ركن التفسير
114 - (ومن أظلم) أي لا أحد أظلم (ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) بالصلاة والتسبيح (وسعى في خرابها) بالهدم أو التعطيل ، نزلت إخباراً عن الروم الذين خربوا بيت المقدس أو في المشركين لما صدوا النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عن البيت (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) خبر بمعنى الأمر أي أخيفوهم بالجهاد فلا يدخلها أحدٌ آمناً0 (لهم في الدنيا خزي) هوان بالقتل والسبي والجزية (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) هو النار
اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين: أحدهما ما رواه العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه" قال هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه. وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "وسعى في خرابها" قال هو بختنصر وأصحابه خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك النصارى وقال سعيد عن قتادة: قال أولئك أعداء الله النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه وأمر أن تطرح فيه الجيف وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا وروي نحوه عن الحسن البصري "القول الثاني" ما رواه ابن جرير: حدثني يونس بن عبدالأعلى حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها" قال هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم وقال لهم "ما كان أحد يصد عن هذا البيت وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده" فقالوا لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق وفي قوله "وسعى في خرابها" قال إذا قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة. وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن قريشا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه" ثم اختار ابن جرير القول الأول واحتج بأن قريشا لم تسع في خراب الكعبة وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس " قلت "والذي يظهر- والله أعلم - القول الثاني كما قاله ابن زيد. وروي عن ابن عباس لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس كأن دينهم أقوم من دين اليهود وكانوا أقرب منهم ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا إذ ذاك لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وأيضا فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول وأصحاب من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم كما قال تعالى "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون" وقال تعالى "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين" وقال تعالى "هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما" فقال تعالى "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله" فإذا كان من هو كذلك مطرودا منها مصدودا عنها فأي خراب لها أعظم من ذلك؟ وليس المراد بعمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها ورفعها عن الدنس والشرك. وقوله تعالى "أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين" هذا خبر معناه الطلب أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادي برحاب منى "ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ومن كان له أجل فأجله إلى مدته" وهذا إذا كان تصديقا وعملا بقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" وقال بعضهم ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها. والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وغيرهم وقيل إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم. وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان وأن يجلي اليهود والنصارى منها ولله الحمد والمنة. وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا صلوات الله وسلامه عليه وهذا هو الخزي لهم في الدنيا لأن الجزاء من جنس العمل فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام صدوا عنه وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها "ولهم في الآخرة عذاب عظيم" على ما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه من نصب الأصنام حوله ودعاء غير الله عنده والطواف به عرايا وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله وأما من فسر بيت المقدس فقال كعب الأحبار إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين" الآية فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفا وقال السدي فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها وقال قتادة لا يدخلون المساجد إلا مسارقة قلت وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية فإن النصارى ما ظلموا بيت المقدس بامتهان الصخرة التي كانت تصلي إليها اليهود عوقبوا شرعا وقدرا بالذلة فيه إلا في أحيان من الدهر أشحن بهم بيت المقدس وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضا أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم والله أعلم وفسر هؤلاء الخزي من الدنيا بخروج المهدي عند السدي وعكرمة ووائل بن داود وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد أخبرنا الهيثم بن خارجة أخبرنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس سمعت أبي يحدث عن بشر بن أرطاة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة" وهذا حديث حسن وليس في شيء من الكتب السنة وليس لصحابيه وهو بشر بن أرطاة حديث سواه وسوى حديث لا تقطع الأيدي في الغزو.
﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ وسَعى في خَرابِها أُولَئِكَ ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلّا خائِفِينَ لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿وقالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ﴾ [البقرة: ١١٣] بِاعْتِبارِ ما سَبَقَ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى أفانِينِ أهْلِ الكِتابِ في الجُرْاءَةِ وسُوءِ المَقالَةِ أيْ أنَّ قَوْلَهم هَذا وما تَقَدَّمُهُ ظُلْمٌ ولا كَظُلْمِ مَن مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ وهَذا اسْتِطْرادٌ واقِعٌ مُعْتَرِضًا بَيْنَ ذِكْرِ أحْوالِ اليَهُودِ والنَّصارى لِذِكْرِ مَساوِئِ المُشْرِكِينَ في سُوءِ تَلَقِّيهم دَعْوَةَ الإسْلامِ الَّذِي جاءَ لِهَدْيِهِمْ ونَجاتِهِمْ. والآيَةُ نازِلَةٌ في مُشْرِكِي العَرَبِ كَما في رِوايَةِ عَطاءٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ ﴿أُولَئِكَ ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلّا خائِفِينَ﴾ الآيَةَ كَما سَيَأْتِي وهي تُشِيرُ إلى مَنعِ أهْلِ مَكَّةَ النَّبِيءَ ﷺ والمُسْلِمِينَ مِنَ الدُّخُولِ لِمَكَّةَ كَما جاءَ في حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ (p-٦٧٩)حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ خِفْيَةً وقالَ لَهُ أبُو جَهْلٍ: ألا أراكَ تَطُوفُ بِالبَيْتِ آمِنًا وقَدْ أوَيْتُمُ الصِّباءَ، وتَكَرَّرَ ذَلِكَ في عامِ الحُدَيْبِيَةِ. وقِيلَ نَزَلَتْ في بُخْتُنَصَّرَ مَلِكِ أشُورَ وغَزْوِهِ بَيْتَ المَقْدِسِ ثَلاثَ غَزَواتٍ أوَّلاها في سَنَةِ ٦٠٦ قَبْلَ المَسِيحِ زَمَنَ المَلِكِ يَهُوياقِيمَ مَلِكِ اليَهُودِ سَبى فِيها جَمْعًا مِن شَعْبِ إسْرائِيلَ. والثّانِيَةُ بَعْدَ ثَمانِ سِنِينَ سَبى فِيها رُؤَساءَ المَمْلَكَةِ والمَلِكَ يَهُوا كِينَ بْنَ يَهُوياقِيمَ ونَهَبَ المَسْجِدَ المُقَدَّسَ مِن جَمِيعِ نَفائِسِهِ وكُنُوزِهِ. والثّالِثَةُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ في زَمَنِ المَلِكِ صِدْقِيا فَأسَرَ المَلِكَ وسَمَلَ عَيْنَيْهِ وأحْرَقَ المَسْجِدَ الأقْصى وجَمِيعَ المَدِينَةِ وسَبى جَمِيعَ بَنِي إسْرائِيلَ وانْقَرَضَتْ بِذَلِكَ مَمْلَكَةُ يَهُوذا وذَلِكَ سَنَةَ ٥٧٨ قَبْلَ المَسِيحِ وتُسَمّى هَذِهِ الواقِعَةُ بِالسَّبْيِ الثّالِثِ فَهو في كُلِّ ذَلِكَ قَدْ مَنَعَ مَسْجِدَ بَيْتِ المَقْدِسِ مِن أنْ يَذْكُرَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ وتَسَبَّبَ في خَرابِهِ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في غَزْوِ طَيْطَسَ الرُّومانِيِّ لِأُورَشْلِيمَ سَنَةَ ٧٩ قَبْلَ المَسِيحِ فَخَرَّبَ بَيْتَ المَقْدِسِ وأحْرَقَ التَّوْراةَ وتَرَكَ بَيْتَ المَقْدِسِ خَرابًا إلى أنْ بَناهُ المُسْلِمُونَ بَعْدَ فَتْحِ البِلادِ الشّامِيَّةِ. وعَلى هاتَيْنِ الرِّوايَتَيْنِ الأخِيرَتَيْنِ لا تَظْهَرُ مُناسَبَةٌ لِذِكْرِها عَقِبَ ما تَقَدَّمَ فَلا يَنْبَغِي بِناءُ التَّفْسِيرِ عَلَيْهِما. والوَجْهُ هو التَّعْوِيلُ عَلى الرِّوايَةِ الأُولى وهي المَأْثُورَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ فالمُناسِبَةُ أنَّهُ بَعْدَ أنْ وُفِّيَ أهْلُ الكِتابِ حَقَّهم مَن فَضْحِ نَواياهم في دِينِ الإسْلامِ وأهْلِهِ وبَيانِ أنَّ تِلْكَ شَنْشَنَةٌ مُتَأصِّلَةٌ فِيهِمْ مَعَ كُلِّ مَن جاءَهم بِما يُخالِفُ هَواهم وكانَ قَدْ أشارَ إلى أنَّ المُشْرِكِينَ شابُهُوهم في ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ ولا المُشْرِكِينَ أنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكم مِن خَيْرٍ مِن رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٠٥] عَطَفَ الكَلامَ إلى بَيانِ ما تَفَرَّعَ عَنْ عَدَمِ وِدادَةِ المُشْرِكِينَ نُزُولِ القُرْآنِ فَبَيَّنَ أنَّ ظُلْمَهم في ذَلِكَ لَمْ يَبْلُغْهُ أحَدٌ مِمَّنْ قَبْلَهم إذْ مَنَعُوا مَساجِدَ اللَّهِ وسَدُّوا طَرِيقَ الهُدى وحالُوا بَيْنَ النّاسِ وبَيْنَ زِيارَةِ المَسْجِدِ الحَرامِ الَّذِي هو فَخْرُهم وسَبَبُ مَكانَتِهِمْ ولَيْسَ هَذا شَأْنُ طالِبِ صَلاحِ الخَلْقِ بَلْ هَذا شَأْنُ الحاسِدِ المُغْتاظِ.والِاسْتِفْهامُ بِمَن إنْكارِيٌّ ولَمّا كانَ أصْلُ مَن أنَّها نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ أشُرِبَتْ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ وكانَ الِاسْتِفْهامُ الإنْكارِيُّ في مَعْنى النَّفْيِ صارَ الكَلامُ مِن وُقُوعِ النَّكِرَةِ في سِياقِ النَّفْيِ فَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِمَعْنى لا أحَدَ أظْلَمُ. (p-٦٨٠)والظُّلْمُ الِاعْتِداءُ عَلى حَقِّ الغَيْرِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِما لا يَرْضى بِهِ، ويُطْلَقُ عَلى وضْعِ الشَّيْءِ في غَيْرِ ما يَسْتَحِقُّ أنْ يُوضَعَ فِيهِ والمَعْنَيانِ صالِحانِ هُنا. وإنَّما كانُوا أظْلَمَ النّاسِ لِأنَّهم أتَوْا بِظُلْمٍ عَجِيبٍ فَقَدْ ظَلَمُوا المُسْلِمِينَ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ وهم أحَقُّ النّاسِ بِهِ وظَلَمُوا أنْفُسَهم بِسُوءِ السُّمْعَةِ بَيْنَ الأُمَمِ. وجَمَعَ المَساجِدَ وإنْ كانَ المُشْرِكُونَ مَنَعُوا الكَعْبَةَ فَقَطْ إمّا لِلتَّعْظِيمِ فَإنَّ الجَمْعَ يَجِيءُ لِلتَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وقَوْمَ نُوحٍ لَمّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أغْرَقْناهُمْ﴾ [الفرقان: ٣٧] وإمّا لِما فِيهِ مِن أماكِنِ العِبادَةِ وهي البَيْتُ والمَسْجِدُ الحَرامُ ومَقامُ إبْراهِيمَ والحَطِيمُ، وإمّا لِما يَتَّصِلُ بِهِ أيْضًا مِنَ الخَيْفِ ومِنًى والمَشْعَرِ الحَرامِ وكُلُّها مَساجِدُ والإضافَةُ عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ عَلى مَعْنى لامِ التَّعْرِيفِ العَهْدِيِّ، وإمّا لِقَصْدِ دُخُولِ جَمِيعِ مَساجِدِ اللَّهِ لِأنَّهُ جَمْعٌ تَعَرَّفَ بِالإضافَةِ ووَقَعَ في سِياقِ مَنعِ الَّذِي هو في مَعْنى النَّفْيِ لِيَشْمَلَ الوَعِيدُ كُلَّ مُخَرِّبٍ لِمَسْجِدٍ أوْ مانِعٍ مِنَ العِبادَةِ بِتَعْطِيلِهِ عَنْ إقامَةِ العِباداتِ ويَدْخُلُ المُشْرِكُونَ في ذَلِكَ دُخُولًا أوَّلِيًّا عَلى حُكْمِ وُرُودِ العامِّ عَلى سَبَبٍ خاصٍّ، والإضافَةُ عَلى هَذا الوَجْهِ عَلى مَعْنى لامِ الِاسْتِغْراقِ ولَعَلَّ ضَمِيرَ الجَمْعِ المَنصُوبَ في قَوْلِهِ ”أنْ يَدْخُلُوها“ يُؤَيِّدُ أنَّ المُرادَ مِنَ المَساجِدِ مَساجِدُ مَعْلُومَةٌ لِأنَّ هَذا الوَعِيدَ لا يَتَعَدّى لِكُلِّ مَن مَنَعَ مَسْجِدًا إذْ هو عِقابٌ دُنْيَوِيٌّ لا يَلْزَمُ اطِّرادُهُ في أمْثالِ المُعاقَبِ. والمُرادُ مِنَ المَنعِ مَنعُ العِبادَةِ في أوْقاتِها الخاصَّةِ بِها كالطَّوافِ والجَماعَةِ إذا قُصِدَ بِالمَنعِ حِرْمانُ فَرِيقٍ مِنَ المُتَأهِّلِينَ لَها مِنها. ولَيْسَ مِنهُ غَلْقُ المَساجِدِ في غَيْرِ أوْقاتِ الجَماعَةِ لِأنَّ صَلاةَ الفَذِّ لا تُفَضَّلُ في المَسْجِدِ عَلى غَيْرِهِ، وكَذَلِكَ غَلْقُها مِن دُخُولِ الصِّبْيانِ والمُسافِرِينَ لِلنَّوْمِ، وقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَرَفَةَ في دَرْسِ التَّفْسِيرِ عَنْ هَذا فَقالَ: غَلْقُ بابِ المَسْجِدِ في غَيْرِ أوْقاتِ الصَّلاةِ حِفْظٌ وصِيانَةٌ ا ه. وكَذَلِكَ مَنعُ غَيْرِ المُتَأهِّلِ لِدُخُولِهِ وقَدْ مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ المُشْرِكِينَ الطَّوافَ والحَجَّ ومَنَعَ مالِكٌ الكافِرَ مِن دُخُولِ المَسْجِدِ ومَعْلُومٌ مَنعُ الجُنُبِ والحائِضِ. والسَّعْيُ أصْلُهُ المَشْيُ ثُمَّ صارَ مَجازًا مَشْهُورًا في التَّسَبُّبِ المَقْصُودِ كالحَقِيقَةِ العُرْفِيَّةِ نَحْوَ ﴿ثُمَّ أدْبَرَ يَسْعى﴾ [النازعات: ٢٢] ويُعَدّى بِفي الدّالَّةِ عَلى التَّعْلِيلِ نَحْوَ: سَعَيْتُ في حاجَتِكَ فالمَنعُ هُنا حَقِيقَةٌ عَلى الرِّوايَةِ الأُولى المُتَقَدِّمَةِ في سَبَبِ النُّزُولِ والسَّعْيُ مَجازٌ في التَّسَبُّبِ غَيْرِ المَقْصُودِ فَهو مَجازٌ عَلى مَجازٍ. وأمّا عَلى الرِّوايَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ فالمَنعُ مَجازٌ والسَّعْيُ حَقِيقَةٌ لِأنَّ بُخْتُنَصَّرَ وطِيطَسَ لَمْ يَمْنَعا أحَدًا مِنَ الذِّكْرِ ولَكِنَّهُما تَسَبَّبا في الخَرابِ بِالأمْرِ بِالتَّخْرِيبِ فَأفْضى ذَلِكَ إلى المَنعِ وآلَ إلَيْهِ. (p-٦٨١)وقَوْلُهُ ﴿أُولَئِكَ ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلّا خائِفِينَ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ تُغْنِي عَنْ سُؤالٍ ناشِئٍ عَنْ قَوْلِهِ ”مَن أظْلَمُ“ أوْ عَنْ قَوْلِهِ ”سَعى“ لِأنَّ السّامِعَ إذا عَلِمَ أنَّ فاعِلَ هَذا أظْلَمُ النّاسِ أوْ سَمِعَ هَذِهِ الجُرْأةَ وهي السَّعْيُ في الخَرابِ تَطَلَّبَ بَيانُ جَزاءِ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ أوْ فَعَلَ هَذا. ويَجُوزُ كَوْنُها اعْتِراضًا بَيْنَ ”مَن أظْلَمُ“ وقَوْلِهِ ﴿لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ والإشارَةُ بِـ ”أُولَئِكَ“ بَعْدَ إجْراءِ الأوْصافِ الثَّلاثَةِ عَلَيْهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُمُ اسْتُحْضِرُوا بِتِلْكَ الأوْصافِ لِيُخْبَرَ عَنْهم بَعْدَ تِلْكَ الإشارَةِ بِخَبَرِهِمْ جَدِيرُونَ بِمَضْمُونِهِ عَلى حَدِّ ما تَقَدَّمَ في ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الجُمَلِ لَيْسَ هو بَيانُ جَزاءِ فِعْلِهِمْ أوِ التَّحْذِيرِ مِنهُ بَلِ المَقْصُودُ بَيانُ هاتِهِ الحالَةِ العَجِيبَةِ مِن أحْوالِ المُشْرِكِينَ بَعْدَ بَيانِ عَجائِبِ أهْلِ الكِتابِ ثُمَّ يُرَتِّبُ العِقابَ عَلى ذَلِكَ حَتّى تَعْلَمَ جَدارَتَهم بِهِ وقَدْ ذَكَرَ لَهم عُقُوبَتَيْنِ دُنْيَوِيَّةً وهي الخَوْفُ والخِزْيُ وأُخْرَوِيَّةً وهي العَذابُ العَظِيمُ. ومَعْنى ﴿ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلّا خائِفِينَ﴾ أنَّهم لا يَكُونُ لَهم بَعْدَ هَذِهِ الفِعْلَةِ أنْ يَدْخُلُوا تِلْكَ المَساجِدَ الَّتِي مَنَعُوها إلّا وهم خائِفُونَ فَإنَّ ”ما كانَ“ إذا وقَعَ أنْ والمُضارِعُ في خَبَرِها تَدُلُّ عَلى نَفْيِ المُسْتَقْبَلِ وإنَّ كانَ لَفْظُ ”كانَ“ لَفْظَ الماضِي، وأنْ هَذِهِ هي الَّتِي تَسْتَتِرُ عِنْدَ مَجِيءِ اللّامِ نَحْوَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم فَلا إشْعارَ لِهَذِهِ الجُمْلَةِ بِمُضِيٍّ. واللّامُ في قَوْلِهِ لَهم لِلِاسْتِحْقاقِ أيْ ما كانَ يَحِقُّ لَهُمُ الدُّخُولُ في حالَةٍ إلّا في حالَةِ الخَوْفِ فَهم حَقِيقُونَ بِها وأحْرِياءُ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى وهَذا وعِيدٌ بِأنَّهم قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أنْ تُرْفَعَ أيْدِيهِمْ مِنَ التَّصَرُّفِ في المَسْجِدِ الحَرامِ وشَعائِرِ اللَّهِ هُناكَ وتَصِيرَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُوا بَعْدَ ذَلِكَ لا يَدْخُلُونَ المَسْجِدَ الحَرامَ إلّا خائِفِينَ، ووَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وعْدَهُ فَكانُوا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ خائِفِينَ وجِلِينَ حَتّى نادى مُنادِي النَّبِيءِ ﷺ مَن دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرامَ فَهو آمِنٌ فَدَخَلَهُ الكَثِيرُ مِنهم مَذْعُورِينَ أنْ يُؤْخَذُوا بِالسَّيْفِ قَبْلَ دُخُولِهِمْ. وعَلى تَفْسِيرِ ”مَساجِدَ اللَّهِ“ بِالعُمُومِ يَكُونُ قَوْلُهُ ﴿ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها﴾ أيْ مَنَعُوا مَساجِدَ اللَّهِ في حالِ أنَّهم كانَ يَنْبَغِي لَهم أنْ يُدْخُلُوها خاشِعِينَ مِنَ اللَّهِ فَيُفَسَّرُ الخَوْفُ بِالخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ فَلِذَلِكَ كانُوا ظالِمِينَ بِوَضْعِ الجَبَرُوتِ في مَوْضِعِ الخُضُوعِ فاللّامُ عَلى هَذا في قَوْلِهِ ”ما كانَ لَهم“ لِلِاخْتِصاصِ وهَذا الوَجْهُ وإنْ فَرَضَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ إلّا أنَّ مَكانَ اسْمِ الإشارَةِ المُؤْذِنِ بِأنَّ ما بَعْدَهُ تَرَتَّبَ عَمّا قَبْلَهُ يُنافِيهِ لِأنَّ هَذا الِابْتِغاءَ مُتَقَرِّرٌ وسابِقٌ عَلى المَنعِ والسَّعْيِ في الخَرابِ. (p-٦٨٢)وقَوْلُهُ ﴿لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ اسْتِئْنافٌ ثانٍ ولَمْ يَعْطِفْ عَلى ما قَبْلَهُ لِيَكُونَ مَقْصُودًا بِالِاسْتِئْنافِ اهْتِمامًا بِهِ لِأنَّ المَعْطُوفَ لِكَوْنِهِ تابِعًا لا يَهْتَمُّ بِهِ السّامِعُونَ كَمالَ الِاهْتِمامِ ولِأنَّهُ يَجْرِي مِنَ الِاسْتِئْنافِ الَّذِي قَبْلَهُ مَجْرى البَيانِ مِنَ المُبِينِ فَإنَّ الخِزْيَ خَوْفٌ، والخِزْيُ الذُّلُّ والهَوانُ وذَلِكَ ما نالَ صَنادِيدَ المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ القَتْلِ الشَّنِيعِ والأسْرِ، وما نالَهم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مِن خِزْيِ الِانْهِزامِ. وقَوْلُهُ ﴿ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ عُطِفَتْ عَلى ما قَبْلَها لِأنَّها تَتْمِيمٌ لَها إذِ المَقْصُودُ مِن مَجْمُوعِهِما أنَّ لَهم عَذابَيْنِ عَذابًا في الدُّنْيا وعَذابًا في الآخِرَةِ. وعِنْدِي أنَّ نُزُولَ هَذِهِ الآيَةِ مُؤْذِنٌ بِالِاحْتِجاجِ عَلى المُشْرِكِينَ مِن سَبَبِ انْصِرافِ النَّبِيءِ عَنِ اسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ فَإنَّ مَنعَهُمُ المُسْلِمِينَ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ أشَدُّ مِنَ اسْتِقْبالِ غَيْرِ الكَعْبَةِ في الصَّلاةِ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرامِ وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧]