ركن التفسير
23 - (وقضى) أمر (ربك) أن أي بأن (ألا تعبدوا إلا إياه) أن تحسنوا (وبالوالدين إحسانا) بأن تبروهما (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما) فاعل (أو كلاهما) وفي قراءة يبلغان فأحدهما بدل من ألفه (فلا تقل لهما أف) بفتح الفاء وكسرها منونا وغير منون مصدر بمعنى تبا وقبحا (ولا تنهرهما) تزجرهما (وقل لهما قولا كريما) جميلا لينا
يقول تعالى آمرا بعبادته وحده لا شريك له فإن القضاء ههنا بمعنى الأمر قال مجاهد "وقضى" يعني وصى وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود والضحاك بن مزاحم "ووصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه" ولهذا قرن بعبادته بر الوالدين فقال "وبالوالدين إحسانا" أي وأمر بالوالدين إحسانا كقوله في الآية الأخرى "أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير" وقوله "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف" أي لا تسمعهما قولا سيئا حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء "ولا تنهرهما" أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله "ولا تنهرهما" أي لا تنفض يدك عليهما ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال "وقل لهما قولا كريما" أي لينا طيبا حسنا بتأدب وتوقير وتعظيم.
﴿وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ عَطْفٌ عَلى الكَلامِ السّابِقِ، عَطْفَ غَرَضٍ عَلى غَرَضٍ؛ تَخَلُّصًا إلى أعْمِدَةٍ مِن شَرِيعَةِ الإسْلامِ بِمُناسَبَةِ الفَذْلَكَةِ المُتَقَدِّمَةِ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ إصْلاحَ الأعْمالِ مُتَفَرِّعٌ عَلى نَبْذِ الشِّرْكِ كَما قالَ تَعالى ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ أوْ إطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذا مَقْرَبَةٍ أوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: ١٣] . وقَدِ ابْتُدِئَ تَشْرِيعٌ لِلْمُسْلِمِينَ أحْكامًا عَظِيمَةً لِإصْلاحِ جامِعَتِهِمْ وبِناءِ أرْكانِها؛ لِيَزْدادُوا يَقِينًا بِارْتِفاعِهِمْ عَلى أهْلِ الشِّرْكِ وبِانْحِطاطِ هَؤُلاءِ عَنْهم، وفي جَمِيعِها تَعْرِيضٌ بِالمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كانُوا مُنْغَمِسِينَ في المَنهِيّاتِ، وهَذِهِ الآياتُ أوَّلُ تَفْصِيلٍ لِلشَّرِيعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ وقَعَ بِمَكَّةَ، وأنَّ ما ذُكِرَ في هَذِهِ الآياتِ مَقْصُودٌ بِهِ تَعْلِيمُ المُسْلِمِينَ، ولِذَلِكَ اخْتَلَفَ أُسْلُوبُهُ عَنْ أُسْلُوبِ نَظِيرِهِ في سُورَةِ الأنْعامِ الَّذِي وجَّهَ فِيهِ الخِطابَ إلى المُشْرِكِينَ لِتَوْقِيفِهِمْ عَلى قَواعِدِ ضَلالَتِهِمْ. فَمِنَ الِاخْتِلافِ بَيْنَ الأُسْلُوبَيْنِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ افْتُتِحَتْ بِفِعْلِ القَضاءِ المُقْتَضِي الإلْزامَ، وهو مُناسِبٌ لِخِطابِ أُمَّةٍ تَمْتَثِلُ أمْرَ رَبِّها، وافْتُتِحَ خِطابُ سُورَةِ الأنْعامِ بِ ﴿تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكم عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١] كَما تَقَدَّمَ هُنالِكَ. ومِنها أنَّ هَذِهِ الآيَةَ جَعَلَتِ المَقْضِيَّ هو تَوْحِيدُ اللَّهِ بِالعِبادَةِ؛ لِأنَّهُ المُناسِبُ لِحالِ المُسْلِمِينَ فَحَذَّرَهم مِن عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وآيَةُ الأنْعامِ جَعَلَتِ المُحَرَّمَ فِيها (p-٦٦)هُوَ الإشْراكَ بِاللَّهِ في الإلَهِيَّةِ المُناسِبَ لِما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ إذْ لا عِبادَةَ لَهم. وأنَّ هَذِهِ الآيَةَ فَصَلَ فِيها حُكْمُ البِرِّ بِالوالِدَيْنِ، وحُكْمُ القَتْلِ، وحُكْمُ الإنْفاقِ، ولَمْ يَفْصِلْ ما في الآيَةِ الأنْعامُ. وكانَ ما ذُكِرَ في هَذِهِ الآياتِ خَمْسَةَ عَشَرَ تَشْرِيعًا هي أُصُولُ التَّشْرِيعِ الرّاجِعِ إلى نِظامِ المُجْتَمَعِ. وأحْسَبُ أنَّ هَذِهِ الآياتِ اشْتُهِرَتْ بَيْنَ النّاسِ في مَكَّةَ، وتَناقَلَها العَرَبُ في الآفاقِ، فَلِذَلِكَ ألَمَّ الأعْشى بِبَعْضِها في قَصِيدَتِهِ المَرْوِيَّةِ الَّتِي أعَدَّها لِمَدْحِ النَّبِيءِ ﷺ حِينَ جاءَ يُرِيدُ الإيمانَ فَصَدَّتْهُ قُرَيْشٌ عَنْ ذَلِكَ، وهي القَصِيدَةُ الدّالِيَّةُ الَّتِي يَقُولُ فِيها: ؎أجِدَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وصاةَ مُحَمَّدٍ نَبِيءِ الإلَهِ حِينَ أوْصى وأشْهَدا ؎فَإيّاكَ والمَيْتاتِ لا تَأْكُلَنَّها ∗∗∗ ولا تَأْخُذَنْ سَهْمًا حَدِيدًا لِتَفْصَدا ؎وذا النُّصُبَ المَنصُوبَ لا تَنْسُكَنَّهُ ∗∗∗ ولا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ واللَّهَ فاعْبُدا ؎وذا الرَّحِمِ القُرْبى فَلا تَقْطَعَنَّهُ ∗∗∗ لِفاقَتِهِ ولا الأسِيرَ المُقَيَّدا ؎ولا تَسْخَرَنْ مِن بائِسٍ ذِي ضِرارَةٍ ∗∗∗ ولا تَحْسَبَنَّ المالَ لِلْمَرْءِ مُخْلِدًا ؎ولا تَقْرَبَنَّ جارَةً إنَّ سِرَّها ∗∗∗ عَلَيْكَ حَرامٌ فانْكِحَنْ أوْ تَأبَّدا وافْتُتِحَتْ هَذِهِ الأحْكامُ والوَصايا بِفِعْلِ القَضاءِ؛ اهْتِمامًا بِهِ، وأنَّهُ مِمّا أمَرَ اللَّهُ بِهِ أمْرًا جازِمًا وحُكْمًا لازِمًا، ولَيْسَ هو بِمَعْنى التَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِ ﴿وقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرائِيلَ في الكِتابِ﴾ [الإسراء: ٤] لِظُهُورِ أنَّ المَذْكُوراتِ هُنا مِمّا يَقَعُ ولا يَقَعُ. و(أنْ) يَجُوزُ أنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً لِما في قَضى مِن مَعْنى القَوْلِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مَجْرُورَةً بِباءِ جَرٍّ مُقَدَّرَةٍ، أيْ قَضى بِأنْ لا تَعْبُدُوا، وابْتُدِئَ هَذا (p-٦٧)التَّشْرِيعُ بِذِكْرِ أصْلِ التَّشْرِيعَةِ كُلِّها، وهو تَوْحِيدُ اللَّهِ، فَذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِما سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ مِنَ الأحْكامِ. وجِيءَ بِخِطابِ الجَماعَةِ في قَوْلِهِ ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾؛ لِأنَّ النَّهْيَ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ النّاسِ، وهو تَعْرِيضٌ بِالمُشْرِكِينَ. والخِطابُ في قَوْلِهِ رَبِّكَ لِلنَّبِيءِ ﷺ كالَّذِي في قَوْلِهِ قَبْلُ ﴿مِن عَطاءِ رَبِّكَ﴾ [الإسراء: ٢٠]، والقَرِينَةُ ظاهِرَةٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ؛ فَيَعُمُّ الأُمَّةَ، والمَآلُ واحِدٌ. وابْتُدِئَ التَّشْرِيعُ بِالنَّهْيِ عَنْ عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ هو أصْلُ الإصْلاحِ؛ لِأنَّ إصْلاحَ التَّفْكِيرِ مُقَدَّمٌ عَلى إصْلاحِ العَمَلِ، إذْ لا يُشاقُّ العَقْلُ إلى طَلَبِ الصّالِحاتِ إلّا إذا كانَ صالِحًا، وفي الحَدِيثِ: «ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألا وهي القَلْبُ»، وقَدْ فَصَّلْتُ ذَلِكَ في كِتابِي المُسَمّى أُصُولَ النِّظامِ الِاجْتِماعِيِّ في الإسْلامِ. * * * ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا إمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُما وقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا﴾ ﴿واخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا﴾ هَذا أصْلٌ ثانٍ مِن أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وهو بِرُّ الوالِدَيْنِ. وانْتَصَبَ إحْسانًا عَلى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ مَصْدَرًا نائِبًا عَنْ فِعْلِهِ، والتَّقْدِيرُ: وأحْسِنُوا إحْسانًا بِالوالِدَيْنِ، كَما يَقْتَضِيهِ العَطْفُ عَلى ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ أيْ وقَضى إحْسانًا بِالوالِدَيْنِ. (p-٦٨)وبِالوالِدَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إحْسانًا، والباءُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ يُقالُ: أحْسِنْ بِفُلانٍ، كَما يُقالُ: أحْسِنْ إلَيْهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وقَدْ أحْسَنَ بِي﴾ [يوسف: ١٠٠] في سُورَةِ يُوسُفَ، وتَقْدِيمُهُ عَلى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمامِ بِهِ، والتَّعْرِيفُ في الوالِدَيْنِ لِلِاسْتِغْراقِ بِاعْتِبارِ والِدَيْ كُلِّ مُكَلَّفٍ مِمَّنْ شَمِلَهُمُ الجَمْعُ في ألّا تَعْبُدُوا. وعَطْفُ الأمْرِ بِالإحْسانِ إلى الوالِدَيْنِ عَلى ما هو في مَعْنى الأمْرِ بِعِبادَةِ اللَّهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ هو الخالِقُ فاسْتَحَقَّ العِبادَةَ؛ لِأنَّهُ أوْجَدَ النّاسَ، ولَمّا جَعَلَ اللَّهُ الأبَوَيْنِ مَظْهَرَ إيجادِ النّاسِ أمَرَ بِالإحْسانِ إلَيْهِما، فالخالِقُ مُسْتَحِقُّ العِبادَةِ لِغِناهُ عَنِ الإحْسانِ، ولِأنَّها أعْظَمُ الشُّكْرِ عَلى أعْظَمِ مِنَّةٍ، وسَبَبُ الوُجُودِ دُونَ ذَلِكَ فَهو يَسْتَحِقُّ الإحْسانَ لا العِبادَةَ؛ لِأنَّهُ مُحْتاجٌ إلى الإحْسانِ دُونَ العِبادَةِ، ولِأنَّهُ لَيْسَ بِمُوجِدٍ حَقِيقِيٍّ، ولِأنَّ اللَّهَ جَبَلَ الوالِدَيْنِ عَلى الشَّفَقَةِ عَلى ولَدِهِما، فَأمَرَ الوَلَدَ بِمُجازاةِ ذَلِكَ بِالإحْسانِ إلى أبَوَيْهِ كَما سَيَأْتِي ﴿وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا﴾ . وشَمِلَ الإحْسانُ كُلَّ ما يَصْدُقُ فِيهِ هَذا الجِنْسُ مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ، والبَذْلِ والمُواساةِ. وجُمْلَةُ ﴿إمّا يَبْلُغَنَّ﴾ بَيانٌ لِجُمْلَةِ إحْسانًا، و(إمّا) مُرَكَّبَةٌ مِن (إنْ) الشَّرْطِيَّةِ و(ما) الزّائِدَةِ المُهَيِّئَةِ لِنُونِ التَّوْكِيدِ، وحَقُّها أنْ تُكْتَبَ بِنُونٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ وبَعْدَها (ما)، ولَكِنَّهم راعَوْا حالَةَ النُّطْقِ بِها مُدْغَمَةً فَرَسَمُوها كَذَلِكَ في المَصاحِفِ وتَبِعَها رَسْمُ النّاسِ غالِبًا، أيْ إنْ يَبْلُغْ أحَدُ الوالِدَيْنِ أوْ كِلاهُما حَدَّ الكِبَرِ، وهُما عِنْدَكَ، أيْ في كَفالَتِكَ فَوَطِّئْ لَهُما خُلُقَكَ، ولَيِّنْ جانِبَكَ. والخِطابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مُخاطَبٍ بِقَرِينَةِ العَطْفِ عَلى ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ ولَيْسَ خِطابًا لِلنَّبِيءِ ﷺ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أبَوانِ يَوْمَئِذٍ، وإيثارُ ضَمِيرِ المُفْرَدِ هُنا دُونَ ضَمِيرِ الجَمْعِ؛ لِأنَّهُ خِطابٌ يَخْتَصُّ بِمَن لَهُ أبَوانِ مِن بَيْنِ الجَماعَةِ المُخاطَبِينَ بِقَوْلِهِ ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾، فَكانَ الإفْرادُ أنْسَبَ بِهِ وإنْ كانَ الإفْرادُ، والجَمْعُ سَواءً في المَقْصُودِ؛ لِأنَّ خِطابَ غَيْرِ المُعَيَّنِ يُساوِي خِطابَ الجَمْعِ. (p-٦٩)وخَصَّ هَذِهِ الحالَةَ بِالبَيانِ؛ لِأنَّها مَظِنَّةُ انْتِفاءِ الإحْسانِ بِما يَلْقى الوَلَدُ مِن أبِيهِ وأُمِّهِ مِن مَشَقَّةِ القِيامِ بِشُئُونِهِما، ومِن سُوءِ الخُلُقِ مِنهُما. ووَجْهُ تَعَدُّدِ فاعِلِ يَبْلُغَنَّ مَظْهَرًا دُونَ جَعْلِهِ بِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ بِأنْ يُقالَ: إمّا يَبْلُغانِّ عِنْدَكَ الكِبَرَ، الِاهْتِمامُ بِتَخْصِيصِ كُلِّ حالَةٍ مِن أحْوالِ الوالِدَيْنِ بِالذِّكْرِ، ولَمْ يَسْتَغْنِ بِإحْدى الحالَتَيْنِ عَنِ الأُخْرى؛ لِأنَّ لِكُلِّ حالَةٍ بَواعِثَ عَلى التَّفْرِيطِ في واجِبِ الإحْسانِ إلَيْهِما، فَقَدْ تَكُونُ حالَةُ اجْتِماعِهِما عِنْدَ الِابْنِ تَسْتَوْجِبُ الِاحْتِمالَ مِنهُما لِأجْلِ مُراعاةِ أحَدِهِما الَّذِي الِابْنُ أشَدُّ حُبًّا لَهُ دُونَ ما لَوْ كانَ أحَدُهُما مُنْفَرِدًا عِنْدَهُ بِدُونِ الآخَرِ الَّذِي مَيْلُهُ إلَيْهِ أشَدُّ، فالِاحْتِياجُ إلى ذِكْرِ أحَدِهِما في هَذِهِ الصُّورَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى وُجُوبِ المُحافَظَةِ عَلى الإحْسانِ لَهُ، وقَدْ تَكُونُ حالَةُ انْفِرادِ أحَدِ الأبَوَيْنِ عِنْدَ الِابْنِ أخَفَّ كُلْفَةً عَلَيْهِ مِن حالَةِ اجْتِماعِهِما، فالِاحْتِياجُ إلى ﴿أوْ كِلاهُما﴾ في هَذِهِ الصُّورَةِ لِلتَّحْذِيرِ مِنِ اعْتِذارِ الِابْنِ لِنَفْسِهِ عَنِ التَّقْصِيرِ بِأنَّ حالَةَ اجْتِماعِ الأبَوَيْنِ أحْرَجُ عَلَيْهِ، فَلِأجْلِ ذَلِكَ ذُكِرَتِ الحالَتانِ، وأُجْرِيَ الحُكْمُ عَلَيْهِما عَلى السَّواءِ، فَكانَتْ جُمْلَةُ ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ﴾ بِتَمامِها جَوابًا لِ (إمّا) . وأُكِّدَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ؛ لِتَحْقِيقِ الرَّبْطِ بَيْنَ مَضْمُونِ الجَوابِ، ومَضْمُونِ الشَّرْطِ في الوُجُودِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿إمّا يَبْلُغَنَّ﴾ عَلى أنَّ أحَدُهُما فاعِلُ يَبْلُغَنَّ فَلا تَلْحَقُ الفِعْلَ عَلامَةٌ؛ لِأنَّ فاعِلَهُ اسْمٌ ظاهِرٌ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وخَلَفٌ (يَبْلُغانِّ) بِألِفِ التَّثْنِيَةِ ونُونٍ مُشَدَّدَةٍ، والضَّمِيرُ فاعِلٌ عائِدٌ إلى الوالِدَيْنِ في قَوْلِهِ ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾، فَيَكُونُ ﴿أحَدُهُما أوْ كِلاهُما﴾ بَدَلًا مِن ألِفِ المُثَنّى تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ لَيْسَ الحُكْمُ لِاجْتِماعِهِما فَقَطْ بَلْ هو لِلْحالَتَيْنِ عَلى التَّوْزِيعِ. والخِطابُ بِ عِنْدَكَ لِكُلِّ مَن يَصْلُحُ لِسَماعِ الكَلامِ فَيَعُمُّ كُلَّ مُخاطَبٍ بِقَرِينَةٍ سَبْقِ قَوْلِهِ ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾، وقَوْلِهِ اللّاحِقِ ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِما في نُفُوسِكُمْ﴾ [الإسراء: ٢٥] . (p-٧٠)أُفٍّ اسْمُ فِعْلٍ مُضارِعٍ مَعْناهُ أتَضَجَّرُ، وفِيهِ لُغاتٌ كَثِيرَةٌ؛ أشْهَرُها كُلُّها ضَمُّ الهَمْزَةِ، وتَشْدِيدُ الفاءِ، والخِلافُ في حَرَكَةِ الفاءِ، فَقَرَأ نافِعٌ، وأبُو جَعْفَرٍ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ بِكَسْرِ الفاءِ مُنَوَّنَةً، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، ويَعْقُوبُ بِفَتْحِ الفاءِ غَيْرَ مُنَوَّنَةٍ، وقَرَأ الباقُونَ بِكَسْرِ الفاءِ غَيْرَ مُنَوَّنَةٍ. ولَيْسَ المَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أنْ يَقُولَ لَهُما أُفٍّ خاصَّةً، وإنَّما المَقْصُودُ النَّهْيُ عَنِ الأذى الَّذِي أقَلُّهُ الأذى بِاللِّسانِ بِأوْجَزِ كَلِمَةٍ، وبِأنَّها غَيْرُ دالَّةٍ عَلى أكْثَرَ مِن حُصُولِ الضَّجَرِ لِقائِلِها دُونَ شَتْمٍ أوْ ذَمٍّ، فَيُفْهَمُ مِنهُ النَّهْيُ مِمّا هو أشَدُّ أذًى بِطْرِيقِ فَحْوى الخِطابِ بِالأوْلى. ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنْ نَهْرِهِما؛ لِئَلّا يَحْسَبَ أنَّ ذَلِكَ تَأْدِيبٌ لِصَلاحِهِما، ولَيْسَ بِالأذى، والنَّهْرُ: الزَّجْرُ، يُقالُ: نَهَرَهُ وانْتَهَرَهُ. ثُمَّ أمَرَ بِإكْرامِ القَوْلِ لَهُما، والكَرِيمُ مِن كُلِّ شَيْءٍ: الرَّفِيعُ في نَوْعِهِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: ٤] في سُورَةِ الأنْفالِ. وبِهَذا الأمْرِ انْقَطَعَ العُذْرُ بِحَيْثُ إذا رَأى الوَلَدُ أنْ يَنْصَحَ لِأحَدِ أبَوَيْهِ أوْ أنْ يُحَذِّرَهُ مِمّا قَدْ يَضُرُّ بِهِ أدّى إلَيْهِ ذَلِكَ بِقَوْلٍ لَيِّنٍ حَسَنِ الوَقْعِ. ثُمَّ ارْتَقى في الوِصايَةِ بِالوالِدَيْنِ إلى أمْرِ الوَلَدِ بِالتَّواضُعِ لَهُما تَواضُعًا يَبْلُغُ حَدَّ الذُّلِّ لَهُما؛ لِإزالَةِ وحْشَةِ نُفُوسِهِما إنْ صارا في حاجَةٍ إلى مَعُونَةِ الوَلَدِ؛ لِأنَّ الأبَوَيْنِ يَبْغِيانِ أنْ يَكُونا هُما النّافِعَيْنِ لِوَلَدِهِما، والقَصْدُ مِن ذَلِكَ التَّخَلُّقُ بِشُكْرِهِ عَلى إنْعامِهِما السّابِقَةِ عَلَيْهِ. وصِيغَ التَّعْبِيرُ عَنِ التَّواضُعِ بِتَصْوِيرِهِ في هَيْئَةِ تَذَلُّلِ الطّائِرِ عِنْدَما يَعْتَرِيهِ خَوْفٌ مِن طائِرٍ أشَدَّ مِنهُ إذْ يَخْفِضُ جَناحَهُ مُتَذَلِّلًا، فَفي التَّرْكِيبِ اسْتِعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، والجَناحُ تَخْيِيلٌ بِمَنزِلَةِ الأظْفارِ لِلْمَنِيَّةِ في قَوْلِ أبِي ذُؤَيْبٍ: ؎وإذا المَنِيَّةُ أنْشَبَتْ أظْفارَها ألْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ وبِمَنزِلَةِ تَخْيِيلِ اليَدِ لِلشَّمالِ بِفَتْحِ الشِّينِ والزِّمامِ لِلْقُرَّةِ في قَوْلِ لَبِيدٍ: ؎وغَداةَ رِيحٍ قَدْ كَشَفَتْ وقْرَةً ∗∗∗ إذْ أصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمالِ زِمامُها (p-٧١)ومَجْمُوعُ هَذِهِ الِاسْتِعارَةِ تَمْثِيلٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿واخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: ٨٨] في سُورَةِ الحِجْرِ. والتَّعْرِيفُ في الرَّحْمَةِ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ، أيْ مِن رَحْمَتِكَ إيّاهُما. ومِن ابْتِدائِيَّةٌ، أيِ الذُّلِّ النّاشِئِ عَنِ الرَّحْمَةِ، لا عَنِ الخَوْفِ، أوْ عَنِ المُداهَنَةِ، والمَقْصُودُ اعْتِيادُ النَّفْسِ عَلى التَّخَلُّقِ بِالرَّحْمَةِ بِاسْتِحْضارِ وُجُوبِ مُعامَلَتِهِ إيّاهُما بِها حَتّى يَصِيرَ لَهُ خُلُقًا، كَما قِيلَ: ؎إنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الخُلُقُ وهَذِهِ أحْكامٌ عامَّةٌ في الوالِدَيْنِ، وإنْ كانا مُشْرِكَيْنِ، ولا يُطاعانِ في مَعْصِيَةٍ، ولا كُفْرٍ كَما في آيَةِ سُورَةِ العَنْكَبُوتِ. ومُقْتَضى الآيَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الوالِدَيْنِ في البِرِّ، وإرْضاؤُهُما مَعًا في ذَلِكَ؛ لِأنَّ مَوْرِدَها لِفِعْلٍ يَصْدُرُ مِنَ الوَلَدِ نَحْوَ والِدَيْهِ، وذَلِكَ قابِلٌ لِلتَّسْوِيَةِ، ولَمْ تَتَعَرَّضْ لِما عَدا ذَلِكَ مِمّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الأبَوانِ ويَتَشاحّانِ في طَلَبِ فِعْلِ الوَلَدِ إذا لَمْ يُمْكِنِ الجَمْعُ بَيْنَ رَغْبَتَيْهِما بِأنْ يَأْمُرَهُ أحَدُ الأبَوَيْنِ بِضِدِّ ما يَأْمُرُهُ بِهِ الآخَرُ، ويَظْهَرُ أنَّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلى أحْوالٍ تُعارِضُ الأدِلَّةَ بِأنْ يَسْعى إلى العَمَلِ بِطَلَبَيْهِما إنِ اسْتَطاعَ. وفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: «أنَّ رَجُلًا سَألَ النَّبِيءَ ﷺ مَن أحَقُّ النّاسِ بِحُسْنِ صَحابَتِي ؟ قالَ: أُمُّكَ. قالَ: ثُمَّ مَن ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قالَ: ثُمَّ مَن ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قالَ: ثُمَّ مَن ؟ قالَ: ثُمَّ أبُوكَ» . وهُوَ ظاهِرٌ في تَرْجِيحِ جانِبِ الأُمِّ؛ لِأنَّ سُؤالَ السّائِلِ دَلَّ عَلى أنَّهُ يَسْألُ عَنْ حُسْنِ مُعامَلَتِهِ لِأبَوَيْهِ. ولِلْعُلَماءِ أقْوالٌ: أحَدُها: تَرْجِيحُ الأُمِّ عَلى الأبِ، وإلى هَذا ذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، والمُحاسِبِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وهو ظاهِرُ قَوْلِ مالِكٍ، فَقَدْ حَكى القَرافِيُّ في الفَرْقِ ٢٣ عَنْ (p-٧٢)مُخْتَصَرِ الجامِعِ أنَّ رَجُلًا سَألَ مالِكًا فَقالَ: إنَّ أبِي في بَلَدِ السُّودانِ وقَدْ كَتَبَ إلَيَّ أنْ أقْدَمَ عَلَيْهِ، وأُمِّي تَمْنَعُنِي مِن ذَلِكَ ؟ فَقالَ مالِكٌ: أطِعْ أباكَ ولا تَعْصَ أُمَّكَ، وذَكَرَ القَرافِيُّ في المَسْألَةِ السّابِعَةِ مِن ذَلِكَ الفَرْقَ أنَّ مالِكًا أرادَ مَنعَ الِابْنِ مِنَ الخُرُوجِ إلى السُّودانِ بِغَيْرِ إذْنِ الأُمِّ. الثّانِي: قَوْلُ الشّافِعِيَّةِ أنَّ الأبَوَيْنِ سَواءٌ في البِرِّ، وهَذا القَوْلُ يَقْتَضِي وُجُوبَ طَلَبِ التَّرْجِيحِ إذا أمَرا ابْنَهُما بِأمْرَيْنِ مُتَضادَّيْنِ. وحَكى القُرْطُبِيُّ عَنِ المُحاسِبِيِّ في كِتابِ الرِّعايَةِ أنَّهُ قالَ: لا خِلافَ بَيْنِ العُلَماءِ في أنَّ لِلْأُمِّ ثَلاثَةَ أرْباعِ البِرِّ، ولِلْأبِ الرُّبُعَ، وحَكى القُرْطُبِيُّ عَنِ اللَّيْثِ: أنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَيِ البِرِّ، ولِلْأبِ الثُّلُثَ، بِناءً عَلى اخْتِلافِ رِوايَةِ الحَدِيثِ المَذْكُورِ أنَّهُ قالَ: ثُمَّ أبُوكَ بَعْدَ المَرَّةِ الثّانِيَةِ أوْ بَعْدَ المَرَّةِ الثّالِثَةِ. والوَجْهُ أنَّ تَحْدِيدَ ذَلِكَ بِالمِقْدارِ حَوالَةٌ عَلى ما لا يَنْضَبِطُ، وأنَّ مَحْمَلَ الحَدِيثِ مَعَ اخْتِلافِ رِوايَتَيْهِ عَلى أنَّ الأُمَّ أرْجَحُ عَلى الإجْمالِ. ثُمَّ أُمِرَ بِالدُّعاءِ لَهُما بِرَحْمَةِ اللَّهِ إيّاهُما، وهي الرَّحْمَةُ الَّتِي لا يَسْتَطِيعُ الوَلَدُ إيصالَها إلى أبَوَيْهِ إلّا بِالِابْتِهالِ إلى اللَّهِ تَعالى. وهَذا قَدِ انْتَقَلَ إلَيْهِ انْتِقالًا بَدِيعًا مِن قَوْلِهِ ﴿واخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ فَكانَ ذِكْرُ رَحْمَةِ العَبْدِ مُناسِبَةً لِلِانْتِقالِ إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، وتَنْبِيهًا عَلى أنَّ التَّخَلُّقَ بِمَحَبَّةِ الوَلَدِ الخَيْرَ لِأبَوَيْهِ يَدْفَعُهُ إلى مُعامَلَتِهِ إيّاهُما بِهِ فِيما يَعْلَمانِهِ وفِيما يَخْفى عَنْهُما؛ حَتّى فِيما يَصِلُ إلَيْهِما بَعْدَ مَماتِهِما، وفي الحَدِيثِ «إذا ماتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلّا مِن ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، وعِلْمٍ بَثَّهُ في صُدُورِ الرِّجالِ، ووَلَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ» . وفِي الآيَةِ إيماءٌ إلى أنَّ الدُّعاءَ لَهُما مُسْتَجابٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ أذِنَ فِيهِ، والحَدِيثُ المَذْكُورُ مُؤَيِّدٌ ذَلِكَ إذْ جَعَلَ دُعاءَ الوَلَدِ عَمَلًا لِأبَوَيْهِ. وحُكْمُ هَذا الدُّعاءِ خاصٌّ بِالأبَوَيْنِ المُؤْمِنَيْنِ بِأدِلَّةٍ أُخْرى دَلَّتْ عَلى التَّخْصِيصِ كَقَوْلِهِ ﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ١١٣] الآيَةَ. (p-٧٣)والكافُ في قَوْلِهِ ﴿كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا﴾ لِلتَّشْبِيهِ المَجازِيِّ يُعَبِّرُ عَنْهُ النُّحاةُ بِمَعْنى التَّعْلِيلِ في الكافِ، ومِثالُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨]، أيِ ارْحَمْهُما رَحْمَةً تُكافِئُ ما رَبَّيانِي صَغِيرًا. وصَغِيرًا حالٌ مِن ياءِ المُتَكَلِّمِ. والمَقْصُودُ مِنهُ تَمْثِيلُ حالَةٍ خاصَّةٍ فِيها الإشارَةُ إلى تَرْبِيَةٍ مُكَيَّفَةٍ بِرَحْمَةٍ كامِلَةٍ فَإنَّ الأُبُوَّةَ تَقْتَضِي رَحْمَةَ الوالِدِ، وصِغَرَ الوَلَدِ يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ بِهِ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ ولَدًا فَصارَ قَوْلُهُ ﴿كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا﴾ قائِمًا مَقامَ قَوْلِهِ: كَما رَبَّيانِي، ورَحِمانِي بِتَرْبِيَتِهِما، فالتَّرْبِيَةُ تَكْمِلَةٌ لِلْوُجُودِ، وهي وحْدَها تَقْتَضِي الشُّكْرَ عَلَيْها، والرَّحْمَةُ حِفْظٌ لِلْوُجُودِ مِنِ اجْتِنابِ انْتِهاكِهِ، وهو مُقْتَضى الشُّكْرِ، فَجَمَعَ الشُّكْرَ عَلى ذَلِكَ كُلِّهِ بِالدُّعاءِ لَهُما بِالرَّحْمَةِ. والأمْرُ يَقْتَضِي الوُجُوبَ، وأمّا مَواقِعُ الدُّعاءِ لَهُما فَلا تَنْضَبِطُ وهو بِحَسَبِ حالِ كُلِّ امْرِئٍ في أوْقاتِ ابْتِهالِهِ، وعَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ إذا دَعا لَهُما في كُلِّ تَشَهُّدٍ فَقَدِ امْتَثَلَ. ومَقْصِدُ الإسْلامِ مِنَ الأمْرِ بِبِرِّ الوالِدَيْنِ، وبِصِلَةِ الرَّحِمِ يَنْحَلُّ إلى مَقْصِدَيْنِ: أحَدُهُما نَفْسانِيٌّ: وهو تَرْبِيَةُ نُفُوسِ الأُمَّةِ عَلى الِاعْتِرافِ بِالجَمِيلِ لِصانِعِهِ، وهو الشُّكْرُ، تَخَلُّقًا بِأخْلاقِ البارِي تَعالى في اسْمِهِ الشَّكُورِ، فَكَما أمَرَ بِشُكْرِ اللَّهِ عَلى نِعْمَةِ الخَلْقِ والرِّزْقِ أمَرَ بِشُكْرِ الوالِدَيْنِ عَلى نِعْمَةِ الإيجادِ الصُّورِيِّ، ونِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ والرَّحْمَةِ، وفي الأمْرِ بِشُكْرِ الفَضائِلِ تَنْوِيهٌ بِها، وتَنْبِيهٌ عَلى المُنافَسَةِ في إسْدائِها. والمَقْصِدُ الثّانِي عُمْرانِيٌّ، وهو أنْ تَكُونَ أواصِرُ العائِلَةِ قَوِيَّةَ العُرى، مَشْدُودَةَ الوُثُوقِ، فَأمَرَ بِما يُحَقِّقُ ذَلِكَ الوُثُوقَ بَيْنَ أفْرادِ العائِلَةِ، وهو حُسْنُ المُعاشَرَةِ؛ لِيُرَبِّيَ في نُفُوسِهِمْ مِن التَّحابِّ والتَّوادِّ ما يَقُومُ مَقامَ عاطِفَةِ الأُمُومَةِ الغَرِيزِيَّةِ في الأُمِّ، ثُمَّ عاطِفَةِ الأُبُوَّةِ المُنْبَعِثَةِ عَنْ إحْساسٍ بَعْضُهُ (p-٧٤)غَرِيزِيٌّ ضَعِيفٌ، وبَعْضُهُ عَقْلِيٌّ قَوِيٌّ حَتّى أنَّ أثَرَ ذَلِكَ الإحْساسِ لَيُساوِي بِمَجْمُوعِهِ أثَرَ عاطِفَةِ الأُمِّ الغَرِيزِيَّةِ، أوْ يَفُوقُها في حالَةِ كِبَرِ الِابْنِ، ثُمَّ وزَّعَ الإسْلامُ ما دَعا إلَيْهِ مِن ذَلِكَ بَيْنَ بَقِيَّةِ مَراتِبِ القَرابَةِ عَلى حَسَبِ الدُّنُوِّ في القُرْبِ النِّسْبِيِّ بِما شَرَعَهُ مِن صِلَةِ الرَّحِمِ، وقَدْ عَزَّزَ اللَّهُ قابِلِيَّةَ الِانْسِياقِ إلى تِلْكَ الشِّرْعَةِ في النُّفُوسِ. جاءَ في الحَدِيثِ: «أنَّ اللَّهَ لَمّا خَلَقَ الرَّحِمَ أخَذَتْ بِقائِمَةٍ مِن قَوائِمِ العَرْشِ وقالَتْ: هَذا مَقامُ العائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، فَقالَ اللَّهُ: أمّا تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَن وصَلَكِ وأقْطَعَ مَن قَطَعَكِ»، وفي الحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ جَعَلَ الرَّحِمَ مِنِ اسْمِهِ الرَّحِيمِ» . وفِي هَذا التَّكْوِينِ لِأواصِرِ القَرابَةِ صَلاحٌ عَظِيمٌ لِلْأُمَّةِ تَظْهَرُ آثارُهُ في مُواساةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وفي اتِّحادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، قالَ تَعالى ﴿يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى وجَعَلْناكم شُعُوبًا وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا﴾ [الحجرات: ١٣] . وزادَهُ الإسْلامُ تَوْثِيقًا بِما في تَضاعِيفِ الشَّرِيعَةِ مِن تَأْكِيدِ شَدِّ أواصِرِ القَرابَةِ أكْثَرَ مِمّا حاوَلَهُ كُلُّ دِينٍ سَلَفَ، وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في بابِهِ مِن كِتابِ مَقاصِدِ الشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّةِ.