ركن التفسير
8 - وقلنا في الكتاب (عسى ربكم أن يرحمكم) بعد المرة الثانية إن تبتم (وإن عدتم) إلى الفساد (عدنا) الى العقوبة وقد عادوا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم فسلط عليهم بقتل قريظة ونفي بني النضير وضرب الجزية عليهم (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) محبسا وسجنا
"عسى ربكم أن يرحمكم" أي فيصرفهم عنكم "وإن عدتم عدنا" أى متى عدتم إلى الإفساد "عدنا" إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال ولهذا قال "وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا" أي مستقرا ومحصرا وسجنا لا محيد لهم عنه وقال ابن عباس: حصيرا أي سجنا وقال مجاهد: يحصرون فيها وكذا قال غيره وقال الحسن فراشا ومهادا وقال قتادة قد عاد بنو إسرائيل فسلط الله عليهم هذا الحي محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون.
﴿فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكم ولِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ ﴿عَسى رَبُّكم أنْ يَرْحَمَكم وإنْ عُدْتُمْ عُدْنا وجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا﴾ تَفْرِيعٌ عَلى قَوْلِهِ وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها؛ إذْ تَقْدِيرُ الكَلامِ فَإذا أسَأْتُمْ وجاءَ وعْدُ المَرَّةِ الآخِرَةِ. وقَدْ حَصَلَ بِهَذا التَّفْرِيعِ إيجازٌ بَدِيعٌ قَضاءً لِحَقِّ التَّقْسِيمِ الأوَّلِ في قَوْلِهِ فَإذا جاءَ وعْدُ أُولاهُما، ولِحَقِّ إفادَةِ تَرَتُّبِ مَجِيءِ وعْدِ الآخِرَةِ عَلى الإساءَةِ، ولَوْ عُطِفَ بِالواوِ كَما هو مُقْتَضى ظاهِرِ التَّقْسِيمِ إلى مَرَّتَيْنِ فاتَتْ إفادَةُ التَّرَتُّبِ والتَّفَرُّعِ. و(الآخِرَةِ) صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ مَرَّتَيْنِ. أيْ وعْدُ المَرَّةِ الآخِرَةِ. وهَذا الكَلامُ مِن بَقِيَّةِ ما قُضِيَ في الكِتابِ بِدَلِيلِ تَفْرِيعِهِ بِالفاءِ. (p-٣٦)والآخِرَةُ ضِدُّ الأُولى. ولاماتُ لِيَسُوءُوا، ولِيَدْخُلُوا، ولِيُتَبِّرُوا لِلتَّعْلِيلِ، ولَيْسَتْ لِلْأمْرِ؛ لِاتِّفاقِ القِراءاتِ المَشْهُورَةِ عَلى كَسْرِ اللّامَيْنِ الثّانِي والثّالِثِ، ولَوْ كانا لامَيْ أمْرٍ لَكانا ساكِنَيْنِ بَعْدَ واوِ العَطْفِ، فَيَتَعَيَّنُ أنَّ اللّامَ الأُولى لامُ أمْرٍ لا لامُ جَرٍّ، والتَّقْدِيرُ: فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ بَعَثْنا عِبادًا لَنا لِيَسُوءُوا وُجُوهَكم إلَخْ. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وحَفْصٌ، وأبُو جَعْفَرٍ، ويَعْقُوبُ لِيَسُوءُوا بِضَمِيرِ الجَمْعِ مِثْلَ أخَواتِهِ الأفْعالِ الأرْبَعَةِ، والضَّمائِرُ راجِعَةٌ إلى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ لامُ التَّعْلِيلِ في قَوْلِهِ لِيَسُوءُوا إذْ هو مُتَعَلِّقٌ بِما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ في ﴿وعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا﴾ [الإسراء: ٥]، فالتَّقْدِيرُ: فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ بَعَثْنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا لِيَسُوءُوا وُجُوهَكم، ولَيْسَتْ عائِدَةً إلى قَوْلِهِ عِبادًا لَنا المُصَرَّحِ بِهِ في قَوْلِهِ فَإذا جاءَ وعْدُ أُولاهُما بَعَثَنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ؛ لِأنَّ الَّذِينَ أساءُوا، ودَخَلُوا المَسْجِدَ هَذِهِ المَرَّةَ أُمَّةٌ غَيْرُ الَّذِينَ جاسُوا خِلالَ الدِّيارِ حَسَبِ شَهادَةِ التّارِيخِ، وأقْوالِ المُفَسِّرِينَ كَما سَيَأْتِي. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ، وخَلَفٍ (لِيَسُوءَ) بِالإفْرادِ، والضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعالى، وقَرَأ الكِسائِيُّ (لِنَسُوءَ) بِنُونِ العَظَمَةِ، وتَوْجِيهُ هاتَيْنِ القِراءَتَيْنِ مِن جِهَةِ مُوافَقَةِ رَسْمِ المُصْحَفِ أنَّ الهَمْزَةَ المَفْتُوحَةَ بَعْدَ الواوِ قَدْ تُرْسَمُ بِصُورَةِ ألْفٍ، فالرَّسْمُ يَسْمَحُ بِقِراءَةِ واوِ الجَماعَةِ عَلى أنْ يَكُونَ الألِفُ ألِفَ الفَرْقِ وبِقِراءَتَيِ الإفْرادِ عَلى أنَّ الألِفَ عَلامَةُ الهَمْزَةِ. وضَمِيرا (لِيَسُوءُوا) و(لِيُدْخِلُوا) عائِدانِ إلى عِبادًا لَنا بِاعْتِبارِ لَفْظِهِ لا بِاعْتِبارِ ماصَدَقِ المَعادِ، عَلى نَحْوِ قَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ، أيْ نِصْفُ صاحِبِ اسْمِ دِرْهَمٍ، وذَلِكَ تَعْوِيلٌ عَلى القَرِينَةِ لِاقْتِضاءِ السِّياقِ بُعْدَ الزَّمَنِ بَيْنَ المَرَّتَيْنِ: فَكانَ هَذا الإضْمارُ مِنَ الإيجازِ. (p-٣٧)وضَمِيرُ (﴿كَما دَخَلُوهُ﴾) عائِدٌ إلى العِبادِ المَذْكُورِ في ذِكْرِ المَرَّةِ الأُولى بِقَرِينَةِ اقْتِضاءِ المَعْنى مَراجِعَ الضَّمائِرِ كَقَوْلِهِ تَعالى وأثارُوا الأرْضَ وعَمَرُوها أكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها. وقَوْلُ عَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ: ؎عُدْنا ولَوْلا نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعُهم بِالمُسْلِمِينَ وأحْرَزُوا ما جَمَعُوا فالسِّياقُ دالٌّ عَلى مَعادِ (أحْرَزُوا) ومَعادِ (جَمَعُوا) . وسَوْءُ الوُجُوهِ: جَعْلُ المَساءَةِ عَلَيْها، أيْ تَسْلِيطُ أسْبابِ المَساءَةِ والكَآبَةِ عَلَيْكم حَتّى تَبْدُوَ عَلى وُجُوهِكم؛ لِأنَّ ما يُخالِجُ الإنْسانَ مِن غَمٍّ وحُزْنٍ، أوْ فَرَحٍ ومَسَرَّةٍ يَظْهَرُ أثَرُهُ عَلى الوَجْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الجَسَدِ، كَقَوْلِ الأعْشى: ؎وأُقْدِمُ إذا ما أعْيُنُ النّاسِ تَفْرَقُ أرادَ إذا ما تَفَرَّقَ النّاسُ، وتَظْهَرُ عَلاماتُ الفَرَقِ في أعْيُنِهِمْ. ودُخُولُ المَسْجِدِ دُخُولُ غَزْوٍ بِقَرِينَةِ التَّشْبِيهِ في قَوْلِهِ كَما دَخَلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ المُرادُ مِنهُ قَوْلُهُ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ. والتَّتْبِيرُ: الإهْلاكُ والإفْسادُ. و(﴿ما عَلَوْا﴾) مَوْصُولُ هو مَفْعُولُ يُتَبِّرُوا، وعائِدُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ؛ لِأنَّهُ مُتَّصِلٌ مَنصُوبٌ، والتَّقْدِيرُ: ما عَلَوْهُ، والعُلُوُّ عُلُوٌّ مَجازِيٌّ، وهو الِاسْتِيلاءُ والغَلَبُ. ولَمْ يَعِدْهُمُ اللَّهُ في هَذِهِ المَرَّةِ إلّا بِتَوَقُّعِ الرَّحْمَةِ دُونَ رَدِّ الكَرَّةِ، فَكانَ إيماءً إلى أنَّهم لا مِلْكَ لَهم بَعْدَ هَذِهِ المَرَّةِ، وبِهَذا تَبَيَّنَ أنَّ المُشارَ إلَيْهِ بِهَذِهِ المَرَّةِ الآخِرَةِ هو ما اقْتَرَفَهُ اليَهُودُ مِنَ المَفاسِدِ والتَّمَرُّدِ، وقَتْلِ الأنْبِياءِ، والصّالِحِينَ، والِاعْتِداءِ عَلى عِيسى وأتْباعِهِ، وقَدْ أنْذَرَهُمُ النَّبِيءُ (مَلّاخِي) في الإصْحاحَيْنِ الثّالِثِ والرّابِعِ مِن كِتابِهِ، وأنْذَرَهم زَكَرِيّاءُ، ويَحْيى، وعِيسى فَلَمْ يَرْعَوُوا؛ فَضَرَبَهُمُ اللَّهُ الضَّرْبَةَ القاضِيَةَ بِيَدِ الرُّومانِ. (p-٣٨)وبَيانُ ذَلِكَ: أنَّ اليَهُودَ بَعْدَ أنْ عادُوا إلى أُورْشَلِيمَ، وجَدَّدُوا مُلْكَهم ومَسْجِدَهم في زَمَنِ دارِيُوسَ، وأُطْلِقَ لَهُمُ التَّصَرُّفُ في بِلادِهِمُ الَّتِي غَلَبَهم عَلَيْها البابِلِيُّونَ، وكانُوا تَحْتَ نُفُوذِ مَمْلَكَةِ فارِسَ، فَمَكَثُوا عَلى ذَلِكَ مِائَتَيْ سَنَةٍ مِن سَنَةِ ٥٣٠ إلى سَنَةِ ٣٣٠ قَبْلَ المَسِيحِ، ثُمَّ أخَذَ مُلْكُهم في الِانْحِلالِ بِهُجُومِ البَطالِسَةِ مُلُوكِ مِصْرَ عَلى أُورْشَلِيمَ؛ فَصارُوا تَحْتَ سُلْطانِهِمْ إلى سَنَةِ ١٦٦ قَبْلَ المَسِيحِ، إذْ قامَ قائِدٌ مِن إسْرائِيلَ اسْمُهُ (مِيثِيا) وكانَ مِنَ اللّاوِيِّينَ، فانْتَصَرَ لِلْيَهُودِ، وتَوَلّى الأمْرَ عَلَيْهِمْ، وتَسَلْسَلَ المُلْكُ بَعْدَهُ في أبْنائِهِ في زَمَنٍ مَلِيءٍ بِالفِتَنِ إلى سَنَةِ أرْبَعِينَ قَبْلَ المَسِيحِ، دَخَلَتِ المَمْلَكَةَ تَحْتَ نُفُوذِ الرُّومانِيِّينَ، وأقامُوا عَلَيْها أُمَراءَ مِنَ اليَهُودِ كانَ أشْهَرُهم (هِيرُودُسَ) ثُمَّ تَمَرَّدُوا لِلْخُرُوجِ عَلى الرُّومانِيِّينَ، فَأرْسَلَ قَيْصَرُ رُومِيَّةَ القائِدَ سِيسِيانُوسَ مَعَ ابْنِهِ القائِدِ طِيطُوسَ بِالجُيُوشِ في حُدُودِ سَنَةِ أرْبَعِينَ بَعْدَ المَسِيحِ فَخَرُبَتْ أُورْشَلِيمُ واحْتَرَقَ المَسْجِدُ، وأسَرَ طِيطُوسُ نَيِّفًا وتِسْعِينَ ألْفًا مِنَ اليَهُودِ، وقَتَلَ مِنَ اليَهُودِ في تِلْكَ الحُرُوبِ نَحْوَ ألْفِ ألْفٍ، ثُمَّ اسْتَعادُوا المَدِينَةَ، وبَقِيَ مِنهم شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ بِها إلى أنْ وافاهُمُ الإمْبِراطُورُ الرُّومانِيُّ أدْرِيانُوسُ، فَهَدَمَها، وخَرَّبَها، ورَمى قَناطِيرَ المِلْحِ عَلى أرْضِها؛ كَيْلا تَعُودَ صالِحَةً لِلزِّراعَةِ، وذَلِكَ سَنَةَ ١٣٥ لِلْمَسِيحِ، وبِذَلِكَ انْتَهى أمْرُ اليَهُودِ وانْقَرَضَ، وتَفَرَّقُوا في الأرْضِ ولَمْ تَخْرُجْ أُورْشَلِيمُ مِن حُكْمِ الرُّومانِ إلّا حِينَ فَتَحَها المُسْلِمُونَ في زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ سَنَةَ ١٦ صُلْحًا مَعَ أهْلِها، وهي تُسَمّى يَوْمَئِذٍ إيلِياءُ. وقَوْلُهُ: (﴿وإنْ عُدْتُمْ عُدْنا﴾) يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الواوُ عاطِفَةً عَلى جُمْلَةِ (﴿عَسى رَبُّكم أنْ يَرْحَمَكُمْ﴾) عَطْفَ التَّرْهِيبِ عَلى التَّرْغِيبِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ، والمَعْنى: بَعْدَ أنْ يَرْحَمَكم رَبُّكم، ويُؤَمِّنَكم في البِلادِ الَّتِي تَلْجَئُونَ إلَيْها، إنْ عُدْتُمْ إلى الإفْسادِ عُدْنا إلى عِقابِكم، أيْ عُدْنا لِمِثْلِ ما تَقَدَّمَ مِن عِقابِ الدُّنْيا. (p-٣٩)وجُمْلَةُ (﴿وجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا﴾) عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿عَسى رَبُّكم أنْ يَرْحَمَكُمْ﴾)؛ لِإفادَةِ أنَّ ما ذُكِرَ قَبْلَهُ مِن عِقابٍ إنَّما هو عِقابٌ دُنْيَوِيٌّ، وأنَّ وراءَهُ عِقابَ الآخِرَةِ. وفِيهِ مَعْنى التَّذْيِيلِ؛ لِأنَّ التَّعْرِيفَ في الكافِرِينَ يَعُمُّ المُخاطَبِينَ وغَيْرَهم، ويُومِئُ هَذا إلى أنَّ عِقابَهم في الدُّنْيا لَيْسَ مَقْصُورًا عَلى ذُنُوبِ الكُفْرِ، بَلْ هو مَنُوطٌ بِالإفْسادِ في الأرْضِ وتَعَدِّي حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وأمّا الكُفْرُ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ فَقَدْ حَصَلَ في المَرَّةِ الآخِرَةِ فَإنَّهم كَذَّبُوا عِيسى، وأمّا في المَرَّةِ الأُولى فَلَمْ تَأْتِهِمْ رُسُلٌ، ولَكِنَّهم قَتَلُوا الأنْبِياءَ مِثْلَ أشْعِياءَ، وأرْمِياءَ، وقَتْلُ الأنْبِياءِ كُفْرٌ. والحَصِيرُ: المَكانُ الَّذِي يُحْصَرُ فِيهِ فَلا يُسْتَطاعُ الخُرُوجُ مِنهُ، فَهو إمّا فَعِيلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ، وإمّا بِمَعْنى مَفْعُولٍ عَلى تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقٍ، أيْ مَحْصُورٍ فِيهِ.