ركن التفسير
80 - (وقل رب أدخلني) المدينة (مدخل صدق) إدخالا مرضيا لا أرى فيه ما أكره (وأخرجني) من مكة (مخرج صدق) إخراجا لا ألتفت بقلبي إليها (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) قوة تنصرني بها على أعدائك
قال الإمام أحمد: حدثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة فأنزل الله "وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا" وقال الترمذي: حسن صحيح وقال الحسن البصري في تفسير هذه الآية: إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه فأراد الله قتال أهل مكة أمره أن يخرج إلى المدينة فهو الذي قال الله عز وجل "وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق" الآية وقال قتادة "وقل رب أدخلني مدخل صدق" يعني المدينة "وأخرجني مخرج صدق" يعني مكة وكذا قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وهذا القول هو أشهر الأقوال وقال العوفي عن ابن عباس: "أدخلني مدخل صدق" يعني الموت "وأخرجني مخرج صدق" يعني الحياة بعد الموت وقيل غير ذلك من الأقوال والأول أصح وهو اختيار ابن جرير. وقوله: "واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا" قال الحـسن البصري في تفسيرها: وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس وليجعلنه له وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له وقال قتادة فيها: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله ولحدود الله ولفرائض الله ولإقامة دين الله فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم قال مجاهد: "سلطانا نصيرا" حجة بينة واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة وهو الأرجح لأنه لابد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه ولهذا يقول تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات - إلى قوله - وأنزلنا الحديد" الآية. وفي الحديث "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد وهذا هو الواقع.
﴿وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَلْ لِي مِن لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا﴾ لَمّا أمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِالشُّكْرِ الفِعْلِيِّ عَطَفَ عَلَيْهِ الأمْرَ بِالشُّكْرِ اللِّسانِيِّ بِأنْ يَبْتَهِلَ إلى اللَّهِ بِسُؤالِ التَّوْفِيقِ في الخُرُوجِ مِن مَكانٍ، والدُّخُولِ إلى مَكانٍ؛ كَيْلا يَضُرَّهُ أنْ يَسْتَفِزَّهُ أعْداؤُهُ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوهُ مِنها، مَعَ ما فِيهِ مِن المُناسَبَةِ لِقَوْلِهِ ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: ٧٩]، فَلَمّا وعَدَهُ بِأنْ يُقِيمَهُ مَقامًا مَحْمُودًا ناسَبَ أنْ يَسْألَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حالَهُ في كُلِّ مَقامٍ يَقُومُهُ، وفي هَذا التَّلْقِينِ إشارَةٌ إلَهِيَّةٌ أنَّ اللَّهَ تَعالى مُخْرِجُهُ مِن مَكَّةَ إلى مُهاجَرٍ، والظّاهِرُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ قُبَيْلَ العَقَبَةِ الأُولى الَّتِي كانَتْ مُقَدِّمَةً لِلْهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ. والمُدْخَلُ والمُخْرَجُ بِضَمِّ المِيمِ وبِفَتْحِ الحَرْفِ الثّالِثِ أصْلُهُ اسْمُ مَكانِ الإدْخالِ والإخْراجِ، اخْتِيرَ هُنا الِاسْمُ المُشْتَقُّ مِنَ الفِعْلِ المُتَعَدِّي لِلْإشارَةِ إلى أنَّ المَطْلُوبَ دُخُولٌ وخُرُوجٌ مُيَسَّرانِ مِنَ اللَّهِ تَعالى وواقِعانِ بِإذْنِهِ، وذَلِكَ دُعاءٌ بِكُلِّ دُخُولٍ وخُرُوجٍ مُبارَكَيْنِ؛ لِتَتِمَّ بَيْنَ المَسْئُولِ وبَيْنَ المَوْعُودِ بِهِ وهو المَقامُ المَحْمُودُ، وهَذا السُّؤالُ يَعُمُّ كُلَّ مَكانٍ يَدْخُلُ إلَيْهِ، ومَكانٍ يَخْرُجُ مِنهُ. والصِّدْقُ: هُنا المَكانُ وما يُحْمَدُ في نَوْعِهِ؛ لِأنَّ ما لَيْسَ بِمَحْمُودٍ فَهو كالكاذِبِ؛ لِأنَّهُ يُخْلِفُ ظَنَّ المُتَلَبِّسِ بِهِ. وقَدْ عَمَّتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ جَمِيعَ المَداخِلِ إلى ما يُقَدَّرُ لَهُ الدُّخُولُ إلَيْهِ وجَمِيعَ المَخارِجِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنها حَقِيقَةً أوْ مَجازًا، وعَطَفَ عَلَيْهِ سُؤالَ التَّأْيِيدِ (p-١٨٧)والنَّصْرِ في تِلْكَ المَداخِلِ والمَخارِجِ وغَيْرِها مِن الأقْطارِ النّائِيَةِ والأعْمالِ القائِمِ بِها غَيْرُهُ مِن أتْباعِهِ وأعْدائِهِ بِنَصْرِ أتْباعِهِ وخَذْلِ أعْدائِهِ. فالسُّلْطانُ: اسْمُ مَصْدَرٍ يُطْلَقُ عَلى السُّلْطَةِ، وعَلى الحُجَّةِ، وعَلى المُلْكِ، وهو في هَذا المَقامِ كَلِمَةٌ جامِعَةٌ، عَلى طَرِيقَةِ اسْتِعْمالِ المُشْتَرَكِ في مَعانِيهِ أوْ هو مِن عُمُومِ المُشْتَرَكِ، تَشْمَلُ أنْ يَجْعَلَ لَهُ اللَّهُ تَأْيِيدًا وحُجَّةً وغَلَبَةً ومُلْكًا عَظِيمًا، وقَدْ آتاهُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَنَصَرَهُ عَلى أعْدائِهِ، وسَخَّرَ لَهُ مَن لَمْ يُنَوِّهْ بِنُهُوضِ الحُجَّةِ وظُهُورِ دَلائِلِ الصِّدْقِ، ونَصْرِهِ بِالرُّعْبِ. ومِنهم مَن فَسَّرَ المُدْخَلَ بِأنَّ المُخْرَجَ الإخْراجُ إلى فَتْحِ مَكَّةَ والمُدْخَلَ الإدْخالُ إلى بَلَدِ مَكَّةَ فاتِحًا، وجَعَلَ الآيَةَ نازِلَةً قُبَيْلَ الفَتْحِ، فَبَنى عَلَيْهِ أنَّها مَدَنِيَّةٌ، وهو مَدْخُولٌ مِن جِهاتٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ السُّورَةَ كُلَّها مَكِّيَّةٌ عَلى الصَّحِيحِ. والنَّصِيرُ: مُبالَغَةٌ في النّاصِرِ، أيْ سُلْطانًا يَنْصُرُنِي، وإذا قَدْ كانَ العَمَلُ القائِمُ بِهِ النَّبِيءُ هو الدَّعْوَةَ إلى الإسْلامِ كانَ نَصْرُهُ تَأْيِيدًا لَهُ فِيما هو قائِمٌ بِهِ، فَصارَ هَذا الوَصْفُ تَقْيِيدًا لِلسُّلْطانِ بِأنَّهُ لَمْ يَسْألْ سُلْطانًا لِلِاسْتِعْلاءِ عَلى النّاسِ، وإنَّما سَألَ سُلْطانًا لِنَصْرِهِ فِيما يَطْلُبُ النُّصْرَةَ، وهو التَّبْلِيغُ وبَثُّ الإسْلامِ في النّاسِ.