ركن التفسير
161 - (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) حال (أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) أي هم مستحقون ذلك في الدنيا والآخرة. والناس قيل: عام. وقيل: المؤمنون
"فصل" لا خلاف في جواز لعن الكفار وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له وأستدل بعضهم بالآية "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين أختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف وأستدل غيره بقوله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن والله أعلم.
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وماتُوا وهم كُفّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ والمَلائِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ﴾ ﴿خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ ولا هم يُنْظَرُونَ﴾ اسْتِئْنافُ كَلامٍ لِإفادَةِ حالِ فَرِيقٍ آخَرَ مُشارِكٍ لِلَّذِي قَبْلَهُ في اسْتِحْقاقِ لَعْنَةِ اللَّهِ واللّاعِنِينَ وهي لَعْنَةٌ أُخْرى. وهَذا الفَرِيقُ هُمُ المُشْرِكُونَ فَإنَّ الكُفْرَ يُطْلَقُ كَثِيرًا في القُرْآنِ مُرادًا بِهِ الشِّرْكُ قالَ تَعالى ﴿ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوافِرِ﴾ [الممتحنة: ١٠]، وذَلِكَ أنَّ المُشْرِكِينَ قَدْ قُرِنُوا سابِقًا مَعَ أهْلِ الكِتابِ (p-٧٣)قالَ تَعالى ﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ ولا المُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: ١٠٥] الآيَةَ ﴿وقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنا اللَّهُ أوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذَلِكَ قالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [البقرة: ١١٨] فَلَمّا اسْتُؤْنِفَ الكَلامُ بِبَيانِ لَعْنَةِ أهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ عُقِّبَ ذَلِكَ بِبَيانِ عُقُوبَةِ المُشْرِكِينَ أيْضًا فالقَوْلُ في الِاسْتِئْنافِ هُنا كالقَوْلِ في الِاسْتِئْنافِ في قَوْلِهِ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ١٥٩] مِن كَوْنِهِ بَيانِيًّا أوْ مُجَرَّدًا. وقالَ الفَخْرُ: الَّذِينَ كَفَرُوا عامٌّ وهو شامِلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُمُونَ وغَيْرِهِمْ والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ أيْ لِما فِيها مِن تَعْمِيمِ الحُكْمِ بَعْدَ إناطَتِهِ بِبَعْضِ الأفْرادِ، وجَعَلَ في الكَشّافِ المُرادَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا خُصُوصَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ وماتُوا عَلى ذَلِكَ وأنَّهُ ذَكَرَ لَعْنَتَهم أحْياءً ثُمَّ لَعَنْتَهم أمْواتًا، وهو بَعِيدٌ عَنْ مَعْنى الآيَةِ لِأنَّ إعادَةَ ”وكَفَرُوا“ لا نُكْتَةَ لَها لِلِاسْتِغْناءِ بِأنْ يُقالَ: والَّذِينَ ماتُوا وهم كُفّارٌ، عَلى أنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْ ذَلِكَ أيْضًا بِأنَّهُ مَفادُ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ مَعَ اسْتِثْنائِها، واللَّعْنَةُ لا يَظْهَرُ أثَرُها إلّا بَعْدَ المَوْتِ فَلا مَعْنى لِجَعْلِها لَعْنَتَيْنِ، ولِأنَّ تَعْقِيبَهُ بِقَوْلِهِ ﴿وإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ﴾ [البقرة: ١٦٣] يُؤْذِنُ بِأنَّ المُرادَ هُنا المُشْرِكُونَ لِتَظْهَرَ مُناسَبَةُ الِانْتِقالِ. وإنَّما قالَ هُنا والنّاسِ أجْمَعِينَ لِأنَّ المُشْرِكِينَ يَلْعَنُهم أهْلُ الكِتابِ وسائِرُ المُتَدَيِّنِينَ المُوَحِّدِينَ لِلْخالِقِ بِخِلافِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أُنْزِلَ مِنَ البَيِّناتِ فَإنَّما يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ والصّالِحُونَ مِن أهْلِ دِينِهِمْ كَما تَقَدَّمَ وتَلْعَنُهُمُ المَلائِكَةُ، وعُمُومُ النّاسِ عُرْفِيٌّ أيِ الَّذِينَ هم مِن أهْلِ التَّوْحِيدِ. وقَوْلُهُ خالِدِينَ فِيها تَصْرِيحٌ بِلازِمِ اللَّعْنَةِ الدّائِمَةِ فالضَّمِيرُ عائِدٌ لِجَهَنَّمَ لِأنَّها مَعْرُوفَةٌ مِنَ المُقامِ مِثْلُ ﴿حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: ٣٢]، ﴿كَلّا إذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ﴾ [القيامة: ٢٦]، ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ إلى اللَّعْنَةِ ويُرادَ أثَرُها ولازِمُها. وقَوْلُهُ ﴿لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ﴾ أيْ لِأنَّ كُفْرَهم عَظِيمٌ يَصُدَّهم عَنْ خَيْراتٍ كَثِيرَةٍ بِخِلافِ كُفْرِ أهْلِ الكِتابِ. والإنْظارُ: الإمْهالُ، نَظَرَهُ نَظْرَةً أمْهَلَهُ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ ولا هم يُمْهَلُونَ في نُزُولِ العَذابِ بِهِمْ في الدُّنْيا وهو عَذابُ القَتْلِ إذْ لا يُقْبَلُ مِنهم إلّا الإسْلامُ دُونَ الجِزْيَةِ بِخِلافِ أهْلِ الكِتابِ وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنّا كاشِفُوا العَذابِ قَلِيلًا إنَّكم عائِدُونَ﴾ [الدخان: ١٥] ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى إنّا مُنْتَقِمُونَ﴾ [الدخان: ١٦] وهي بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ. (p-٧٤)وقِيلَ يُنْظَرُونَ هُنا مِن نَظَرِ العَيْنِ وهو يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ كَما يَتَعَدّى بِإلى؛ أيْ لا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ وهو كِنايَةٌ عَنِ الغَضَبِ والتَّحْقِيرِ. وجِيءَ بِالجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ هُنا لِدَلالَتِها عَلى الثَّباتِ والِاسْتِقْرارِ بِخِلافِ قَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ١٥٩] فالمَقْصُودُ التَّجَدُّدُ لِيَكُونُوا غَيْرَ آيِسِينَ مِنَ التَّوْبَةِ.