ركن التفسير
48 - (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) بالمسحور والكاهن والشاعر (فضلوا) بذلك عن الهدى (فلا يستطيعون سبيلا) طريقا إليه
ولهذا قال تعالى "انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا" أي فلا يهتدون إلى الحق ولا يجدون إليه مخلصا قال محمد بن إسحاق في السيرة حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف ابن زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى بالليل في بيته فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض ما قال أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس وأنا والذي حلفت به. قال ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال ماذا سمعت؟ قال تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. قال فقام عنه الأخنس وتركه.
﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا ونَظائِرُها كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ. والتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ النَّظَرِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ بَلَغَ مِنَ الوُضُوحِ أنْ يَكُونَ مَنظُورًا. والِاسْتِفْهامُ بِ (كَيْفَ) لِلتَّعْجِيبِ مِن حالَةِ تَمْثِيلِهِمْ لِلنَّبِيءِ ﷺ بِالمَسْحُورِ، ونَحْوِهِ. وأصْلُ (ضَرَبَ) وضْعُ الشَّيْءِ وتَثْبِيتُهُ يُقالُ: ضَرَبَ خَيْمَةً، ويُطْلَقُ عَلى صَوْغِ الشَّيْءِ عَلى حَجْمٍ مَخْصُوصٍ، يُقالُ: ضَرَبَ دَنانِيرَ، وهو هُنا مُسْتَعارٌ لِلْإبْرازِ، والبَيانِ؛ تَشْبِيهًا لِلشَّيْءِ المُبْرَزِ المُبَيَّنِ بِالشَّيْءِ المُثْبَتِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ. واللّامُ في لَكَ لِلتَّعْلِيلِ والأجَلِ، أيْ ضَرَبُوا الأمْثالَ لِأجْلِكَ، أيْ لِأجْلِ تَمْثِيلِكَ، أيْ مَثَّلُوكَ، يُقالُ: ضَرَبْتُ لَكَ مَثَلًا بِكَذا، وأصْلُهُ مَثَّلْتُكَ بِكَذا، أيْ أجِدُ كَذا مَثَلًا لَكَ، قالَ تَعالى ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ﴾ [النحل: ٧٤] وقالَ ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلًا أصْحابَ القَرْيَةِ﴾ [يس: ١٣] أيِ اجْعَلْهم مَثَلًا لِحالِهِمْ. وجَمَعَ الأمْثالَ هُنا، وإنْ كانَ المَحْكِيُّ عَنْهم أنَّهم مَثَّلُوهُ بِالمَسْحُورِ، وهو مَثَلٌ واحِدٌ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ التَّعْجِيبُ (p-١٢٢)مِن هَذا المَثَلِ ومَن غَيْرِهِ فِيما يَصْدُرُ عَنْهم مِن قَوْلِهِمْ: هو شاعِرٌ، هو كاهِنٌ، هو مَجْنُونٌ، هو ساحِرٌ، هو مَسْحُورٌ، وسُمِّيَتْ أمْثالًا بِاعْتِبارِ حالِهِمْ؛ لِأنَّهم تَحَيَّرُوا فِيما يَصِفُونَهُ بِهِ لِلنّاسِ لِئَلّا يَعْتَقِدُوهُ نَبِيًّا، فَجَعَلُوا يَتَطَلَّبُونَ أشْبَهَ الأحْوالِ بِحالِهِ في خَيالِهِمْ فَيَلْحَقُونَ بِهِ، كَمَن يُدْرَجُ فَرْدًا غَرِيبًا في أشْبَهِ الأجْناسِ بِهِ، كَمَن يَقُولُ في الزَّرافَةِ: إنَّها مِنَ الأفْراسِ أوِ الإبِلِ أوْ مِنَ البَقَرِ. وفُرِّعَ ضَلالُهم عَلى ضَرْبِ أمْثالِهِمْ؛ لِأنَّ ما ضَرَبُوهُ مِنَ الأمْثالِ كُلُّهُ باطِلٌ وضَلالٌ وقُوَّةٌ في الكُفْرِ، فالمُرادُ تَفْرِيعُ ضَلالِهِمُ الخاصِّ بِبُطْلانِ تِلْكَ الأمْثالِ، أيْ فَظَهَرَ ضَلالُهم في ذَلِكَ كَقَوْلِهِ ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا﴾ [القمر: ٩] . ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالضَّلالِ هُنا أصْلُ مَعْناهُ، وهو الحَيْرَةُ في الطَّرِيقِ، وعَدَمُ الِاهْتِداءِ، أيْ ضَرَبُوا لَكَ أشْباهًا كَثِيرَةً؛ لِأنَّهم تَحَيَّرُوا فِيما يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنْ شَأْنِكِ العَظِيمِ. وتَفْرِيعُ ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ عَلى فَضَلُّوا تَفْرِيعٌ لِتَوَغُّلِهِمْ في الحَيْرَةِ عَلى ضَلالِهِمْ في ضَرْبِ تِلْكَ الأمْثالِ. والسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ، واسْتِطاعَتُهُ اسْتِطاعَةُ الظَّفَرِ بِهِ، فَيَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالسَّبِيلِ سَبِيلُ الهُدى عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ في تَفْسِيرِ الضَّلالِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحالِ ضَلالِهِمْ بِحالِ الَّذِي وقَفَ في فَيْفاءَ لا يَدْرِي مِن أيَّةِ جِهَةٍ يَسْلُكُ إلى المَقْصُودِ، عَلى الوَجْهِ الثّانِي في تَفْسِيرِ الضَّلالِ. والمَعْنى عَلى هَذا: أنَّهم تَحَيَّرُوا كَيْفَ يَصِفُونَ حالَكَ لِلنّاسِ لِتَوَقُّعِهِمْ أنَّ النّاسَ يُكَذِّبُونَهم، فَلِذَلِكَ جَعَلُوا يَنْتَقِلُونَ في وصْفِهِ مِن صِفَةٍ إلى صِفَةٍ؛ لِاسْتِشْعارِهِمْ أنَّ ما يَصِفُونَهُ بِهِ باطِلٌ لا يُطابِقُهُ الواقِعُ.