ركن التفسير
13 - (وكل إنسان ألزمناه طائره) عمله يحمله (في عنقه) خص بالذكر لأن اللزوم فيه أشد وقال مجاهد ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد (ونخرج له يوم القيامة كتابا) مكتوبا فيه عمله (يلقاه منشورا) صفتان لكتابا
يقول تعالى بعد ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" وطائره هو ما طار عنه من عمله كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما من خير وشر ويلزم به ويجازى عليه "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" وقال تعالى "عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" وقال "وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون" وقال "إنما تجزون ما كنتم تعملون" وقال "من يعمل سوءا يجز به" والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره ويكتب عليه ليلا ونهارا صباحا ومساء. وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن أبى الزبير عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لطائر كل إنسان في عنقه" قال ابن لهيعة يعني الطيرة وهذا القول من ابن لهيعة في تفسير هذا الحديث غريب جدا والله أعلم. وقوله "ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا" أي نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة إما بيمينه إن كان سعيدا أو بشماله إن كان شقيا منشورا أي مفتوحا يقرؤه هو وغيره فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره".
﴿وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنشُورًا﴾ ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ لَمّا كانَ سِياقُ الكَلامِ جارِيًا في طَرِيقِ التَّرْغِيبِ في العَمَلِ الصّالِحِ والتَّحْذِيرِ مِنَ الكُفْرِ والسَّيِّئاتِ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ ويُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: ٩] إلى قَوْلِهِ تَعالى ﴿عَذابًا ألِيمًا﴾ [الإسراء: ١٠]، وما عَقَّبَهُ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِالبِشارَةِ والنِّذارَةِ، وما أُدْمِجَ في خِلالِ ذَلِكَ مِنَ التَّذْكِيرِ ثَمَّ بِما دَلَّ عَلى أنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ تَفْصِيلًا، وكانَ أهَمُّ الأشْياءِ في هَذا المَقامِ إحاطَةَ عِلْمِهِ بِالأعْمالِ كُلِّها، فَأعْقَبَ ذِكْرَ ما فَصَّلَهُ اللَّهُ مِنَ الأشْياءِ بِالتَّنْبِيهِ عَلى تَفْصِيلِ أعْمالِ النّاسِ تَفْصِيلًا لا يَقْبَلُ الشَّكَّ ولا الإخْفاءَ، وهو التَّفْصِيلُ المُشابِهُ لِلتَّقْيِيدِ بِالكِتابَةِ، فَعَطْفُ قَوْلِهِ وكُلَّ إنْسانٍ إلَخْ عَلى قَوْلِهِ ﴿وكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا﴾ [الإسراء: ١٢] عَطْفٌ خاصٌّ عَلى عامٍّ؛ لِلِاهْتِمامِ بِهَذا الخاصِّ. والمَعْنى: وكُلَّ إنْسانٍ قَدَّرْنا لَهُ عَمَلَهُ في عَمَلِنا فَهو عامِلٌ بِهِ لا مَحالَةَ، وهَذا مِن أحْوالِ الدُّنْيا. والطّائِرُ: أُطْلِقَ عَلى السَّهْمِ، أوِ القِرْطاسِ الَّذِي يُعَيَّنُ فِيهِ صاحِبُ الحَظِّ في عَطاءٍ أوْ قُرْعَةٍ لِقِسْمَةٍ أوْ أعْشارِ جَزُورِ المَيْسِرِ، يُقالُ: اقْتَسَمُوا الأرْضَ فَطارَ لِفُلانٍ كَذا، ومِنهُ قَوْلُ أُمِّ العَلاءِ الأنْصارِيَّةِ في حَدِيثِ الهِجْرَةِ: اقْتَسَمَ الأنْصارُ المُهاجِرِينَ فَطارَ لَنا عُثْمانُ بْنُ مَظْعُونٍ. . . وذَكَرَتْ قِصَّةَ وفاتِهِ. (p-٤٧)وأصْلُ إطْلاقِ الطّائِرِ عَلى هَذا: إمّا لِأنَّهم كانُوا يَرْمُونَ السِّهامَ المَرْقُومَةَ بِأسْماءِ المُتَقاسِمِينَ عَلى صُبَرِ الشَّيْءِ المَقْسُومِ المُعَدَّةِ لِلتَّوْزِيعِ، فَكُلُّ مَن وقَعَ السَّهْمُ المَرْقُومُ بِاسْمِهِ عَلى شَيْءٍ أخَذَهُ، وكانُوا يُطْلِقُونَ عَلى رَمْيِ السَّهْمِ فِعْلَ الطَّيَرانِ؛ لِأنَّهم يَجْعَلُونَ لِلسَّهْمِ رِيشًا في قُذَذِهِ؛ لِيَخِفَّ بِهِ اخْتِراقُهُ الهَواءَ عِنْدَ رَمْيِهِ مِنَ القَوْسِ، فالطّائِرُ هُنا أُطْلِقَ عَلى الحَظِّ مِنَ العَمَلِ مِثْلَ ما يُطْلَقُ اسْمُ السَّهْمِ عَلى حَظِّ الإنْسانِ مِن شَيْءٍ ما. وإمّا مِن زَجْرِ الطَّيْرِ لِمَعْرِفَةِ بَخْتٍ أوْ شُؤْمِ الزّاجِرِ مِن حالَةِ الطَّيْرِ الَّتِي تَعْتَرِضُهُ في طَرِيقِهِ، والأكْثَرُ أنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ في أسْفارِهِمْ، وشاعَ ذَلِكَ في الكَلامِ فَأُطْلِقَ الطّائِرُ عَلى حَظِّ الإنْسانِ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ. والإلْزامُ: جَعَلَهُ لازِمًا لَهُ، أيْ غَيْرَ مُفارِقٍ، يُقالُ: لَزِمَهُ إذا لَمْ يُفارِقْهُ. وقَوْلُهُ (﴿فِي عُنُقِهِ﴾) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ كِنايَةً عَنِ المُلازَمَةِ والقُرْبِ، أيْ عَمَلُهُ لازِمٌ لَهُ لُزُومَ القِلادَةِ، ومِنهُ قَوْلُ العَرَبِ تُقَلِّدُها طَوْقَ الحَمامَةِ، فَلِذَلِكَ خُصَّتْ بِالعُنُقِ؛ لِأنَّ القِلادَةَ تُوضَعُ في عُنُقِ المَرْأةِ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎والشِّعْرُ قَلَّدْتُهُ سَلامَةَ ذا فائِشٍ والشَّيْءُ حَيْثُما جُعِلا ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحالَةٍ لَعَلَّها كانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ العَرَبِ وهي وضْعُ عَلاماتٍ تُعَلَّقُ في الرِّقابِ لِلَّذِينَ يُعَيَّنُونَ لِعَمَلٍ ما أوْ لِيُؤْخَذَ مِنهم شَيْءٌ، وقَدْ كانَ في الإسْلامِ يُجْعَلُ ذَلِكَ لِأهْلِ الذِّمَّةِ، كَما قالَ بَشّارٌ: ؎كَتَبَ الحُبُّ لَها في عُنُقِي ∗∗∗ مَوْضِعَ الخاتَمِ مِن أهْلِ الذِّمَمِ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في عُنُقِهِ تَمْثِيلًا بِالبَعِيرِ الَّذِي يُوسَمُ في عُنُقِهِ بِسِمَةٍ؛ كَيْلا يَخْتَلِطَ بِغَيْرِهِ، أوِ الَّذِي يُوضَعُ في عُنُقِهِ جَلْجَلٌ لِكَيْلا يَضِلَّ عَنْ صاحِبِهِ. (p-٤٨)والمَعْنى عَلى الجَمِيعِ أنَّ كُلَّ إنْسانٍ يُعامَلُ بِعَمَلِهِ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ لا يَنْقُصُ لَهُ مِنهُ شَيْءٌ، وهَذا غَيْرُ كِتابَةِ الأعْمالِ الَّتِي سَتُذْكَرُ عَقِبَ هَذا بِقَوْلِهِ ﴿ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا﴾ . . . الآيَةَ. وعَطْفُ جُمْلَةِ (﴿ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا﴾) إخْبارٌ عَنْ كَوْنِ تِلْكَ الأعْمالِ المُعَبَّرِ عَنْها بِالطّائِرِ تَظْهَرُ يَوْمَ القِيامَةِ مُفَصَّلَةً مُعَيَّنَةً لا تُغادَرُ مِنها صَغِيرَةٌ ولا كَبِيرَةٌ إلّا أُحْصِيَتْ لِلْجَزاءِ عَلَيْها. وقَرَأ الجُمْهُورُ (ونُخْرِجُ) بِنُونِ العَظَمَةِ وبِكَسْرِ الرّاءِ، وقَرَأهُ يَعْقُوبُ بِياءِ الغَيْبَةِ، وكَسْرِ الرّاءِ، والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى اللَّهِ المَعْلُومِ مِنَ المَقامِ، وهو التِفاتٌ، وقَرَأهُ أبُو جَعْفَرٍ بِياءِ الغَيْبَةِ في أوَّلِهِ مَبْنِيًّا لِلنّائِبِ عَلى أنَّ لَهُ نائِبَ فاعِلٍ وكِتابًا مَنصُوبًا عَلى المَفْعُولِيَّةِ، وذَلِكَ جائِزٌ. والكِتابُ: ما فِيهِ ذِكْرُ الأعْمالِ وإحْصاؤُها، والنَّشْرُ: ضِدُّ الطَّيِّ. ومَعْنى يَلْقاهُ يَجِدُهُ، اسْتُعِيرَ فِعْلُ يَلْقى لِمَعْنى يَجِدُ؛ تَشْبِيهًا لِوِجْدانِ النِّسْبَةِ بِلِقاءِ الشَّخْصِ، والنَّشْرُ كِنايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ اطِّلاعِهِ عَلى جَمِيعِ ما عَمِلَهُ بِحَيْثُ إنَّ الكِتابَ يَحْضُرُ مِن قَبْلِ وُصُولِ صاحِبِهِ مَفْتُوحًا لِلْمُطالَعَةِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ (يُلَقّاهُ) بِضَمِّ الياءِ، وتَشْدِيدِ القافِ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ عَلى أنَّهُ مُضاعَفُ لَقِيَ تَضْعِيفًا لِلتَّعْدِيَةِ، أيْ يَجْعَلُهُ لاقِيًا كَقَوْلِهِ ﴿ولَقّاهم نَضْرَةً وسُرُورًا﴾ [الإنسان: ١١]، وأُسْنِدَ إلى المَفْعُولِ بِمَعْنى يَجْعَلُهُ لاقِيًا، كَقَوْلِهِ ﴿وما يُلَقّاها إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ [فصلت: ٣٥] وقَوْلِهِ ﴿ويُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وسَلامًا﴾ [الفرقان: ٧٥] . ونَشْرُ الكِتابِ إظْهارُهُ لِيُقْرَأ، قالَ تَعالى وإذا الصُّحُفُ نُشِرَتْ. وجُمْلَةُ اقْرَأْ كِتابَكَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّياقُ. والأمْرُ في اقْرَأْ مُسْتَعْمَلٌ في التَّسْخِيرِ، ومُكَنًّى بِهِ عَنِ الإعْذارِ لَهم، والِاحْتِجاجِ عَلَيْهِمْ كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿كَفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾، ولِذَلِكَ كانَ مَعْرِفَةُ تِلْكَ الأعْمالِ مِن ذَلِكَ الكِتابِ حاصِلَةً لِلْقارِئِ. (p-٤٩)والقِراءَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ في مَعْرِفَةِ ما أُثْبِتَ لِلْإنْسانِ مِنَ الأعْمالِ أوْ في فَهْمِ النُّقُوشِ المَخْصُوصَةِ إنْ كانَتْ هُنالِكَ نُقُوشٌ وهي خَوارِقُ عاداتٍ. والباءُ في قَوْلِهِ بِنَفْسِكَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ داخِلَةٌ عَلى فاعِلِ كَفى كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٧٩] في سُورَةِ النِّساءِ. وانْتَصَبَ حَسِيبًا عَلى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ الكِفايَةِ إلى النَّفْسِ، أيْ مِن جِهَةِ حَسِيبٍ، والحَسِيبُ: فَعِيلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ مِثْلُ ضَرِيبِ القِداحِ بِمَعْنى ضارِبِها، وصَرِيمٍ بِمَعْنى صارِمٍ، أيِ الحاسِبُ والضّابِطُ، وكَثُرَ وُرُودُ التَّمْيِيزِ بَعْدَ (كَفى بِكَذا)، وعُدِّيَ بِ (عَلى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنى الشَّهِيدِ، وماصَدَقَ النَّفْسِ هو الإنْسانُ في قَوْلِهِ ﴿وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ﴾ فَلِذَلِكَ جاءَ حَسِيبًا بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ.