِيَّةِ صارَ مَقامُ الغَيْبَةِ مَقامَ مُشاهَدَةٍ فَناسَبَ أنْ يُغَيِّرَ الإضْمارَ إلى ضَمائِرِ المُشاهَدَةِ، وهو مَقامُ التَّكَلُّمِ. ومِنها الإيماءُ إلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَ حُلُولِهِ بِالمَسْجِدِ الأقْصى قَدِ انْتَقَلَ مِن مَقامِ الِاسْتِدْلالِ عَلى عالَمِ الغَيْبِ إلى مَقامِ مَصِيرِهِ في عالَمِ المُشاهَدَةِ. (p-٢٢)ومِنها التَّوْطِئَةُ والتَّمْهِيدُ إلى مَحْمَلٍ مَعادِ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ ﴿إنَّه هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾، فَيَتَبادَرُ عَوْدُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ إلى غَيْرِ مَن عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ نُرِيَهُ؛ لِأنَّ الشَّأْنَ تَناسُقُ الضَّمائِرِ؛ ولِأنَّ العَوْدَ إلى الِالتِفاتِ بِالقُرْبِ لَيْسَ مِنَ الأحْسَنِ. فَقَوْلُهُ ﴿إنَّه هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ الأظْهَرُ أنَّ الضَّمِيرَيْنِ عائِدانِ إلى النَّبِيءِ ﷺ، وقالَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، واسْتَقْرَبَهُ الطَّيْبِيُّ، ولَكِنَّ جَمْهَرَةَ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّهُ عائِدٌ إلى اللَّهِ تَعالى، ولَعَلَّ احْتِمالَهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ مَقْصُودٌ. وقَدْ تَجِيءُ الآياتُ مُحْتَمِلَةً عِدَّةَ مَعانٍ، واحْتِمالُها مَقْصُودٌ تَكْثِيرًا لِمَعانِي القُرْآنِ، لِيَأْخُذَ كُلٌّ مِنهُ عَلى مِقْدارِ فَهْمِهِ كَما ذَكَرْنا في المُقَدِّمَةِ التّاسِعَةِ، وأيًّا ما كانَ فَمَوْقِعُ (إنَّ) التَّوْكِيدُ والتَّعْلِيلُ كَما يُؤْذِنُ بِهِ فَصْلُ الجُمْلَةِ عَمّا قَبْلَها. وهِيَ إمّا تَعْلِيلٌ لِإسْنادِ فِعْلِ (نُرِيَهُ) إلى فاعِلِهِ، وإمّا تَعْلِيلٌ لِتَعْلِيقِهِ بِمَفْعُولِهِ، فَيُفِيدُ أنَّ تِلْكَ الإراءَةَ مِن بابِ الحِكْمَةِ، وهي إعْطاءُ ما يَنْبَغِي لِمَن يَنْبَغِي، فَهي مِن إيتاءِ الحِكْمَةِ مَن هو أهْلُها. والتَّعْلِيلُ عَلى اعْتِبارِ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ إلى النَّبِيءِ ﷺ أوْقَعُ؛ إذْ لا حاجَةَ إلى تَعْلِيلِ إسْنادِ فِعْلِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ مُحَقَّقٌ مَعْلُومٌ، وإنَّما المُحْتاجُ لِلتَّعْلِيلِ هو إعْطاءُ تِلْكَ الإراءَةِ العَجِيبَةِ لِمَن شَكَّ المُشْرِكُونَ في حُصُولِها لَهُ، ومَن يَحْسَبُونَ أنَّهُ لا يُطِيقُها مِثْلُهُ. عَلى أنَّ الجُمْلَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى صِيغَةِ قَصْرٍ بِتَعْرِيفِ المُسْنَدِ بِاللّامِ وبِضَمِيرِ الفَصْلِ قَصْرًا مُوَكَّدًا، وهو قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلى صِفَةٍ قَصْرًا إضافِيًّا لِلْقَلْبِ، أيْ هو المُدْرِكُ لِما سَمِعَهُ وأبْصَرَهُ، لا الكاذِبُ، ولا المُتَوَهِّمُ كَما زَعَمَ المُشْرِكُونَ، وهَذا القَصْرُ يُؤَيِّدُ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلى النَّبِيءِ ﷺ؛ لِأنَّهُ المُناسِبُ لِلرَّدِّ، ولا يُنازِعُ المُشْرِكُونَ في أنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ وبَصِيرٌ. إلّا عَلى تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِأنَّهُ المُسْمِعُ والمُبْصِرُ لِرَسُولِهِ الَّذِي كَذَّبْتُمُوهُ، فَيُؤَوَّلُ إلى تَنْزِيهِ الرَّسُولِ عَنِ الكَذِبِ والتَّوَهُّمِ. (p-٢٣)ثُمَّ إنَّ الصِّفَتَيْنِ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِما لِلنَّبِيِّ ﷺ هُما عَلى أصْلِ اشْتِقاقِهِما؛ لِلْمُبالَغَةِ في قُوَّةِ سَمْعِهِ وبَصَرِهِ، وقَبُولِهِما لِتَلَقِّي تِلْكَ المُشاهَداتِ المُدْهِشَةِ، عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى﴾ [النجم: ١٧]، وقَوْلُهُ ﴿أفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى﴾ [النجم: ١٢] . وأمّا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِما صِفَتَيْنِ لِلَّهِ تَعالى فالمُناسِبُ أنْ تُؤَوَّلا بِمَعْنى المُسْمِعِ المُبْصِرِ، أيِ القادِرِ عَلى إسْماعِ عَبْدِهِ وإبْصارِهِ، كَما في قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ: أمِن رَيْحانَةَ الدّاعِي السَّمِيعُ أيْ: المُسْمِعُ. وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في الإسْراءِ؛ أكانَ بِجَسَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن مَكَّةَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، أمْ كانَ بِرُوحِهِ في رُؤْيا هي مُشاهَدَةٌ رُوحانِيَّةٌ كامِلَةٌ، ورُؤْيا الأنْبِياءِ حَقٌّ. والجُمْهُورُ قالُوا: هو إسْراءٌ بِالجَسَدِ في اليَقَظَةِ، وقالَتْ عائِشَةُ ومُعاوِيَةُ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ، وابْنُ إسْحاقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أنَّهُ إسْراءٌ بِرُوحِهِ في المَنامِ، ورُؤْيا الأنْبِياءِ وحْيٌ. واسْتَدَلَّ الجُمْهُورُ بِأنَّ الِامْتِنانَ في الآيَةِ، وتَكْذِيبَ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ دَلِيلانِ عَلى أنَّهُ ما كانَ الإخْبارُ بِهِ إلّا عَلى أنَّهُ بِالجَسَدِ، واتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ قُرَيْشًا اسْتَوْصَفُوا مِنَ النَّبِيءِ ﷺ عَلاماتٌ في بَيْتِ المَقْدِسِ، وفي طَرِيقِهِ؛ فَوَصَفَها لَهم كَما هي، ووَصَفَ لَهم عِيرًا لِقُرَيْشٍ قافِلَةً في طَرِيقٍ مُعَيَّنٍ، ويَوْمٍ مُعَيَّنٍ فَوَجَدُوهُ كَما وصَفَ لَهم. فَفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ: بَيْنَما أنا في المَسْجِدِ الحَرامِ بَيْنَ النّائِمِ واليَقْظانِ إذْ أتانِي جِبْرِيلُ» . . . إلى آخَرِ الحَدِيثِ، وهَذا أصَحُّ، وأوْضَحُ مِمّا رُوِيَ في حَدِيثٍ آخَرَ أنَّ الإسْراءَ كانَ مَن بَيْتِهِ أوْ كانَ مَن بَيْتِ أُمِّ هانِيءٍ بِنْتِ أبِي طالِبٍ أوْ مِن شِعْبِ أبِي طالِبٍ. والتَّحْقِيقُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ إسْراءٌ آخَرُ، وهو الوارِدُ في حَدِيثِ المِعْراجِ إلى السَّماواتِ وهو غَيْرُ المُرادِ في هَذِهِ الآيَةِ، فَلِلنَّبِيءِ ﷺ (p-٢٤)كَرامَتانِ: أُولاهُما الإسْراءُ، وهو المَذْكُورُ هُنا، والأُخْرى المِعْراجُ وهو المَذْكُورُ في حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ مُطَوَّلًا، وأحادِيثَ غَيْرِهِ، وقَدْ قِيلَ: إنَّهُ هو المُشارُ إلَيْهِ في سُورَةِ النَّجْمِ.


ركن الترجمة

GLORY TO HIM who took His votary to a wide and open land from the Sacred Mosque (at Makkah) to the distant Mosque whose precincts We have blessed, that We may show him some of Our signs. Verily He is all-hearing and all-seeing.

Gloire et Pureté à Celui qui de nuit, fit voyager Son serviteur [Muhammad], de la Mosquée Al-Harâm à la Mosquée Al-Aqsâ dont Nous avons béni l'alentour, afin de lui faire voir certaines de Nos merveilles. C'est Lui, vraiment, qui est l'Audient, le Clairvoyant.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :