موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الجمعة 18 رمضان 1445 هجرية الموافق ل29 مارس 2024


الآية [173] من سورة  

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ


ركن التفسير

173 - (إنما حَرَّم عليكم الميتة) أي أكلها إذ الكلام فيه وكذا ما بعدها وهي ما لم يذك شرعا ، وألحق بها بالسنة ما أبين من حي وخص منها السمك والجراد (والدم) أي المسفوح كما في الأنعام (ولحم الخنزير) خص اللحم لأنه معظم المقصود وغيره تبع له (وما أهل به لغير الله) أي ذبح على اسم غيره والإهلال رفع الصوت وكانوا يرفعونه عند الذبح لآلهتهم (فمن اضطر) أي ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر فأكله (غير باغ) خارج على المسلمين (ولا عاد) متعد عليهم بقطع الطريق (فلا إثم عليه) في أكله (إن الله غفور) لأوليائه (رحيم) بأهل طاعته حيث وسع لهم في ذلك ، وخرج الباغي والعادي ويلحق بهما كل عاص بسفره كالآبق والمكَّاس فلا يحل لهم أكل شيء من ذلك ما لم يتوبوا وعليه الشافعي

ولما امتن تعالى عليهم برزقه وأرشدهم إلى الأكل من طيبه ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو عدا عليها السبع وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى "أحل لكم صيد البحر وطعامه" على ما سيأتي إن شاء الله وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله عليه السلام في البحر "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطي حديث ابن عمر مرفوعا "أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال" وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله في سورة المائدة. " مسئلة "ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره لأنه جزء منها. وقال مالك في رواية هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس فقال القرطبي في التفسير ههنا يخالط اللبن منها يسير ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع. قد روى ابن ماجه عن حديث سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال "الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفى عنه" وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير سواء ذكي أو مات حتف أنفه ويدخل شحمه في حكم لحمه إما تغليبا أو أن اللحم يشمل ذلك أو بطريق القياس على رأي. وكذلك حرم عليهم ما أهل به لغير الله وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له. وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنه سئل عن امرأة عملت عرسا للعبها فنحرت فيه جزورا فقال لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم وأورد القرطبي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه وكلوا من أشجارهم.ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة فقال "فمن اضطر غير باغ ولا عاد" أي في غير بغي ولا عدوان وهو مجاوزة الحد فلا إثم عليه أي في أكل ذلك إن الله غفور رحيم" وقال مجاهد فمن اضطر غير باغ ولا عاد قاطعا للسبيل أو مفارقا للأئمة أو خارجا في معصية الله فله الرخصة ومن خرج باغيا أو عاديا أو في معصية الله فلا رخصة له وإن اضطر إليه وكذا روي عن سعيد بن جبير وقال سعيد - في رواية عنه - ومقاتل بن حيان: غير باغ يعني غير مستحله وقال السدي غير باغ يبتغي فيه شهوته وقال آدم بن أبي إياس حدثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء وهو الخراساني عن أبيه قال: لا يشوى من الميتة ليشتهيه ولا يطبخه ولا يأكل إلا العلقة ويحمل معه ما يبلغه الحلال فإذا بلغه ألقاه وهو قوله "ولا عاد" ويقول لا يعدو به الحلال وعن ابن عباس لا يشبع منها وفسره السدي بالعدوان وعن ابن عباس "غير باغ ولا عاد" قال "غير باغ" فى الميتة ولا عاد في أكله وقال قتادة فمن اضطر غير باغ ولا عاد قال غير باغ في الميتة أي في أكله أن يتعدى حلالا إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة. وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله فمن اضطر أي أكره على ذلك بغير اختياره. " مسئلة "إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بغير خلاف - كذا قال - ثم قال وإذا أكله والحالة هذه هل يضمن أم لا؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية سمعت عباد بن شرحبيل العنزي قال: أصابتنا عاما مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلت منه في كسائي فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال للرجل "ما أطعمته إذ كان جائعا ولا علمته إذ كان جاهلا" فأمره فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق فقال "من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة فلا شيء عليه" الحديث: وقال مقاتل بن حيان في قوله "فلا إثم عليه إن الله غفور" فيما أكل من اضطرار وبلغنا والله أعلم أنه لا يزاد على ثلاث لقم وقال سعيد بن جبير: غفور لما أكل من الحرام رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار وقال وكيع أخبرنا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات دخل النار وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة قال أبو الحسن الطبري: المعروف بالكيا الهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال وهذا هو الصحيح عندنا كالإفطار للمريض ونحو ذلك.

