ركن التفسير
91 - (أو تكون لك جنة) بستان (من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها) وسطها (تفجيرا)
قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري أخا بني أسد والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبدالله بن علي وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا يا محمد: إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي ـ فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتي يحكم الله بيني وبينكم" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما فقالوا يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول فقال حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتي يحكم الله بيني وبينكم" قالوا فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وتسأله فيجعل لك جنات وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتي يحكم الله بيني وبينكم" قالوا فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك" فقالوا يا محمد أما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لانتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا وقال قائلهم نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله وقال قائلهم لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقام معه عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر ابن مخزوم وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبدالمطلب فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فوالله لا أومن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه وهكذا رواه زياد بن عبدالله البكائي عن ابن إسحاق حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس فذكر مثله سواء. وهذا المجلس الذي اجتمع هؤلاء له لو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشادا لأجيبوا إليه ولكن علم أنهم إنما يطلبون ذلك كفرا وعنادا فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناهم ما سألوا فإن كفروا عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة. فقال "بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة" كما تقدم ذلك في حديثي ابن عباس والزبير بن العوام أيضا عند قوله تعالي "وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا". وقال تعالى "وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا" وقوله تعالي "حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا" الينبوع: العين الجارية سألوه أن يجري لهم عينا معينا في أرض الحجاز ههنا وههنا وذلك سهل على الله تعالى يسير لو شاء لفعله ولأجابهم إلى جميع ما سألوا وطلبوا ولكن علم أنهم لا يهتدون كما قال تعالى "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم" وقال تعالى "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا وما كانوا ليؤمنوا" الآية.
(p-٢٠٦)﴿وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تُفَجِّرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ ﴿أوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا﴾ ﴿أوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ والمَلائِكَةِ قَبِيلًا﴾ ﴿أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ أوْ تَرْقى في السَّماءِ ولَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ . عَطَفَ جُمْلَةَ وقالُوا عَلى جُمْلَةِ ﴿فَأبى الظّالِمُونَ إلّا كُفُورًا﴾ [الإسراء: ٩٩]، أيْ كَفَرُوا بِالقُرْآنِ وطَلَبُوا بِمُعْجِزاتٍ أُخْرى. وضَمِيرُ الجَمْعِ عائِدٌ إلى أكْثَرِ النّاسِ الَّذِينَ أبَوْا إلّا كُفُورًا، بِاعْتِبارِ صُدُورِ هَذا القَوْلِ بَيْنَهم، وهم راضُونَ بِهِ، ومُتَمالِئُونَ عَلَيْهِ مَتى عَلِمُوهُ، فَلا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم قالَ هَذا القَوْلَ كُلَّهُ بَلْ يَكُونُ بَعْضُهم قائِلًا جَمِيعَهُ أوْ بَعْضُهم قائِلًا بَعْضَهُ. ولَمّا اشْتَمَلَ قَوْلُهم عَلى ضَمائِرِ الخِطابِ تَعَيَّنَ أنَّ بَعْضَهم خاطَبَ بِهِ النَّبِيءَ ﷺ مُباشَرَةً؛ إمّا في مَقامٍ واحِدٍ، وإمّا في مَقاماتٍ، وقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحاقَ: أنّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وأبا سُفْيانَ بْنَ حَرْبٍ، والأسْوَدَ بْنَ المُطَّلِبِ، وزَمَعَةَ بْنَ الأسْوَدِ، والوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ، وأبا جَهْلِ بْنَ هِشامٍ، وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبِي أُمَيَّةَ، وأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وناسًا مَعَهُمُ اجْتَمَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ الكَعْبَةِ، وبَعَثُوا إلى النَّبِيءِ ﷺ أنْ (p-٢٠٧)يَأْتِيَهم؛ فَأسْرَعَ إلَيْهِمْ حِرْصًا عَلى هُداهم، فَعاتَبُوهُ عَلى تَسْفِيهِ أحْلامِهِمْ والطَّعْنِ في دِينِهِمْ، وعَرَضُوا عَلَيْهِ ما يَشاءُ مِن مالٍ أوْ تَسْوِيدٍ، وأجابَهم بِأنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إلَيْهِمْ لا يَنْبَغِي غَيْرُ نُصْحِهِمْ، فَلَمّا رَأوْا مِنهُ الثَّباتَ انْتَقَلُوا إلى طَلَبِ بَعْضِ ما حَكاهُ اللَّهُ عَنْهم في هَذِهِ الآيَةِ. ورُوِي أنَّ الَّذِي سَألَ ما حُكِيَ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿أوْ تَرْقى في السَّماءِ﴾ إلى آخِرِهِ، هو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي أُمَيَّةَ المَخْزُومِيُّ، وحَكى اللَّهُ امْتِناعَهم عَنِ الإيمانِ بِحَرْفِ (لَنِ) المُفِيدِ لِلتَّأْيِيدِ؛ لِأنَّهم كَذَلِكَ قالُوهُ. والمُرادُ بِالأرْضِ: أرْضُ مَكَّةَ، فالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، ووَجْهُ تَخْصِيصِها أنَّ أرْضَها قَلِيلَةُ المِياهِ، بَعِيدَةٌ عَنِ الجَنّاتِ. والتَّفْجِيرُ: مَصْدَرُ فَجَّرَ - بِالتَّشْدِيدِ - مُبالَغَةً في الفَجْرِ، وهو الشَّقُّ بِاتِّساعٍ، ومِنهُ سُمِّيَ فَجْرُ الصَّباحِ فَجْرًا؛ لِأنَّ الضَّوْءَ يَشُقُّ الظُّلْمَةَ شَقًّا طَوِيلًا عَرِيضًا، فالتَّفْجِيرُ أشَدُّ مِن مُطْلَقِ الفَجْرِ، وهو تَشْقِيقٌ شَدِيدٌ بِاعْتِبارِ اتِّساعِهِ، ولِذَلِكَ ناسَبَ اليَنْبُوعَ هُنا، والنَّهَرُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا﴾ [الكهف: ٣٣] وقَوْلِهِ ﴿فَتُفَجِّرَ الأنْهارَ﴾ . وقَرَأهُ الجُمْهُورُ بِضَمِّ التّاءِ وتَشْدِيدِ الجِيمِ عَلى أنَّهُ مُضارِعُ (فَجَّرَ) المُضاعَفِ، وقَرَأهُ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ بِفَتْحِ التّاءِ، وسُكُونِ الفاءِ، وضَمِّ الجِيمِ مُخَفَّفَةً، عَلى أنَّهُ مُضارِعُ ”فَجَرَ“ كَنَصَرَ، فَلا التِفاتَ فِيها لِلْمُبالَغَةِ؛ لِأنَّ اليَنْبُوعَ يَدُلُّ عَلى المَقْصُودِ، أوْ يُعَبِّرُ عَنْ مُخْتَلِفِ أقْوالِهِمُ الدّالَّةِ عَلى التَّصْمِيمِ في الِامْتِناعِ. ومَعْنى ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ لَنْ نُصَدِّقَكَ أنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ إلَيْنا. والإيمانُ: التَّصْدِيقُ، يُقالُ: آمَنَهُ، أيْ صَدَّقَهُ، وكَثُرَ أنْ يُعَدّى إلى (p-٢٠٨)المَفْعُولِ بِاللّامِ، قالَ تَعالى ﴿وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا﴾ [يوسف: ١٧] وقالَ ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ [العنكبوت: ٢٦]، وهَذِهِ اللّامُ مِن قَبِيلِ ما سَمّاهُ في (مُغْنِي اللَّبِيبِ) لامَ التَّبْيِينِ، وغَفَلَ عَنِ التَّمْثِيلِ لَها بِهَذِهِ الآيَةِ ونَحْوِها، فَإنَّ مَجْرُورَ اللّامِ بَعْدَ فِعْلِ ”نُؤْمِنُ“ مَفْعُولٌ لا التِباسَ لَهُ بِالفاعِلِ، وإنَّما تُذْكَرُ اللّامُ؛ لِزِيادَةِ البَيانِ والتَّوْكِيدِ، وقَدْ يُقالُ: إنَّها لِدَفْعِ التِباسِ مَفْعُولِ فِعْلِ (آمَنَ) بِمَعْنى صَدَّقَ بِمَفْعُولِ فِعْلِ (آمَنَ) إذا جَعَلَهُ أمِينًا، وتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَما آمَنَ لِمُوسى إلّا ذُرِّيَّةٌ مِن قَوْمِهِ﴾ [يونس: ٨٣] في سُورَةِ يُونُسَ. واليَنْبُوعُ: اسْمٌ لِلْعَيْنِ الكَثِيرَةِ النَّبْعِ الَّتِي لا يَنْضُبُ ماؤُها، وصِيغَةُ ”يَفْعُولٍ“ صِيغَةُ مُبالَغَةٍ غَيْرُ قِياسِيَّةٍ، واليَنْبُوعُ مُشْتَقَّةٌ مِن مادَّةِ النَّبْعِ، غَيْرَ أنَّ الأسْماءَ الوارِدَةَ عَلى هَذِهِ الصِّيغَةِ مُخْتَلِفَةٌ، فَبَعْضُها ظاهِرٌ اشْتِقاقُهُ كاليَنْبُوعِ واليَنْبُوتِ، وبَعْضُها خَفِيٌّ كاليَعْبُوبِ لِلْفَرَسِ الكَثِيرِ الجَرْيِ، وقِيلَ: اشْتُقَّ مِنَ العَبِّ المَجازِيِّ، ومِنهُ أسْماءٌ مُعَرَّبَةٌ جاءَ تَعْرِيبُها عَلى وزْنِ ”يَفْعُولٍ“ مِثْلَ: يَكْسُومَ، اسْمِ قائِدٍ حَبَشِيٍّ، ويَرْمُوكَ اسْمِ نَهْرٍ، وقَدِ اسْتَقْرى الحَسَنُ الصّاغانِيُّ ما جاءَ مِنَ الكَلِماتِ في العَرَبِيَّةِ عَلى وزْنِ ”يَفْعُولٍ“ في مُخْتَصَرٍ لَهُ مُرَتَّبٍ عَلى حُرُوفِ العَجَمِ، وقالَ السُّيُوطِيُّ في المُزْهِرِ: إنَّ ابْنَ دُرَيْدٍ عَقَدَ لَهُ في الجَمْهَرَةِ بابًا. والجَنَّةُ، والنَّخِيلُ، والعِنَبُ، والأنْهارُ تَقَدَّمَتْ في قَوْلِهِ ﴿أيَوَدُّ أحَدُكم أنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وأعْنابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ [البقرة: ٢٦٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وخَصُّوا هَذِهِ الجَنَّةَ بِأنْ تَكُونَ لَهُ؛ لِأنَّ شَأْنَ الجَنَّةِ أنْ تَكُونَ خاصَّةً لِمِلْكِ واحِدٍ مُعَيَّنٍ، فَأرَوْهُ أنَّهم لا يَبْتَغُونَ مِن هَذا الِاقْتِراحِ نَفْعَ أنْفُسِهِمْ، ولَكِنَّهم يَبْتَغُونَ حُصُولَهُ، ولَوْ كانَ لِفائِدَةِ المُقْتَرَحِ عَلَيْهِ، والمُقْتَرَحُ هو تَفْجِيرُ الماءِ في الأرْضِ القاحِلَةِ، وإنَّما ذَكَرُوا وُجُودَ الجَنَّةِ؛ تَمْهِيدًا لِتَفْجِيرِ أنْهارٍ خِلالَها، فَكَأنَّهم قالُوا: حَتّى تُفَجِّرَ لَنا يَنْبُوعًا يَسْقِي النّاسَ كُلَّهم، أوْ تُفَجِّرَ أنْهارًا تَسْقِي جَنَّةً واحِدَةً، تَكُونُ تِلْكَ الجَنَّةُ وأنْهارُها لَكَ، فَنَحْنُ مُقْتَنِعُونَ بِحُصُولِ ذَلِكَ لا بُغْيَةَ الِانْتِفاعِ مِنهُ، وهَذا كَقَوْلِهِمْ: ﴿أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ﴾ . (p-٢٠٩)وذَكَرَ المَفْعُولَ المُطْلَقَ بِقَوْلِهِ ”تَفْجِيرًا“ لِلدَّلالَةِ عَلى التَّكْثِيرِ؛ لِأنَّ ”تُفَجِّرَ“ قَدْ كَفى في الدَّلالَةِ عَلى المُبالَغَةِ في الفَجْرِ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ الإتْيانُ بِمَفْعُولِهِ المُطْلَقِ لِلْمُبالَغَةِ في العَدَدِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ونَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء: ١٠٦]، وهو المُناسِبُ لِقَوْلِهِ خِلالَها؛ لِأنَّ الجَنَّةَ تَتَخَلَّلُها شُعَبُ النَّهْرِ لِسَقْيِ الأشْجارِ، فَجَمَعَ الأنْهارَ بِاعْتِبارِ تَشَعُّبِ ماءِ النَّهْرِ إلى شُعَبٍ عَدِيدَةٍ، ويَدُلُّ لِهَذا المَعْنى إجْماعُ القُرّاءِ عَلى قِراءَةِ ”فَتُفَجِّرَ“ هُنا بِالتَّشْدِيدِ مَعَ اخْتِلافِهِمْ في الَّذِي قَبْلَهُ، وهَذا مِن لَطائِفِ مَعانِي القِراءاتِ المَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ، فَهي مِن أفانِينِ إعْجازِ القُرْآنِ. وقَوْلُهم ﴿أوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا﴾ انْتِقالٌ مِن تَحَدِّيهِ بِخَوارِقَ فِيها مَنافِعُ لَهم إلى تَحَدِّيهِ بِخَوارِقَ فِيها مَضَرَّتُهم، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ التَّوْسِيعَ عَلَيْهِ، أيْ فَلْيَأْتِهِمْ بِآيَةٍ عَلى ذَلِكَ ولَوْ في مَضَرَّتِهِمْ، وهَذا حِكايَةٌ لِقَوْلِهِمْ كَما قالُوا، ولَعَلَّهم أرادُوا بِهِ الإغْراقَ في التَّعْجِيبِ مِن ذَلِكَ، فَجَمَعُوا بَيْنَ جَعْلِ الإسْقاطِ لِنَفْسِ السَّماءِ، وعَزَّزُوا تَعْجِيبَهم بِالجُمْلَةِ المُعْتَرِضَةِ وهي ﴿كَما زَعَمْتَ﴾ إنْباءً بِأنَّ ذَلِكَ لا يُصَدِّقُ بِهِ أحَدٌ، وعَنَوْا بِهِ قَوْلَهُ تَعالى ﴿إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّماءِ﴾ [سبإ: ٩] وبِقَوْلِهِ ﴿وإنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّماءِ ساقِطًا يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ﴾ [الطور: ٤٤]، إذْ هو تَهْدِيدٌ لَهم بِأشْراطِ السّاعَةِ، وإشْرافِهِمْ عَلى الحِسابِ، وجَعَلُوا (مِن) في قَوْلِهِ تَعالى ﴿كِسْفًا مِنَ السَّماءِ﴾ [الطور: ٤٤] تَبْعِيضِيَّةً، أيْ قِطْعَةً مِنَ الأجْرامِ السَّماوِيَّةِ، فَلِذَلِكَ أبَوْا تَعْدِيَةَ فِعْلِ ”تُسْقِطَ“ إلى ذاتِ السَّماءِ، واعْلَمْ أنَّ هَذا يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ هاتانِ الآيَتانِ أوْ إحْداها نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الإسْراءِ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَبْعَدٍ. والكِسَفُ - بِكَسْرِ الكافِ وفَتْحِ السِّينِ_ جَمْعُ كِسْفَةٍ، وهي القِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ مِثْلُ سِدْرَةٍ وسِدَرٍ، وكَذَلِكَ قَرَأهُ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، وقَرَأهُ الباقُونَ بِسُكُونِ السِّينِ بِمَعْنى المَفْعُولِ، أيِ المَكْسُوفِ بِمَعْنى المَقْطُوعِ. (p-٢١٠)والزَّعْمُ: القَوْلُ المُسْتَبْعَدُ أوِ المُحالُ. والقَبِيلُ: الجَماعَةُ مِن جِنْسٍ واحِدٍ، وهو مَنصُوبٌ عَلى الحالِ مِنَ المَلائِكَةِ، أيْ هم قَبِيلٌ خاصٌّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، كَأنَّهم قالُوا: أوْ تَأْتِيَ بِفَرِيقٍ مِن جِنْسِ المَلائِكَةِ. والزُّخْرُفُ: الذَّهَبُ. وإنَّما عُدِّيَ ﴿تَرْقى في السَّماءِ﴾ بِحَرْفِ (في) الظَّرْفِيَّةِ؛ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ الرُّقِيَّ تَدَرُّجٌ في السَّماواتِ كَمَن يَصْعَدُ في المِرْقاةِ والسُّلَّمِ. ثُمَّ تَفَنَّنُوا في الِاقْتِراحِ فَسَألُوهُ إنْ رَقى أنْ يُرْسِلَ إلَيْهِمْ بِكِتابٍ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ يَقْرَءُونَهُ، فِيهِ شَهادَةٌ بِأنَّهُ بَلَغَ السَّماءَ، قِيلَ: قائِلُ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي أُمَيَّةَ، قالَ: حَتّى تَأْتِيَنا بِكِتابٍ مَعَهُ أرْبَعَةٌ مِنَ المَلائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ. ولَعَلَّهم إنَّما أرادُوا أنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ كِتابًا كامِلًا دُفْعَةً واحِدَةً، فَيَكُونُوا قَدْ ألْحَدُوا بِتَنْجِيمِ القُرْآنِ؛ تَوَهُّمًا بِأنَّ تَنْجِيمَهُ لا يُناسِبُ كَوْنَهُ مُنَزَّلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ؛ لِأنَّ التَّنْجِيمَ عِنْدَهم يَقْتَضِي التَّأمُّلَ والتَّصَنُّعَ في تَأْلِيفِهِ، ولِذَلِكَ يَكْثُرُ في القُرْآنِ بَيانُ حِكْمَةِ تَنْجِيمِهِ. واللّامُ في قَوْلِهِ ﴿لِرُقِيِّكَ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ لامَ التَّبْيِينِ، عَلى أنَّ ”رُقِيَّكَ“ مَفْعُولُ ”نُؤْمِنُ“ مِثْلُ قَوْلُهُ ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ فَيَكُونُ ادِّعاءُ الرُّقِيِّ مَنفِيًّا عَنْهُ التَّصْدِيقُ حَتّى يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتابٌ، ويَجُوزَ أنْ تَكُونَ اللّامُ لامَ العِلَّةِ، ومَفْعُولُ ”نُؤْمِنَ“ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾، والتَّقْدِيرُ: لَنْ نُصَدِّقَكَ لِأجْلِ رُقِيِّكَ، هي ”تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا“ والمَعْنى: أنَّهُ لَوْ رَقى في السَّماءِ لَكَذَّبُوا أعْيُنَهم حَتّى يُرْسِلَ إلَيْهِمْ كِتابًا يَرَوْنَهُ نازِلًا مِنَ السَّماءِ، وهَذا تَوَرُّكٌ مِنهم وتَهَكُّمٌ. ولَمّا كانَ اقْتِراحُهُمُ اقْتِراحَ مُلاجَّةٍ وعِنادٍ؛ أمَرَهُ اللَّهُ بِأنْ يُجِيبَهم بِما يَدُلُّ عَلى التَّعَجُّبِ مِن كَلامِهِمْ بِكَلِمَةِ ﴿سُبْحانَ رَبِّي﴾ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ في التَّعَجُّبِ كَما (p-٢١١)تَقَدَّمَ في طالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ بِالِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ، وصِيغَةِ الحَصْرِ المُقْتَضِيَةِ قَصْرَ نَفْسِهِ عَلى البَشَرِيَّةِ والرِّسالَةِ قَصْرًا إضافِيًّا، أيْ لَسْتُ رَبًّا مُتَصَرِّفًا أخْلُقُ ما يُطْلَبُ مِنِّي، فَكَيْفَ آتِي بِاللَّهِ والمَلائِكَةِ ؟ وكَيْفَ أخْلُقُ في الأرْضِ ما لَمْ يُخْلَقْ فِيها ؟ وقَرَأ الجُمْهُورُ ”قُلْ“ بِصِيغَةِ فِعْلِ الأمْرِ، وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ (قالَ) بِألْفٍ بَعْدَ القافِ بِصِيغَةِ الماضِي، عَلى أنَّهُ حِكايَةٌ لِجَوابِ الرَّسُولِ ﷺ عَنْ قَوْلِهِمْ ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ.