ركن التفسير
68 - (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر) أي الارض كقارون (أو يرسل عليكم حاصبا) أي يرميكم بالحصباء كقوم لوط (ثم لا تجدوا لكم وكيلا) حافظا منه
يقول تعالى أفحسبتم بخروجكم إلى البر أمنتم من انتقامه وعذابه أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا وهو المطر الذي فيه حجارة قاله مجاهد وغير واحد كما قال تعالى "إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا" وقد قال في الآية الأخرى "وأمطرنا عليهم حجارة من طين" وقال "أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير" وقوله "ثم لا تجدوا لكم وكيلا" أي ناصرا يرد ذلك عنكم وينقذكم منه.
﴿أفَأمِنتُمْ أنْ يَخْسِفَ بِكم جانِبَ البَرِّ أوْ يُرْسِلَ عَلَيْكم حاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكم وكِيلًا﴾ ﴿أمْ أمِنتُمْ أنْ يُعِيدَكم فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكم قاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكم بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكم عَلَيْنا بِهِ تَبِيعًا﴾ تَفْرِيعٌ عَلى جُمْلَةِ أعْرَضْتُمْ، وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ، وفُرِّعَ الِاسْتِفْهامُ التَّوْبِيخِيُّ عَلى إعْراضِهِمْ عَنِ الشُّكْرِ وعَوْدِهِمْ إلى الكُفْرِ. (p-١٦٢)والخَسْفُ: انْقِلابُ ظاهِرِ الأرْضِ في باطِنِها مِنَ الزِّلْزالِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿أفَأمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ﴾ [النحل: ٤٥] في سُورَةِ النَّحْلِ. وفِي هَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ السَّلامَةَ في البَرِّ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَنْسَوْنَها فَلَوْ حَدَثَ لَكم خَسْفٌ لَهَلَكْتُمْ هَلاكًا لا نَجاةَ لَكم مِنهُ، بِخِلافِ هَوْلِ البَحْرِ، ولَكِنْ لَمّا كانَتِ السَّلامَةُ في البَرِّ غَيْرُ مُدْرَكٍ قَدْرُها قَلَّ أنْ تَشْعُرَ النُّفُوسُ بِنِعْمَتِها، وتَشْعُرَ بِخَطَرِ هَوْلِ البَحْرِ، فَيَنْبَغِي التَّدَرُّبُ عَلى تَذَكُّرِ نِعْمَةِ السَّلامَةِ مِنَ الضُّرِّ، ثُمَّ إنَّ مَحَلَّ السَّلامَةِ مُعَرَّضٌ إلى الأخْطارِ. والِاسْتِفْهامُ بِقَوْلِهِ أفَأمِنتُمْ إنْكارِي وتَوْبِيخِي. والجانِبُ: هو الشِّقُّ، وجَعْلُ البَرِّ جانِبًا؛ لِإرادَةِ الشِّقِّ الَّذِي يُنْجِيهِمْ إلَيْهِ، وهو الشّاطِئُ الَّذِي يَرْسُونَ عَلَيْهِ، إشارَةً إلى إمْكانِ حُصُولِ الخَوْفِ لَهم بِمُجَرَّدِ حُلُولِهِمْ بِالبَرِّ بِحَيْثُ يَخْسِفُ بِهِمْ ذَلِكَ الشّاطِئَ، أيْ أنَّ البَرَّ والبَحْرَ في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى سِيّانِ، فَعَلى العاقِلِ أنْ يَسْتَوِيَ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ في البَرِّ والبَحْرِ، وإضافَةُ الجانِبِ إلى البِرِّ إضافَةٌ بَيانِيَّةٌ. والباءُ في (﴿يَخْسِفَ بِكُمْ﴾) لِتَعْدِيَةِ يَخْسِفَ بِمَعْنى المُصاحَبَةِ. والحاصِبُ: الرّامِي بِالحَصْباءِ، وهي الحِجارَةُ، يُقالُ: حَصَبَهُ، وهو هُنا صِفَةٌ، أيْ يُرْسِلُ عَلَيْكم عارِضًا حاصِبًا، تَشْبِيهًا لَهُ بِالَّذِي يَرْمِي الحَصْباءَ، أيْ مَطَرَ حِجارَةٍ، أيْ بَرَدٌ يُشْبِهُ الحِجارَةَ، وقِيلَ: الحاصِبُ هُنا بِمَعْنى ذِي الحَصْباءِ، فَصُوغَ اسْمُ فاعِلٍ لَهُ مِن بابِ فاعِلٍ الَّذِي هو بِمَعْنى النَّسَبِ مِثْلُ لِابْنٍ وتامِرٍ. والوَكِيلُ: المُوَكَّلُ إلَيْهِ القِيامُ بِمُهِمِّ مُوَكِّلِهِ، والمُدافِعُ عَنْ حَقِّ مُوَكِّلِهِ، أيْ لا تَجِدُوا لِأنْفُسِكم مَن يُجادِلُنا عَنْكم، أوْ يُطالِبُنا بِما ألْحَقْناهُ بِكم مِنَ الخَسْفِ أوِ الإهْلاكِ بِالحاصِبِ، أيْ لا تَجِدُوا مِن قَوْمِكم وأوْلِيائِكم مَن يَثْأرُ لَكم (p-١٦٣)كَشَأْنِ مَن يَلْحَقُهُ ضُرٌّ في قَوْمِهِ أنْ يُدافِعَ عَنْهُ، ويُطالِبَ بِدَمِهِ أوْلِياؤُهُ وعِصابَتُهُ، وهَذا المَعْنى مُناسِبٌ لِما يَقَعُ في البَرِّ مِنَ الحَدَثانِ. و(أمْ) عاطِفَةُ الِاسْتِفْهامِ، وهي لِلْإضْرابِ الِانْتِقالِيِّ، أيْ بَلْ أ أمِنتُمْ، فالِاسْتِفْهامُ مُقَدَّرٌ مَعَ (أمْ)؛ لِأنَّها خاصَّةٌ بِهِ، أيْ أوْ هَلْ كُنْتُمْ آمَنِينَ مِنَ العَوْدِ إلى رُكُوبِ البَحْرِ مَرَّةً أُخْرى، فَيُرْسِلَ عَلَيْكم قاصِفًا مِنَ الرِّيحِ. والتّارَةُ: المَرَّةُ المُتَكَرِّرَةُ، قِيلَ عَيْنُهُ هَمْزَةٌ ثُمَّ خُفِّفَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، وقِيلَ: هي واوٌ، والأوَّلُ أظْهَرُ؛ لِوُجُودِهِ مَهْمُوزًا، وهم لا يَهْمِزُونَ حَرْفَ العِلَّةِ في اللُّغَةِ الفُصْحى، وأمّا تَخْفِيفُ المَهْمُوزِ فَكَثِيرٌ مِثْلُ: فَأْسٍ وفاسٍ، وكَأْسٍ وكاسٍ. ومَعْنى ﴿أنْ يُعِيدَكُمْ﴾ أنْ يُوجِدَ فِيكُمُ الدَّواعِيَ إلى العَوْدِ تَهْيِئَةً لِإغْراقِكم، وإرادَةً لِلِانْتِقامِ مِنكم، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّياقُ وتَفْرِيعٌ فَيُرْسِلُ عَلَيْهِ. والقاصِفُ: الَّتِي تَقْصِفُ، أيْ تَكْسِرُ، وأصْلُ القَصْفِ: الكَسْرُ، وغَلَبَ وصْفُ الرِّيحِ بِهِ، فَعُومِلَ مُعامَلَةَ الصِّفاتِ المُخْتَصَّةِ بِالمُؤَنَّثِ فَلَمْ يُلْحِقُوهُ عَلامَةَ التَّأْنِيثِ، مِثْلَ عاصِفٍ في قَوْلِهِ ﴿جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ﴾ [يونس: ٢٢] في سُورَةِ يُونُسَ، والمَعْنى: فَيُرْسِلُ عَلَيْكم رِيحًا قاصِفًا، أيْ تَقْصِفُ الفُلْكَ، أيْ تُعْطِبُهُ بِحَيْثُ يَغْرَقُ، ولِذَلِكَ قالَ (فَيُغْرِقَكم) . قَرَأ الجُمْهُورُ مِنَ الرِّيحِ بِالإفْرادِ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ (مِنَ الرِّياحِ) بِصِيغَةِ الجَمْعِ. والباءُ في ﴿بِما كَفَرْتُمْ﴾ لِلسَّبَبِيَّةِ، و(ما) مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ بِكُفْرِكم، أيْ شِرْكِكم. و(ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ كَشَأْنِها في عَطْفِها الجُمَلَ، وهو ارْتِقاءٌ في التَّهْدِيدِ بِعَدَمِ وُجُودِ مُنْقِذٍ لَهم، بَعْدَ تَهْدِيدِهِمْ بِالغَرَقِ؛ لِأنَّ الغَرِيقَ قَدْ يَجِدُ مُنْقِذًا. والتَّبِيعُ: مُبالَغَةٌ في التّابِعِ، أيِ المُتَتَبِّعُ غَيْرَهُ المُطالِبُ لِاقْتِضاءِ شَيْءٍ مِنهُ، أيْ لا تَجِدُوا مَن يَسْعى إلَيْهِ، ولا مَن يُطالِبُ لَكم بِثَأْرٍ. (p-١٦٤)ووَصْفُ (تَبِيعٍ) يُناسِبُ حالَ الضُّرِّ الَّذِي يَلْحَقُهم في البَحْرِ؛ لِأنَّ البَحْرَ لا يَصِلُ إلَيْهِ رِجالُ قَبِيلَةِ القَوْمِ وأوْلِياؤُهم، فَلَوْ رامُوا الثَّأْرَ لَهم لَرَكِبُوا البَحْرَ لِيُتابِعُوا آثارَ مَن ألْحَقَ بِهِمْ ضُرًّا، فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنا تَبِيعًا وقِيلَ في الَّتِي قَبْلَها وكِيلًا كَما تَقَدَّمَ. وضَمِيرُ (بِهِ) عائِدٌ إمّا إلى الإغْراقِ المَفْهُومِ مِن يُغْرِقُكم، وإمّا إلى المَذْكُورِ مِن إرْسالِ القاصِفِ وغَيْرِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ألْفاظَ (يَخْسِفَ و يُرْسِلَ و يُعِيدَكم و فَيُرْسِلَ و فَيُغْرِقَكم) خَمْسَتُها بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ، وقَرَأها ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو بِنُونِ العَظَمَةِ عَلى الِالتِفاتِ مِن ضَمِيرِ الغَيْبَةِ الَّذِي في قَوْلِهِ ﴿فَلَمّا نَجّاكم إلى البَرِّ﴾ [الإسراء: ٦٧] إلى ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ ورُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ (فَتُغْرِقَكم) بِمُثَنّاةٍ فَوْقِيَّةٍ، والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى الرِّيحِ عَلى اعْتِبارِ التَّأْنِيثِ، أوْ (عَلى الرِّياحِ) عَلى قِراءَةِ أبِي جَعْفَرٍ.