ركن التفسير
66 - (ربكم الذي يزجي) يجري (لكم الفلك) السفن (في البحر لتبتغوا) تطلبوا (من فضله) تعالى بالتجارة (إنه كان بكم رحيما) في تسخيرها لكم
ويخبر تعالى عن لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر وتسهيله لمصالح عباده لابتغائهم من فضله في التجارة من إقليم إلى إقليم ولهذا قال "إنه كان بكم رحيما" أي إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم ورحمته بكم.
﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الفُلْكَ في البَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إنَّهُ كانَ بِكم رَحِيمًا﴾ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ، وهو عَوْدٌ إلى تَقْرِيرِ أدِلَّةِ الِانْفِرادِ بِالتَّصْرِيفِ في العالَمِ المَشُوبَةِ بِما فِيها مِن نِعَمٍ عَلى الخَلْقِ، والدّالَّةِ بِذَلِكَ الشَّوْبِ عَلى إتْقانِ الصُّنْعِ، ومُحْكَمِ التَّدْبِيرِ لِنِظامِ هَذا العالَمِ، وسِيادَةِ الإنْسانِ فِيهِ وعَلَيْهِ، ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هَذا الكَلامُ عَوْدًا إلى قَوْلِهِ ﴿ويَدْعُو الإنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالخَيْرِ﴾ [الإسراء: ١١] (p-١٥٨)كَما تَقَدَّمَ هُنالِكَ فَراجِعْهُ، فَلَمّا جَرى الكَلامُ عَلى الإنْذارِ والتَّحْذِيرِ أُعْقِبَ هُنا بِالِاسْتِدْلالِ عَلى صِحَّةِ الإنْذارِ والتَّحْذِيرِ. والخِطابُ لِجَماعَةِ المُشْرِكِينَ كَما يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ ﴿فَلَمّا نَجّاكم إلى البَرِّ أعْرَضْتُمْ﴾ [الإسراء: ٦٧]، أيْ أعْرَضْتُمْ عَنْ دُعائِهِ ودَعَوْتُمُ الأصْنامَ، وقَوْلُهُ ﴿ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧] . وافْتُتِحَتِ الجُمْلَةُ بِالمُسْنَدِ إلَيْهِ مُعَرَّفًا بِالإضافَةِ، ومُسْتَحْضَرًا بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِاسْتِدْعاءِ إقْبالِ السّامِعِينَ عَلى الخَبَرِ المُؤْذِنِ بِأهَمِّيَّتِهِ حَيْثُ افْتُتِحَ بِما يُتَرَقَّبُ مِنهُ خَبَرٌ عَظِيمٌ؛ لِكَوْنِهِ مِن شُئُونِ الإلَهِ الحَقِّ، وخالِقِ الخَلْقِ، ومُدَبِّرِ شُئُونِهِمْ تَدْبِيرَ اللَّطِيفِ الرَّحِيمِ، فَيُوجِبُ إقْبالَ السّامِعِ بِشَراشِرِهِ، إنْ مُؤْمِنًا مُتَذَكِّرًا، أوْ مُشْرِكًا ناظِرًا مُتَدَبِّرًا. وجِيءَ بِالجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ؛ لِدَلالَتِها عَلى الدَّوامِ والثَّباتِ. وبِتَعْرِيفِ طَرَفَيْها لِلدَّلالَةِ عَلى الِانْحِصارِ، أيْ رَبُّكم هو الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الفُلْكَ لا غَيْرُهُ مِمَّنْ تَعْبُدُونَهُ باطِلًا، وهو الَّذِي لا يَزالُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَكم. وجِيءَ بِالصِّلَةِ فِعْلًا مُضارِعًا؛ لِلدَّلالَةِ عَلى تَكَرُّرِ ذَلِكَ وتَجَدُّدِهِ، فَحَصَلَتْ في هَذِهِ الجُمْلَةِ عَلى إيجازِها مَعانٍ جَمَّةٌ خُصُوصِيَّةٌ، وفي ذَلِكَ حَدُّ الإعْجازِ. ويُزْجِي: يَسُوقُ سَوْقًا بَطِيئًا، شَبَّهَ تَسْخِيرَ الفُلْكِ لِلسَّيْرِ في الماءِ بِإزْجاءِ الدّابَّةِ المُثْقَلَةِ بِالحِمْلِ. والفُلْكُ هُنا جَمْعٌ لا مُفْرَدٌ، والبَحْرُ: الماءُ الكَثِيرُ فَيَشْمَلُ الأنْهارَ كالفُراتِ والدِّجْلَةِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿والفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي في البَحْرِ﴾ [البقرة: ١٦٤] في سُورَةِ البَقَرَةِ. والِابْتِغاءُ: الطَّلَبُ، والفَضْلُ: الرِّزْقُ، أيْ لِلتِّجارَةِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وهَذا امْتِنانٌ عَلى (p-١٥٩)النّاسِ كُلِّهِمْ مُناسِبٌ لِعُمُومِ الدَّعْوَةِ؛ لِأنَّ أهْلَ مَكَّةَ ما كانُوا يَنْتَفِعُونَ بِرُكُوبِ البَحْرِ، وإنَّما يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ عَرَبُ اليَمَنِ، وعَرَبُ العِراقِ، والنّاسُ غَيْرُهم. وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ كانَ بِكم رَحِيمًا﴾ تَعْلِيلٌ وتَنْبِيهٌ لِمَوْقِعِ الِامْتِنانِ لِيَرْفُضُوا عِبادَةَ غَيْرِهِ مِمّا لا أثَرَ لَهُ في هَذِهِ المِنَّةِ.