(p-١١٥)﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنُ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، ذَلِكَ أنَّ الإذْنَ بِأكْلِ الطَّيِّباتِ يُثِيرُ سُؤالَ مَن يَسْألُ ما هي الطَّيِّباتُ فَجاءَ هَذا الِاسْتِئْنافُ مُبَيِّنًا المُحَرَّماتِ وهي أضْدادُ الطَّيِّباتِ، لِتُعْرَفَ الطَّيِّباتُ بِطَرِيقِ المُضادَّةِ المُسْتَفادِ مِن صِيغَةِ الحَصْرِ، وإنَّما سَلَكَ طَرِيقَ بَيانِ ضِدَّ الطَّيِّباتِ لِلِاخْتِصارِ؛ فَإنَّ المُحَرَّماتِ قَلِيلَةٌ، ولِأنَّ في هَذا الحَصْرِ تَعْرِيضًا بِالمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلى أنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّباتِ وأحَلُّوا المَيْتَةَ والدَّمَ، ولَمّا كانَ القَصْرُ هُنا حَقِيقِيًّا لِأنَّ المُخاطَبَ بِهِ هُمُ المُؤْمِنُونَ وهم لا يَعْتَقِدُونَ خِلافَ ما يُشْرَعُ لَهم، لَمْ يَكُنْ في هَذا القَصْرِ قَلْبُ اعْتِقادِ أحَدٍ وإنَّما حَصَلَ الرَّدُّ بِهِ عَلى المُشْرِكِينَ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ. وإنَّما بِمَعْنى ”ما وإلّا“ أيْ ما حَرَّمَ عَلَيْكم إلّا المَيْتَةَ وما عُطِفَ عَلَيْها، ومَعْلُومٌ مِنَ المَقامِ أنَّ المَقْصُودَ ما حَرَّمَ مِنَ المَأْكُولاتِ. والحَرامُ: المَمْنُوعُ مَنعًا شَدِيدًا. والمَيْتَةُ بِالتَّخْفِيفِ هي في أصْلِ اللُّغَةِ الذّاتُ الَّتِي أصابَها المَوْتُ فَمُخَفَّفُها ومُشَدَّدُها سَواءٌ كالمَيِّتِ والمَيْتِ، ثُمَّ خُصَّ المُخَفَّفُ مَعَ التَّأْنِيثِ بِالدّابَّةِ الَّتِي تُقْصَدُ ذَكاتُها إذا ماتَتْ بِدُونِ ذَكاةٍ، فَقِيلَ: إنَّ هَذا مِن نَقْلِ الشَّرْعِ، وقِيلَ: هو حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ قِبَلَ الشَّرْعِ وهو الظّاهِرُ بِدَلِيلِ إطْلاقِها في القُرْآنِ عَلى هَذا المَعْنى. وقَرَأ الجُمْهُورُ المَيْتَةَ بِتَخْفِيفِ الياءِ وقَرَأهُ أبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الياءِ. وإضافَةُ التَّحْرِيمِ إلى ذاتِ المَيْتَةِ وما عُطِفَ عَلَيْها هو مِنَ المَسْألَةِ المُلَقَّبَةِ في أُصُولِ الفِقْهِ بِإضافَةِ التَّحْلِيلِ والتَّحْرِيمِ إلى الأعْيانِ، ومَحْمَلُهُ عَلى تَحْرِيمِ ما يُقْصَدُ مِن تِلْكَ العَيْنِ بِاعْتِبارِ نَوْعِها نَحْوُ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣] أوْ بِاعْتِبارِ المَقامِ نَحْوُ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] فَيُقَدَّرُ في جَمِيعِ ذَلِكَ مُضافٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّياقُ، أوْ يُقالُ: أُقِيمَ اسْمُ الذّاتِ مَقامَ الفِعْلِ المَقْصُودِ مِنها لِلْمُبالَغَةِ، فَإذا تَعَيَّنَ ما تَقْصِدُ لَهُ قُصِرَ التَّحْرِيمُ والتَّحْلِيلُ عَلى ذَلِكَ، وإلّا عُمِّمَ احْتِياطًا، فَنَحْوُ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] مُتَعَيَّنٌ لِحُرْمَةِ تَزَوُّجِهِنَّ وما هو مِن تَوابِعِ ذَلِكَ كَما اقْتَضاهُ السِّياقُ، فَلا يَخْطُرُ بِالبالِ أنْ يَحْرُمَ تَقْبِيلُهُنَّ أوْ مُحادَثَتُهُنَّ، ونَحْوُ: فاجْتَنِبُوهُ بِالنِّسْبَةِ إلى المَيْسِرِ (p-١١٦)والأزْلامُ مُتَعَيَّنٌ لِاجْتِنابِ اللَّعِبِ بِها دُونَ نَجاسَةِ ذَواتِها، والمَيْتَةُ هُنا عامٌّ؛ لِأنَّهُ مُعَرَّفٌ بِلامِ الجِنْسِ، فَتَحْرِيمُ أكْلِ المَيْتَةِ هو نَصُّ الآيَةِ وصَرِيحُها لِوُقُوعِ فِعْلِ حَرَّمَ بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ١٧٢] وهَذا القَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَماءِ الإسْلامِ، واخْتَلَفُوا فِيما عَدا الأكْلِ مِن الِانْتِفاعِ بِأجْزاءِ المَيْتَةِ كالِانْتِفاعِ بِصُوفِها وما لا يَتَّصِلُ بِلَحْمِها مِمّا كانَ يُنْتَزَعُ مِنها في وقْتِ حَياتِها، فَقالَ مالِكٌ: يَجُوزُ الِانْتِفاعُ بِذَلِكَ، ولا يُنْتَفَعُ بِقَرْنِها وأظْلافِها ورِيشِها وأنْيابِها لِأنَّ فِيها حَياةً إلّا نابَ الفِيلِ المُسَمّى العاجَ، ولَيْسَ دَلِيلُهُ عَلى هَذا التَّحْرِيمِ مُنْتَزَعًا مِن هَذِهِ الآيَةِ ولَكِنَّهُ أُخِذَ بِدَلالَةِ الإشارَةِ؛ لِأنَّ تَحْرِيمَ أكْلِ المَيْتَةِ أشارَ إلى خَباثَةِ لَحْمِها وما في مَعْناها، وقالَ الشّافِعِيُّ: يَحْرُمُ الِانْتِفاعُ بِكُلِّ أجْزاءِ المَيْتَةِ، ولا دَلِيلَ لَهُ مِن فِعْلِ حَرَّمَ؛ لِأنَّ الفِعْلَ في حَيِّزِ الإثْباتِ لا عُمُومَ لَهُ، ولِأنَّ لَفْظَ المَيْتَةِ كُلٌّ ولَيْسَ كُلِّيًّا فَلَيْسَ مِن صِيَغِ العُمُومِ، فَيَرْجِعُ الِاسْتِدْلالُ بِهِ إلى مَسْألَةِ الخِلافِ في الأخْذِ بِأوائِلِ الأسْماءِ أوْ أواخِرِها وهي مَسْألَةٌ تَرْجِعُ إلى إعْمالِ دَلِيلِ الِاحْتِياطِ وفِيهِ مَراتِبُ وعَلَيْهِ قَرائِنُ ولا أحْسُبَها مُتَوافِرَةً هُنا، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يَجُوزُ الِانْتِفاعُ بِالمَيْتَةِ بِوَجْهٍ ولا يُطْعَمُها الكِلابُ ولا الجَوارِحُ، لِأنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الِانْتِفاعِ بِها وقَدْ حَرَّمَها اللَّهُ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُعَلَّقًا بِعَيْنِها مُؤَكَّدًا بِهِ حُكْمُ الحَظْرِ، فَقَوْلُهُ مُوافِقٌ لِقَوْلِ مالِكٍ فِيما عَدا اسْتِدْلالَهُ. وأمّا جِلْدُ المَيْتَةِ فَلَهُ شِبْهٌ مِن جِهَةٍ ظاهِرِهِ كَشِبْهِ الشَّعْرِ والصُّوفِ، ومِن جِهَةِ باطِنِهِ كَشِبْهِ اللَّحْمِ، ولِتَعارُضِ هَذَيْنِ الشِّبْهَيْنِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في الِانْتِفاعِ بِجِلْدِ المَيْتَةِ إذا دُبِغَ فَقالَ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لا يَطْهُرُ جِلْدُ المَيْتَةِ بِالدَّبْغِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ والشّافِعِيُّ: يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ ما عَدا جِلْدَ الخِنْزِيرِ، لِأنَّهُ مُحَرَّمُ العَيْنِ، ونُسِبَ هَذا إلى الزُّهْرِيِّ، وألْحَقَ الشّافِعِيُّ جِلْدَ الكَلْبِ بِجِلْدِ الخِنْزِيرِ، وقالَ مالِكٌ: يَطْهُرُ ظاهِرُ الجِلْدِ بِالدَّبْغِ لِأنَّهُ يَصِيرُ صُلْبًا لا يُداخِلُهُ ما يُجاوِرُهُ، وأمّا باطِنُهُ فَلا يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ ولِذَلِكَ قالَ: يَجُوزُ اسْتِعْمالُ جِلْدِ المَيْتَةِ المَدْبُوغِ في غَيْرِ وضْعِ الماءِ فِيهِ، ومَنَعَ أنْ يُصَلّى بِهِ أوْ عَلَيْهِ، وقَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ أرْجَحُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ رَأى شاةً مَيْتَةً كانَتْ لِمَيْمُونَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ فَقالَ: هَلّا أخَذْتُمْ إهابَها فَدَبَغْتُمُوهُ فانْتَفَعْتُمْ بِهِ»، ولِما جاءَ في الحَدِيثِ الآخَرِ مِن قَوْلِهِ «أيُّما إهابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»، ويَظْهَرُ أنَّ هَذَيْنِ الخَبَرَيْنِ لَمْ يَبْلُغا مَبْلَغَ الصِّحَّةِ عِنْدَ مالِكٍ ولَكِنَّ صِحَّتَهُما ثَبَتَتْ عِنْدَ غَيْرِهِ، والقِياسُ يَقْتَضِي طَهارَةَ الجِلْدِ المَدْبُوغِ (p-١١٧)لِأنَّ الدَّبْغَ يُزِيلُ ما في الجِلْدِ مِن تَوَقُّعِ العُفُونَةِ العارِضَةِ لِلْحَيَوانِ غَيْرِ المُذَكّى فَهو مُزِيلٌ لِمَعْنى القَذارَةِ والخَباثَةِ العارِضَتَيْنِ لِلْمَيْتَةِ. ويُسْتَثْنى مِن عُمُومِ المَيْتَةِ مَيْتَةُ الحُوتِ ونَحْوِهِ مِن دَوابِّ البَحْرِ الَّتِي لا تَعِيشُ في البَرِّ وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلَيْها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أُحِلَّ لَكم صَيْدُ البَحْرِ وطَعامُهُ﴾ [المائدة: ٩٦] في سُورَةِ العُقُودِ. واعْلَمْ أنَّ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ المَيْتَةِ فِيما أرى هي أنَّ الحَيَوانَ لا يَمُوتُ غالِبًا إلّا وقَدْ أُصِيبَ بِعِلَّةٍ والعِلَلُ مُخْتَلِفَةٌ وهي تَتْرُكُ في لَحْمِ الحَيَوانِ أجْزاءً مِنها فَإذا أكَلَها الإنْسانُ قَدْ يُخالِطُ جُزْءًا مِن دَمِهِ جَراثِيمُ الأمْراضِ، مَعَ أنَّ الدَّمَ الَّذِي في الحَيَوانِ إذا وقَفَتْ دَوْرَتُهُ غُلِّبَتْ فِيهِ الأجْزاءُ الضّارَّةُ عَلى الأجْزاءِ النّافِعَةِ، ولِذَلِكَ شُرِعَتِ الذَّكاةُ لِأنَّ المُذَكّى ماتَ مِن غَيْرِ عِلَّةٍ غالِبًا ولِأنَّ إراقَةَ الدَّمِ الَّذِي فِيهِ تَجْعَلُ لَحْمَهُ نَقِيًّا مِمّا يُخْشى مِنهُ أضْرارٌ. ومِن أجْلِ هَذا قالَ مالِكٌ في الجَنِينِ: أنَّ ذَكاتَهُ ذَكاةُ أُمِّهِ؛ لِأنَّهُ لِاتِّصالِهِ بِأجْزاءِ أمِّهِ صارَ اسْتِفْراغُ دَمِ أُمِّهِ اسْتِفْراغًا لِدَمِهِ، ولِذَلِكَ يَمُوتُ بِمَوْتِها فَسَلِمَ مِن عاهَةِ المَيْتَةِ وهو مَدْلُولُ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ «ذَكاةُ الجَنِينِ ذَكاةُ أُمِّهِ» وبِهِ أخَذَ الشّافِعِيُّ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يُؤْكَلُ الجَنِينُ إذا خَرَجَ مَيْتًا فاعْتَبَرَ أنَّهُ مَيْتَةٌ لَمْ يُذَكَّ، وتَناوَلَ الحَدِيثُ بِما هو مَعْلُومٌ في الأُصُولِ، ولَكِنَّ القِياسَ الَّذِي ذَكَرْناهُ في تَأْيِيدِ مَذْهَبِ مالِكٍ لا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا. وقَدْ ألْحَقَ بَعْضُ الفُقَهاءِ بِالحُوتِ الجَرادَ تُؤْكَلُ مَيْتَتُهُ لِأنَّهُ تَتَعَذَّرُ ذَكاتُهُ وهو قَوْلُ ابْنِ نافِعٍ وابْنِ عَبْدِ الحَكِيمِ مِنَ المالِكِيَّةِ تَمَسُّكًا بِما في صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي أوْفى «غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَبْعَ غَزَواتٍ كُنّا نَأْكُلُ الجَرادَ مَعَهُ» اهـ. وسَواءٌ كانَ مَعَهُ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِنَأْكُلُ أمْ كانَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا حالًا مِن ضَمِيرِكُنّا فَهو يَقْتَضِي الإباحَةَ إمّا بِأكْلِهِ ﷺ إيّاهُ وإمّا بِتَقْرِيرِهِ ذَلِكَ فَتُخَصُّ بِهِ الآيَةُ لِأنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وأمّا حَدِيثُ «أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ السَّمَكُ والجَرادُ» فَلا يَصْلُحُ لِلتَّخْصِيصِ لِأنَّهُ ضَعِيفٌ كَما قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في الأحْكامِ، ومَنَعَهُ مالِكٌ وجُمْهُورُ أصْحابِهِ إلّا أنْ يُذَكّى ذَكاةَ أمْثالِهِ كالطَّرْحِ في الماءِ السّاخْنِ أوْ قَطْعِ ما لا يَعِيشُ بِقَطْعِهِ. ولَعَلَّ مالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَضْعَفَ الحَدِيثَ الَّذِي في مُسْلِمٍ أوْ حَمَلَهُ عَلى الِاضْطِرارِ في السَّفَرِ أوْ حَمَلَهُ عَلى أنَّهم كانُوا يَصْنَعُونَ بِهِ ما يَقُومُ مَقامَ الذَّكاةِ قالَ ابْنُ وهْبٍ: إنَّ ضَمَّ الجَرادِ في غَرائِرَ (p-١١٨)فَضَمُّهُ ذَلِكَ ذَكاةٌ لَهُ، وقَدْ ذَكَرَ في المُوَطَّأِ حَدِيثَ عُمَرَ وقَوْلَ كَعْبِ الأحْبارِ في الجَرادِ إنَّهُ مِنَ الحُوتِ وبَيَّنْتُ تَوَهُّمَ كَعْبِ الأحْبارِ في كِتابِي المُسَمّى ”كَشْفُ المُغَطّى عَلى المُوَطّا“ . وأمّا الدَّمُ فَإنَّما نَصَّ اللَّهُ عَلى تَحْرِيمِهِ لِأنَّ العَرَبَ كانَتْ تَأْكُلُ الدَّمَ، كانُوا يَأْخُذُونَ المَباعِرَ فَيَمْلَئُونَها دَمًا ثُمَّ يَشْوُونَها بِالنّارِ ويَأْكُلُونَها، وحِكْمَةُ تَحْرِيمِ الدَّمِ أنَّ شُرْبَهُ يُورِثُ ضَراوَةً في الإنْسانِ فَتَغْلُظُ طِباعُهُ ويَصِيرُ كالحَيَوانِ المُفْتَرِسِ، وهَذا مُنافٍ لِمَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ، لِأنَّها جاءَتْ لِإتْمامِ مَكارِمِ الأخْلاقِ وإبْعادِ الإنْسانِ عَنِ التَّهَوُّرِ والهَمَجِيَّةِ، ولِذَلِكَ قُيِّدَ في بَعْضِ الآياتِ بِالمَسْفُوحِ أيِ المِهْراقِ، لِأنَّهُ كَثِيرٌ لَوْ تَناوَلَهُ الإنْسانُ اعْتادَهُ ولَوِ اعْتادَهُ أوْرَثَهُ ضَراوَةً، ولِذا عَفَّتِ الشَّرِيعَةُ عَمّا يَبْقى في العُرُوقِ بَعْدَ خُرُوجِ الدَّمِ المَسْفُوحِ بِالذَّبْحِ أوِ النَّحْرِ، وقاسَ كَثِيرٌ مِنَ الفُقَهاءِ نَجاسَةَ الدَّمِ عَلى تَحْرِيمِ أكْلِهِ وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، ومَدارِكُهم في ذَلِكَ ضَعِيفَةٌ، ولَعَلَّهم رَأوْا مَعَ ذَلِكَ أنَّ فِيهِ قَذارَةً. والدَّمُ مَعْرُوفٌ مَدْلُولُهُ في اللُّغَةِ وهو إفْرازٌ مِنَ المُفْرَزاتِ النّاشِئَةِ عَنِ الغِذاءِ وبِهِ الحَياةُ وأصْلُ خِلْقَتِهِ في الجَسَدِ آتٍ مِنَ انْقِلابِ دَمِ الحَيْضِ في رَحِمِ الحامِلِ إلى جَسَدِ الجَنِينِ بِواسِطَةِ المُصْرانِ المُتَّصِلِ بَيْنَ الرَّحِمِ وجَسَدِ الجَنِينِ وهو الَّذِي يُقْطَعُ حِينَ الوِلادَةِ، وتَجَدُّدُهُ في جَسَدِ الحَيَوانِ بَعْدَ بُرُوزِهِ مِن بَطْنِ أُمِّهِ يَكُونُ مِنَ الأغْذِيَةِ بِواسِطَةِ هَضْمِ الكَبِدِ لِلْغِذاءِ المُنْحَدَرِ إلَيْها مِنَ المَعِدَةِ بَعْدَ هَضْمِهِ في المَعِدَةِ ويَخْرُجُ مِنَ الكَبِدِ مَعَ عِرْقٍ فِيها فَيَصْعَدُ إلى القَلْبِ الَّذِي يَدْفَعُهُ إلى الشَّرايِينِ وهي العُرُوقُ الغَلِيظَةُ وإلى العُرُوقِ الرَّقِيقَةِ بِقُوَّةِ حَرَكَةِ القَلْبِ بِالفَتْحِ والإغْلاقِ حَرَكَةً ماكِينِيَّةً هَوائِيَّةً، ثُمَّ يَدُورُ الدَّمُ في العُرُوقِ مُتَنَقِّلًا مِن بَعْضِها إلى بَعْضٍ بِواسِطَةِ حَرَكَةِ القَلْبِ وتَنَفُّسِ الرِّئَةِ وبِذَلِكَ الدَّوَرانِ يَسْلَمُ مِنَ التَّعَفُّنِ فَلِذَلِكَ إذا تَعَطَّلَتْ دَوْرَتُهُ حِصَّةً طَوِيلَةً ماتَ الحَيَوانُ. ولَحْمُ الخِنْزِيرِ هو لَحْمُ الحَيَوانِ المَعْرُوفِ بِهَذا الِاسْمِ. وقَدْ قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: إنَّ العَرَبَ كانُوا يَأْكُلُونَ الخِنْزِيرَ الوَحْشِيَّ دُونَ الإنْسِيِّ، أيْ لِأنَّهم لَمْ يَعْتادُوا تَرْبِيَةَ الخَنازِيرِ وإذا كانَ التَّحْرِيمُ وارِدًا عَلى الخِنْزِيرِ الوَحْشِيِّ فالخِنْزِيرُ الإنْسِيُّ أوْلى بِالتَّحْرِيمِ أوْ مُساوٍ لِلْوَحْشِيِّ. وذِكْرُ اللَّحْمِ هُنا لِأنَّهُ المَقْصُودُ لِلْأكْلِ فَلا دَلالَةَ في ذِكْرِهِ عَلى إباحَةِ شَيْءٍ آخَرَ مِنهُ ولا عَلى عَدَمِها، فَإنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ بِبَعْضِ الجِسْمِ عَلى جَمِيعِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى عَنْ زَكَرِيّا ﴿رَبِّ إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي﴾ [مريم: ٤] وأمّا نَجاسَتُهُ ونَجاسَةُ شَعْرِهِ أوْ إباحَتُها فَذَلِكَ غَرَضٌ آخَرُ وهو لَيْسَ المُرادَ مِنَ الآيَةِ. (p-١١٩)وقَدْ قِيلَ في وجْهِ ذِكْرِ اللَّحْمِ هُنا وتَرْكِهِ في قَوْلِهِ ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ﴾ وجُوهٌ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إنَّ المَقْصِدَ الدَّلالَةُ عَلى تَحْرِيمِ عَيْنِهِ ذُكِّيَ أمْ لَمْ يُذَكَّ اهـ. ومُرادُهُ بِهَذا ألّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أنَّهُ إنَّما يُحَرَّمُ إذا كانَ مَيْتَةً وفِيهِ بُعْدٌ، وقالَ الألُوسِيُّ: خَصَّهُ لِإظْهارِ حُرْمَتِهِ، لِأنَّهم فَضَّلُوهُ عَلى سائِرِ اللُّحُومِ فَرُبَّما اسْتَعْظَمُوا وُقُوعَ تَحْرِيمِهِ اهـ. يُرِيدُ أنَّ ذِكْرَهُ لِزِيادَةِ التَّغْلِيظِ أيْ ذَلِكَ اللَّحْمَ الَّذِي تَذْكُرُونَهُ بِشَراهَةٍ، ولا أحْسَبُ ذَلِكَ، لِأنَّ الَّذِينَ اسْتَجادُوا لَحْمَ الخِنْزِيرِ هُمُ الرُّومُ دُونَ العَرَبِ، وعِنْدِي أنَّ إقْحامَ لَفْظِ اللَّحْمِ هُنا إمّا مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ في الفَصاحَةِ وإمّا لِلْإيماءِ إلى طَهارَةِ ذاتِهِ كَسائِرِ الحَيَوانِ، وإنَّما المُحَرَّمُ أكْلُهُ لِئَلّا يُفْضِيَ تَحْرِيمُهُ لِلنّاسِ إلى قَتْلِهِ أوْ تَعْذِيبِهِ، فَيَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَذْهَبِ مالِكٍ بِطَهارَةِ عَيْنِ الخِنْزِيرِ كَسائِرِ الحَيَوانِ الحَيِّ، وإمّا لِلتَّرْخِيصِ في الِانْتِفاعِ بِشَعْرِهِ؛ لِأنَّهم كانُوا يَغْرِزُونَ بِهِ الجِلْدَ. وحِكْمَةُ تَحْرِيمِ لَحْمِ الخِنْزِيرِ أنَّهُ يَتَناوَلُ القاذُوراتِ بِإفْراطٍ فَتَنْشَأُ في لَحْمِهِ دُودَةٌ مِمّا يَقْتاتُهُ لا تَهْضِمُها مَعِدَتُهُ فَإذا أُصِيبَ بِها آكِلُهُ قَتَلَتْهُ. ومِن عَجِيبِ ما يَتَعَرَّضُ لَهُ المُفَسِّرُونَ والفُقَهاءُ البَحْثُ في حُرْمَةِ خِنْزِيرِ الماءِ وهي مَسْألَةٌ فارِغَةٌ إذْ أسْماءُ أنْواعِ الحُوتِ رُوعِيَتْ فِيها المُشابَهَةُ كَما سَمُّوا بَعْضَ الحُوتِ فَرَسَ البَحْرِ وبَعْضَهُ حَمامَ البَحْرِ وكَلْبَ البَحْرِ، فَكَيْفَ يَقُولُ أحَدٌ بِتَأْثِيرِ الأسْماءِ والألْقابِ في الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ وفي المُدَوَّنَةِ تَوَقَّفَ مالِكٌ أنْ يُجِيبَ في خِنْزِيرِ الماءِ وقالَ: أنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرٌ. قالَ ابْنُ شَأْسٍ: رَأى غَيْرُ واحِدٍ أنَّ تَوَقُّفَ مالِكٍ حَقِيقَةٌ لِعُمُومِ ﴿أُحِلَّ لَكم صَيْدُ البَحْرِ﴾ [المائدة: ٩٦] وعُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى ولَحْمَ الخِنْزِيرِ ورَأى بَعْضُهم أنَّهُ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ فِيهِ، وإنَّما امْتَنَعَ مِنَ الجَوابِ إنْكارًا عَلَيْهِمْ تَسْمِيَتَهم إيّاهُ خِنْزِيرًا ولِذَلِكَ قالَ: أنْتُمْ تُسَمُّونَهُ خِنْزِيرًا يَعْنِي أنَّ العَرَبَ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَهُ خِنْزِيرًا وأنَّهُ لا يَنْبَغِي تَسْمِيَتُهُ خِنْزِيرًا، ثُمَّ السُّؤالُ عَنْ أكْلِهِ حَتّى يَقُولَ قائِلُونَ أكَلُوا لَحْمَ الخِنْزِيرِ، أيْ فَيَرْجِعُ كَلامُ مالِكٍ إلى صَوْنِ ألْفاظِ الشَّرِيعَةِ ألّا يُتَلاعَبَ بِها، وعَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ مَنَعَ أكْلَ خِنْزِيرِ البَحْرِ غَيْرَ مُتَرَدِّدٍ أخْذًا بِأنَّهُ سُمِّيَ خِنْزِيرًا، وهَذا عَجِيبٌ مِنهُ وهو المَعْرُوفُ بِصاحِبِ الرَّأْيِ، ومِن أيْنَ لَنا ألّا يَكُونَ لِذَلِكَ الحُوتِ اسْمٌ آخَرُ في لُغَةِ بَعْضِ العَرَبِ فَيَكُونُ أكْلُهُ مُحَرَّمًا عَلى فَرِيقٍ ومُباحًا لِفَرِيقٍ ؟ وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ أيْ ما أُعْلِنَ بِهِ أوْ نُودِيَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعالى، وهو مَأْخُوذٌ مِن أهَلَّ إذا رَفَعَ صَوْتَهُ بِالكَلامِ، ومِثْلُهُ اسْتَهَلَّ ويَقُولُونَ: اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ صارِخًا إذا رَفَعَ (p-١٢٠)صَوْتَهُ بِالبُكاءِ، وأهَلَّ بِالحَجِّ أوِ العُمْرَةِ إذا رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِما، والأقْرَبُ أنَّهُ مُشْتَقٌّ مِن قَوْلِ الرَّجُلِ: هَلّا لَقَصْدِ التَّنْبِيهِ المُسْتَلْزِمِ لِرَفْعِ الصَّوْتِ وهَلا أيْضًا اسْمُ صَوْتٍ لِزَجْرِ الخَيْلِ، وقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الهِلالِ، لِأنَّهم كانُوا إذا رَأوُا الهِلالَ نادى بَعْضُهم بَعْضًا، وهو عِنْدِي مِن تَلْفِيقاتِ اللُّغَوِيِّينَ وأهْلِ الِاشْتِقاقِ، ولَعَلَّ اسْمَ الهِلالِ إنْ كانَ مُشْتَقًّا وكانُوا يُصِيحُونَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وهو الَّذِي اشْتَقَّ مِن هَلَّ وأهَّلَ بِمَعْنى رَفَعَ صَوْتَهُ، لِأنَّ تَصارِيفَ أهَلَّ أكْثَرُ، ولِأنَّهم سَمَّوُا الهِلالَ شَهْرًا مِنَ الشُّهْرَةِ كَما سَيَأْتِي. وكانَتِ العَرَبُ في