موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الخميس 8 شوال 1445 هجرية الموافق ل18 أبريل 2024


الآية [60] من سورة  

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبْرَحُ حَتَّىٰٓ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُبًا


ركن التفسير

60 - واذكر (وإذ قال موسى) هو ابن عمران (لفتاه) يوشع بن نون كان يتبعه ويخدمه ويأخذ عنه العلم (لا أبرح) لا أزال أسير (حتى أبلغ مجمع البحرين) ملتقى بحر الروم وبحر فارس مما يلي المشرق أي المكان الجامع لذلك (أو أمضي حقبا) دهرا طويلا في بلوغه إن بعد

سبب قول موسى لفتاه وهو يشوع بن نون هذا الكلام أنه ذكر له أن عبدًا من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى فأحب الرحيل إليه وقال لفتاه ذلك " لا أبرح " أي لا أزال سائرًا " حتى أبلغ مجمع البحرين " أي هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين قال الفرزدق: فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ببطحاء ذي قار عياب اللطائم قال قتادة وغير واحد: هما بحر فارس مما يلي المشرق وبحر الروم مما يلي المغرب.وقال محمد بن كعب القرظي مجمع البحرين عند طنجة يعنى في أقصى بلاد المغرب فالله أعلم وقوله " أو أمضي حقبا " أي ولو أني أسير حقبًا من الزمان.قال ابن جرير رحمه الله: ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحقب في لغة قيس سنة ثم قد رُوي عن عبد الله بن عمرو أنه قال الحقب ثمانون سنة وقال مجاهد سبعون خريفًا وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله " أو أمضي حقبا " قال دهرًا وقال قتادة وابن زيد مثل ذلك.

﴿وإذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أبْرَحُ حَتّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أوْ أمْضِيَ حُقُبًا﴾ لَمّا جَرى ذِكْرُ قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ، وأمْرِ اللَّهِ المَلائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وما عَرَضَ لِلشَّيْطانِ مِنَ الكِبْرِ والِاعْتِزازِ بِعُنْصُرِهِ جَهْلًا بِأسْبابِ الفَضائِلِ، ومُكابَرَةً في الِاعْتِرافِ بِها وحَسَدًا في الشَّرَفِ والفَضْلِ، فَضَرَبَ بِذَلِكَ مَثَلًا لِأهْلِ الضَّلالِ عَبِيدِ الهَوى (p-٣٥٩)والكِبْرِ والحَسَدِ، أعْقَبَ تِلْكَ القِصَّةَ بِقِصَّةٍ هي مَثَلٌ في ضِدِّها؛ لِأنَّ تَطَلُّبَ ذِي الفَضْلِ والكَمالِ لِلِازْدِيادِ مِنهُما وسَعْيَهُ لِلظَّفَرِ بِمَن يُبْلِغُهُ الزِّيادَةَ مِنَ الكَمالِ، اعْتِرافًا لِلْفاضِلِ بِفَضِيلَتِهِ، وفي ذَلِكَ إبْداءُ المُقابَلَةِ بَيْنَ الخُلُقَيْنِ، ولِإقامَةِ الحُجَّةِ عَلى المُماثَلَةِ والمُخالَفَةِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ، وفي خِلالِ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ وتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ العِلْمِ والهُدى، وتَرْبِيَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. ولِأنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ ما سَألَ المُشْرِكُونَ، والَّذِينَ أمْلَوْا عَلَيْهِمْ مِن أهْلِ الكِتابِ عَنْ قِصَّتَيْنِ، قِصَّةِ أصْحابِ الكَهْفِ وقِصَّةِ ذِي القَرْنَيْنِ، وقَدْ تَقَضّى الجَوابُ عَنِ القِصَّةِ الأوْلى وما ذُيِّلَتْ بِهِ، وآنَ أنْ يَنْتَقِلَ إلى الجَوابِ عَنِ القِصَّةِ الثّانِيَةِ فَتُخْتَمَ بِذَلِكَ هَذِهِ السُّورَةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ لِبَيانِ القِصَّتَيْنِ، قُدِّمَتْ لِهَذِهِ القِصَّةِ الثّانِيَةِ قِصَّةٌ لَها شَبَهٌ بِها في أنَّها تَطْوافٌ في الأرْضِ لِطَلَبِ نَفْعٍ صالِحٍ، وهي قِصَّةُ سَفَرِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِطَلَبِ لِقاءِ مَن هو عَلى عِلْمٍ لا يَعْلَمُهُ مُوسى، وفي سَوْقِ هَذِهِ القِصَّةِ تَعْرِيضٌ بِأهْلِ الكِتابِ بِأنَّ الأوْلى لَهم أنْ يَدُلُّوا النّاسَ عَلى أخْبارِ أنْبِياءِ إسْرائِيلَ وعَلى سَفَرٍ لِأجْلِ تَحْصِيلِ العِلْمِ والحِكْمَةِ لا سَفَرٍ لِأجْلِ بَسْطِ المُلْكِ والسُّلْطانِ. فَجُمْلَةُ ﴿وإذْ قالَ مُوسى﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ﴾ [الكهف: ٥٠] عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ، والتَّقْدِيرُ: واذْكُرْ إذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ، أيِ اذْكُرْ ذَلِكَ الزَّمَنَ، وما جَرى فِيهِ، وناسَبَها تَقْدِيرُ فِعْلِ ”اذْكُرْ“؛ لِأنَّ في هَذِهِ القِصَّةِ مَوْعِظَةً وذِكْرى كَما في قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ. فانْتُصِبَ (إذْ) عَلى المَفْعُولِيَّةِ بِهِ. والفَتى: الذَّكَرُ الشّابُّ، والأُنْثى فَتاةٌ، وهو مُسْتَعْمَلٌ مَجازًا في التّابِعِ والخادِمِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿تُراوِدُ فَتاها﴾ [يوسف: ٣٠] في سُورَةِ يُوسُفَ. وفَتى مُوسى: خادِمُهُ وتابِعُهُ، فَإضافَةُ الفَتى إلى ضَمِيرِ مُوسى عَلى مَعْنى الِاخْتِصاصِ، كَما يُقالُ: غُلامُهُ، وفَتى مُوسى هو يُوشَعُ بْنُ نُونٍ مِن سِبْطِ (p-٣٦٠)أفْرايمَ، وقَدْ قِيلَ: إنَّهُ ابْنُ أُخْتِ مُوسى، كانَ اسْمُهُ الأصْلِيُّ هُوشَعُ فَدَعاهُ مُوسى حِينَ بَعَثَهُ لِلتَّجَسُّسِ في أرْضِ كَنْعانَ يُوشَعَ، ولَعَلَّ ذَلِكَ التَّغَيُّرَ في الِاسْمِ تَلَطُّفٌ بِهِ، كَما «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأبِي هُرَيْرَةَ يا أبا هِرٍّ»، وفي التَّوْراةِ: أنَّ إبْراهِيمَ كانَ اسْمُهُ أبْرامَ فَلَمّا أمَرَهُ اللَّهُ بِخِصالِ الفِطْرَةِ دَعاهُ إبْراهامَ. ولَعَلَّ هَذِهِ التَّغْيِيراتِ في العِبْرانِيَّةِ تُفِيدُ مَعانِيَ غَيْرَ مَعانِي الأسْماءِ الأُولى، فَتَكُونُ كَما «دَعا النَّبِيءُ ﷺ زيدَ الخَيْلِ زَيْدَ الخَيْرِ» . ويُوشَعُ أحَدُ الرِّجالِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَعَثَهم مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِيَتَجَسَّسُوا في أرْضِ كَنْعانَ في جِهاتِ حَلَبَ وحَبْرُونَ، ويَخْتَبِرُوا بَأْسَ أهْلِها وخَيْراتِ أرْضِها، ومَكَثُوا أرْبَعِينَ يَوْمًا في التَّجَسُّسِ، وهو أحَدُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ شَجَّعا بَنِي إسْرائِيلَ عَلى دُخُولِ أرْضِ كَنْعانَ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُما القُرْآنُ في آيَةِ ﴿قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِما ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ فَإذا دَخَلْتُمُوهُ فَإنَّكم غالِبُونَ﴾ [المائدة: ٢٣] . كانَ مِيلادُ يُوشَعَ في حُدُودِ سَنَةِ ١٤٦٣ قَبْلَ المَسِيحِ، ووَفاتُهُ في حُدُودِ سَنَةِ ١٣٥٣ وعَمَّرَ مِائَةً وعَشْرَ سِنِينَ، وكانَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ قَرَّبَهُ إلى نَفْسِهِ، واتَّخَذَهُ تِلْمِيذًا وخادِمًا، ومِثْلُ ذَلِكَ الِاتِّخاذِ يُوصَفُ صاحِبُهُ بِمِثْلِ فَتًى أوْ غُلامٍ، ومِنهُ وصْفُهُمُ الإمامَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الواحِدِ المُطَرِّزَ النَّحْوِيَّ اللُّغَوِيَّ غُلامَ ثَعْلَبٍ؛ لِشِدَّةِ اتِّصالِهِ بِالإمامِ أحْمَدَ بْنِ يَحْيى الشَّيْبانِيِّ المُلَقَّبِ بِثَعْلَبٍ. وكانَ يُوشَعُ أحَدَ الرَّجُلَيْنِ الَّذِينَ عَهِدَ إلَيْهِما مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنْ يُقَسِّما الأرْضَ بَيْنَ أسْباطِ بَنِي إسْرائِيلَ بَعْدَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وأمَرَ اللَّهُ مُوسى بِأنْ يَعْهَدَ إلى يُوشَعَ بِتَدْبِيرِ أمْرِ الأُمَّةِ الإسْرائِيلِيَّةِ بَعْدَ وفاةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ؛ فَعَهِدَ إلَيْهِ مُوسى بِذَلِكَ فَصارَ نَبِيئًا مِن يَوْمِئِذٍ، ودَبَّرَ أمْرَ الأُمَّةِ بَعْدَ مُوسى سَبْعًا وعِشْرِينَ سَنَةً، وكِتابُ يُوشَعَ هو أوَّلُ كُتُبِ الأنْبِياءِ بَعْدَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. وابْتُدِئَتِ القِصَّةُ بِحِكايَةِ كَلامِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ المُقْتَضِي تَصْمِيمًا عَلى أنْ لا يَزُولَ عَمّا هو فِيهِ، أيْ لا يَشْتَغِلَ بِشَيْءٍ آخَرَ حَتّى يَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، (p-٣٦١)ابْتِداءً عَجِيبًا في بابِ الإيجازِ، فَإنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ في عَمَلٍ نِهايَتُهُ البُلُوغُ إلى مَكانٍ، فَعُلِمَ أنَّ ذَلِكَ العَمَلَ هو سَيْرُ سَفَرٍ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ فَتاهُ اسْتَعْظَمَ هَذِهِ الرِّحْلَةَ وخَشِيَ أنْ تَنالَهُما فِيها مَشَقَّةٌ تَعُوقُهُما عَنْ إتْمامِها، أوْ هو بِحَيْثُ يَسْتَعْظِمُها لِلْعِلْمِ بِأنَّها رِحْلَةٌ بَعِيدَةٌ، وذَلِكَ شَأْنُ أسْبابِ الأُمُورِ المُهِمَّةِ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ المَكانَ الَّذِي يَسِيرُ إلَيْهِ مَكانٌ يَجِدُ عِنْدَهُ مَطْلَبَهُ. و”أبْرَحُ“ مُضارِعُ بَرِحَ بِكَسْرِ الرّاءِ، بِمَعْنى زالَ يَزُولُ، وتَقَدَّمَ في سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، واسْتُعِيرَ لا أبْرَحُ لِمَعْنى: لا أتْرُكُ، أوْ لا أكُفُّ عَنِ السَّيْرِ حَتّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُضارِعُ (بَرِحَ) الَّذِي هو فِعْلٌ ناقِصٌ لا يُسْتَعْمَلُ ناقِصًا إلّا مَعَ النَّفْيِ، ويَكُونُ الخَبَرُ مَحْذُوفًا بِقَرِينَةِ الكَلامِ، أيْ لا أبْرَحُ سائِرًا، وعَنِ (الرَّضِيِّ) أنَّ حَذْفَ خَبَرِها قَلِيلٌ. وحَذْفُ ذِكْرِ الغَرَضِ الَّذِي سارَ لِأجْلِهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّهُ سَيُذْكَرُ بَعْدُ، وهو حَذْفُ إيجازٍ وتَشْوِيقٍ، لَهُ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ في حِكايَةِ القِصَّةِ؛ لِإخْراجِها عَنْ مَطْرُوقِ القِصَصِ إلى أُسْلُوبِ بَدِيعِ الحِكَمِ والأمْثالِ قَضاءً لِحَقِّ بَلاغَةِ الإعْجازِ. وتَفْصِيلُ هَذِهِ القِصَّةِ وارِدٌ في صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن حَدِيثِ: عَمْرِو بْنِ دِينارٍ ويَعْلى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ: «أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قامَ خَطِيبًا في بَنِي إسْرائِيلَ فَسُئِلَ: أيُّ النّاسِ أعْلَمُ ؟ فَقالَ: أنا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ، فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ: بَلى، عَبْدُنا خَضِرٌ هو أعْلَمُ مِنكَ، قالَ: فَأيْنَ هو ؟ قالَ: بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، قالَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: يا رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلَمًا أُعَلِّمُ ذَلِكَ بِهِ، قالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا في مِكْتَلٍ، فَحَيْثُ ما فَقَدْتَ الحُوتَ فَهو ثَمَّ، فَأخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ في مِكْتَلٍ، وقالَ لِفَتاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ: لا أُكَلِّفُكَ إلّا أنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفارِقُكَ الحُوتُ، قالَ أيْ فَتاهُ: ما كَلَّفْتَ كَثِيرًا، ثُمَّ انْطَلَقَ، وانْطَلَقَ بِفَتاهُ حَتّى إذا أتَيا الصَّخْرَةَ وضَعا رُءُوسَهُما فَناما، واضْطَرَبَ الحُوتُ في المِكْتَلِ (p-٣٦٢)فَخَرَجَ مِنهُ فَسَقَطَ في البَحْرِ فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ سَرَبًا، ومُوسى نائِمٌ، فَقالَ فَتاهُ - وكانَ لَمْ يَنَمْ -: لا أُوقِظُهُ، وأمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الحُوتِ جَرْيَةَ الماءِ فَصارَ الماءُ عَلَيْهِ مِثْلَ الطّاقِ، فَلَمّا اسْتَيْقَظَ مُوسى نَسِيَ صاحِبُهُ أنْ يُخْبِرَهُ بِالحُوتِ، فانْطَلَقا بَقِيَّةَ يَوْمِهِما ولَيْلَتِهِما، حَتّى إذا كانَ مِنَ الغَدِ قالَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِفَتاهُ: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِن سَفَرِنا هَذا نَصَبًا، قالَ: ولَمْ يَجِدْ مُوسى النَّصَبَ حَتّى جاوَزَ المَكانَ الَّذِي أمَرَهُ اللَّهُ بِهِ أيْ لِأنَّ اللَّهَ مُيَسِّرٌ أسْبابَ الِامْتِثالِ لِأوْلِيائِهِ، فَقالَ لَهُ فَتاهُ: ﴿أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصَّخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وما أنْسانِيهِ إلّا الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبًا﴾ [الكهف: ٦٣]، قالَ: فَكانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا ولِمُوسى ولِفَتاهُ عَجَبًا، فَقالَ مُوسى: ”ذَلِكَ ما كُنّا نَبْغِي فارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا“ قالَ: رَجَعا يَقُصّانِ آثارَهُما حَتّى انْتَهى إلى الصَّخْرَةِ، فَإذا رَجُلٌ مُسَجًّى ثَوْبًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسى، فَقالَ الخَضِرُ: وأنّى بِأرْضِكَ السَّلامُ» الحَدِيثَ. قَوْلُهُ (وأنّى بِأرْضِكَ السَّلامُ) اسْتِفْهامُ تَعَجُّبٍ، والكافُ خِطابٌ لِلَّذِي سَلَّمَ عَلَيْهِ فَكانَ الخَضِرُ يَظُنُّ ذَلِكَ المَكانَ لا يُوجَدُ بِهِ قَوْمٌ تَحِيَّتُهُمُ السَّلامُ، إمّا لِكَوْنِ ذَلِكَ المَكانِ كانَ خَلاءً، وإمّا لِكَوْنِهِ مَأْهُولًا بِأُمَّةٍ لَيْسَتْ تَحِيَّتُهُمُ السَّلامَ. وإنَّما أمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الحُوتِ جَرْيَةَ الماءِ؛ لِيَكُونَ آيَةً مَشْهُودَةً لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وفَتاهُ زِيادَةً في أسْبابِ قُوَّةِ يَقِينِهِما، ولِأنَّ المَكانَ لَمّا كانَ ظَرْفًا لِظُهُورِ مُعْجِزاتِ عِلْمِ النُّبُوءَةِ ناسَبَ أنْ يُحَفَّ بِهِ ما هو خارِقٌ لِلْعادَةِ؛ إكْرامًا لِنُزَلاءِ ذَلِكَ المَكانِ. ومَجْمَعُ البَحْرَيْنِ لا يَنْبَغِي أنْ يُخْتَلَفَ في أنَّهُ مَكانٌ مِن أرْضِ فِلَسْطِينَ، والأظْهَرُ أنَّهُ مَصَبُّ نَهْرِ الأُرْدُنِّ في بُحَيْرَةِ (طَبَرِيَّةَ) فَإنَّهُ النَّهْرُ العَظِيمُ الَّذِي يَمُرُّ بِجانِبِ الأرْضِ الَّتِي نَزَلَ بِها مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وقَوْمُهُ، وكانَتْ تُسَمّى عِنْدَ الإسْرائِيلِيِّينَ بَحْرَ الجَلِيلِ، فَإنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بَلَغَ إلَيْهِ بَعْدَ مَسِيرِ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ راجِلًا؛ فَعَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَكانًا بَعِيدًا جِدًّا، وأرادَ مُوسى أنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ المَكانَ؛ لِأنَّ اللَّهَ أوْحى إلَيْهِ أنْ يَجِدَ فِيهِ العَبْدَ الَّذِي هو أعْلَمُ مِنهُ فَجَعَلَهُ مِيقاتًا لَهُ. (p-٣٦٣)ومَعْنى كَوْنِ هَذا العَبْدِ أعْلَمَ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ يَعْلَمُ عُلُومًا مِن مُعامَلَةِ النّاسِ لَمْ يُعَلِّمْها اللَّهُ لِمُوسى، فالتَّفاوُتُ في العِلْمِ في هَذا المَقامِ تَفاوُتٌ بِفُنُونِ العُلُومِ، وهو تَفاوُتٌ نِسْبِيٌّ. والخَضِرُ: اسْمُ رَجُلٍ صالِحٍ، قِيلَ: هو نَبِيءٌ مِن أحْفادِ عابِرَ بْنِ شالِخَ بْنِ أرْفَخْشَدَ بْنِ سامَ، فَهو الخَضِرُ بْنُ مَلْكانَ بْنِ فالِغَ بْنِ عابِرَ، فَيَكُونُ ابْنَ عَمِّ الجَدِّ الثّانِي لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقِيلَ: الخَضِرُ لَقَبُهُ، وأمّا اسْمُهُ فَهو (بَلْيا) بِمُوَحَّدَةٍ أوْ (إيلْيا) بِهَمْزَةٍ وتَحْتِيَّةٍ. واتَّفَقَ النّاسُ عَلى أنَّهُ كانَ مِنَ المُعَمِّرِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في أنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَيًّا اخْتِلافًا لَمْ يُبْنَ عَلى أدِلَّةٍ مَقْبُولَةٍ مُتَعارَفَةٍ، ولَكِنَّهُ مُسْتَنِدٌ إلى أقْوالِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ، وهي لا يَنْبَغِي اعْتِمادُها؛ لِكَثْرَةِ ما يَقَعُ في كَلامِهِمْ مِنَ الرُّمُوزِ، والخَلْطِ بَيْنَ الحَياتَيْنِ الرُّوحِيَّةِ والمادِّيَّةِ، والمُشاهَداتِ الحِسِّيَّةِ والكَشْفِيَّةِ، وقَدْ جَعَلُوهُ رَمْزَ العُلُومِ الباطِنِيَّةِ كَما سَيَأْتِي. وزَعَمَ بَعْضُ العُلَماءِ أنَّ الخَضِرَ هو (جِرْجِسْ): وقِيلَ: هو مِن ذُرِّيَّةِ عِيسُو بْنِ إسْحاقَ، وقِيلَ: هو نَبِيءٌ بُعِثَ بَعْدَ شُعَيْبٍ. و(جِرْجِسْ) المَعْنى هو المَعْرُوفُ باسِمِ (مارِجِرْجِسْ)، والعَرَبُ يُسَمُّونَهُ: مارِسَرْجِسَ كَما في كِتابِ سِيبَوَيْهِ، وهو مِن أهْلِ فِلَسْطِينَ وُلِدَ في الرَّمْلَةِ في النِّصْفِ الآخِرِ مِنَ القَرْنِ الثّالِثِ بَعْدَ مَوْلِدِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وتُوُفِّيَ سَنَةَ ٣٠٣ وهو مِنَ الشُّهَداءِ، وهَذا يُنافِي كَوْنَهُ في زَمَنِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. والخَضِرُ لَقَبٌ لَهُ، أيِ المَوْصُوفُ بِالخُضْرَةِ، وهي رَمْزُ البَرَكَةِ، قِيلَ: لُقِّبَ خَضِرًا؛ لِأنَّهُ كانَ إذا جَلَسَ عَلى الأرْضِ اخْضَرَّ ما حَوْلَهُ، أيِ اخْضَرَّ بِالنَّباتِ مِن أثَرِ بَرَكَتِهِ، وفي دائِرَةِ المَعارِفِ الإسْلامِيَّةِ ذُكِرَتْ تَخَرُّصاتٌ تُلْصِقُ قِصَّةَ الخَضِرِ بِقِصَصٍ، بَعْضُها فارِسِيَّةٌ، وبَعْضُها رُومانِيَّةٌ، وما رائِدُهُ في ذَلِكَ إلّا مُجَرَّدُ التَّشابُهِ في بَعْضِ أحْوالِ القِصَصِ، وذَلِكَ التَّشابُهُ لا تَخْلُو عَنْهُ الأساطِيرُ والقِصَصُ، فَلا يَنْبَغِي إطْلاقُ الأوْهامِ وراءَ أمْثالِها. (p-٣٦٤)والمُحَقَّقُ أنَّ قِصَّةَ الخَضِرِ ومُوسى يَهُودِيَّةُ الأصْلِ، ولَكِنَّها غَيْرُ مَسْطُورَةٍ في كُتُبِ اليَهُودِ المُعَبَّرِ عَنْها بِالتَّوْراةِ أوِ العَهْدِ القَدِيمِ، ولَعَلَّ عَدَمَ ذِكْرِها في تِلْكَ الكُتُبِ هو الَّذِي أقْدَمَ (نَوْفًا البِكالِيَّ) عَلى أنْ قالَ: إنَّ مُوسى المَذْكُورَ في هَذِهِ الآياتِ هو غَيْرُ مُوسى بَنِي إسْرائِيلَ كَما ذُكِرَ ذَلِكَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ، وأنَّ ابْنَ عَبّاسٍ كَذَّبَ نَوْفًا، وساقَ الحَدِيثَ المُتَقَدِّمَ. وقَدْ كانَ سَبَبُ ذِكْرِها في القُرْآنِ سُؤالَ نَفَرٍ مِنَ اليَهُودِ أوْ مَن لَقَّنَهُمُ اليَهُودُ إلْقاءَ السُّؤالِ فِيها عَلى الرَّسُولِ ﷺ، وقَدْ أشارَ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥] . واخْتَلَفَ اليَهُودُ في أنَّ صاحِبَ الخَضِرِ هو مُوسى بْنُ عِمْرانَ الرَّسُولُ، وأنَّ فَتاهُ هو يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَقِيلَ: نَعَمْ، وقَدْ تَأيَّدَ ذَلِكَ بِما رَواهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ وقِيلَ: هو رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ مُوسى بْنُ مِيشا أوْ مِنسَهْ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وقَدْ زَعَمَ بَعْضُ عُلَماءِ الإسْلامِ أنَّ الخَضِرَ لَقِيَ النَّبِيءَ ﷺ وعُدَّ مِن صَحابَتِهِ، وذَلِكَ تَوَهُّمٌ، وتَتَبُّعٌ لِخَيالِ القَصّاصِينَ، وسُمِّيَ الخَضِرُ بَلْيا بْنَ مِلْكانْ أوْ إيلْيا أوْ إلْياسَ، فَقِيلَ: إنَّ الخَضِرَ هو إلْياسُ المَذْكُورُ في سُورَةِ يس. ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ الخَضِرُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ؛ إذْ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا بِشَرِيعَةِ مُوسى ويُقِرُّهُ مُوسى عَلى أفْعالٍ لا تُبِيحُها شَرِيعَتُهُ، بَلْ يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ نَبِيئًا مُوحًى إلَيْهِ بِوَحْيٍ خاصٍّ، وعَلِمَ مُوسى أنَّهُ مِن أُمَّةٍ غَيْرُ مَبْعُوثٍ مُوسى إلَيْها، ولَمّا عَلِمَ مُوسى ذَلِكَ مِمّا أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ مِن قَوْلِهِ: بَلى عَبْدُنا خَضِرٌ هو أعْلَمُ مِنكَ، كَما في حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْهُ ما رَأى مِن أعْمالِهِ الَّتِي تُخالِفُ شَرِيعَةَ التَّوْراةِ؛ لِأنَّهُ كانَ عَلى شَرِيعَةٍ أُخْرى (أُمَّةً وحْدَهُ)، وأمّا وُجُودُهُ في أرْضِ بَنِي إسْرائِيلَ فَهو مِنَ السِّياحَةِ في العِبادَةِ، أوْ أمَرَهُ اللَّهُ بِأنْ يَحْضُرَ في المَكانِ الَّذِي قَدَّرَهُ لِلِقاءِ مُوسى؛ رِفْقًا بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. (p-٣٦٥)ومَعْنى ”أوْ أمْضِيَ“ أوْ أسِيرَ، والمُضِيُّ: الذَّهابُ والسَّيْرُ، والحُقُبُ بِضَمَّتَيْنِ اسْمُ لِلزَّمانِ الطَّوِيلِ، غَيْرُ مُنْحَصِرِ المِقْدارِ، وجَمْعُهُ أحْقابٌ. وعُطِفَ ”أمْضِي“ عَلى ”أبْلُغَ“ بِـ (أوْ) فَصارَ المَعْطُوفُ إحْدى غايَتَيْنِ لِلْإقْلاعِ عَنِ السَّيْرِ، أيْ: إمّا أنْ أبْلُغَ المَكانَ أوْ أمْضِيَ زَمَنًا طَوِيلًا، ولَمّا كانَ مُوسى لا يُخامِرُهُ الشَّكُّ في وُجُودِ مَكانٍ هو مَجْمَعٌ لِلْبَحْرَيْنِ وإلْقاءُ طِلْبَتِهِ عِنْدَهُ؛ لِأنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى، تَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ المَقْصُودُ بِحَرْفِ التَّرْدِيدِ تَأْكِيدَ مُضِيِّهِ زَمَنًا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الوُصُولُ إلى مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، فالمَعْنى: لا أبْرَحُ حَتّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ بِسَيْرٍ قَرِيبٍ أوْ أسِيرُ أزْمانًا طَوِيلَةً، فَإنِّي بالِغٌ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، وكَأنَّهُ أرادَ بِهَذا تَأْيِيسَ فَتاهُ مِن مُحاوَلَةِ رُجُوعِهِما، كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ ”لَقَدْ لَقِينا مِن سَفَرِنا هَذا نَصَبًا“ . أوْ أرادَ شَحْذَ عَزِيمَةِ فَتاهُ؛ لِيُساوِيَهُ في صِحَّةِ العَزْمِ حَتّى يَكُونا عَلى عَزْمٍ مُتَّحِدٍ.


ركن الترجمة

When Moses said to his servant (Joshua): "I will not give up till I reach the confluence of two oceans, or I will journey on and on."

(Rappelle-toi) quand Moïse dit à son valet: «Je n'arrêterai pas avant d'avoir atteint le confluent des deux mers, dussé-je marcher de longues années».

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :