ركن التفسير
100 - (قل) لهم (لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي) من الرزق والمطر (إذا لأمسكتم) لبخلتم (خشية الإنفاق) خوف نفادها بالإنفاق فتقتروا (وكان الإنسان قتورا) بخيلا
يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق قال ابن عباس وقتادة: أي الفقر أي خشية أن تذهبوها مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا لأن هذا من طباعكم وسجاياكم ولهذا قال "وكان الإنسان قتورا" قال ابن عباس وقتادة أي بخيلا منوعا وقال الله تعالى "أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا" أي لو أن لهم نصيبا في ملك الله لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو إلا من وفقه الله وهداه فإن البخل والجزع والهلع صفة له كما قال تعالى "إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين" ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه وقد جاء في الصحيحين "يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه".
﴿قُلْ لَوْ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّيَ إذًا لَأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفاقِ وكانَ الإنْسانُ قَتُورًا﴾ اعْتِراضٌ ناشِئٌ عَنْ بَعْضِ مُقْتَرَحاتِهِمُ الَّتِي تَوَهَّمُوا عَدَمَ حُصُولِها دَلِيلًا عَلى انْتِفاءِ إرْسالِ بَشِيرٍ، فالكَلامُ اسْتِئْنافٌ لِتَكْمِلَةِ رَدِّ شُبُهاتِهِمْ، وهَذا رَدٌّ لِما تَضَمَّنَهُ قَوْلُهم ﴿حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الإسراء: ٩٠] إلى قَوْلِهِ ”تَفْجِيرًا“، وقَوْلُهم ﴿أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ﴾ [الإسراء: ٩٣] مِن تَعَذُّرِ حُصُولِ ذَلِكَ؛ لِعَظِيمِ قِيمَتِهِ. (p-٢٢٣)ومَعْنى الرَّدِّ: أنَّ هَذا لَيْسَ بِعَظِيمٍ في جانِبِ خَزائِنِ رَحْمَةِ اللَّهِ، لَوْ شاءَ أنْ يُظْهِرَهُ لَكم. وأُدْمِجَ في هَذا الرَّدِّ بَيانُ ما فِيهِمْ مِنَ البُخْلِ عَنِ الإنْفاقِ في سَبِيلِ الخَيْرِ، وأُدْمِجَ في ذَلِكَ أيْضًا تَذْكِيرُهم بِأنَّ اللَّهَ أعْطاهم مِن خَزائِنِ رَحْمَتِهِ، فَكَفَرُوا نِعْمَتَهُ، وشَكَرُوا الأصْنامَ الَّتِي لا نِعْمَةَ لَها، ويَصْلُحُ لِأنْ يَكُونَ هَذا خِطابًا لِلنّاسِ كُلِّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وكافِرِهِمْ، كُلٌّ عَلى قَدْرِ نَصِيبِهِ. وشَأْنُ (لَوْ) أنْ يَلِيَها الفِعْلُ ماضِيًا في الأكْثَرِ أوْ مُضارِعًا في اعْتِباراتٍ، فَهي مُخْتَصَّةٌ بِالدُّخُولِ عَلى الأفْعالِ، فَإذا أوْقَعُوا الِاسْمَ بَعْدَها في الكَلامِ، وأخَّرُوا الفِعْلَ عَنْهُ فَإنَّما يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِقَصْدٍ بَلِيغٍ: إمّا لِقَصْدِ التَّقَوِّي والتَّأْكِيدِ لِلْإشْعارِ بِأنَّ ذِكْرَ الفِعْلِ بَعْدَ الأداةِ ثُمَّ ذِكْرَ فاعِلِهِ، ثُمَّ ذِكْرَ الفِعْلِ مَرَّةً ثانِيَةً تَأْكِيدٌ وتَقْوِيَةٌ؛ مِثْلَ قَوْلِهِ ﴿وإنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ﴾ [التوبة: ٦] وإمّا لِلِانْتِقالِ مِنَ التَّقَوِّي إلى الِاخْتِصاصِ، بِناءً عَلى أنَّهُ ما قُدِّمَ الفاعِلُ مِن مَكانِهِ إلّا لِقَصْدِ طَرِيقٍ غَيْرِ مَطْرُوقٍ، وهَذا الِاعْتِبارُ هو الَّذِي يَتَعَيَّنُ التَّخْرِيجُ عَلَيْهِ في هَذِهِ الآيَةِ ونَحْوِها مِنَ الكَلامِ البَلِيغِ، ومِنهُ قَوْلُ عُمَرَ لِأبِي عُبَيْدَةَ: لَوْ غَيْرُكَ قالَها. والمَعْنى: لَوْ أنْتُمْ أُخْصِصْتُمْ بِمِلْكِ خَزائِنِ رَحْمَةِ اللَّهِ دُونَ اللَّهِ لَما أنْفَقْتُمْ عَلى الفُقَراءِ شَيْئًا، وذَلِكَ أشَدُّ في التَّقْرِيعِ، وفي الِامْتِنانِ بِتَخْيِيلِ أنَّ إنْعامَ غَيْرِهِ كالعَدَمِ. وكِلا الِاعْتِبارَيْنِ لا يُناكِدُ اخْتِصاصَ (لَوْ) بِالأفْعالِ؛ لِلِاكْتِفاءِ بِوُقُوعِ الفِعْلِ في حَيِّزِها غَيْرَ مُوالٍ إيّاها، ومُوالاتُهُ إيّاها أمْرٌ أغْلَبِيٌّ، ولَكِنْ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: لَوْ أنْتَ عالِمٌ لَبَذَذْتَ الأقْرانَ. واخْتِيرَ الفِعْلُ المُضارِعُ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ فَرْضُ أنْ يَمْلِكُوا ذَلِكَ في المُسْتَقْبَلِ. و”أمْسَكْتُمْ“ هُنا مُنَزَّلٌ مَنزِلَةَ اللّازِمِ، فَلا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ: إذًا لاتَّصَفْتُمْ بِالإمْساكِ، أيِ البُخْلِ، يُقالُ: فُلانٌ مُمْسِكٌ، أيْ بَخِيلٌ، ولا يُرادُ أنَّهُ مُمْسِكٌ شَيْئًا مُعَيَّنًا. (p-٢٢٤)وأكَّدَ جَوابَ (لَوْ) بِزِيادَةِ حَرْفِ (إذًا) فِيهِ لِتَقْوِيَةِ مَعْنى الجَوابِيَّةِ، ولِأنَّ في (إذًا) مَعْنى الجَزاءِ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما تَقُولُونَ إذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٤٢]، ومِنهُ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ عَوانَةَ: ؎أفاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَبْتٍ وقَدْ لاقى الهِزَبْرُ أخاكَ بِشْرا ؎إذًا لَرَأيْتِ لَيْثًا أمْ لَيْثًا ∗∗∗ هِزَبْرًا أغْلَبًا لاقى هِزَبْرا وجُمْلَةُ ﴿وكانَ الإنْسانُ قَتُورًا﴾ حالِيَّةٌ أوِ اعْتِراضِيَّةٌ في آخِرِ الكَلامِ، وهي تُفِيدُ تَذْيِيلًا؛ لِأنَّها عامَّةُ الحُكْمِ، فالواوُ فِيها لَيْسَتْ عاطِفَةً. والقَتُورُ: الشَّدِيدُ البُخْلِ، مُشْتَقٌّ مِنَ (القَتْرِ) وهو التَّضْيِيقُ في الإنْفاقِ.