الجاهِلِيَّةِ إذا ذَبَحَتْ أوْ نَحَرَتْ لِلصَّنَمِ صاحُوا بِاسْمِ الصَّنَمِ عِنْدَ الذَّبْحِ فَقالُوا: بِاسْمِ اللّاتِ أوْ بِاسْمِ العُزّى أوْ نَحْوِهِما، وكَذَلِكَ كانَ عِنْدَ الأُمَمِ الَّتِي تَعْبُدُ آلِهَةً إذا قُرِّبَتْ لَها القَرابِينُ، وكانَ نِداءُ المَعْبُودِ ودُعاؤُهُ عِنْدَ الذَّبْحِ إلَيْهِ عِنْدَ اليُونانِ كَما جاءَ في الإلْياذَةِ لِهُومِيرُوسَ. فَأُهِلَّ في الآيَةِ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ أيْ ما أهَلَّ عَلَيْهِ المُهِلُّ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ، وضُمِّنَ أُهِلَّ مَعْنى تُقُرِّبَ فَعُدِّيَ لِمُتَعَلِّقِهِ بِالباءِ وبِاللّامِ مِثْلُ تُقُرِّبَ، فالضَّمِيرُ المَجْرُورُ بِالباءِ عائِدٌ إلى ما أُهِلَّ، وفائِدَةُ هَذا التَّضْمِينِ تَحْرِيمُ ما تُقُرِّبَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى سَواءٌ نُودِيَ عَلَيْهِ بِاسْمِ المُتَقَرَّبِ إلَيْهِ أمْ لا، والمُرادُ بِغَيْرِ اللَّهِ الأصْنامُ ونَحْوُها. وأمّا ما يَذْبَحُهُ سُودانُ بَلَدِنا بِنِيَّةِ أنَّ الجِنَّ تَشْرَبُ دَمَهُ ولا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ زَعْمًا بِأنَّ الجِنَّ تَفِرُّ مِن نُورانِيَّةِ اسْمِ اللَّهِ فالظّاهِرُ أنَّهُ لا يَجُوزُ أكْلُهُ وإنْ كانَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَهُ مُسْلِمِينَ ولا يُخْرِجُهم ذَلِكَ عَنِ الإسْلامِ. وقالَ ابْنُ عَرَفَةَ في تَفْسِيرِهِ: الأظْهَرُ جَوازُ أكْلِهِ لِأنَّهُ لَمْ يُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وقَوْلُهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ إلَخْ الفاءُ فِيهِ لِتَفْرِيعِ الإخْبارِ لا لِتَفْرِيعِ المَعْنى، فَإنَّ مَعْنى رَفْعِ الحَرَجِ عَنِ المُضْطَرِّ لا يَنْشَأُ عَنِ التَّحْرِيمِ، والمُضْطَرُّ هو الَّذِي ألْجَأتْهُ الضَّرُورَةُ أيِ الحاجَةُ أيِ اضْطُرَّ إلى أكْلِ شَيْءٍ مِن هَذِهِ المُحَرَّماتِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ، وقَوْلُهُ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ حالٌ، والبَغْيُ الظُّلْمُ، والعُدْوانُ المُحارَبَةُ والقِتالُ، ومَجِيءُ هَذِهِ الحالِ هُنا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ المُضْطَرِّ في حالِ إباحَةِ هاتِهِ المُحَرَّماتِ لَهُ بِأنَّهُ بِأكْلِها يَكُونُ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ، لِأنَّ الضَّرُورَةَ تُلْجِئُ إلى البَغْيِ والِاعْتِداءِ فالآيَةُ إيماءٌ إلى عِلَّةِ الرُّخْصَةِ وهي رَفْعُ البَغْيِ والعُدْوانِ بَيْنَ الأُمَّةِ، وهي أيْضًا إيماءٌ إلى حَدِّ الضَّرُورَةِ وهي الحاجَةُ الَّتِي يَشْعُرُ عِنْدَها مَن لَمْ يَكُنْ دَأبُهُ البَغْيَ والعُدْوانَ بِأنَّهُ سَيَبْغِي ويَعْتَدِي (p-١٢١)وهَذا تَحْدِيدٌ مُنْضَبِطٌ، فَإنَّ النّاسَ مُتَفاوِتُونَ في تَحَمُّلِ الجُوعِ ولِتَفاوُتِ الأمْزِجَةِ في مُقاوَمَتِهِ، ومِنَ الفُقَهاءِ مَن يُحَدِّدُ الضَّرُورَةَ بِخَشْيَةِ الهَلاكِ ومُرادُهُمُ الإفْضاءُ إلى المَوْتِ والمَرَضِ وإلّا فَإنَّ حالَةَ الإشْرافِ عَلى المَوْتِ لا يَنْفَعُ عِنْدَها الأكْلُ، فَعُلِمَ أنَّ نَفْيَ الإثْمِ عَنِ المُضْطَرِّ فِيما يَتَناوَلُهُ مِن هَذِهِ المُحَرَّماتِ مَنُوطٌ بِحالَةِ الِاضْطِرارِ، فَإذا تَناوَلَ ما أزالَ بِهِ الضَّرُورَةَ فَقَدْ عادَ التَّحْرِيمُ كَما كانَ، فالجائِعُ يَأْكُلُ مَن هاتِهِ المُحَرَّماتِ إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَها أكْلًا يُغْنِيهِ عَنِ الجُوعِ وإذا خافَ أنْ تَسْتَمِرَّ بِهِ الحاجَةُ كَمَن تَوَسَّطَ فَلاةً في سَفَرٍ أنْ يَتَزَوَّدَ مِن بَعْضِ هاتِهِ الأشْياءِ حَتّى إنِ اسْتَغْنى عَنْها طَرَحَها، لِأنَّهُ لا يَدْرِي هَلْ يَتَّفِقُ لَهُ وِجْدانُها مَرَّةً أُخْرى، ومِن عَجَبِ الخِلافِ بَيْنَ الفُقَهاءِ أنْ يُنْسَبَ إلى أبِي حَنِيفَةَ والشّافِعِيِّ أنَّ المُضْطَرَّ لا يَشْبَعُ ولا يَتَزَوَّدُ خِلافًا لِمالِكٍ في ذَلِكَ والظّاهِرُ أنَّهُ خِلافٌ لَفْظِيٌّ واللَّهُ تَعالى يَقُولُ ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ في مَعْرِضِ الِامْتِنانِ فَكَيْفَ يَأْمُرُ الجائِعَ بِالبَقاءِ عَلى بَعْضِ جُوعِهِ ويَأْمُرُ السّائِرَ بِالإلْقاءِ بِنَفْسِهِ إلى التَّهْلُكَةِ إنْ لَمْ يَتَزَوَّدْ ؟ وقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ بِتَفاسِيرَ أُخْرى: فَعَنِ الشّافِعِيِّ أنَّهُ غَيْرُ الباغِي والعادِي عَلى الإمامِ لا عاصٍ بِسَفَرِهِ فَلا رُخْصَةَ لَهُ فَلا يَجُوزُ لَهُ أكْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاضْطِرارِ، فَأجابَ المالِكِيَّةَ: بِأنَّ عِصْيانَهُ بِالسَّفَرِ لا يَقْتَضِي أنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ أكْبَرَ وهي إتْلافُ نَفْسِهِ بِتَرْكِ أكْلِ ما ذُكِرَ وهو إلْجاءٌ مَكِينٌ. ومِمّا اخْتَلَفُوا في قِياسِهِ عَلى ضَرُورَةِ الجُوعِ ضَرُورَةُ التَّداوِي، فَقِيلَ لا يُتَداوى بِهاتِهِ المُحَرَّماتِ ولا بِشَيْءِ مِمّا حَرَّمَ اللَّهُ كالخَمْرِ وهَذا قَوْلُ مالِكٍ والجُمْهُورِ، ولَمْ يَزَلِ النّاسُ يَسْتَشْكِلُونَهُ لِاتِّحادِ العِلَّةِ وهي حِفْظُ الحَياةِ، وعِنْدِي أنَّ وجْهَهُ أنَّ تَحَقُّقَ العِلَّةِ فِيهِ مُنْتَفٍ إذْ لَمْ يَبْلُغِ العِلْمُ بِخَصائِصِ الأدْوِيَةِ ظَنَّ نَفْعِها كُلِّها إلّا ما جُرِّبَ مِنها، وكَمْ مِن أغْلاطٍ كانَتْ لِلْمُتَطَبِّبِينَ في خَصائِصِ الدَّواءِ، ونَقَلَ الفَخْرُ عَنْ بَعْضِهِمْ إباحَةَ تَناوُلِ المُحَرَّماتِ في الأدْوِيَةِ، وعِنْدِي أنَّهُ إذا وقَعَ قُوَّةُ ظَنِّ الأطِبّاءِ الثِّقاتِ بِنَفْعِ الدَّواءِ المُحَرَّمِ مِن مَرَضٍ عَظِيمٍ وتَعَيُّنِهِ أوْ غَلَبَ ذَلِكَ في التَّجْرِبَةِ فالجَوازُ قِياسًا عَلى أكْلِ المُضْطَرِّ وإلّا فَلا. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ: فَمَنِ اضْطِرَّ بِكَسْرِ الطّاءِ، لِأنَّ أصْلَهُ اضْطُرِرَ بِراءَيْنِ أُولاهُما مَكْسُورَةٌ فَلَمّا أُرِيدَ إدْغامُ الرّاءِ الأُولى في الثّانِيَةِ نُقِلَتْ حَرَكَتُها إلى الطّاءِ بَعْدَ طَرْحِ حَرَكَةِ الطّاءِ. وقَوْلُهُ ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ قُصِدَ بِهِ الِامْتِنانُ، أيْ إنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ فَلا جَرَمَ أنْ يَغْفِرَ لِلْمُضْطَرِّ أكْلَ المَيْتَةِ لِأنَّهُ رَحِيمٌ بِالنّاسِ، فالمَغْفِرَةُ هُنا بِمَعْنى التَّجاوُزِ (p-١٢٢)عَمّا تُمْكِنُ المُؤاخَذَةُ عَلَيْهِ لا بِمَعْنى تَجاوُزِ الذَّنْبِ، ونَحْوُهُ قَوْلُهُ ﷺ في رُؤْيا القَلِيبِ وفي نَزْعِهِ ضَعْفٌ واللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ. ومَعْنى الآيَةِ: أنَّ رَفْعَ الإثْمِ عَنِ المُضْطَرِّ حُكْمٌ يُناسِبُ مَنِ اتَّصَفَ بِالمَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ.


ركن الترجمة

Forbidden to you are carrion and blood, and the flesh of the swine, and that which has been consecrated (or killed) in the name of any other than God. If one is obliged by necessity to eat it without intending to transgress, or reverting to it, he is not guilty of sin; for God is forgiving and kind.

Certes, Il vous interdit la chair d'une bête morte, le sang, la viande de porc et ce sur quoi on a invoqué un autre qu'Allah. Il n'y a pas de péché sur celui qui est contraint sans toutefois abuser ni transgresser, car Allah est Pardonneur et Miséricordieux.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :