ركن التفسير
158 - (إن الصفا والمروة) جبلان بمكة (من شعائر الله) أعلام دينه جمع شعيرة (فمن حج البيت أو اعتمر) أي تلبس بالحج أو العمرة ، وأصلهما القصد والزيارة (فلا جناح عليه) إثم عليه (أن يطَّوف) فيه إدغام التاء في الأصل في الطاء (بهما) بأن يسعى بينهما سبعا ، نزلت لما كره المسلمون ذلك لأن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بهما وعليهما صنمان يمسحونهما ، وعن ابن عباس أن السعي غير فرض لما أفاده رفع الإثم من التخيير وقال الشافعي وغيره ركن ، وبين صلى الله عليه وسلم فريضته بقوله "إن الله كتب عليكم السعي" رواه البيهقي وغيره وقال "ابدؤوا بما بدأ الله به" يعني الصفا. رواه مسلم (ومن تطوع) وفي قراءة بالتحتية وتشديد الطاء مجزوما وفيه إدغام التاء فيها{يطَّوعْ} (خيرا) أي بخير ، أي عمل ما لم يجب عليه من طواف وغيره (فإن الله شاكر) لعمله بالإثابة عليه (عليم) به
قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي أحبرنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة قال: قلت أرأيت قول الله تعالى "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" قلت فوالله ما على أحد جناح أن لا يتطوف بهما فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ولكنها إنما أنزلت إن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل; وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله عز وجل "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" قالت عائشة: ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما أخرجاه في الصحيحين وفي رواية عن الزهري أنه قال فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام فقال إن هذا العلم ما كنت سمعته ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون إن الناس - إلا من ذكرت عائشة - كانوا يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية وقال آخرون من الأنصار إنما أمرك بالطواف بالبيت ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى "إن الصفا والمروة من شعائر الله" قال أبو بكر بن عبدالرحمن فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء ورواه البخاري من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو ما تقدم ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنسا عن الصفا والمروة؟ قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل "إن الصفا والمروة من شعائر الله" وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس قال: كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله وكانت بينهما آلهة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطواف بينهما فنزلت هذه الآية وقال الشعبي: كان إساف على الصفا وكانت نائلة على المروة وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية "قلت" ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن إسافا ونائلة كانا بشرين فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس فلما طال عهدهما عبدا ثم حولا إلى الصفا والمروة فنصبا هنالك فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة: حيث ينيخ الأشعرون ركابهـم لمفضى السيول من أساف ونائل وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه ثم خرج من باب الصفا وهو يقول "إن الصفا والمروة من شعائر الله" ثم قال "ابدأ بما بدأ الله به" وفي رواية النسائي "ابدءوا بما بدأ الله به" وقال الإمام أحمد حدثنا شريح حدثنا عبدالله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجزئة قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" ثم رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول "كتب عليكم السعي فاسعوا" وقد استدل بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك وقيل إنه واجب وليس بركن فإن تركه عمدا وسهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة وقيل بل مستحب وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين وروي عن أنس وبن عمر وابن عباس وحكي عن مالك في "العتبية" قال القرطبي واحتجوا بقوله تعالى "فمن تطوع خيرا" والقول الأول أرجح لأنه عليه السلام طاف بينهما وقال "لتأخذوا عني مناسككم" فكل ما فعله في حجته تلك واجب لابد من فعله في الحج إلا ما خرج بدليل والله أعلم وقد تقدم قوله عليه السلام "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" فقد بين الله تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة فى طلب الماء لولدها لما نفد ماؤهما وزادهما حين تركهما إبراهيم عليه السلام هنالك وليس عندهما أحد من الناس فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك ونفد ما عندهما قامت تطلب الغوث من الله عز وجل فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل حتى كشف الله كربتها وآنس غربتها وفرج شدتها وأنبع لها زمزم التي ماؤها "طعام طعم وشفاء سقم" فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه وأن يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب وأن يهديه إلى الصراط المستقيم وأن يثبته عليه إلى مماته وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام. وقوله "فمن تطوع خيرا" قيل زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك وقيل يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع وقيل المراد تطوع خيرا في سائر العبادات حكى ذلك الرازى وعزى الثالث إلى الحسن البصري والله أعلم وقوله "فإن الله شاكر عليم" أي يثيب على القليل بالكثير عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه "لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما".
﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللَّهِ فَمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ومَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ هَذا كَلامٌ وقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ مُحاجَّةِ أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ في أمْرِ القِبْلَةِ، نَزَلَ هَذا بِسَبَبِ تَرَدُّدٍ واضْطِرابٍ بَيْنَ المُسْلِمِينَ في أمْرِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ وذَلِكَ عامَ حِجَّةِ الوَداعِ، كَما جاءَ في حَدِيثِ عائِشَةَ الآتِي، فَهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الآياتِ الَّتِي قَبْلَها وبَعْدَ الآياتِ الَّتِي نَقْرَؤُها بَعْدَها، لِأنَّ الحَجَّ لَمْ يَكُنْ قَدْ فُرِضَ، وهي مِنَ الآياتِ الَّتِي أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِإلْحاقِها بِبَعْضِ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِها بِمُدَّةِ، والمُناسَبَةُ بَيْنَها وبَيْنَ ما قَبْلَها هو أنَّ العُدُولَ عَنِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ يُشْبِهُ فِعْلَ مَن عَبَّرَ عَنْهم بِالسُّفَهاءِ مِنَ القِبْلَةِ وإنْكارِ (p-٥٩)العُدُولِ عَنِ اسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَمَوْقِعُ هَذِهِ الآيَةِ بَعْدَ إلْحاقِها بِهَذا المَكانِ مَوْقِعُ الِاعْتِراضِ في أثْناءِ الِاعْتِراضِ، فَقَدْ كانَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ مِن أعْمالِ الحَجِّ مِن زَمَنِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلى هاجَرَ وابْنِها إسْماعِيلَ إذْ أنْقَذَهُ اللَّهُ مِنَ العَطَشِ كَما في حَدِيثِ البُخارِيِّ في كِتابِ بَدْءِ الخَلْقِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ «أنْ هاجَرَ أُمَّ إسْماعِيلَ لَمّا تَرَكَها إبْراهِيمُ بِمَوْضِعِ مَكَّةَ ومَعَها ابْنُها وهو رَضِيعٌ وتَرَكَ لَها جِرابًا مِن تَمْرٍ وسِقاءً فِيهِ ماءٌ، فَلَمّا نَفِدَ ما في السِّقاءِ عَطِشَتْ وعَطِشَ ابْنُها وجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يَتَلَوّى فانْطَلَقَتْ كَراهِيَةَ أنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ فَوَجَدَتِ الصَّفا أقْرَبَ جَبَلٍ يَلِيها فَقامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوادِي تَنْظُرُ هَلْ تَرى أحَدًا فَلَمْ تَرَ أحَدًا فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفا وأتَتِ المَرْوَةَ فَقامَتْ عَلَيْها فَنَظَرَتْ هَلْ تَرى أحَدًا فَلَمْ تَرَ أحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرّاتٍ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ فَقالَ النَّبِيءُ ﷺ: فَلِذَلِكَ سَعى النّاسُ بَيْنَهُما، فَسَمِعَتْ صَوْتًا فَقالَتْ في نَفْسِها صَهٍ ثُمَّ تَسَمَّعَتْ أيْضًا فَقالَتْ قَدْ أسْمَعْتَ إنْ كانَ عِنْدَكَ غُواثٌ، فَإذا هي بِالمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ حَتّى ظَهَرَ الماءُ فَشَرِبَتْ وأرْضَعَتْ ولَدَها»، فَيُحْتَمَلُ أنَّ إبْراهِيمَ سَعى بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ تَذَكُّرًا لِشُكْرِ النِّعْمَةِ وأمَرَ بِهِ إسْماعِيلَ، ويُحْتَمَلُ أنَّ إسْماعِيلَ ألْحَقَهُ بِأفْعالِ الحَجِّ، أوْ أنَّ مَن جاءَ مِن أبْنائِهِ فَعَلَ ذَلِكَ فَتَقَرَّرَ في الشَّعائِرِ عِنْدَ قُرَيْشٍ لا مَحالَةَ. وقَدْ كانَ حَوالِيَ الكَعْبَةِ في الجاهِلِيَّةِ حَجَرانِ كانا مِن جُمْلَةِ الأصْنامِ الَّتِي جاءَ بِها عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ إلى مَكَّةَ فَعَبَدَها العَرَبُ أحَدُهُما يُسَمّى إسافًا والآخَرُ يُسَمّى نائِلَةَ، كانَ أحَدُهُما مَوْضُوعًا قُرْبَ جِدارِ الكَعْبَةِ والآخَرُ مَوْضُوعًا قُرْبَ زَمْزَمَ، ثُمَّ نَقَلُوا الَّذِي قُرْبَ الكَعْبَةِ إلى جِهَةِ زَمْزَمَ، وكانَ العَرَبُ يَذْبَحُونَ لَهُما، فَلَمّا جَدَّدَ عَبْدُ المُطَّلِبِ احْتِفارَ زَمْزَمَ بَعْدَ أنْ دَثَرَتْها جُرْهُمُ حِينَ خُرُوجِهِمْ مِن مَكَّةَ وبَنى سِقايَةَ زَمْزَمَ نَقَلَ ذَيْنَكَ الصَّنَمَيْنِ فَوَضَعَ إسافًا عَلى الصَّفا ونائِلَةَ عَلى المَرْوَةِ، وجَعَلَ المُشْرِكُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أصْنامًا صَغِيرَةً وتَماثِيلَ بَيْنَ الجَبَلَيْنِ في طَرِيقِ المَسْعى، فَتَوَهَّمَ العَرَبُ الَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ أنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ طَوافٌ بِالصَّنَمَيْنِ، وكانَتِ الأوْسُ والخَزْرَجُ وغَسّانُ يَعْبُدُونَ مَناةَ وهو صَنَمٌ بِالمُشَلَّلِ قُرْبَ قُدَيْدٍ فَكانُوا لا يَسْعَوْنَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ تَحَرُّجًا مِن أنْ يَطُوفُوا بِغَيْرِ صَنَمِهِمْ، في البُخارِيِّ فِيما عَلَّقَهُ عَنْ مَعْمَرٍ إلى عائِشَةَ قالَتْ: «كانَ رِجالٌ مِنَ الأنْصارِ مِمَّنْ كانَ يُهِلُّ لِمَناةَ قالُوا يا نَبِيءَ اللَّهِ كُنّا لا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَناةَ. (p-٦٠)فَلَمّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وأُزِيلَتِ الأصْنامُ وأُبِيحُ الطَّوافُ بِالبَيْتِ وحَجَّ المُسْلِمُونَ مَعَ أبِي بَكْرٍ وسَعَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ تَحَرَّجَ الأنْصارُ مِنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ وسَألَ جَمْعٌ مِنهُمُ النَّبِيءَ ﷺ هَلْ عَلَيْنا مِن حَرَجٍ أنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ» . وقَدْ رَوى مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في المُوَطَّأِ عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قالَ: قُلْتُ لِعائِشَةَ - وأنا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ - «أرَأيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعالى ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللَّهِ فَمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما﴾، فَما عَلى الرَّجُلِ شَيْءٌ أنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِما، فَقالَتْ عائِشَةُ: كَلّا لَوْ كانَ كَما تَقُولُ لَكانَتْ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِما، إنَّما أُنْزِلَتْ هاتِهِ الآيَةُ في الأنْصارِ كانُوا يُهِلُّونَ لِمَناةَ وكانَتْ مَناةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ وكانُوا يَتَحَرَّجُونَ أنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ سَألُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ﴾ الآيَةَ» . وفِي البُخارِيِّ عَنْ أنَسٍ «كُنّا نَرى أنَّهُما مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ أمْسَكْنا عَنْهُما فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ»﴾، وفِيهِ كَلامُ مَعْمَرٍ المُتَقَدِّمُ أنَّهم كانُوا في الجاهِلِيَّةِ لا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَناةَ. فَتَأْكِيدُ الجُمْلَةِ بِـ إنَّ لِأنَّ المُخاطَبِينَ مُتَرَدِّدُونَ في كَوْنِهِما مِن شَعائِرِ اللَّهِ وهم أمْيَلُ إلى اعْتِقادِ أنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُما مِن أحْوالِ الجاهِلِيَّةِ، وفي أسْبابِ النُّزُولِ لِلْواحِدِيِّ: أنَّ سُؤالَهم كانَ عامَ حِجَّةَ الوَداعِ، وبِذَلِكَ كُلِّهِ يَظْهَرُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ بِسِنِينَ فَوَضْعُها في هَذا المَوْضِعِ لِمُراعاةِ المُناسَبَةِ مَعَ الآياتِ الوارِدَةِ في اضْطِرابِ الفَرْقِ في أمْرِ القِبْلَةِ والمَناسِكِ. والصَّفا والمَرْوَةُ: اسْمانِ لِجَبَلَيْنِ مُتَقابِلَيْنِ فَأمّا الصَّفا فَهو رَأْسُ نِهايَةِ جَبَلِ أبِي قُبَيْسٍ، وأمّا المَرْوَةُ فَرَأْسٌ هو مُنْتَهى جَبَلِ قُعَيْقِعانَ. وسُمِّيَ الصَّفا لِأنَّ حِجارَتَهُ مِنَ الصَّفا وهو الحَجَرُ الأمْلَسُ الصُّلْبُ، وسُمِّيَتِ المَرْوَةُ مَرْوَةَ لِأنَّ حِجارَتَها مِنَ المَرْوِ وهي الحِجارَةُ البَيْضاءُ اللَّيِّنَةُ الَّتِي تُورِي النّارَ ويُذْبَحُ بِها لِأنَّ شَذْرَها يُخْرِجُ قِطَعًا مُحَدَّدَةَ الأطْرافِ وهي تُضْرَبُ بِحِجارَةٍ مِنَ الصَّفا فَتَتَشَقَّقُ قالَ أبُو ذُؤَيْبٍ: ؎حَتّى كَأنِّي لِلْحَوادِثِ مَرْوَةٌ بِصَفا المُشَقَّرِ كُلَّ يَوْمٍ تَفَرَّعُ (p-٦١)وكَأنَّ اللَّهَ تَعالى لَطَفَ بِأهْلِ مَكَّةَ فَجَعَلَ لَهم جَبَلًا مِنَ المَرْوَةِ لِلِانْتِفاعِ بِهِ في اقْتِداحِهِمْ وفي ذَبائِحِهِمْ، وجَعَلَ قُبالَتَهُ الصَّفا لِلِانْتِفاعِ بِهِ في بِنائِهِمْ. والصَّفا والمَرْوَةُ بِقُرْبِ المَسْجِدِ الحَرامِ وبَيْنَهُما مَسافَةُ سَبْعِمِائَةٍ وسَبْعِينَ ذِراعًا، وطَرِيقُ السَّعْيِ بَيْنَهُما يَمُرُّ حَذْوَ جِدارِ المَسْجِدِ الحَرامِ، والصَّفا قَرِيبٌ مِن بابٍ يُسَمّى بابَ الصَّفا مِن أبْوابِ المَسْجِدِ الحَرامِ ويَصْعَدُ السّاعِي إلى الصَّفا والمَرْوَةِ بِمِثْلِ المُدَرَّجَةِ، والشَّعائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ بِفَتْحِ الشِّينِ وشِعارَةٍ بِكَسْرِ الشِّينِ بِمَعْنى العَلامَةِ مُشْتَقٌّ مَن شَعَرَ إذا عَلِمَ وفَطِنَ، وهي فَعِيلَةٌ بِمَعْنى مُفَعْوِلَةٍ أيْ مُعْلَمٌ بِها ومِنهُ قَوْلُهم: أُشْعِرَ البَعِيرُ إذا جُعِلَ لَهُ سِمَةٌ في سَنامِهِ بِأنَّهُ مُعَدٌّ لِلْهَدْيِ. فالشَّعائِرُ ما جُعِلَ عَلامَةً عَلى أداءِ عَمَلٍ مِن عَمَلِ الحَجِّ والعُمْرَةِ وهي المَواضِعُ المُعَظَّمَةُ مِثْلُ المَواقِيتِ الَّتِي يَقَعُ عِنْدَها الإحْرامُ، ومِنها الكَعْبَةُ والمَسْجِدُ الحَرامِ والمَقامُ والصَّفا والمَرْوَةُ وعَرَفَةُ والمَشْعَرُ الحَرامُ بِمُزْدَلِفَةَ ومِنًى والجِمارُ. ومَعْنى وصْفِ الصَّفا والمَرْوَةِ بِأنَّهُما مِن شَعائِرِ اللَّهِ أنَّ اللَّهَ جَعَلَهُما عَلامَتَيْنِ عَلى مَكانِ عِبادَةٍ كَتَسْمِيَةِ مَواقِيتِ الحَجِّ مَواقِيتَ فَوَصْفُهُما بِذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُما عِبادَةٌ إذْ لا تَتَعَلَّقُ بِهِما عِبادَةٌ جُعِلا عَلامَةً عَلَيْها غَيْرُ السَّعْيِ بَيْنَهُما، وإضافَتُهُما إلى اللَّهِ لِأنَّهُما عَلامَتانِ عَلى عِبادَتِهِ أوْ لِأنَّهُ جَعَلَهُما كَذَلِكَ. وقَوْلُهُ ﴿فَمَن حَجَّ البَيْتَ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى كَوْنِهِما مِن شَعائِرِ اللَّهِ، وأنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُما في الحَجِّ والعُمْرَةِ مِنَ المَناسِكِ فَلا يُرِيبُهُ ما حَصَلَ فِيهِما مِن صُنْعِ الجاهِلِيَّةِ لِأنَّ الشَّيْءَ المُقَدَّسَ لا يُزِيلُ تَقْدِيسَهُ ما يَحُفُّ بِهِ مِن سَيِّئِ العَوارِضِ، ولِذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ فَلا جُناحَ عَلى نَفْيِ ما اخْتَلَجَ في نُفُوسِهِمْ بَعْدَ الإسْلامِ كَما في حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. والجُناحُ: بِضَمِّ الجِيمِ الإثْمُ مُشْتَقٌّ مِن جَنَحَ إذا مالَ لِأنَّ الإثْمَ يَمِيلُ بِهِ المَرْءُ عَنْ طَرِيقِ الخَيْرِ، فاعْتَبَرُوا فِيهِ المَيْلَ عَنِ الخَيْرِ عَكْسَ اعْتِبارِهِمْ في حَنَفٍ أنَّهُ مَيْلٌ عَنِ الشَّرِّ إلى الخَيْرِ. والحَجُّ: اسْمٌ في اللُّغَةِ لِلْقَصْدِ، وفي العُرْفِ، عَلى قَصْدِ البَيْتِ الحَرامِ الَّذِي بِمَكَّةَ لِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى فِيهِ بِالطَّوافِ والوُقُوفِ بِعَرَفَةَ والإحْرامِ ولِذَلِكَ صارَ بِالإطْلاقِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً في هَذا المَعْنى جِنْسًا بِالغَلَبَةِ كالعَلَمِ بِالغَلَبَةِ ولِذَلِكَ قالَ في الكَشّافِ: وهُما أيِ الحَجُّ والعُمْرَةُ، في المَعانِي كالنَّجْمِ والبَيْتِ في الذَّواتِ، فَلا يُحْتاجُ إلى ذِكْرِ مُضافٍ إلَيْهِ إلّا في مَقامِ الِاعْتِناءِ بِالتَّنْصِيصِ، ولِذَلِكَ ورَدَ في القُرْآنِ مَقْطُوعًا عَنِ الإضافَةِ نَحْوَ ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧] إلى قَوْلِهِ (p-٦٢)﴿ولا جِدالَ في الحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٧] ووَرَدَ مُضافًا في قَوْلِهِ ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ﴾ [آل عمران: ٩٧] لِأنَّهُ مَقامُ ابْتِداءِ تَشْرِيعٍ فَهو مَقامُ بَيانٍ وإطْنابٍ. وفِعْلُ حَجَّ بِمَعْنى قَصَدَ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنِ الإطْلاقِ عَلى القَصْدِ في كَلامِ العَرَبِ فَلِذَلِكَ كانَ ذِكْرُ المَفْعُولِ لِزِيادَةِ البَيانِ. وأمّا صِحَّةُ قَوْلِكَ: حَجَّ فُلانٌ، وقَوْلِهِ ﷺ «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا» بِدُونِ ذِكْرِ المَفْعُولِ فَذَلِكَ حَذْفٌ لِلتَّعْوِيلِ عَلى القَرِينَةِ، فَغَلَبَةُ إطْلاقِ الفِعْلِ عَلى قَصْدِ البَيْتِ أقَلُّ مِن غَلَبَةِ إطْلاقِ اسْمِ الحَجِّ عَلى ذَلِكَ القَصْدِ. والعُمْرَةُ: اسْمٌ لِزِيارَةِ البَيْتِ الحَرامِ في غَيْرِ وقْتِ الحَجِّ أوْ في وقْتِهِ بِدُونِ حُضُورِ عَرَفَةَ فالعُمْرَةُ بِالنِّسْبَةِ إلى الحَجِّ مِثْلُ صَلاةِ الفَذِّ بِالنِّسْبَةِ لِصَلاةِ الجَماعَةِ، وهي بِصِيغَةِ الِاسْمِ عَلَمُ الغَلَبَةِ عَلى زِيارَةِ الكَعْبَةِ، وفِعْلُها غَلَبَ عَلى تِلْكَ الزِّيارَةِ تَبَعًا لِغَلَبَةِ الِاسْمِ فَساواهُ فِيها ولِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرِ المَفْعُولُ هُنا ولَمْ يُسْمَعْ. والغَلَبَةُ عَلى كُلِّ حالٍ لا تَمْنَعُ مِنَ الإطْلاقِ الآخَرِ نادِرًا. ونَفْيُ الجُناحِ عَنِ الَّذِي يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ لا يَدُلُّ عَلى أكْثَرَ مِن كَوْنِهِ غَيْرَ مَنهِيٍّ عَنْهُ فَيُصَدِّقُ بِالمُباحِ والمَندُوبِ، والواجِبِ والرُّكْنِ، لِأنَّ المَأْذُونَ فِيهِ يُصَدِّقُ بِجَمِيعِ المَذْكُوراتِ فَيَحْتاجُ في إثْباتِ حُكْمِهِ إلى دَلِيلٍ آخَرَ ولِذَلِكَ قالَتْ عائِشَةُ لِعُرْوَةَ: لَوْ كانَ كَما تَقُولُ لَقالَ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِما، قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في أحْكامِ القُرْآنِ: إنَّ قَوْلَ القائِلِ: لا جُناحَ عَلَيْكَ أنْ تَفْعَلَ إباحَةٌ لِلْفِعْلِ وقَوْلُهُ: لا جُناحَ عَلَيْكَ أنْ لا تَفْعَلَ إباحَةٌ لِتَرْكِ الفِعْلِ فَلَمْ يَأْتِ هَذا اللَّفْظُ لِإباحَةِ تَرْكِ الطَّوافِ ولا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وإنَّما جاءَ لِإفادَةِ إباحَةِ الطَّوافِ لِمَن كانَ تَحَرَّجَ مِنهُ في الجاهِلِيَّةِ أوْ بِمَن كانَ يَطُوفُ بِهِ في الجاهِلِيَّةِ قَصْدًا لِلْأصْنامِ الَّتِي كانَتْ فِيهِ اهـ. ومُرادُهُ أنَّ لا جُناحَ عَلَيْكَ أنْ تَفْعَلَ نَصٌّ في نَفْيِ الإثْمِ عَنِ الفاعِلِ وهو صادِقٌ بِالإباحَةِ والنَّدْبِ والوُجُوبِ فَهو في واحِدٍ مِنها مُجْمَلٌ، بِخِلافِ لا جُناحَ عَلَيْكَ أنْ لا تَفْعَلَ فَهو نَصٌّ في نَفْيِ الإثْمِ التّالِي وهو صادِقٌ بِحُرْمَةِ الفِعْلِ وكَراهِيَتِهِ فَهو في أحَدِهِما مُجْمَلٌ، نَعَمْ إنَّ التَّصَدِّيَ لِلْإخْبارِ بِنَفْيِ الإثْمِ عَنْ فاعِلِ شَيْءٍ يَبْدُو مِنهُ أنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ مَظِنَّةٌ لِأنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا هَذا عُرْفُ اسْتِعْمالِ الكَلامِ، فَقَوْلُكَ: لا جُناحَ عَلَيْكَ في فِعْلِ كَذا ظاهِرٌ في الإباحَةِ بِمَعْنى اسْتِواءِ الوَجْهَيْنِ دُونَ النَّدْبِ والوُجُوبِ إذْ لا يَعْمِدُ أحَدٌ إلى واجِبٍ أوْ فَرْضٍ أوْ مَندُوبٍ (p-٦٣)فَيَقُولُ فِيهِ إنَّهُ لا جُناحَ عَلَيْكم في فِعْلِهِ، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ فَهِمَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الآيَةِ عَدَمَ فَرْضِيَّةِ السَّعْيِ، ولَقَدْ أصابَ فَهْمًا مِن حَيْثُ اسْتِعْمالُ اللُّغَةِ لِأنَّهُ مِن أهْلِ اللِّسانِ، غَيْرَ أنَّ هُنا سَبَبًا دَعا لِلتَّعْبِيرِ بِنَفْيِ الإثْمِ عَنِ السّاعِي وهو ظَنُّ كَثِيرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أنَّ في ذَلِكَ إثْمًا، فَصارَ الدّاعِي لِنَفْيِ الإثْمِ عَنِ السّاعِي هو مُقابَلَةَ الظَّنِّ بِما يَدُلُّ عَلى نَقِيضِهِ مَعَ العِلْمِ بِانْتِفاءِ احْتِمالِ قَصْدِ الإباحَةِ بِمَعْنى اسْتِواءِ الطَّرَفَيْنِ بِما هو مَعْلُومٌ مِن أوامِرِ الشَّرِيعَةِ اللّاحِقَةِ بِنُزُولِ الآيَةِ أوِ السّابِقَةِ لَها، ولِهَذا قالَ عُرْوَةُ فِيما رَواهُ: وأنا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ، يُرِيدُ أنَّهُ لا عِلْمَ لَهُ بِالسُّنَنِ وأسْبابِ النُّزُولِ، ولَيْسَ مُرادُهُ مِن حَداثَةِ سِنِّهِ جَهْلَهُ بِاللُّغَةِ لِأنَّ اللُّغَةَ يَسْتَوِي في إدْراكِ مَفاداتِها الحَدِيثُ والكَبِيرُ، ولِهَذا أيْضًا قالَتْ لَهُ عائِشَةُ: بِئْسَما قُلْتَ يا ابْنَ أُخْتِي تُرِيدُ ذَمَّ كَلامِهِ مِن جِهَةِ ما أدّاهُ إلَيْهِ مِن سُوءِ فَهْمِ مَقْصِدِ القُرْآنِ لَوْ دامَ عَلى فَهْمِهِ ذَلِكَ، عَلى عادَتِهِمْ في الصَّراحَةِ في قَوْلِ الحَقِّ، فَصارَ ظاهِرُ الآيَةِ بِحَسَبَ المُتَعارَفِ مُؤَوَّلًا بِمَعْرِفَةِ سَبَبِ التَّصَدِّي لِنَفْيِ الإثْمِ عَنِ الطّائِفِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ. فالجُناحُ المَنفِيُّ في الآيَةِ جُناحٌ عَرَضَ لِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةَ في نَصْبِ إسافٍ ونائِلَةَ عَلَيْهِما ولَيْسَ لِذاتِ السَّعْيِ، فَلَمّا زالَ سَبَبُهُ زالَ الجُناحُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحًا والصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: ١٢٨] فَنَفى الجُناحَ عَنِ التَّصالُحِ وأثْبَتَ لَهُ أنَّهُ خَيْرٌ فالجُناحُ المَنفِيُّ عَنِ الصُّلْحِ ما عَرَضَ قَبْلَهُ مِن أسْبابِ النُّشُوزِ والإعْراضِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ ﴿فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إثْمًا فَأصْلَحَ بَيْنَهم فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٨٢] مَعَ أنَّ الإصْلاحَ بَيْنَهم مُرَغَّبٌ فِيهِ وإنَّما المُرادُ لا إثْمَ عَلَيْهِ فِيما نَقَصَ مِن حَقِّ أحَدِ الجانِبَيْنِ وهو إثْمٌ عارِضٌ. والآيَةُ تَدُلُّ عَلى وُجُوبِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ بِالإخْبارِ عَنْهُما بِأنَّهُما مِن شَعائِرِ اللَّهِ فَلِأجْلِ هَذا اخْتَلَفْتِ المَذاهِبُ في حُكْمِ السَّعْيِ؛ فَذَهَبَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في أشْهَرِ الرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ إلى أنَّهُ فَرْضٌ مِن أرْكانِ الحَجِّ وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ والجُمْهُورِ، ووَجْهُهُ أنَّهُ مِن أفْعالِ الحَجِّ وقَدِ اهْتَمَّ بِهِ النَّبِيءُ ﷺ وبادَرَ إلَيْهِ كَما في حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ والمُوَطَّأِ فَلَمّا تَرَدَّدَ فِعْلُهُ بَيْنَ السُّنِّيَّةِ والفَرْضِيَّةِ، قالَ مالِكٌ بِأنَّهُ فَرْضُ قَضاءٍ لَحِقَ الِاحْتِياطَ ولِأنَّهُ فِعْلٌ بِسائِرِ البَدَنِ مِن خَصائِصِ الحَجِّ لَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ مَفْرُوضٌ فَيُقاسُ عَلى الوُقُوفِ وطَوافِ الإفاضَةِ والإحْرامِ، بِخِلافِ رَكْعَتَيِ الطَّوافِ فَإنَّهُما فِعْلٌ لَيْسَ مِن خَصائِصِ الحَجِّ لِأنَّهُ صَلاةٌ، وبِخِلافِ تَرْكِ لُبْسِ المَخِيطِ فَإنَّهُ تَرْكٌ، وبِخِلافِ رَمْيِ الجِمارِ فَإنَّهُ فِعْلٌ بَعُضْوٍ وهو اليَدُ. وقَوْلِي لَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ مَفْرُوضٌ (p-٦٤)لِإخْراجِ طَوافِ القُدُومِ فَإنَّهُ وإنْ كانَ فِعْلًا بِجَمِيعِ البَدَنِ إلّا أنَّهُ لَهُ مَثِيلٌ مَفْرُوضٌ وهو الإفاضَةُ فَأغْنى عَنْ جَعْلِهِ فَرْضًا، ولِقَوْلِهِ في الحَدِيثِ: «اسْعَوْا فَإنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ»، والأمْرُ ظاهِرٌ في الوُجُوبِ، والأصْلُ أنَّ الفَرْضَ والواجِبَ مُتَرادِفانِ عِنْدَنا لا في الحَجِّ، فالواجِبُ دُونَ الفَرْضِ لَكِنَّ الوُجُوبَ الَّذِي هو مَدْلُولُ الأمْرِ مُساوٍ لِلْفَرْضِ. وذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ إلى أنَّهُ واجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالنُّسُكِ واحْتَجَّ الحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ في الدَّلالَةِ فَلا يَكُونُ فَرْضًا بَلْ واجِبًا لِأنَّ الآيَةَ قَطْعِيَّةُ المَتْنِ فَقَطْ والحَدِيثُ ظَنِّيٌّ فِيهِما، والجَوابُ أنَّ مَجْمُوعَ الظّاهِرِ مِنَ القَوْلِ والفِعْلِ يَدُلُّ عَلى الفَرْضِيَّةِ وإلّا فالوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لا دَلِيلَ عَلى فَرْضِيَّتِهِ وكَذَلِكَ الإحْرامُ فَمَتى يَثْبُتُ هَذا النَّوْعُ المُسَمّى عِنْدَهم بِالفَرْضِ، وذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إلى أنَّهُ سُنَّةٌ. وقَوْلُهُ ﴿ومَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ لِما أفادَتْهُ الآيَةُ مِنَ الحَثِّ عَلى السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ بِمَفادِ قَوْلِهِ ﴿مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾، والمَقْصِدُ مِن هَذا التَّذْيِيلِ الإتْيانُ بِحُكْمٍ كُلِّيٍّ في أفْعالِ الخَيْراتِ كُلِّها مِن فَرائِضَ ونَوافِلَ أوْ نَوافِلَ فَقَطْ فَلَيْسَ المَقْصُودُ مِن خَيْرًا خُصُوصَ السَّعْيِ لِأنَّ خَيْرًا نَكِرَةٌ في سِياقِ الشَّرْطِ فَهي عامَّةٌ ولِهَذا عُطِفَتِ الجُمْلَةُ بِالواوِ دُونَ الفاءِ لِئَلّا يَكُونَ الخَيْرُ قاصِرًا عَلى الطَّوافِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ بِخِلافِ قَوْلِهِ تَعالى في آيَةِ الصِّيامِ في قَوْلِهِ ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعامِ مَساكِينَ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهو خَيْرٌ لَهُ﴾ [البقرة: ١٨٤] لِأنَّهُ أُرِيدَ هُنالِكَ بَيانُ أنَّ الصَّوْمَ مَعَ وُجُودِ الرُّخْصَةِ في الفِطْرِ أفْضَلُ مِن تَرْكِهِ أوْ أنَّ الزِّيادَةَ عَلى إطْعامِ مِسْكِينٍ أفْضَلُ مِنَ الِاقْتِصارِ عَلَيْهِ كَما سَيَأْتِي. وتَطَوَّعَ يُطْلَقُ بِمَعْنى فَعَلَ طاعَةً وتَكَلَّفَها، ويُطْلَقُ مُطاوِعُ طَوَّعَهُ أيْ جَعَلَهُ مُطِيعًا فَيَدُلُّ عَلى مَعْنى التَّبَرُّعِ غالِبًا لِأنَّ التَّبَرُّعَ زائِدٌ في الطّاعَةِ. وعَلى الوَجْهَيْنِ فانْتِصابُ خَيْرًا عَلى نَزْعِ الخافِضِ أيْ تَطَوَّعَ بِخَيْرٍ أوْ بِتَضْمِينِ ”تَطَوَّعَ“ مَعْنى ”فَعَلَ“ أوْ ”أتى“ . ولَمّا كانَتِ الجُمْلَةُ تَذْيِيلًا فَلَيْسَ فِيها دَلالَةٌ عَلى أنَّ السَّعْيَ مِنَ التَّطَوُّعِ أيْ مِنَ المَندُوباتِ لِأنَّها لِإفادَةِ حُكْمٍ كُلِّيٍّ بَعْدَ ذِكْرِ تَشْرِيعٍ عَظِيمٍ، عَلى أنَّ تَطَوَّعَ لا يَتَعَيَّنُ لِكَوْنِهِ بِمَعْنى تَبَرَّعَ بَلْ يَحْتَمِلُ مَعْنى أتى بِطاعَةٍ أوْ تَكَلَّفَ طاعَةً. (p-٦٥)وقَرَأ الجُمْهُورُ مَن تَطَوَّعَ بِصِيغَةِ الماضِي، وقَرَأهُ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ويَعْقُوبُ وخَلَفٌ ”يَطَّوَّعْ“ بِصِيغَةِ المُضارِعِ وياءِ الغَيْبَةِ وجَزْمِ العَيْنِ. ومَن هُنا شَرْطِيَّةٌ بِدَلِيلِ الفاءِ في جَوابِها. وقَوْلُهُ ﴿فَإنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ دَلِيلُ الجَوابِ إذِ التَّقْدِيرُ: ومَن تَطَوَّعَ خَيْرًا جُوزِيَ بِهِ لِأنَّ اللَّهَ شاكِرٌ أيْ لا يُضِيعُ أجْرَ مُحْسِنٍ، عَلِيمٌ لا يَخْفى عَنْهُ إحْسانُهُ، وذَكَرَ الوَصْفَيْنِ لِأنَّ تَرْكَ الثَّوابِ عَنِ الإحْسانِ لا يَكُونُ إلّا عَنْ جُحُودٍ لِلْفَضِيلَةِ أوْ جَهْلٍ بِها فَلِذَلِكَ نُفِيا بِقَوْلِهِ شاكِرٌ عَلِيمٌ والأظْهَرُ عِنْدِي أنَّ شاكِرٌ هُنا اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَ شَأْنَ اللَّهِ في جَزاءِ العَبْدِ عَلى الطّاعَةِ بِحالِ الشّاكِرِ لِمَن أسْدى إلَيْهِ نِعْمَةً، وفائِدَةُ هَذا التَّشْبِيهِ تَمْثِيلُ تَعْجِيلِ الثَّوابِ وتَحْقِيقِهِ لِأنَّ حالَ المُحْسَنِ إلَيْهِ أنْ يُبادِرَ بِشُكْرِ المُحْسِنِ.