ركن التفسير
15 - (الله يستهزئ بهم) يجازيهم باستهزائهم (ويمدهم) يمهلهم (في طغيانهم) بتجاوزهم الحد في الكفر (يعمهون) يترددون تحيرا حال
وكذلك قال الربيع بن أنس وقتادة. وقوله تعالى جوابا لهم ومقابلة على صنيعهم "الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون" وقال ابن جرير أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب" الآية وقوله تعالى "ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما" الآية قال فهذا وما أشبهه من استهزاء الله تعالى ذكره وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ومتأول هذا التأويل قال: وقال آخرون بل استهزؤه بهم توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه والكفر به قال: وقال آخرون هذا وأمثاله على سبيل الجواب كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به أنا الذي خدعتك. ولم يكن منه خديعة ولكن - قال ذلك إذا صار الأمر إليه قالوا وكذلك قوله تعالى "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين" و "الله يستهزيء بهم" على الجواب والله لا يكون منه المكر ولا الهزؤ. والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم - وقال آخرون قوله تعالى "إنما نحن مستهزؤون الله يستهزىء بهم" وقوله "يخادعون الله وهو خادعهم" وقوله "فيسخرون منهم سخر الله منهم" و "نسوا الله فنسيهم" وما أشبه ذلك إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جاء الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى "وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله" وقوله تعالى "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه" فالأول ظلم والثانى عدل فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما قال وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك. قال وقال آخرون إن معنى ذلك أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم مستهزؤن فأخبر تعالى أنه يستهزىء بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة يعني من العذاب والنكال. ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل بالإجماع وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك. قال وبنحو ما قلنا فيه رُوي الخبر عن ابن عباس وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو عثمان حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى "الله يستهزىء بهم" قال يسخر بهم للنقمة منهم وقوله تعالى "ويمدهم في طغيانهم يعمهون" قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يمدهم يملي لهم وقال مجاهد يزيدهم وقال تعالى "أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات؟ بل لا يشعرون" وقال "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" قال بعضهم كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة وهي في الحقيقة نقمة وقال تعالى "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين". قال ابن جرير والصواب نزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم كما قال تعالى "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون" والطغيان هو المجاوزة في الشيء كما قال تعالى إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية وقال الضحاك عن ابن عباس في طغيانهم يعمهبون في كفرهم يترددون وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة وبه يقول أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس ومجاهد وأبو مالك وعبدالرحمن بن زيد في كفرهم وضلالتهم. قال ابن جرير والعمه الضلال. يقال عمه فلان يعمه عمها وعموها إذا ضل قال وقوله "في طغيانهم يعمهون" في ضلالتهم وكفرهم الذي غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها لا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا. وقال بعضهم العمى في العين والعمه في القلب وقد يستعمل العمى في القلب أيضا. قال الله تعالى "فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور" وتقول عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه وجمعه عمه وذهبت إله العمهاء إذا لم يدر أين ذهبت.
﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ لَمْ تُعْطَفْ هاتِهِ الجُمْلَةُ عَلى ما قَبْلَها لِأنَّها جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا جَوابًا لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ، وذَلِكَ أنَّ السّامِعَ لِحِكايَةِ قَوْلِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ: آمَنّا، وقَوْلِهِمْ لِشَياطِينِهِمْ: إنّا مَعَكم إلَخْ. يَقُولُ: لَقَدْ راجَتْ حِيلَتُهم عَلى المُسْلِمِينَ الغافِلِينَ عَنْ كَيْدِهِمْ، وهَلْ يَتَفَطَّنُ مُتَفَطِّنٌ في المُسْلِمِينَ لِأحْوالِهِمْ فَيُجازِيهِمْ عَلى اسْتِهْزائِهِمْ، أوْ هَلْ يَرُدُّ لَهم ما رامُوا مِنَ المُسْلِمِينَ، ومَنِ الَّذِي يَتَوَلّى مُقابَلَةَ صُنْعِهِمْ ؟ فَكانَ لِلِاسْتِئْنافِ بِقَوْلِهِ ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ غايَةُ الفَخامَةِ والجَزالَةِ. وهو أيْضًا واقِعٌ مَوْقِعَ الِاعْتِراضِ، والأكْثَرُ في الِاعْتِراضِ تَرْكُ العاطِفِ. وذِكْرُ: يَسْتَهْزِئُ دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَضْمُونَ الجُمْلَةِ مُجازاةٌ عَلى اسْتِهْزائِهِمْ. ولِأجَلِ اعْتِبارِ الِاسْتِئْنافِ قُدِّمَ اسْمُ اللَّهِ تَعالى عَلى الخَبَرِ الفِعْلِيِّ. ولَمْ يَقُلْ يَسْتَهْزِئُ اللَّهُ بِهِمْ، لِأنَّ مِمّا يَجُولُ في خاطِرِ السّائِلِ أنْ يَقُولَ: مَنِ الَّذِي يَتَوَلّى مُقابَلَةَ سُوءِ صَنِيعِهِمْ فَأُعْلِمَ أنَّ الَّذِي يَتَوَلّى ذَلِكَ هو رَبُّ العِزَّةِ تَعالى. وفي ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ المُنْتَصِرِ لَهم وهُمُ المُؤْمِنُونَ كَما قالَ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج: ٣٨] فَتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى الخَبَرِ الفِعْلِيِّ هُنا لِإفادَةِ تَقَوِّي الحُكْمِ لا مَحالَةَ، ثُمَّ يُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ قَصْرُ المُسْنَدِ عَلى المُسْنَدِ إلَيْهِ فَإنَّهُ لَمّا كانَ تَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى المُسْنَدِ الفِعْلِيِّ في سِياقِ الإيجابِ يَأْتِي لِتَقَوِّي الحُكْمِ ويَأْتِي لِلْقَصْرِ عَلى رَأْيِ الشَّيْخِ عَبْدِ القاهِرِ وصاحِبِ الكَشّافِ كَما صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾ [المزمل: ٢٠] في سُورَةِ المُزَّمِّلِ، كانَ الجَمْعُ بَيْنَ قَصْدِ التَّقَوِّي وقَصْدِ التَّخْصِيصِ جائِزًا في مَقاصِدِ الكَلامِ البَلِيغِ، وقَدْ جَوَّزَهُ في الكَشّافِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلا يَخافُ بَخْسًا ولا رَهَقًا﴾ [الجن: ١٣] في سُورَةِ الجِنِّ؛ لِأنَّ ما يُراعِيهِ البَلِيغُ مِنَ الخُصُوصِيّاتِ لا يَتْرُكُ حَمْلَ الكَلامِ البَلِيغِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ بِأبْلَغِ كَلامٍ، ولِذَلِكَ يُقالُ النُّكَتُ لا تَتَزاحَمُ. كانَ المُنافِقُونَ يَغُرُّهم ما يَرَوْنَ مِن صَفْحِ النَّبِيءِ ﷺ عَنْهم وإعْراضِ المُؤْمِنِينَ عَنِ التَّنازُلِ لَهم فَيَحْسَبُونَ رَواجَ حِيلَتِهِمْ ونِفاقِهِمْ، ولِذَلِكَ قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ (p-٢٩٤)﴿لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ﴾ [المنافقون: ٨] فَقالَ اللَّهُ تَعالى ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ﴾ [المنافقون: ٨] فَتَقْدِيمُ اسْمِ الجَلالَةِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ لا لِقَصْدِ التَّقَوِّي إذْ لا مُقْتَضى لَهُ. وفِعْلُ (يَسْتَهْزِئُ) المُسْنَدُ إلى اللَّهِ لَيْسَ مُسْتَعْمَلًا في حَقِيقَتِهِ لِأنَّ المُرادَ هُنا أنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ في الدُّنْيا ما يُسَمّى بِالِاسْتِهْزاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﴿ويَمُدُّهم في طُغْيانِهِمْ﴾ ولَمْ يَقَعِ اسْتِهْزاءٌ حَقِيقِيٌّ في الدُّنْيا فَهو إمّا تَمْثِيلٌ لِمُعامَلَةِ اللَّهِ إيّاهم في مُقابَلَةِ اسْتِهْزائِهِمْ بِالمُؤْمِنِينَ، بِما يُشْبِهُ فِعْلَ المُسْتَهْزِئِ بِهِمْ وذَلِكَ بِالإمْلاءِ لَهم حَتّى يَظُنُّوا أنَّهم سَلِمُوا مِنَ المُؤاخَذَةِ عَلى اسْتِهْزائِهِمْ فَيَظُنُّوا أنَّ اللَّهَ راضٍ عَنْهم أوْ أنَّ أصْنامَهم نَفَعُوهم حَتّى إذا نَزَلَ بِهِمْ عَذابُ الدُّنْيا مِنَ القَتْلِ والفَضْحِ عَلِمُوا خِلافَ ما تَوَهَّمُوا فَكانَ ذَلِكَ كَهَيْئَةِ الِاسْتِهْزاءِ بِهِمْ. والمُضارِعُ في قَوْلِهِ (يَسْتَهْزِئُ) لِزَمَنِ الحالِ. ولا يُحْمَلُ عَلى اتِّصافِ اللَّهِ بِالِاسْتِهْزاءِ حَقِيقَةً عِنْدَ الأشاعِرَةِ لِأنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنَ اللَّهِ مَعْنى الِاسْتِهْزاءِ في الدُّنْيا، ويُحَسِّنُ هَذا التَّمْثِيلَ ما فِيهِ مِنَ المُشاكَلَةِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ حَقِيقَةً يَوْمَ القِيامَةِ بِأنْ يَأْمُرَ بِالِاسْتِهْزاءِ بِهِمْ في المَوْقِفِ وهو نَوْعٌ مِنَ العِقابِ فَيَكُونُ المُضارِعُ في يَسْتَهْزِئُ لِلِاسْتِقْبالِ، وإلى هَذا المَعْنى نَحا ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ في نَقْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُرادًا بِهِ جَزاءُ اسْتِهْزائِهِمْ مِنَ العَذابِ أوْ نَحْوِهِ مِنَ الإذْلالِ والتَّحْقِيرِ والمَعْنى: (يُذِلُّهم) وعَبَّرَ عَنْهُ بِالِاسْتِهْزاءِ مَجازًا ومُشاكَلَةً، أوْ مُرادًا بِهِ مَآلُ الِاسْتِهْزاءِ مِن رُجُوعِ الوَبالِ عَلَيْهِمْ. وهَذا كُلُّهُ - وإنْ جازَ - فَقَدْ عَيَّنَهُ هُنا جُمْهُورُ العُلَماءِ مِنَ المُفَسِّرِينَ كَما نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ والقُرْطُبِيُّ وعَيَّنَهُ الفَخْرُ الرّازِيُّ والبَيْضاوِيُّ وعَيَّنَهُ المُعْتَزِلَةُ أيْضًا لِأنَّ الِاسْتِهْزاءَ لا يَلِيقُ إسْنادُهُ إلى اللَّهِ حَقِيقَةً لِأنَّهُ فِعْلٌ قَبِيحٌ يُنَزَّهُ اللَّهَ تَعالى عَنْهُ كَما في الكَشّافِ، وهو مَبْنِيٌّ عَلى المُتَعارَفِ بَيْنَ النّاسِ. وجِيءَ في حِكايَةِ كَلامِهِمْ بِالمُسْنَدِ الِاسْمِيِّ في قَوْلِهِمْ ﴿إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤] لِإفادَةِ كَلامِهِمْ مَعْنى دَوامِ صُدُورِ الِاسْتِهْزاءِ مِنهم وثَباتِهِ بِحَيْثُ لا يُحَوَّلُونَ عَنْهُ. وجِيءَ في قَوْلِهِ ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ بِإفادَةِ التَّجَدُّدِ مِنَ الفِعْلِ المُضارِعِ؛ أيْ تَجَدُّدِ إمْلاءِ اللَّهِ لَهم زَمانًا إلى أنْ يَأْخُذَهُمُ العَذابُ، لِيَعْلَمَ المُسْلِمُونَ أنَّ ما عَلَيْهِ أهْلُ النِّفاقِ مِنَ النِّعْمَةِ إنَّما هو إمْلاءٌ وإنْ طالَ كَما قالَ تَعالى ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا في البِلادِ﴾ [آل عمران: ١٩٦] ﴿مَتاعٌ قَلِيلٌ﴾ [آل عمران: ١٩٧] * * * (p-٢٩٥)﴿ويَمُدُّهم في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ يَتَعَيَّنُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ ويَمُدُّ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ المَدَدِ وهو الزِّيادَةُ، يُقالُ مَدَّهُ إذا زادَهُ وهو الأصْلُ في الِاشْتِقاقِ مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى الهَمْزَةِ لِأنَّهُ مُتَعَدٍّ، ودَلِيلُهُ أنَّهم ضَمُّوا العَيْنَ في المُضارِعِ عَلى قِياسِ المُضاعَفِ المُتَعَدِّي، وقَدْ يَقُولُونَ: (أمَدَّهُ) بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ عَلى تَقْدِيرِ: جَعَلَهُ ذا مَدَدٍ ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمالُ مَدَّ في الزِّيادَةِ في ذاتِ المَفْعُولِ نَحْوُ مَدَّ لَهُ في عُمُرِهِ، ومَدَّ الأرْضَ أيْ مَطَّطَها وأطالَها، وغَلَبَ اسْتِعْمالُ أمَدَّ المَهْمُوزِ في الزِّيادَةِ لِلْمَفْعُولِ مِن أشْياءَ يَحْتاجُها نَحْوُ أمَدَّهُ بِجَيْشٍ ﴿أمَدَّكم بِأنْعامٍ وبَنِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٣] وإنَّما اسْتُعْمِلَ هَذا في مَوْضِعِ الآخَرِ عَلى الأصْلِ فَلِذَلِكَ قِيلَ: لا فَرْقَ بَيْنَهُما في الِاسْتِعْمالِ، وقِيلَ: يَخْتَصُّ أمَدَّ المَهْمُوزُ بِالخَيْرِ نَحْوُ ﴿أتُمِدُّونَنِي بِمالٍ﴾ [النمل: ٣٦] ﴿أنَّما نُمِدُّهم بِهِ مِن مالٍ﴾ [المؤمنون: ٥٥]، ويَخْتَصُّ مَدَّ بِغَيْرِ الخَيْرِ ونُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ في كِتابِ الحُجَّةِ، ونَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ، إلّا المُعَدّى بِاللّامِ فَإنَّهُ خاصٌّ بِالزِّيادَةِ في العُمُرِ والإمْهالِ فِيهِ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وغَيْرِهِ - خِلافًا لِبَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ - فاسْتَغْنَوْا بِذِكْرِ اللّامِ المُؤْذِنَةِ بِأنَّ ذَلِكَ لِلنَّفْعِ ولِلْأجَلِ بِسُكُونِ الجِيمِ عَنِ التَّفْرِقَةِ بِالهَمْزِ رُجُوعًا لِلْأصْلِ لِئَلّا يَجْمَعُوا بَيْنَ ما يَقْتَضِي التَّعْدِيَةَ - وهو الهَمْزَةُ - وبَيْنَ ما يَقْتَضِي القُصُورَ - وهو لامُ الجَرِّ - وكُلُّ هَذا مِن تَأْثِيرِ الأمْثِلَةِ عَلى النّاظِرِينَ، وهي طَرِيقَةٌ لَهم في كَثِيرٍ مِنَ الأفْعالِ الَّتِي يَتَفَرَّعُ مَعْناها الوَضْعِيُّ إلى مَعانٍ جُزْئِيَّةٍ لَهُ أوْ مُقَيَّدَةٍ أوْ مَجازِيَّةٍ أنْ يَخُصُّوا بَعْضَ لُغاتِهِ أوْ بَعْضَ أحْوالِهِ بِبَعْضِ تِلْكَ المَعانِي جَرْيًا وراءَ التَّنْصِيصِ في الكَلامِ ودَفْعِ اللَّبْسِ بِقَدْرِ الإمْكانِ. وهَذا مِن دَقائِقِ اسْتِعْمالِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، فَلا يُقالُ: إنَّ دَعْوى اخْتِصاصِ بَعْضِ الِاسْتِعْمالاتِ بِبَعْضِ المَعانِي هي دَعْوى اشْتِراكٍ أوْ دَعْوى مَجازٍ وكِلاهُما خِلافُ الأصْلِ كَما أوْرَدَ عَبْدُ الحَكِيمِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ - كَما عَلِمْتَ - اصْطِلاحٌ في الِاسْتِعْمالِ لا تَعَدُّدُ وضْعٍ ولا اسْتِعْمالٌ في غَيْرِ المَعْنى المَوْضُوعِ لَهُ، ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهم: فَرَقَ وفَرَّقَ، ووَعَدَ وأوْعَدَ، ونَشَدَ وأنْشَدَ، ونَزَّلَ المُضاعَفُ وأنْزَلَ، وقَوْلُهُمِ: العِثارُ مَصْدَرُ عَثَرَ إذْ أُرِيدَ بِالفِعْلِ الحَقِيقَةُ، والعُثُورُ مَصْدَرُ عَثَرَ إذْ أُرِيدَ بِالفِعْلِ المَجازُ وهو الِاطِّلاعُ، وقَدْ فَرَّقَتِ العَرَبُ في مَصادِرِ الفِعْلِ الواحِدِ وفي جُمُوعِ الِاسْمِ الواحِدِ لِاخْتِلافِ القُيُودِ. (p-٢٩٦)وتَعْدِيَةُ فِعْلِ (يَمُدُّ) إلى ضَمِيرِهِمُ الدّالِّ عَلى أدَبٍ أوْ ذَوْقٍ - مَعَ أنَّ المَدَّ إنَّما يَتَعَدّى إلى الطُّغْيانِ - جاءَتْ عَلى طَرِيقَةِ الإجْمالِ الَّذِي يَعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ لِيَتَمَكَّنَ التَّفْصِيلُ في ذِهْنِ السّامِعِ مِثْلُ طَرِيقَةِ بَدَلِ الِاشْتِمالِ، وجَعَلَ الزَّجّاجُ والواحِدِيُّ أصْلَهُ: ويَمُدُّ لَهم في طُغْيانِهِمْ، فَحَذَفَ لامَ الجَرِّ واتَّصَلَ الفِعْلُ بِالمَجْرُورِ عَلى طَرِيقَةِ نَزْعِ الخافِضِ ولَيْسَ بِذَلِكَ. والطُّغْيانُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الغُفْرانِ والشُّكْرانِ، وهو مُبالَغَةٌ في الطَّغْيِ وهو الإفْراطُ في الشَّرِّ والكِبْرِ، وتَعْلِيقُ فِعْلِ يَمُدُّهم هُنا بِضَمِيرِ الذَّواتِ تَعْلِيقٌ إجْمالِيٍّ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ ﴿فِي طُغْيانِهِمْ﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى تَقْدِيرِ لامٍ مَحْذُوفَةٍ أيْ يَمُدُّ لَهم في طُغْيانِهِمْ أيْ يُمْهِلُهم، فَيَكُونُ نَحْوَ بَعْضِ ما فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ وهَذا قَوْلُ الزَّجّاجِ والواحِدِيِّ وفِيهِ بُعْدٌ. والعَمَهُ انْطِماسُ البَصِيرَةِ وتَحَيُّرُ الرَّأْيِ، وفِعْلُهُ عَمِهَ فَهو عامِهٌ وأعْمَهُ. وإسْنادُ المَدِّ في الطُّغْيانِ إلى اللَّهِ تَعالى عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ ”ويَمُدُّهم“ إسْنادُ خَلْقٍ وتَكْوِينٍ مَنُوطٍ بِأسْبابِ التَّكْوِينِ عَلى سُنَّةِ اللَّهِ تَعالى في حُصُولِ المُسَبَّباتِ عِنْدَ أسْبابِها. فالنِّفاقُ إذا دَخَلَ القُلُوبَ، كانَ مِن آثارِهِ أنْ لا يَنْقَطِعَ عَنْها، ولَمّا كانَ مِن شَأْنِ وصْفِ النِّفاقِ أنْ تُنْمِي عَنْهُ الرَّذائِلُ الَّتِي قَدَّمْنا بَيانَها كانَ تَكْوِينُها في نُفُوسِهِمْ مُتَوَلِّدًا مِن أسْبابٍ شَتّى في طِباعِهِمْ مُتَسَلْسِلًا مِنِ ارْتِباطِ المُسَبَّباتِ بِأسْبابِها وهي شَتّى ومُتَفَرِّعَةٌ، وذَلِكَ بِخُلُقٍ خاصٍّ بِهِمْ مُباشَرَةً، ولَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهم تَوْفِيقَهُ الَّذِي يَقْلَعُهم عَنْ تِلْكَ الجِبِلَّةِ بِمُحارَبَةِ نُفُوسِهِمْ، فَكانَ حِرْمانُهُ إيّاهُمُ التَّوْفِيقَ مُقْتَضِيًا اسْتِمْرارَ طُغْيانِهِمْ وتَزايُدَهُ بِالرُّسُوخِ، فَإسْنادُ ازْدِيادِهِ إلى اللَّهِ لِأنَّهُ خالِقُ النُّظُمِ الَّتِي هي أسْبابُ ازْدِيادِهِ، وهَذا يُعَدُّ مِنَ الحَقِيقَةِ العَقْلِيَّةِ الشّائِعَةِ ولَيْسَ مِنَ المَجازِ لِعَدَمِ مُلاحَظَةِ خَلْقِ الأسْبابِ بِحَسَبِ ما تَعارَفَهُ النّاسُ مِن إسْنادِ ما خَفِيَ فاعِلُهُ إلى اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ الخالِقُ لِلْأسْبابِ الأصْلِيَّةِ والجاعِلُ لِنَوامِيسِها بِكَيْفِيَّةٍ لا يَعْلَمُ النّاسُ سِرَّها ولا شاهَدُوا مَن تُسْنَدُ إلَيْهِ عَلى الحَقِيقَةِ غَيْرَهُ وهَذا بِخِلافِ نَحْوِ: بَنى الأمِيرُ المَدِينَةَ، لاسِيَّما بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالإسْنادِ إلَيْهِ في الكَلامِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لِلْبِناءِ عَلى عُرْفِ النّاسِ مَجالٌ، وهَذا بِخِلافِ نَحْوِ يَزِيدُكَ وجْهُهُ حُسْنًا وسَرَّتْنِي رُؤْيَتُكَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ - وإنْ كانَ في الواقِعِ مِن فِعْلِ اللَّهِ تَعالى - إلّا أنَّهُ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إلَيْهِ في العُرْفِ، فَلِذَلِكَ قالَ الشَّيْخُ عَبْدُ القاهِرِ: إنَّهُ مِنَ المَجازِ الَّذِي لا حَقِيقَةَ لَهُ. (p-٢٩٧)وإنَّما أضافَ الطُّغْيانَ لِضَمِيرِ المُنافِقِينَ ولَمْ يَقُلْ: في الطُّغْيانِ، بِتَعْرِيفِ الجِنْسِ كَما قالَ في سُورَةِ الأعْرافِ ﴿وإخْوانُهم يَمُدُّونَهم في الغَيِّ﴾ [الأعراف: ٢٠٢] إشارَةً إلى تَفْظِيعِ شَأْنِ هَذا الطُّغْيانِ وغَرابَتِهِ في بابِهِ وأنَّهُمُ اخْتَصُّوا بِهِ حَتّى صارَ يُعْرَفُ بِإضافَتِهِ إلَيْهِمْ. والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِـ (يَمُدُّهم) . و(يَعْمَهُونَ) جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ.