ركن التفسير
106 - ولما طمع الكفار في النسخ وقالوا إن محمدا يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غدا نزل: (ما) شرطية (نَنَسخ من آية) نزل حكمها: إما مع لفظها أو لا. وفي قراءة بضم النون من أنسخ: أي نأمرك أو جبريل بنسخها (أو نَنْسأها) نؤخرها فلا ننزل حكمها ونرفع تلاوتها أو نؤخرها في اللوح المحفوظ وفي قراءة بلا همز في النسيان {نُنْسِها}: أي ننسكها ، أي نمحها من قلبك وجواب الشرط (نأت بخير منها) أنفع للعباد في السهولة أو كثرة الأجر (أو مثلها) في التكليف والثواب (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) ومنه النسخ والتبديل ، والاستفهام للتقرير
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما "ما ننسخ من آية" ما نبدل من آية وقال ابن جريج عن مجاهد "ما ننسخ من آية" أي ما نمحو من آية وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "ما ننسخ من آية" قال نثبت خطها ونبدل حكمها حدث به عن أصحاب عبدالله بن مسعود رضي الله عنهم وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك وقال الضحاك "ما ننسخ من آية" ما ننسك وقال عطاء أما "ما ننسخ" فما نترك من القرآن وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد وقال السدى "ما ننسخ من آية" نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم: يعني قبضها رفعها مثل قوله "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وقوله "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا" وقال ابن جرير "ما ننسخ من آية" ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ والأمر في ذلك قريب لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه وقال الطبراني أخبرنا أبو سنبل عبيدالله بن عبدالرحمن بن وافد أخبرنا أبي أخبرنا العباس بن الفضل عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بها فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنها مما نسخ وأنسي فالهوا عنها" فكان الزهري يقرؤها" ما ننسخ من آية أو ننسها" بضم النون الخفيفة سليمان بن الأرقم ضعيف وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود عن أبي عبيد الله عن عبدالله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف مثله مرفوعا ذكره القرطبي وقوله تعالى أو ننسها فقريء على وجهين ننسأها وننسها فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه نؤخرها. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "ما ننسخ من آية" يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها وقال مجاهد: عن أصحاب ابن مسعود أو ننساها نثبت خطها ونبدل حكمها وقال عبد بن عمير ومجاهد وعطاء أو ننسأها نؤخر ونرجئها وقال عطية العوفي: أو ننسأها: نؤخرها فلا ننسخها وقال السدي مثله أيضا وكذا الربيع بن أنس وقال الضحاك "ما ننسخ من آية أو ننسأها" يعني الناسخ من المنسوخ وقال أبو العالية ما ننسخ من آية أو ننسأها" نؤخرها عندنا وقال ابن حاتم: أخبرنا عبيدالله بن إسماعيل البغدادي أخبرنا خلف أخبرنا الخفاف عن إسماعيل يعني ابن أسلم عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه فقال: يقول الله عز وجل "ما ننسخ من آية أو ننسأها" أي نؤخرها وأما على قراءة أو ننسها فقال عبدالرازق عن قتادة في قوله "ما ننسخ من آية أو ننسها" قال كان الله عز وجل ينسى نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء. وقال ابن جرير: أخبرنا سواد بن عبدالله أخبرنا خالد بن الحارث أخبرنا عوف عن الحسن أنه قال في قوله "أو ننسها" قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي ابن نفيل أخبرنا محمد بن الزبير الحراني عن الحجاج يعني الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار فأنزل الله عز وجل "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" قال ابن أبي حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل ليس هو الحجاج بن أرطاة هو شيخ لنا جزري وقال عبيد بن عمير "أو ننسها" نرفعها من عندكم وقال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم أخبرنا هشيم أخبرنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن القاسم بنو ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ "ما ننسخ من آية أو ننسها" قال: قلت له فإن سعيد بن المسيب يقرأ "أو ننساها" قال فقال سعد إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب قال: قال الله جل ثناؤه "سنقرئك فلا تنسى واذكر ربك إذا نسيت" وكذا رواه عبدالرزاق عن هشيم وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه قال ابن أبي حاتم: وروي عن محمد بن كعب وقتادة وعكرمة نحو قول سعيد وقال الإمام أحمد أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال عمر: علي أقضانا وأبيّ أقرؤنا وإنا لندع من قول أبيّ وذلك أن أبيا يقول: ما أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم والله يقول" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" قال البخاري: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال عمر: أقرؤنا أبي وأقضانا علي وإنا لندع من قول أبي وذلك أن أبيا يقول: لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله "ما ننسخ من آية أو ننسها" وقوله "نأت بخير منها أو مثلها" أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نأت بخير منها يقول خير لكم في المنفعة وأرفق بكم وقال أبو العالية "ما ننسخ من آية" فلا نعمل بها "أو ننساها" أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها وقال السدي "نأت بخير منها أو مثلها" يقول نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه وقال قتادة "نأت بخير منها أو مثلها" يقول آية فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي.
﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ أوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها﴾ مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِلْآياتِ قَبْلَها أنَّ اليَهُودَ اعْتَذَرُوا عَنْ إعْراضِهِمْ عَنِ الإيمانِ بِالنَّبِيءِ ﷺ بِقَوْلِهِمْ ﴿نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا﴾ [البقرة: ٩١] وأرادُوا بِهِ أنَّهم يَكْفُرُونَ بِغَيْرِهِ وهم في عُذْرِهِمْ ذَلِكَ يَدَّعُونَ أنَّ شَرِيعَتَهم لا تُنْسَخُ ويَقُولُونَ إنَّ مُحَمَّدًا وصَفَ التَّوْراةَ بِأنَّها حَقٌّ وأنَّهُ جاءَ مُصَدِّقًا لَها فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْعُهُ مُبْطِلًا لِلتَّوْراةِ ويُمَوِّهُونَ عَلى النّاسِ بِما سَمَّوْهُ البَداءَ وهو لُزُومُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى غَيْرَ عالِمٍ بِما يَحْسُنُ تَشْرِيعُهُ وأنَّهُ يَبْدُو لَهُ الأمْرُ ثُمَّ يُعْرِضُ عَنْهُ ويُبَدِّلُ شَرِيعَةً بِشَرِيعَةٍ. وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ اللَّهَ تَعالى رَدَّ عَلَيْهِمْ عُذْرَهم وفَضَحَهم بِأنَّهم لَيْسُوا مُتَمَسِّكِينَ بِشَرْعِهِمْ حَتّى يَتَصَلَّبُوا فِيهِ وذَلِكَ مِن قَوْلِهِ ”﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِئاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ﴾ [البقرة: ٩١]“ وقَوْلُهُ (p-٦٥٥)”﴿قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الآخِرَةُ﴾ [البقرة: ٩٤]“ إلَخْ وبِأنَّهم لا داعِيَ لَهم غَيْرُ الحَسَدِ بِقَوْلِهِ ﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ [البقرة: ١٠٥] إلى قَوْلِهِ ”ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ“ المُنْبِئِ أنَّ العِلَّةَ هي الحَسَدُ. فَلَمّا بَيَّنَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ كُلِّهِ أرادَ نَقْضَ تِلْكَ السَّفْسَطَةِ أوِ الشُّبْهَةِ الَّتِي رامُوا تَرْوِيجَها عَلى النّاسِ بِمَنعِ النَّسْخِ. والمَقْصِدُ الأصْلِيُّ مِن هَذا هو تَعْلِيمُ المُسْلِمِينَ أصْلًا مِن أُصُولِ الشَّرائِعِ وهو أصْلُ النَّسْخِ الَّذِي يَطْرَأُ عَلى شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ بَعْدَها ويَطْرَأُ عَلى بَعْضِ أحْكامِ شَرِيعَةٍ بِأحْكامٍ تُبْطِلُها مِن تِلْكَ الشَّرِيعَةِ. ولِكَوْنِ هَذا هو المَقْصِدَ الأصْلِيَّ عَدَلَ عَنْ مُخاطَبَةِ اليَهُودِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ ووَجَّهَ الخِطابَ إلى المُسْلِمِينَ كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ”ألَمْ تَعْلَمْ“ وعَطَفَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ ﴿أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسْألُوا رَسُولَكُمْ﴾ [البقرة: ١٠٨] ولِقَوْلِهِ ﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ﴾ ولَمْ يَقُلْ مِن شَرِيعَةٍ. وفي هَذا إعْراضٌ عَنْ مُخاطَبَةِ اليَهُودِ لِأنَّ تَعْلِيمَ المُسْلِمِينَ أهَمُّ وذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ الرَّدَّ عَلى اليَهُودِ بِطَرِيقِ المُساواةِ لِأنَّهُ إذا ظَهَرَتْ حِكْمَةُ تَغْيِيرِ بَعْضِ الأحْكامِ لِمَصْلَحَةٍ تَظْهَرُ حِكْمَةُ تَغْيِيرِ بَعْضِ الشَّرائِعِ. وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ لَهاتِهِ الآيَةِ سَبَبَ نُزُولٍ، فَفي الكَشّافِ والمَعالِمِ نَزَلَتْ لَمّا قالَ اليَهُودُ ألا تَرَوْنَ إلى مُحَمَّدٍ يَأْمُرُ أصْحابَهُ بِأمْرٍ ثُمَّ يَنْهاهم عَنْهُ، وفي تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ أنَّ اليَهُودَ طَعَنُوا في تَغْيِيرِ القِبْلَةِ وقالُوا إنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُ أصْحابَهُ بِشَيْءٍ ويَنْهاهم عَنْهُ، فَما كانَ هَذا القُرْآنُ إلّا مِن جِهَتِهِ ولِذَلِكَ يُخالِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وقَرَأ الجُمْهُورُ (نَنْسَخْ) بِفَتْحِ النُّونِ الأُولى وفَتْحِ السِّينِ وهو أصْلُ مُضارِعِ (نَسَخَ)، وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ بِضَمِّ النُّونِ الأُولى وكَسْرِ السِّينِ عَلى أنَّهُ مُضارِعُ أنْسَخَ مَهْمُوزًا بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ أيْ نَأْمُرُ بِنَسْخِ آيَةٍ. وما شَرْطِيَّةٌ وأصْلُها المَوْصُولَةُ أُشْرِبَتْ مَعْنى الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ كانَتِ اسْمًا لِلشَّرْطِ يَسْتَحِقُّ إعْرابَ المَفاعِيلِ وتُبَيَّنُ بِما يُفَسِّرُ إبْهامَها وهي أيْضًا تُوجِبُ إبْهامًا في أزْمانِ الرَّبْطِ لِأنَّ الرَّبْطَ وهو التَّعْلِيقُ لَمّا نِيطَ بِمُبْهَمٍ صارَ مُبْهَمًا فَلا تَدُلُّ عَلى زَمَنٍ مُعَيَّنٍ مِن أزْمانِ تَعْلِيقِ الجَوابِ عَلى الشَّرْطِ ورَبْطِهِ بِهِ. و ”مِن آيَةٍ“ بَيانٌ لِما. والآيَةُ في الأصْلِ الدَّلِيلُ والشّاهِدُ عَلى أمْرٍ. قالَ الحارْثُ بْنُ حِلِّزَةَ: ؎مَن لَنا عِنْدَهُ مِنَ الخَيْرِ آيا تٌ ثَلاثٌ في كُلِّهِنَّ القَضاءُ (p-٦٥٦)ووَزْنُها فِعَلَةٌ بِتَحْرِيكِ العَيْنِ عِنْدَ الخَلِيلِ وعَيْنُها ياءٌ أوْ واوٌ قُلِبَتْ ألِفًا لِتَحَرُّكِها وانْفِتاحِ ما قَبْلَها والنِّسْبَةُ إلَيْها آيِيُّ أوْ آوِيُّ. ثُمَّ أُطْلِقَتِ الآيَةُ عَلى المُعْجِزَةِ لِأنَّها دَلِيلُ صِدْقِ الرَّسُولِ، قالَ تَعالى: ﴿وما نُرْسِلُ بِالآياتِ إلّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: ٥٩] وتُطْلَقُ الآيَةُ عَلى القِطْعَةِ مِنَ القُرْآنِ المُشْتَمِلَةِ عَلى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أوْ مَوْعِظَةٍ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ وهو إطْلاقٌ قُرْآنِيٌّ قالَ تَعالى: ﴿وإذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ واللَّهُ أعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ١٠١] ويُؤَيِّدُ هَذا أنَّ مِن مَعانِي الآيَةِ في كَلامِ العَرَبِ الأمارَةَ الَّتِي يُعْطِيها المُرْسَلُ لِلرَّسُولِ لِيُصَدِّقَهُ المُرْسَلُ إلَيْهِ وكانُوا إذا أرْسَلُوا وِصايَةً أوْ خَبَرًا مَعَ رَسُولٍ أرْفَقُوهُ بِأمارَةٍ يُسَمُّونَها آيَةً لا سِيَّما الأسِيرُ إذا أُرْسِلَ إلى قَوْمِهِ بِرِسالَةٍ كَما فَعَلَ ناشِبٌ الأعْوَرُ حِينَ كانَ أسِيرًا في بَنِي سَعْدِ بْنِ مالِكٍ وأرْسَلَ إلى قَوْمِهِ بِلْعَنْبَرَ رِسالَةً وأرادَ تَحْذِيرَهم بِما يُبَيِّتُهُ لَهم أعْداؤُهُمُ الَّذِينَ أسَرُوهُ فَقالَ لِلرَّسُولِ قُلْ لَهم كَذا بِآيَةِ ما أكَلْتُ مَعَكم حَيْسًا. وقالَ سُحَيْمٌ العَبْدُ: ؎ألِكْنِي إلَيْها عَمْرَكَ اللَّهَ يا فَتًى ∗∗∗ بِآيَةِ ما جاءَتْ إلَيْنا تَهادِيا ولِذا أيْضًا سَمَّوُا الرِّسالَةَ آيَةً تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مُجاوِرِهِ عُرْفًا. والمُرادُ بِالآيَةِ هَنا حُكْمُ الآيَةِ سَواءٌ أُزِيلَ لَفْظُها أمْ أُبْقِيَ لَفْظُها لِأنَّ المَقْصُودَ بَيانُ حِكْمَةِ إبْطالِ الأحْكامِ لا إزالَةُ ألْفاظِ القُرْآنِ. والنَّسْخُ إزالَةُ الشَّيْءِ بِشَيْءٍ آخَرَ قالَهُ الرّاغِبُ، فَهو عِبارَةٌ عَنْ إزالَةِ صُورَةٍ أوْ ذاتٍ وإثْباتِ غَيْرِها عِوَضَها، تَقُولُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ لِأنَّ شُعاعَها أزالَ الظِّلَّ وخَلَفَهُ في مَوْضِعِهِ، ونَسَخَ الظِّلُّ الشَّمْسَ كَذَلِكَ لِأنَّ خَيالَ الجِسْمِ الَّذِي حالَ بَيْنَ الجِسْمِ المُسْتَنِيرِ وبَيْنَ شُعاعِ الشَّمْسِ الَّذِي أنارَهُ قَدْ خَلَفَ الشُّعاعَ في مَوْضِعِهِ، ويُقالُ: نَسَخْتُ ما في الخَلِيَّةِ مِنَ النَّحْلِ والعَسَلِ إلى خَلِيَّةٍ أُخْرى، وقَدْ يُطْلَقُ عَلى الإزالَةِ فَقَطْ دُونَ تَعْوِيضٍ كَقَوْلِهِمْ نَسَخَتِ الرِّيحُ الأثَرَ، وعَلى الإثْباتِ لَكِنْ عَلى إثْباتٍ خاصٍّ وهو إثْباتُ المُزِيلِ، وأمّا أنْ يُطْلَقَ عَلى مُجَرَّدِ الإثْباتِ فَلا أحْسَبُهُ صَحِيحًا في اللُّغَةِ وإنْ أوْهَمَهُ ظاهِرُ كَلامِ الرّاغِبِ، وجُعِلَ مِنهُ قَوْلُهم نَسَخْتُ الكِتابَ إذا خَطَطْتَ أمْثالَ حُرُوفِهِ في صَحِيفَتِكَ إذْ وجَدُوهُ إثْباتًا مَحْضًا لَكِنَّ هَذا تَوَهَّمٌ لِأنَّ إطْلاقَ النَّسْخِ عَلى مُحاكاةِ حُرُوفِ الكِتابِ إطْلاقٌ مَجازِيٌّ بِالصُّورَةِ أوْ تَمْثِيلِيَّةُ الحالَةِ بِحالَةِ مَن يُزِيلُ الحُرُوفَ مِنَ الكِتابِ الأصْلِيِّ إلى الكِتابِ المُنْتَسَخِ ثُمَّ جاءَتْ مِن ذَلِكَ النُّسْخَةُ، قالَ تَعالى: ﴿إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: ٢٩] وقالَ ﴿وفِي نُسْخَتِها هُدًى ورَحْمَةٌ﴾ [الأعراف: ١٥٤] وأمّا قَوْلُهم (p-٦٥٧)الوَلَدُ نُسْخَةٌ مِن أبِيهِ فَمَجازٌ عَلى مَجازٍ. ولا يُطْلَقُ النَّسْخُ عَلى الزَّوالِ بِدُونِ إزالَةٍ، فَلا تَقُولُ: نَسَخَ اللَّيْلُ النَّهارَ لِأنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ بِأمْرٍ وُجُودِيٍّ بَلْ هو الظُّلْمَةُ الأصْلِيَّةُ الحاصِلَةُ مِنِ انْعِدامِ الجَرْمِ المُنِيرِ. والمُرادُ مِنَ النَّسْخِ هُنا الإزالَةُ وإثْباتُ العِوَضِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها أوْ مِثْلِها﴾ وهو المَعْرُوفُ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ بِأنَّهُ رَفْعُ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِخِطابٍ فَخَرَجَ التَّشْرِيعُ المُسْتَأْنَفُ إذْ لَيْسَ بِرَفْعٍ، وخَرَجَ بِقَوْلِنا الحُكْمُ الشَّرْعِيُّ رَفْعُ البَراءَةِ الأصْلِيَّةِ بِالشَّرْعِ المُسْتَأْنِفِ. إذِ البَراءَةُ الأصْلِيَّةُ لَيْسَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَلْ هي البَقاءُ عَلى عَدَمِ التَّكْلِيفِ الَّذِي كانَ النّاسُ عَلَيْهِ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ بِحَيْثُ إنَّ الشَّرِيعَةَ لا تَتَعَرَّضُ لِلتَّنْصِيصِ عَلى إباحَةِ المُباحاتِ إلّا في مَظِنَّةِ اعْتِقادِ تَحْرِيمِها أوْ في مَوْضِعِ حَصْرِ المُحَرَّماتِ أوِ الواجِباتِ، فالأوَّلُ نَحْوَ قَوْلِهِ ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨] في التِّجارَةِ، في الحَجِّ، حَيْثُ ظَنَّ المُسْلِمُونَ تَحْرِيمَ التِّجارَةِ في عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ كَما كانَتْ عَلَيْهِ الجاهِلِيَّةُ بَعْدَ الِانْصِرافِ مِن ذِي المَجازِ كَما سَيَأْتِي، ومِثالُ الثّانِي قَوْلُهُ تَعالى ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] بَعْدَ ذِكْرِ النِّساءِ المُحَرَّماتِ وقَوْلُهُ ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] لِحَصْرِ وُجُوبِ الإمْساكِ في خُصُوصِ زَمَنِ النَّهارِ. وفُهِمَ مِن قَوْلِهِمْ في التَّعْرِيفِ رَفْعُ الحُكْمِ أنَّ ذَلِكَ الحُكْمَ كانَ ثابِتًا لَوْلا رَفْعُهُ وقَدْ صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهم ولِذَلِكَ اخْتَرْنا زِيادَةَ قَيْدٍ في التَّعْرِيفِ وهو رَفْعُ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ المَعْلُومِ دَوامُهُ بِخِطابٍ يَرْفَعُهُ لِيَخْرُجَ عَنْ تَعْرِيفِ النَّسْخِ رَفْعُ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ المُغَيّى بِغايَةٍ عِنْدَ انْتِهاءِ غايَتِهِ، ورَفْعُ الحُكْمِ المُسْتَفادِ مِن أمْرٍ لا دَلِيلَ فِيهِ عَلى التَّكْرارِ. وحَيْثُ تَبَيَّنَتْ حِكْمَةُ نَسْخِ الآياتِ عُلِمَ مِنهُ حِكْمَةُ نَسْخِ الشَّرائِعِ بَعْضُها بِبَعْضٍ وهو الَّذِي أنْكَرُوهُ وأنْكَرُوا كَوْنَ الإسْلامِ قَدْ نَسَخَ التَّوْراةَ، وزَعَمُوا أنَّ دَوامَ التَّوْراةِ مانِعٌ مِنَ الإيمانِ بِالإسْلامِ، كَما قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وهو أحْوالٌ: الأوَّلُ: مَجِيءُ شَرِيعَةٍ لِقَوْمٍ مَجِيئًا مُؤَقَّتًا لِمُدَّةِ حَياةِ الرَّسُولِ المُرْسَلِ بِها (p-٦٥٨)فَإذا تُوُفِّيَ ارْتَفَعَتِ الشَّرِيعَةُ كَشَرِيعَةِ نُوحٍ وإبْراهِيمَ وشَرِيعَةِ يُوسُفَ وشَرِيعَةِ شُعَيْبٍ قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ جاءَكم يُوسُفُ﴾ [غافر: ٣٤] إلى قَوْلِهِ ﴿إذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا﴾ [غافر: ٣٤] وبَقِيَ النّاسُ في فَتْرَةٍ وكانَ لِكُلِّ أحَدٍ يُرِيدُ الِاهْتِداءَ أنْ يَتَّبِعَ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ أوْ بَعْضَها كَما كانُوا يَتَّبِعُونَ شَرِيعَةَ إبْراهِيمَ فَإذا جاءَتْ شَرِيعَةٌ بَعْدَها فَلَيْسَتِ الثّانِيَةُ بِناسِخَةٍ لِلْأُولى في الحَقِيقَةِ ولَكِنَّها نَسْخٌ يُخَيَّرُ النّاسُ في مُتابَعَتِها الَّذِي كانَ لَهم في زَمَنِ الفَتْرَةِ كَما كانَتْ عَبْسٌ مَثَلًا يَجُوزُ لَها اتِّباعُ شَرِيعَةِ إبْراهِيمَ فَلَمّا جاءَهم خالِدُ بْنُ سِنانٍ بِشَرِيعَتِهِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمُ اتِّباعُهُ. الثّانِي: أنْ تَجِيءَ شَرِيعَةٌ لِقَوْمٍ مَأْمُورِينَ بِالدَّوامِ عَلَيْها كَشَرْعِ مُوسى ثُمَّ تَجِيءُ بَعْدَها شَرِيعَةٌ لَيْسَتْ رافِعَةً لِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ بِأسْرِها ولَكِنَّها تَرْفَعُ بَعْضَ أحْكامِها وتُثَبِّتُ بَعْضًا كَشَرِيعَةِ عِيسى فَهَذِهِ شَرِيعَةٌ ناسِخَةٌ في الجُمْلَةِ لِأنَّها تَنْسَخُ بَعْضًا وتُفَسِّرُ بَعْضًا، فالمَسِيحُ رَسُولٌ نَسَخَ بَعْضَ التَّوْراةِ وهو ما نَصَّ عَلى نَسْخِهِ وأمّا غَيْرُهُ فَباقٍ عَلى أحْكامِ التَّوْراةِ فَهو في مُعْظَمِها مُبَيِّنٌ ومُذَكِّرٌ ومُفَسِّرٌ كَمَن سَبَقَهُ مِن أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ مِثْلِ أشْعِياءَ وأرْمِياءَ وزَكْرِياءَ الأوَّلِ ودانْيالَ وأضْرابِهِمْ، ولا يُخالِفُ هَذا النَّوْعُ نَسْخَ أحْكامِ شَرِيعَةٍ واحِدَةٍ إلّا بِكَوْنِهِ بِواسِطَةِ رَسُولٍ ثانٍ. الثّالِثُ: مَجِيءُ شَرِيعَةٍ بَعْدَ أُخْرى بِحَيْثُ تُبْطِلُ الثّانِيَةُ الأُولى إبْطالًا عامًّا بِحَيْثُ تُعَدُّ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ باطِلَةً سَواءً في ذَلِكَ الأحْكامُ الَّتِي نَصَّتِ الشَّرِيعَةُ الثّانِيَةُ فِيها بِشَيْءٍ يُخالِفُ ما في الأُولى أمْ فِيما سَكَتَتِ الشَّرِيعَةُ الثّانِيَةُ عَنْهُ وهَذا هو الإسْلامُ بِالنِّسْبَةِ لِما تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّرائِعِ فَإنَّهُ رَفَعَ الشَّرائِعَ كُلَّها بِحَيْثُ لا يَجُوزُ لِأحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أنْ يَتَلَقّى شَيْئًا مِنَ الشَّرائِعِ السّالِفَةِ فِيما لَمْ يَتَكَلَّمِ الإسْلامُ فِيهِ بِشَيْءٍ بَلْ يَأْخُذُ أحْكامَ ذَلِكَ بِالِاسْتِنْباطِ والقِياسِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن طُرُقِ أُصُولِ الإسْلامِ وقَدِ اخْتُلِفَ في أنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شَرْعٌ لَنا ما لَمْ يَرِدْ ناسِخٌ لَكِنَّ ذَلِكَ الخِلافَ ناظِرٌ إلى دَلِيلٍ آخَرَ وهو قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] وقَوْلُهُ ”أوْ نُنْسِها“ قَرَأهُ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ويَعْقُوبُ وأبُو جَعْفَرٍ وخَلَفٌ (نُنْسِها) بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ في أوَّلِهِ وبِسِينٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ هاءٍ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو (نَنْسَأْها) بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ في أوَّلِهِ وبِسِينٍ مَفْتُوحَةٍ وبَعْدَها هَمْزَةٌ ساكِنَةٌ ثُمَّ هاءٌ فَعَلى قِراءَةِ تَرْكِ الهَمْزِ فَهو مِنَ النِّسْيانِ والهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ ومَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ لِلْعُمُومِ أيْ نُنْسِ النّاسَ إيّاها وذَلِكَ بِأمْرِ النَّبِيءِ ﷺ بِتَرْكِ قِراءَتِها حَتّى يَنْساها المُسْلِمُونَ، وعَلى قِراءَةِ الهَمْزِ فالمَعْنى أوْ نُؤَخِّرُها أيْ نُؤَخِّرُ تِلاوَتَها أوْ نُؤَخِّرُ العَمَلَ بِها والمُرادُ إبْطالُ العَمَلِ بِقِراءَتِها أوْ بِحُكْمِها (p-٦٥٩)فَكُنِّيَ عَنْهُ بِالنَّسِئِ وهو قِسْمٌ آخَرُ مُقابِلٌ لِلنَّسْخِ وهو أنْ لا يُذَكِّرَ الرَّسُولُ النّاسَ بِالعَمَلِ بِحُكْمٍ مَشْرُوعٍ ولا يَأْمُرُ مَن يَتْرُكُهُ بِقَضائِهِ حَتّى يَنْسى النّاسُ العَمَلَ بِهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ إبْطالًا لِلْحُكْمِ لِأنَّهُ لَوْ كانَ قائِمًا لَما سَكَتَ الرَّسُولُ عَنْ إعادَةِ الأمْرِ بِهِ ولَما أُقِرَّ تارِكُهُ عِنْدَ مُوجِبِ العَمَلِ بِهِ ولَمْ أجِدْ لِهَذا مِثالًا في القُرْآنِ، ونَظِيرُهُ في السُّنَّةِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ «لا يَمْنَعُ أحَدُكم جارَهُ أنْ يَضَعَ خَشَبَةً في جِدارِهِ» عِنْدَ مَن يَقُولُ إنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ وهو قَوْلُ أبِي هُرَيْرَةَ ولِذَلِكَ كانَ يَذْكُرُ هَذا الحَدِيثَ ويَقُولُ مالِي أراكم عَنْها مُعْرِضِينَ، واللَّهِ لَأرْمِيَنَّ بِها بَيْنَ أظْهُرِكم. ومَعْنى النَّسْءِ مُشْعِرٌ بِتَأْخِيرٍ يَعْقُبُهُ إبْرامٌ وحِينَئِذٍ فالمَعْنى بَقاءُ الحُكْمِ مُدَّةً غَيْرَ مَنسُوخٍ أوْ بَقاءُ الآيَةِ مِنَ القُرْآنِ مُدَّةً غَيْرَ مَنسُوخَةٍ. أوْ يَكُونُ المُرادُ إنْساءَ الآيَةِ بِمَعْنى تَأْخِيرِ مَجِيئِها مَعَ إرادَةِ اللَّهِ تَعالى وُقُوعَ ذَلِكَ بَعْدَ حِينٍ، والِاحْتِمالاتُ المَفْرُوضَةُ في نَسْخِ حُكْمٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ تَتَأتّى في نَسْخِ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ وإنْسائِها أوْ نَسْئِها. وقَوْلُهُ ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها أوْ مِثْلِها﴾ جَوابُ الشَّرْطِ وجَعْلُهُ جَوابًا مُشْعِرٌ بِأنَّ هَذَيْنِ الحالَيْنِ وهُما النَّسْخُ والإنْساءُ أوِ النَّسْءُ لا يُفارِقانِ حالَيْنِ وهُما الإتْيانُ في وقْتِ النَّسْخِ ووَقْتِ الإنْساءِ بِشَيْءٍ هو خَيْرٌ مِنَ المَنسُوخِ أوْ مِثْلِهِ أوْ خَيْرٌ مِنَ المَنسِيِّ أوِ المَنسُوءِ أوْ مِثْلِهِ فالمَأْتِيُّ بِهِ مَعَ النَّسْخِ هو النّاسِخُ مِن شَرِيعَةٍ أوْ حُكْمٍ والمَأْتِيُّ بِهِ مَعَ الإنْساءِ مِنَ النِّسْيانِ هو النّاسِخُ أيْضًا مِن شَرِيعَةٍ أوْ حُكْمٍ أوْ هو ما يَجِيءُ مِنَ الأحْكامِ غَيْرُ ناسِخٍ ولَكِنَّهُ حُكْمٌ مُخالِفٌ يَنْزِلُ بَعْدَ الآخَرِ والمَأْتِيُّ بِهِ مَعَ النَّسْءِ أيِ التَّأْخِيرِ هو ما يُقارِنُ الحُكْمَ الباقِيَ مِنَ الأحْكامِ النّازِلَةِ في مُدَّةِ عَدَمِ النَّسْخِ. وقَدْ أجْمَلْتُ جِهَةَ الخَيْرِيَّةِ والمِثْلِيَّةِ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فَتَجِدُهُ مُرادًا إذِ الخَيْرِيَّةُ تَكُونُ مِن حَيْثُ الِاشْتِمالُ عَلى ما يُناسِبُ مَصْلَحَةَ النّاسِ، أوْ ما يَدْفَعُ عَنْهم مَضَرَّةً، أوْ ما فِيهِ جَلْبُ عَواقِبَ حَمِيدَةٍ، أوْ ما فِيهِ ثَوابٌ جَزِيلٌ، أوْ ما فِيهِ رِفْقٌ بِالمُكَلَّفِينَ ورَحْمَةٌ بِهِمْ في مَواضِعِ الشِّدَّةِ وإنْ كانَ حَمْلُهم عَلى الشِّدَّةِ قَدْ يَكُونُ أكْثَرَ مَصْلَحَةً. ولَيْسَ المُرادُ أنَّ كُلَّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ المَفْرُوضَةِ في حالاتِ النَّسْخِ والإنْساءِ أوِ النَّسْءِ هي مُشْتَمِلَةٌ عَلى الخَيْرِ والمِثْلِ مَعًا وإنَّما المُرادُ أنَّ كُلَّ صُورَةٍ مِنهُما لا تَخْلُو مِنَ الِاشْتِمالِ عَلى الخَيْرِ مِنها أوِ المِثْلِ لَها فَلِذَلِكَ جِيءَ بَأوْ في قَوْلِهِ ﴿بِخَيْرٍ مِنها أوْ مِثْلِها﴾ فَهي مُفِيدَةٌ لِأحَدِ الشَّيْئَيْنِ مَعَ جَوازِ الجَمْعِ. (p-٦٦٠)وتَحْقِيقُ هاتِهِ الصُّوَرِ بِأيْدِيكم، ولْنَضْرِبْ لِذَلِكَ أمْثالًا تُرْشِدُ إلى المَقْصُودِ وتُغْنِي عَنِ البَقِيَّةِ مَعَ عَدَمِ التِزامِ الدَّرَجِ عَلى القَوْلِ الأصَحِّ فَنَقُولُ: (١) نَسْخُ شَرِيعَةٍ مَعَ الإتْيانِ بِخَيْرٍ مِنها كَنَسْخِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ بِالإسْلامِ. (٢) نَسْخُ شَرِيعَةٍ مَعَ الإتْيانِ بِمِثْلِها كَنَسْخِ شَرِيعَةِ هُودٍ بِشَرِيعَةِ صالِحٍ فَإنَّ لِكُلٍّ فائِدَةً مُماثِلَةً لِلْأُخْرى في تَحْدِيدِ أحْوالِ أُمَّتَيْنِ مَتَقارِبَتَيِ العَوائِدِ والأخْلاقِ فَهُودٌ نَهاهم أنْ يَبْنُوا بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً يَعْبَثُونَ وصالِحٌ لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ ونَهى عَنِ التَّعَرُّضِ لِلنّاقَةِ بِسُوءٍ. (٣) نَسْخُ حُكْمٍ في شَرِيعَةٍ بِخَيْرٍ مِنهُ مِثْلُ نَسْخِ كَراهَةِ الخَمْرِ الثّابِتَةِ بِقَوْلِهِ ﴿قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ﴾ [البقرة: ٢١٩] بِتَحْرِيمِها بَتاتًا فَهَذِهِ النّاسِخَةُ خَيْرٌ مِن جِهَةِ المَصْلَحَةِ دُونَ الرِّفْقِ، وقَدْ يَكُونُ النّاسِخُ خَيْرًا في الرِّفْقِ كَنَسْخِ تَحْرِيمِ الأكْلِ والشُّرْبِ وقُرْبانِ النِّساءِ في لَيْلِ رَمَضانَ بَعْدَ وقْتِ الإفْطارِ عِنْدَ الغُرُوبِ إذا نامَ الصّائِمُ قَبْلَ أنْ يَتَعَشّى بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] إلى قَوْلِهِ: مِنَ الفَجْرِ قالَ في الحَدِيثِ في صَحِيحِ البُخارِيِّ فَفَرِحَ المُسْلِمُونَ بِنُزُولِها. (٤) نَسْخُ حُكْمٍ في الشَّرِيعَةِ بِحُكْمٍ مِثْلِهِ كَنَسْخِ الوَصِيَّةِ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ بِتَعْيِينِ الفَرائِضِ والكُلُّ نافِعٌ لِلْكُلِّ في إعْطائِهِ مالًا، وكَنَسْخِ فَرْضِ خَمْسِينَ صَلاةً بِخَمْسِ صَلَواتٍ مَعَ جَعْلِ ثَوابِ الخَمْسِينَ لِلْخَمْسِ فَقَدْ تَماثَلَتا مِن جِهَةِ الثَّوابِ، وكَنَسْخِ آيَةِ ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعامِ مَساكِينَ﴾ [البقرة: ١٨٤] بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥] إلى قَوْلِهِ ﴿وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٤] فَإثْباتُ كَوْنِ الصَّوْمِ خَيْرًا مِنَ الفِدْيَةِ. (٥) إنْساءٌ بِمَعْنى التَّأْخِيرِ لِشَرِيعَةٍ مَعَ مَجِيءِ خَيْرٍ مِنها، تَأْخِيرُ ظُهُورِ دِينِ الإسْلامِ في حِينِ الإتْيانِ بِشَرائِعَ سَبَقَتْهُ كُلُّ واحِدَةٍ مِنها هي خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمَّةِ الَّتِي شُرِعَتْ لَها والعَصْرِ الَّذِي شُرِعَتْ فِيهِ فَإنَّ الشَّرائِعَ تَأْتِي لِلنّاسِ بِما يُناسِبُ أحْوالَهم حَتّى يَتَهَيَّأ البَشَرُ كُلُّهم لِقَبُولِ الشَّرِيعَةِ الخاتِمَةِ الَّتِي هي الدِّينُ عِنْدَ اللَّهِ فالخَيْرِيَّةُ هُنا بِبَعْضِ مَعانِيها وهي نِسْبِيَّةٌ. (٦) إنْساءُ شَرِيعَةٍ بِمَعْنى تَأْخِيرِ مَجِيئِها مَعَ إرادَةِ اللَّهِ تَعالى وُقُوعَهُ بَعْدَ حِينٍ ومَعَ الإتْيانِ بِمِثْلِها كَتَأْخِيرِ شَرِيعَةِ عِيسى في وقْتِ الإتْيانِ بِشَرِيعَةِ مُوسى وهي خَيْرٌ مِنها مِن حَيْثُ الِاشْتِمالِ عَلى مُعْظَمِ المَصالِحِ وما تَحْتاجُ إلَيْهِ الأُمَّةُ. (٧) إنْساءٌ بِمَعْنى تَأْخِيرِ الحُكْمِ المُرادِ مَعَ الإتْيانِ بِخَيْرٍ مِنهُ كَتَأْخِيرِ تَحْرِيمِ الخَمْرِ وهو مُرادٌ مَعَ الإتْيانِ بِكَراهَتِهِ أوْ تَحْرِيمِهِ في أوْقاتِ الصَّلَواتِ فَقَطْ فَإنَّ المَأْتِيَّ بِهِ خَيْرٌ مِنَ التَّحْرِيمِ مِن حَيْثُ الرِّفْقِ بِالنّاسِ في حَمْلِهِمْ عَلى مُفارَقَةِ شَيْءٍ افْتَتَنُوا بِمَحَبَّتِهِ. (٨) إنْساءُ شَرِيعَةٍ بِمَعْنى بَقائِها غَيْرَ مَنسُوخَةٍ إلى أمَدٍ مَعْلُومٍ مَعَ الإتْيانِ بِخَيْرٍ مِنها أيْ أوْسَعُ وأعَمُّ مَصْلَحَةً وأكْثَرُ (p-٦٦١)ثَوابًا لَكِنْ في أُمَّةٍ أُخْرى أوْ بِمِثْلِها كَذَلِكَ. (٩) إنْساءُ آيَةٍ مِنَ القُرْآنِ بِمَعْنى بَقائِها غَيْرَ مَنسُوخَةٍ إلى أمَدٍ مَعْلُومٍ مَعَ الإتْيانِ بِخَيْرٍ مِنها في بابٍ آخَرَ أيْ أعَمُّ مَصْلَحَةً أوْ بِمِثْلِها في بابٍ آخَرَ أيْ مِثْلِها مَصْلَحَةً أوْ ثَوابًا مِثْلَ تَحْرِيمِ الخَمْرِ في وقْتِ الصَّلَواتِ ويَنْزِلُ في تِلْكَ المُدَّةِ تَحْرِيمُ البَيْعِ في وقْتِ صَلاةِ الجُمُعَةِ. (١٠) نِسْيانُ شَرِيعَةٍ بِمَعْنى اضْمِحْلالُها كَشَرِيعَةِ آدَمَ ونُوحٍ مَعَ مَجِيءِ شَرِيعَةِ مُوسى وهي أفْضَلُ وأوْسَعُ وشَرِيعَةِ إدْرِيسَ مَثَلًا وهي مِثْلُ شَرِيعَةِ نُوحٍ. (١١) نِسْيانُ حُكْمِ شَرِيعَةٍ مَعَ مَجِيءِ خَيْرٍ مِنهُ أوْ مِثْلِهِ، كانَ فِيما نَزَلَ عَشْرُ رَضَعاتٍ مَعْلُوماتٍ يُحَرِّمْنَ، فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُوماتٍ ثُمَّ نُسِيا مَعًا وجاءَتْ آيَةُ ﴿وأخَواتُكم مِنَ الرَّضاعَةِ﴾ [النساء: ٢٣] عَلى الإطْلاقِ والكُلُّ مُتَماثِلٌ في إثْباتِ الرَّضاعَةِ ولا مَشَقَّةَ عَلى المُكَلَّفِينَ في رَضْعَةٍ أوْ عَشْرٍ لِقُرْبِ المِقْدارِ. وقِيلَ المُرادُ مِنَ النِّسْيانِ التَّرْكُ وهو حِينَئِذٍ يَرْجِعُ مَعْناهُ وصُوَرُهُ إلى مَعْنى وصُوَرِ الإنْساءِ بِمَعْنى التَّأْخِيرِ. والمَقْصِدُ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها أوْ مِثْلِها﴾ إظْهارُ مُنْتَهى الحِكْمَةِ والرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم لا يَهُمُّهم أنْ تُنْسَخَ شَرِيعَةٌ بِشَرِيعَةٍ أوْ حُكْمٌ في شَرِيعَةٍ بِحُكْمٍ آخَرَ ولا يَقْدَحُ ذَلِكَ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى ولا في حِكْمَتِهِ ولا رُبُوبِيَّتِهِ لِأنَّهُ ما نَسَخَ شَرْعًا أوْ حُكْمًا ولا تَرَكَهُ إلّا وهو قَدْ عَوَّضَ النّاسَ ما هو أنْفَعُ لَهم مِنهُ حِينَئِذٍ أوْ ما هو مِثْلُهُ مِن حَيْثُ الوَقْتِ والحالِ، وما أخَّرَ حُكْمًا في زَمَنٍ ثُمَّ أظْهَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلّا وقَدْ عَوَّضَ النّاسَ في إبّانِ تَأْخِيرِهِ ما يَسُدُّ مَسَدَّهُ بِحَسَبِ أحْوالِهِمْ، وذَلِكَ مَظْهَرُ الرُّبُوبِيَّةِ فَإنَّهُ يَرُبُّ الخَلْقَ ويَحْمِلُهم عَلى مَصالِحِهِمْ مَعَ الرِّفْقِ بِهِمْ والرَّحْمَةِ، ومُرادُ اللَّهِ تَعالى في تِلْكَ الأزْمِنَةِ والأحْوالِ كُلِّها واحِدٌ وهو حِفْظُ نِظامِ العالَمِ وضَبْطُ تَصَرُّفِ النّاسِ فِيهِ عَلى وجْهٍ يَعْصِمُ أحْوالَهم مِنَ الِاخْتِلالِ بِحَسَبِ العُصُورِ والأُمَمِ والأحْوالِ إلى أنْ جاءَ بِالشَّرِيعَةِ الخاتِمَةِ وهي مُرادُ اللَّهِ تَعالى مِنَ النّاسِ ولِذَلِكَ قالَ ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩] وقالَ أيْضًا ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا﴾ [الشورى: ١٣] الآيَةَ. والظّاهِرُ أنَّ الإتْيانَ بِخَيْرٍ أوْ بِمِثْلٍ راجِعٌ إلى كُلٍّ مِنَ النَّسْخِ والإنْساءِ فَيَكُونُ الإتْيانُ بِخَيْرٍ مِنَ المَنسُوخَةِ أوِ المُنْساةِ أوْ بِمِثْلِها ولَيْسَ الكَلامُ مِنَ اللَّفِّ والنَّشْرِ. فَقَوْلُهُ تَعالى (﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها أوْ مِثْلِها﴾) هو إمّا إتْيانُ تَعْوِيضٍ أوْ إتْيانُ تَعْزِيزٍ. وتَوْزِيعُ هَذا (p-٦٦٢)الضّابِطِ عَلى الصُّوَرِ المُتَقَدِّمَةِ غَيْرُ عَزِيزٍ. والمَعْنى إنّا لَمْ نَتْرُكِ الخَلْقَ في وقْتٍ سُدًى. وأنْ لَيْسَ في النَّسْخِ ما يُتَوَهَّمُ مِنهُ البَدا. وفِي الآيَةِ إيجازٌ بَدِيعٌ في التَّقْسِيمِ قَدْ جَمَعَ هاتِهِ الصُّوَرَ الَّتِي سَمِعْتُمُوها وصُوَرًا تَنْشَقُّ مِنها لا أسْألُكُمُوها لِأنَّهُ ما فُرِضَتْ مِنها صُورَةٌ بَعْدَ هَذا إلّا عَرَفْتُمُوها. ومِمّا يَقِفُ مِنهُ الشَّعْرُ ولا يَنْبَغِي أنْ يُوَجَّهَ إلَيْهِ النَّظَرُ ما قالَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ في قَوْلُهُ تَعالى ”نُنْسِها“ أنَّهُ إنْساءُ اللَّهِ تَعالى المُسْلِمِينَ لِلْآيَةِ أوْ لِلسُّورَةِ، أيْ إذْهابُها عَنْ قُلُوبِهِمْ أوْ إنْساؤُهُ النَّبِيءَ ﷺ إيّاها فَيَكُونُ نِسْيانُ النّاسِ كُلِّهِمْ لَها في وقْتٍ واحِدٍ دَلِيلًا عَلى النَّسْخِ واسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثٍ أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ بِسَنَدِهِ إلى ابْنِ عُمَرَ: «قالَ قَرَأ رَجُلانِ سُورَةً أقْرَأهُما إيّاها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقاما ذاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّيانِ فَلَمْ يَقْدِرا مِنها عَلى حَرْفٍ فَغَدَيا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرا ذَلِكَ لَهُ فَقالَ لَهُما: إنَّها مِمّا نُسِخَ وأُنْسِيَ فالهُوا عَنْها» . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذا الحَدِيثُ في سَنَدِهِ سُلَيْمانُ بْنُ أرْقَمَ وهو ضَعِيفٌ وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ أغْرَبَ بِهِ الطَّبَرانِيُّ وكَيْفَ خَفى مِثْلُهُ عَلى أئِمَّةِ الحَدِيثِ. والصَّحِيحُ أنَّ نِسْيانَ النَّبِيءِ ما أرادَ اللَّهُ نَسْخَهُ ولَمْ يُرِدْ أنْ يُثْبِتَهُ قُرْآنًا جائِزٌ، أيْ لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فَأمّا النِّسْيانُ الَّذِي هو آفَةٌ في البَشَرِ فالنَّبِيءُ مَعْصُومٌ عَنْهُ قَبْلَ التَّبْلِيغِ، وأمّا بَعْدَ التَّبْلِيغِ وحِفْظِ المُسْلِمِينَ لَهُ فَجائِزٌ وقَدْ رُوِيَ أنَّهُ أسْقَطَ آيَةً مِن سُورَةٍ في الصَّلاةِ فَلَمّا فَرَغَ قالَ لِأُبَيٍّ لِمَ لَمْ تُذَكِّرْنِي ؟ قالَ: حَسِبْتُ أنَّها رُفِعَتْ، قالَ: لا، ولَكِنِّي نُسِّيتُها اهـ. والحَقُّ عِنْدِي أنَّ النِّسْيانَ العارِضَ الَّذِي يُتَذَكَّرُ بَعْدَهُ جائِزٌ ولا تُحْمَلُ عَلَيْهِ الآيَةُ لِمُنافاتِهِ لِظاهِرِ قَوْلِهِ: (﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها أوْ مِثْلِها﴾) وأمّا النِّسْيانُ المُسْتَمِرُّ لِلْقُرْآنِ فَأحْسَبُ أنَّهُ لا يَجُوزُ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى﴾ [الأعلى: ٦] دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وقَوْلُهُ: (﴿إلّا ما شاءَ اللَّهُ﴾ [الأعلى: ٧]) هو مِن بابِ التَّوْسِعَةِ في الوَعْدِ، وسَيَأْتِي بَيانُ ذَلِكَ في سُورَةِ الأعْلى. وأمّا ما ورَدَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أنَسٍ قالَ: كُنّا نَقْرَأُ سُورَةً نُشَبِّهُها في الطُّولِ بِبَراءَةٌ فَأُنْسِيتُها غَيْرَ أنِّي حَفِظْتُ مِنها لَوْ كانَ لِابْنِ آدَمَ وادِيانِ مِن مالٍ لابْتَغى لَهُما ثالِثًا وما يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلّا التُّرابُ، ويَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَن تابَ اهـ. فَهو غَرِيبٌ وتَأْوِيلُهُ أنْ هُنالِكَ سُورَةً نُسِخَتْ قِراءَتُها وأحْكامُها، ونِسْيانُ المُسْلِمِينَ لِما نُسِخَ لَفْظُهُ مِنَ القُرْآنِ غَيْرُ عَجِيبٍ عَلى أنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ اهـ. وقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ النَّسْخَ واقِعٌ وقَدِ اتَّفَقَ عُلَماءُ الإسْلامِ عَلى جَوازِ النَّسْخِ ووُقُوعِهِ ولَمْ يُخالِفْ في ذَلِكَ إلّا أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ فَقِيلَ إنَّ خِلافَهُ لَفْظِيٌّ وتَفْصِيلُ (p-٦٦٣)الأدِلَّةِ في كُتُبِ أُصُولِ الفِقْهِ. وقَدْ قَسَّمُوا نَسْخَ أدِلَّةِ الأحْكامِ ومَدْلُولاتِها إلى أقْسامٍ: نَسْخُ التِّلاوَةِ والحُكْمِ مَعًا وهو الأصْلُ ومَثَّلُوهُ بِما رُوِيَ عَنْ أبِي بَكْرٍ كانَ فِيما أُنْزِلَ [ لا تَرْغَبُوا عَنْ آبائِكم فَإنَّهُ كُفْرٌ بِكم أنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبائِكم ] . ونَسْخُ الحُكْمِ وبَقاءُ التِّلاوَةِ وهَذا واقِعٌ لِأنَّ إبْقاءَ التِّلاوَةِ يُقْصَدُ مِنهُ بَقاءُ الإعْجازِ بِبَلاغَةِ الآيَةِ، ومِثالُهُ آيَةُ ﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ﴾ [الأنفال: ٦٥] إلى آخِرِ الآياتِ. ونَسْخُ التِّلاوَةِ وبَقاءُ الحُكْمِ ومَثَّلُوهُ بِما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ كانَ فِيما يُتْلى: الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما وعِنْدِي أنَّهُ لا فائِدَةَ في نَسْخِ التِّلاوَةِ وبَقاءِ الحُكْمِ وقَدْ تَأوَّلُوا قَوْلَ عُمَرَ كانَ فِيما يُتْلى أنَّهُ كانَ يُتْلى بَيْنَ النّاسِ تَشْهِيرًا بِحُكْمِهِ. وقَدْ كانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحابَةِ يَرى أنَّ الآيَةَ إذا نُسِخَ حُكْمُها لا تَبْقى كِتابَتُها في المُصْحَفِ فَفي البُخارِيِّ في التَّفْسِيرِ قالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمانَ ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا﴾ [البقرة: ٢٤٠] نَسَخَتْها الآيَةُ الأُخْرى فَلِمَ تَكْتُبُها قالَ: يا ابْنَ أخِي، لا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنهُ مِن مَكانِهِ. * * * ﴿ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ مَسُوقٌ لِبَيانِ حِكْمَةِ الشَّيْخِ والإتْيانِ بِالخَيْرِ والمِثْلِ بَيانًا غَيْرَ مُفَصَّلٍ عَلى طَرِيقَةِ الأُسْلُوبِ الحَكِيمِ وذَلِكَ أنَّهُ بَعْدَ أنْ فَرَغَ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلى أنَّ النَّسْخَ الَّذِي اسْتَبْعَدُوهُ وتَذَرَّعُوا بِهِ لِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ هو غَيْرُ مُفارِقٍ لِتَعْوِيضِ المَنسُوخِ بِخَيْرٍ مِنهُ أوْ مِثْلِهِ أوْ تَعْزِيزِ المُبَقّى بِمِثْلِهِ أُرِيدَ أنْ يَنْتَقِلَ مِن ذَلِكَ إلى كَشْفِ ما بَقِيَ مِنَ الشُّبْهَةِ وهي أنْ يَقُولَ المُنْكِرُ وما هي الفائِدَةُ في النَّسْخِ حَتّى يَحْتاجَ لِلتَّعْوِيضٍ وكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يَتَصَدّى لِبَيانِ اخْتِلافِ المَصالِحِ ومُناسَبَتِها لِلْأحْوالِ والأعْصارِ ولِبَيانِ تَفاصِيلِ الخَيْرِيَّةِ والمِثْلِيَّةِ في كُلِّ ناسِخٍ ومَنسُوخٍ ولَمّا كانَ التَّصَدِّي لِذَلِكَ أمْرًا لَمْ تَتَهَيَّأْ لَهُ عُقُولُ السّامِعِينَ لِعُسْرِ إدْراكِهِمْ مَراتِبَ المَصالِحِ وتَفاوُتِها لِأنَّ ذَلِكَ مِمّا يَحْتاجُ إلى تَأْصِيلِ قَواعِدٍ مِن أُصُولٍ شَرْعِيَّةٍ وسِياسِيَّةٍ، عَدَلَ بِهِمْ عَنْ بَيانِ ذَلِكَ وأُجْمِلَتْ لَهُمُ المَصْلَحَةُ بِالحِوالَةِ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى الَّتِي لا يَشِذُّ عَنْها مُمْكِنٌ مُرادٌ، وعَلى سَعَةِ مُلْكِهِ المُشْعِرِ بِعَظِيمِ عِلْمِهِ. وعَلى حاجَةِ المَخْلُوقاتِ إلَيْهِ إذْ لَيْسَ لَهم رَبٌّ سِواهُ ولا ولِيٌّ دُونَهُ وكَفى بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلى أنَّهُ يَحْمِلُهم (p-٦٦٤)عَلى مَصالِحِهِمْ في سائِرِ الأحْوالِ. ومِمّا يَزِيدُ هَذا العُدُولَ تَوْجِيهًا أنَّ التَّصَدِّيَ لِلْبَيانِ يَفَتْحُ بابَ الجِدالِ في إثْباتِ المَصْلَحَةِ وتَفاوُتِ ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلافِ القَرائِحِ والفُهُومِ. ولِأنَّ أسْبابَ التَّشْرِيعِ والنَّسْخِ أقْسامٌ مِنهُ ما ظَهَرَ وجْهُهُ بِالنَّصِّ فَيُمْكِنُ إفْهامُهم إيّاهُ نَحْوَ قَوْلِهِ ﴿إنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ﴾ [المائدة: ٩١] الآيَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ [النساء: ٤٣] الآيَةَ، ونَحْوَ ﴿وعَلِمَ أنَّ فِيكم ضَعْفًا﴾ [الأنفال: ٦٦] الآيَةَ. ومِنها ما يَعْسُرُ إفْهامُهم إيّاهُ لِأنَّهُ يَحْتاجُ إلى عِلْمٍ وتَفْصِيلٍ مِن شَأْنِ المُشَرِّعِينَ وعُلَماءِ الأُصُولِ كالأشْياءِ الَّتِي عُرِفَتْ بِالقِياسِ وأُصُولِ التَّشْرِيعِ. ومِنها ما لَمْ يُطْلَعْ عَلى حِكْمَتِهِ في ذَلِكَ الزَّمانِ أوْ فِيما يَلِيهِ ولَمّا كانَ مُعْظَمُ هاتِهِ التَّفاصِيلِ يَعْسُرُ أوْ يَعْتَذِرُ إفْهامُهم إيّاهُ وقَعَ العُدُولُ المَذْكُورُ. ولِكَوْنِ هاتِهِ الجُمْلَةِ تَتَنَزَّلُ مَنزِلَةَ البَيانِ لِلْأُولى فُصِلَتْ عَنْها. والخِطابُ في ”تَعْلَمْ“ لَيْسَ مُرادًا مِنهُ ظاهِرَةُ الواحِدِ وهو النَّبِيءُ ﷺ بَلْ هو إمّا خِطابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ خارِجٍ عَلى طَرِيقَةِ المَجازِ بِتَشْبِيهِ مَن لَيْسَ حاضِرًا لِلْخِطابِ وهو الغائِبُ مَنزِلَةَ المُخاطَبِ في كَوْنِهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ مُخاطَبًا لِشُهْرَةِ هَذا الأمْرِ والمَقْصِدُ مِن ذَلِكَ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخاطَبٍ صالِحٍ لَهُ وهو كُلُّ مَن يَظُنُّ بِهِ أوْ يَتَوَهَّمُ مِنهُ أنَّهُ لا يَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ولَوْ بِعَدَمِ جَرَيانِهِ عَلى مُوجِبِ عِلْمِهِ، وإلى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مالَ القُطْبُ والطِّيبِيُّ مِن شُرّاحِ الكَشّافِ وعَلَيْها يَشْمَلُ هَذا الخِطابُ ابْتِداءَ اليَهُودِ والمُشْرِكِينَ ومَن عَسى أنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الأمْرُ وتُرَوَّجَ عَلَيْهِ الشُّبْهَةُ مِن ضُعَفاءِ المُسْلِمِينَ، أمّا غَيْرُهم فَغَنِيٌّ عَنِ التَّقْرِيرِ في الظّاهِرِ وإنَّما أُدْخِلَ فِيهِ لِيَسْمَعَ غَيْرُهُ. وإمّا مُرادٌ بِهِ ظاهِرُهُ وهو الواحِدُ فَيَكُونُ المُخاطَبُ هو النَّبِيءَ ﷺ لَكِنَّ المَقْصُودَ مِنهُ المُسْلِمُونَ فَيَنْتَقِلُ مِن خِطابِ النَّبِيءِ إلى مُخاطَبَةِ أُمَّتِهِ انْتِقالًا كِنائِيًّا لِأنَّ عِلْمَ الأُمَّةِ مِن لَوازِمِ عِلْمِ الرَّسُولِ مِن حَيْثُ إنَّهُ رَسُولٌ لُزُومًا عُرْفِيًّا فَكُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِهِ بِعُنْوانِ الرِّسالَةِ فالمُرادُ مِنهُ أُمَّتُهُ لِأنَّ ما يَثْبُتُ لَهُ مِنَ المَعْلُوماتِ في بابِ العَقائِدِ والتَّشْرِيعِ فَهو حاصِلٌ لَهم فَتارَةً يُرادُ مِنَ الخِطابِ تَوَجُّهُ مَضْمُونِ الخِطابِ إلَيْهِ ولِأُمَّتِهِ وتارَةً يُقْصَدُ مِنهُ تَوَجُّهُ المَضْمُونِ لِأُمَّتِهِ فَقَطْ عَلى قاعِدَةِ الكِتابَةِ في جَوازِ إرادَةِ المَعْنى الأصْلِيِّ مَعَ الكِنائِيِّ، وهاهُنا لا يَصْلُحُ تَوَجُّهُ المَضْمُونِ لِلرَّسُولِ لِأنَّهُ لا يُقَرِّرُ عَلى الِاعْتِرافِ بِأنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَضْلًا عَنْ أنْ يُنْكِرَ عَنْهُ، وإنَّما التَّقْرِيرُ لِلْأُمَّةِ، والمَقْصِدُ مِن تِلْكَ الكِنايَةِ التَّعْرِيضُ بِاليَهُودِ. وإنَّما سَلَكَ هَذا الطَّرِيقَ (p-٦٦٥)دُونَ أنْ يُؤْتى بِضَمِيرِ الجَماعَةِ المُخاطَبِينَ لِما في سُلُوكِ طَرِيقِ الكِنايَةِ مِنَ البَلاغَةِ والمُبالَغَةِ مَعَ الإيجازِ في لَفْظِ الضَّمِيرِ. والِاسْتِفْهامُ تَقْرِيرِيٌّ عَلى الوَجْهَيْنِ وهو شَأْنُ الِاسْتِفْهامِ الدّاخِلِ عَلى النَّفْيِ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ألَمْ أقُلْ لَكم إنِّيَ أعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [البقرة: ٣٣] أيْ أنَّكم تَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ قَدِيرٌ وتَعْلَمُونَ أنَّهُ مالِكُ السَّماواتِ والأرْضِ بِما يَجْرِي فِيهِما مِنَ الأحْوالِ، فَهو مُلْكُهُ أيْضًا فَهو يُصَرِّفُ الخَلْقَ كَيْفَ يَشاءُ. وقَدْ أشارَ في الكَشّافِ إلى أنَّهُ تَقْرِيرِيٌّ وصَرَّحَ بِهِ القُطْبُ في شَرْحِهِ ولَمْ يُسْمَعْ في كَلامِ العَرَبِ اسْتِفْهامٌ دَخَلَ عَلى النَّفْيِ إلّا وهو مُرادٌ بِهِ التَّقْرِيرُ. وقَوْلُهُ ﴿ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ قالَ البَيْضاوِيُّ: هو مُتَنَزِّلٌ مِنَ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ مَنزِلَةَ الدَّلِيلِ لِأنَّ الَّذِي يَكُونُ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ لا جَرَمَ أنْ يَكُونَ قَدِيرًا عَلى كُلِّ شَيْءٍ ولِذا فُصِلَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَها. وعِنْدِي أنَّ مُوجِبَ الفَصْلِ هو أنْ هاتِهِ الجُمْلَةَ بِمَنزِلَةِ التَّكْرِيرِ لِلْأُولى لِأنَّ مَقامَ التَّقْرِيرِ ومَقامَ التَّوْبِيخِ كِلاهُما مَقامُ تَكْرِيرٍ لِما بِهِ التَّقْرِيرُ والإنْكارُ تَعْدِيدًا عَلى المُخاطَبِ.