ركن التفسير
177 - (ليس البرَّ أن تولوا وجوهكم) في الصلاة (قبل المشرق والمغرب) نزل رداً على اليهود والنصارى حيث زعموا ذلك (ولكن البرَّ) أي ذا البر وقرئ بفتح الباء أي البار (من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب) أي الكتب (والنبيين وآتى المال على) مع (حبه) له (ذوي القربى) القرابة (واليتامى والمساكين وابن السبيل) المسافر (والسائلين) الطالبين (وفي) فك (الرقاب) المكاتبين والأسرى (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) المفروضة وما قبله في التطوع (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) الله أو الناس (والصابرين) نصب على المدح (في البأساء) شدة الفقر (والضراء) المرض (وحين البأس) وقت شدة القتال في سبيل الله (أولئك) الموصوفون بما ذكر (الذين صدقوا) في إيمانهم أو ادعاء البر (وأولئك هم المتقون) الله
اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة وقواعد عميمة وعقيدة مستقيمة كما قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبيد بن هشام الحلبي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عامر بن شفي عن عبد الكريم عن مجاهد عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟ فتلا عليه "ليس البر أن تولوا وجوهكم" إلى آخر الآية قال: ثم سأله أيضا فتلاها عليه ثم سأله فقال: "إذا عملت حسنة أحبها قلبك وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك" وهذا منقطع فإن مجاهدا لم يدرك أبا ذر فإنه مات قديما وقال المسعودي: حدثنا القاسم بن عبدالرحمن قال جاء رجل إلى أبي ذر فقال ما الإيمان؟ فقرأ عليه هذه الآية" ليس البر أن تولوا وجوهكم" حتى فرغ منها فقال الرجل ليس عن البر سألتك فقال أبو ذر. جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه فقرأ عليه هذه الآية فأبي أن يرضى كما أبيت أن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده "المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها" رواه ابن مردويه وهذا أيضا منقطع والله أعلم. وأما الكلام على تفسير هذه الآية فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل وامتثال أوامره والتوجه حيثما وجه واتباع ما شرع فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ولهذا قال "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر" الآية كما قال في الأضاحي والهدايا لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" وقال العوفي عن ابن عباس فى هذه الآية ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود فأمر الله بالفرائض والعمل بها وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك وقال أبو العالية: كانت اليهود تقبل قبل المغرب وكانت النصارى تقبل قبل المشرق فقال الله تعالى "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب" يقول هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله. وقال مجاهد: ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل وقال الضحاك: ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها وقال الثوري: "ولكن البر من آمن بالله" الآية قال هذه أنواع البر كلها وصدق رحمه الله فإن من اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الإسلام كلها وأخـذ بمجامع الخير كله وهو الإيمان بالله وأنه لا إله إلا هو وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله "والكتاب" وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وقوله "وآتى المال على حبه" أي أخرجه وهو محب له راغب فيه نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا "أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر". وقد روى الحكم في مستدركه من حديث شعبة والثوري عن منصور عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وآتى المال على حبه أن تعطيه وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى الفقر" ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. " قلت" وقد رواه وكيع عن الأعمش وسفيان عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود موقوفا وهو أصح والله أعلم. وقال تعالى "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا" وقال تعالى "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" وقوله "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" نمط آخر أرفع من هذا وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له وقوله "ذوي القربى" وهم قرابات الرجل وهم أولى من أعطى من الصدقة كما ثبت فى الحديث "الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذوي الرحم ثنتان صدقة وصلة فهم أولى الناس بك ببرك وإعطائك" وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز "واليتامى" هم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب وقد قال: عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُتْم بعد حلم" "والمساكين" وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم فيعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يُفطن له فيتصدق عليه" "وابن السبيل" وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده وكذا الذي يريد سفرا في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ويدخل في ذلك الضيف كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو جعفر الباقر والحسن وقتادة والضحاك والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان "والسائلين" وهم الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات كما قال الإمام أحمد حدثنا وكيع وعبدالرحمن قال: حدثنا سفيان عم مصعب بن محمد عن يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها- قال عبدالرحمن حسين بن علي- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "للسائل حق وإن جاء على فرس" رواه أبو داود "وفي الرقاب" وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصـدقات من براءة إن شاء الله تعالى. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا شريك عن أبي حمزة عن الشعبي حدثتني فاطمة بنت قيس أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أفي المال حق سوى الزكاة؟ قالت فتلا علي "وآتى المال على حبه". ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن إياس ويحيى بن عبد الحميد كلاهما عن شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "في المال حق سوى الزكاة" ثم قرأ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب - إلى قوله - وفي الرقاب" وأخرجه ابن ماجه والترمذي وضعف أبا حمزة ميمونا الأعور وقد رواه سيار لإسماعيل بن سالم عن الشعبي وقوله وأقام الصلاة أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنيتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي وقوله "آتى الزكاة" يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة كقوله "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" وقول موسى لفرعون: "هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى" وقوله تعالى "وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة" ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس "أن في المال حقا سوى الزكاة" والله أعلم. وقوله "والموفون بعهدهم إذا عاهدوا" كقوله "الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق" وعكس هذه الصفة النفاق كما صح الحديث "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" وفي الحديث الآخر "إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" وقوله "والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أي في حال الفقر وهو البأساء وفي حال المرض والأسقام وهو الضراء "وحين البأس" أي في حال القتال والتقاء الأعداء قاله ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومرة الهمداني ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وأبو مالك والضحاك وغيرهم وإنما نصب الصابرين على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته والله أعلم وهو المستعان وعليه التكلان: وقوله "أولئك الذين صدقوا" أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال فهؤلاء هم الذين صدقوا "وأولئك هم المتقون" لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات.
﴿لَيْسَ البِرُّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ ولَكِنِ البِرُّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ والمَلائِكَةِ والكِتابِ والنَّبِيئِينَ وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسّائِلِينَ وفي الرِّقابِ وأقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمُ إذا عاهَدُوا والصّابِرِينَ في البَأْساءِ والضَّرّاءِ وحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ . (p-١٢٨)قَدَّمَنا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ [البقرة: ١٥٣] أنَّ قَوْلَهُ (﴿لَيْسَ البِرُّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما ولّاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها﴾ [البقرة: ١٤٢]، وأنَّهُ خِتامٌ لِلْمُحاجَّةِ في شَأْنِ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ، وأنَّ ما بَيْنَ هَذا وذَلِكَ كُلُّهُ اعْتِراضٌ أُطْنِبَ فِيهِ وأُطِيلَ لِأخْذِ مَعانِيهِ بَعْضِها بِحُجَزِ بَعْضٍ. فَهَذا إقْبالٌ عَلى خِطابِ المُؤْمِنِينَ بِمُناسَبَةِ ذِكْرِ أحْوالِ أهْلِ الكِتابِ وحَسَدِهِمُ المُؤْمِنِينَ عَلى اتِّباعِ الإسْلامِ مُرادٌ مِنهُ تَلْقِينُ المُسْلِمِينَ الحُجَّةَ عَلى أهْلِ الكِتابِ في تَهْوِيلِهِمْ عَلى المُسْلِمِينَ إبْطالَ القِبْلَةِ الَّتِي كانُوا يُصَلُّونَ إلَيْها فَفي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأهْلِ الكِتابِ. فَأهْلُ الكِتابِ رَأوْا أنَّ المُسْلِمِينَ كانُوا عَلى شَيْءٍ مِنَ البِرِّ بِاسْتِقْبالِهِمْ قِبْلَتَهم فَلَمّا تَحَوَّلُوا عَنْها لَمَزُوهم بِأنَّهم أضاعُوا أمْرًا مِن أُمُورِ البِرِّ، يَقُولُ عَدِّ عَنْ هَذا وأعْرِضُوا عَنْ تَهْوِيلِ الواهِنِينَ، وهَبُوا أنَّ قِبْلَةَ الصَّلاةِ تَغَيَّرَتْ أوْ كانَتِ الصَّلاةُ بِلا قِبْلَةٍ أصْلًا فَهَلْ ذَلِكَ أمْرٌ لَهُ أثَرٌ في تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ واتِّصافِها بِالبِرِّ ؟ فَذِكْرُ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ اقْتِصارٌ عَلى أشْهَرِ الجِهاتِ أوْ هو لِلْإشارَةِ إلى قِبْلَةِ اليَهُودِ وقِبْلَةِ النَّصارى لِإبْطالِ تَهْوِيلِ الفَرِيقَيْنِ عَلى المُسْلِمِينَ حِينَ اسْتَقْبَلُوا الكَعْبَةَ، ومِنهم مَن جَعَلَهُ لِكُلِّ مَن يَسْمَعُ الخِطابَ. والبِرُّ: سِعَةُ الإحْسانِ وشِدَّةُ المَرْضاةِ والخَيْرُ الكامِلُ الشّامِلُ، ولِذَلِكَ تُوصَفُ بِهِ الأفْعالُ القَوِيَّةُ الإحْسانِ، فَيُقالُ: بِرُّ الوالِدَيْنِ وبِرُّ الحَجَّ وقالَ تَعالى ﴿لَنْ تَنالُوا البِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: ٩٢]، والمُرادُ بِهِ هُنا بِرُّ العَبْدِ رَبَّهُ بِحُسْنِ المُعامَلَةِ في تَلَقِّي شَرائِعِهِ وأوامِرِهِ. ونَفْيُ البِرِّ عَنِ اسْتِقْبالِ الجِهاتِ مَعَ أنَّ مِنها ما هو مَشْرُوعٌ كاسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ: إمّا لِأنَّهُ مِنَ الوَسائِلِ لا مِنَ المَقاصِدِ فَلا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الِاشْتِغالُ بِهِ قُصارى هِمَّةِ المُؤْمِنِينَ، ولِذَلِكَ أسْقَطَهُ اللَّهُ عَنِ النّاسِ في حالِ العَجْزِ والنِّسْيانِ وصَلَواتِ النَّوافِلِ عَلى الدّابَّةِ في السَّفَرِ، ولِذَلِكَ قالَ ﴿ولَكِنِ البِرُّ مَن آمَنَ﴾ إلَخْ فَإنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِن أهَمِّ مَقاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وفِيهِ جِماعُ صَلاحِ النَّفْسِ والجَماعَةِ ونَظِيرُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى ﴿أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ﴾ [التوبة: ١٩] الآياتِ فَيَكُونُ النَّفْيُ عَلى مَعْنى نَفْيِ الكَمالِ، وإمّا لِأنَّ المَنفِيَّ عَنْهُ البِرَّ هو اسْتِقْبالُ قِبْلَتَيِ اليَهُودِ والنَّصارى فَقَدْ تَقَدَّمَ لَنا أنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْبالَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ في أصْلِ دِينِهِمْ ولَكِنَّهُ شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ أنْبِياؤُهم ورُهْبانُهم، ولِذَلِكَ نُفِيَ البَرُّ عَنْ تَوْلِيَةِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ تَنْبِيهًا عَلى ذَلِكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ”﴿لَيْسَ البِرُّ﴾“ بِرَفْعِ البِرِّ عَلى أنَّهُ اسْمُ لَيْسَ والخَبَرُ هو ﴿أنْ تُوَلُّوا﴾ وقَرَأهُ حَمْزَةُ (p-١٢٩)وحَفْصٌ، عَنْ عاصِمٍ بِنَصْبِ ”البِرَّ“ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ”أنْ تُوَلُّوا“ اسْمُ ”لَيْسَ“ مُؤَخَّرٌ، ويَكْثُرُ في كَلامِ العَرَبِ تَقْدِيمُ الخَبَرِ عَلى الِاسْمِ في بابِ كانَ وأخَواتِها إذا كانَ أحَدُ مَعْمُولَيْ هَذا البابِ مُرَكَّبًا مِن ”أنْ“ المَصْدَرِيَّةِ وفِعْلِها، كانَ المُتَكَلِّمُ بِالخِيارِ في المَعْمُولِ الآخَرِ بَيْنَ أنْ يَرْفَعَهُ وأنْ يَنْصِبَهُ، وشَأْنُ اسْمِ لَيْسَ أنْ يَكُونَ هو الجَدِيرَ بِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً بِهِ، فَوَجْهُ قِراءَةِ رَفْعِ (البِرِّ)، أنَّ (البِرَّ) أمْرٌ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ لِأهْلِ الأدْيانِ مَرْغُوبٌ لِلْجَمِيعِ، فَإذا جُعِلَ مُبْتَدَأً في حالَةِ النَّفْيِ أصْغَتِ الأسْماعُ إلى الخَبَرِ، وأمّا تَوْجِيهُ قِراءَةِ النَّصْبِ فَلِأنَّ أمْرَ اسْتِقْبالِ القِبْلَةِ هو الشُّغْلُ الشّاغِلُ لَهم، فَإذا ذُكِرَ خَبَرُهُ قَبْلَهُ تَرَقَّبَ السّامِعُ المُبْتَدَأ فَإذا سَمِعَهُ تَقَرَّرَ في عِلْمِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿ولَكِنِ البِرُّ مَن آمَنَ﴾ إخْبارٌ عَنِ المَصْدَرِ بِاسْمِ الذّاتِ لِلْمُبالَغَةِ كَعَكْسِهِ في قَوْلِها: (فَإنَّما هي إقْبالٌ وإدْبارُ) وذَلِكَ كَثِيرٌ في الكَلامِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ أصْبَحَ ماؤُكم غَوْرًا﴾ [الملك: ٣٠] وقَوْلُ النّابِغَةِ: ؎وقَدْ خِفْتُ حَتّى ما تَزِيدَ مَخافَتِي عَلى وعِلٍ في ذِي المَطارَةِ عاقِلِ أيْ: وعِلٍ؛ هو مَخافَةُ أيِّ خائِفٍ، ومَن قَدَّرَ في مِثْلِهِ مُضافًا؛ أيْ: بِرُّ مَن آمَنَ، أوْ ولَكِنْ ذُو البِرِّ، فَإنَّما عُنِيَ بَيانُ المَعْنى لا أنَّ هُنالِكَ مِقْدارًا؛ لِأنَّهُ يُخْرِجُ الكَلامَ عَنِ البَلاغَةِ إلى كَلامٍ مَغْسُولٍ، كَما قالَ التَّفْتازانِيُّ، وعَنِ المُبَرِّدِ: لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَقْرَأُ لَقَرَأْتُ: (﴿ولَكِنِ البِرُّ﴾) بِفَتْحِ الباءِ، وكَأنَّهُ أرادَ الِاسْتِغْناءَ عَنِ التَّقْدِيرِ في الإخْبارِ عَنِ (البِرِّ) بِجُمْلَةِ (﴿مَن آمَنَ﴾)؛ لِأنَّ (﴿مَن آمَنَ﴾) هو البارُّ لا نَفْسُ البِرِّ، وكَيْفَ يَقْرَأُ كَذَلِكَ و(البِرُّ) مَعْطُوفٌ بِـ (لَكِنَّ) في مُقابَلَةِ البِرِّ المُثْبَتِ، فَهَلْ يَكُونُ إلّا عَيْنُهُ، ولِذا لَمْ يَقْرَأْ أحَدٌ إلّا (البِرَّ) بِكَسْرِ الباءِ، عَلى أنَّ القِراءاتِ مَرْوِيَّةٌ ولَيْسَتِ اخْتِيارًا، ولَعَلَّ هَذا لا يَصِحُّ عَنِ المُبَرِّدِ، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ (ولَكِنِ البِرُّ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ مِن ”لَكِنَّ“ ورَفْعِ ”البِرِّ“ عَلى الِابْتِداءِ، وقَرَأهُ بَقِيَّةُ العَشَرَةِ بِتَشْدِيدِ نُونِ ”لَكِنَّ“ ونَصْبِ البِرِّ والمَعْنى واحِدٌ، وتَعْرِيفُ: ”﴿والكِتابِ﴾“ تَعْرِيفُ الجِنْسِ المُفِيدِ لِلِاسْتِغْراقِ؛ أيْ: آمَنَ بِكُتُبِ اللَّهِ مِثْلِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ والقُرْآنِ، ووَجْهُ التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ المُفْرَدِ أنَّها أخَفُّ مَعَ عَدَمِ التِباسِ التَّعْرِيفِ بِأنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ؛ لِأنَّ عَطْفَ النَّبِيِّينَ عَلى الكِتابِ قَرِينَةٌ عَلى أنَّ اللّامَ في الكِتابِ لِلِاسْتِغْراقِ، فَأُوثِرَتْ صِيغَةُ المُفْرَدِ طَلَبًا لِخِفَّةِ اللَّفْظِ. وما يُظَنُّ مِن أنَّ اسْتِغْراقَ المُفْرَدِ المُعَرَّفِ بِاللّامِ أشْمَلُ مِنِ اسْتِغْراقِ الجَمْعِ المُعَرَّفِ بِها لَيْسَ جارِيًا عَلى الِاسْتِعْمالِ، وإنَّما تَوَهَّمَهُ السَّكّاكِيُّ في المِفْتاحِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَ رَبِّ إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي﴾ [مريم: ٤] (p-١٣٠)مِن كَلامٍ وقَعَ في الكَشّافِ، وما نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قَرَأ قَوْلَهُ تَعالى: ”﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكِتابِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥]“، وقالَ: الكِتابُ أكْثَرُ مِنَ الكُتُبِ، فَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا بِهِ تَوْجِيهَ قِراءَتِهِ ”وكِتابِهِ“ المُعَرَّفِ بِالإضافَةِ، بَلْ عَنى بِهِ الأسْماءَ المَنفِيَّةَ بِـ ”لا“ التَّبْرِئَةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ نَحْوِ: لا رَجُلَ في الدّارِ ونَحْوِ: لا رِجالَ في الدّارِ، في تَطَرُّقِ احْتِمالِ نَفْيِ جِنْسِ الجُمُوعِ لا جِنْسِ الأفْرادِ عَلى ما فِيهِ مِنَ البَحْثِ، فَلا يَنْبَغِي التَّعَلُّقُ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ، ولا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِما ذَكَرَهُ صاحِبُ المِفْتاحِ. والَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمادُهُ أنَّ اسْتِغْراقَ المُفْرَدِ والجَمْعِ في المُعَرَّفِ بِاللّامِ وفي المَنفِيِّ بِـ ”لا“ التَّبْرِئَةِ سَواءٌ، وإنَّما يَخْتَلِفُ تَعْبِيرُ أهْلِ اللِّسانِ مَرَّةً بِصِيغَةِ الإفْرادِ ومَرَّةً بِصِيغَةِ الجَمْعِ، تَبَعًا لِحِكايَةِ الصُّورَةِ المُسْتَحْضَرَةِ في ذِهْنِ المُتَكَلِّمِ والمُناسِبَةِ لِمَقامِ الكَلامِ، فَأمّا في المَنفِيِّ بِـ ”لا“ النّافِيَةِ لِلْجِنْسِ فَلَكَ أنْ تَقُولَ: لا رَجُلَ في الدّارِ، ولا رِجالَ في الدّارِ، عَلى السَّواءِ، إلّا إذا رَجَّحَ أحَدَ التَّعْبِيرَيْنِ مُرَجِّحٌ لَفْظِيٌّ، وأمّا في المُعَرَّفِ بِاللّامِ أوِ الإضافَةِ فَكَذَلِكَ في صِحَّةِ التَّعْبِيرِ بِالمُفْرَدِ والجَمْعِ سِوى أنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ احْتِمالُ إرادَةِ العَهْدِ، وذَلِكَ يَعْرِضُ لِلْمُفْرِدِ والجَمْعِ ويَنْدَفِعُ بِالقَرائِنِ. و”عَلى“ في قَوْلِهِ: ”﴿عَلى حُبِّهِ﴾“ مَجازٌ في التَّمَكُّنِ مِن حُبِّ المالِ مِثْلَ: ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى﴾ [البقرة: ٥] وهي في مِثْلِ هَذا المَقامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أبْعَدِ الأحْوالِ مِن مَظِنَّةِ الوَصْفِ، فَلِذَلِكَ تُفِيدُ مُفادَ كَلِمَةِ ”مَعَ“ وتَدُلُّ عَلى مَعْنى الِاحْتِراسِ، كَما هي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا﴾ [الإنسان: ٨]، وقَوْلِ زُهَيْرٍ: ؎مَن يَلْقَ يَوْمًا عَلى عِلّاتِهِ هَرِمًا ∗∗∗ يَلْقَ السَّماحَةَ فِيهِ والنَّدى خُلُقا قالَ الأعْلَمُ في شَرْحِهِ: أيْ فَكَيْفَ بِهِ وهو عَلى غَيْرِ تِلْكَ الحالَةِ ا هـ. ولَيْسَ هَذا مَعْنًى مُسْتَقِلًّا مِن مَعانِي ”عَلى“ بَلْ هو اسْتِعْلاءٌ مَجازِيٌّ أُرِيدَ بِهِ تَحَقُّقُ ثُبُوتِ مَدْلُولِ مَدْخُولِها لِمَعْمُولِ مُتَعَلِّقِها؛ لِأنَّهُ لِبُعْدِ وُقُوعِهِ يَحْتاجُ إلى التَّحْقِيقِ، والضَّمِيرُ لِلْمالِ لا مَحالَةَ والمُرادُ أنَّهُ يُعْطِي المالَ مَعَ حُبِّهِ لِلْمالِ وعَدَمِ زَهادَتِهِ فِيهِ، فَيَدُلُّ عَلى أنَّهُ إنَّما يُعْطِيهِ مَرْضاةً لِلَّهِ تَعالى، ولِذَلِكَ كانَ فِعْلُهُ هَذا بِرًّا. وذَكَرَ أصْنافًا مِمَّنْ يُؤْتُونَ المالَ؛ لِأنَّ إتْيانَهُمُ المالَ يَنْجُمُ عَنْهُ خَيْراتٌ ومَصالِحُ. فَذَكَرَ ذَوِي القُرْبى؛ أيْ: أصْحابَ قَرابَةِ المُعْطِي، فاللّامُ في القُرْبى عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ، أمَرَ المَرْءَ بِالإحْسانِ إلَيْهِمْ؛ لِأنَّ مُواساتَهم تُكْسِبُهم مَحَبَّتَهم إيّاهُ والتِّئامَهم، وهَذا التِئامُ القَبائِلِ الَّذِي (p-١٣١)أرادَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ”لِتَعارَفُوا“ فَلَيْسَ مُقَيَّدًا بِوَصْفِ فَقْرِهِمْ، كَما فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، بَلْ ذَلِكَ شامِلٌ لِلْهَدِيَّةِ لِأغْنِيائِهِمْ، وشامِلٌ لِلتَّوْسِعَةِ عَلى المُتَضائِقِينَ وتَرْفِيهِ عَيْشَتِهِمْ؛ إذِ المَقْصُودُ هو التَّحابُبُ. ثُمَّ ذَكَرَ اليَتامى وهم مَظِنَّةُ الضَّعْفِ لِظُهُورِ أنَّ المُرادَ اليَتِيمُ المُحْتاجُ حاجَةً دُونَ الفَقْرِ، وإنَّما هو فاقِدٌ ما كانَ يُنِيلُهُ أبُوهُ مِن رَفاهِيَةِ عَيْشٍ، فَإيتاؤُهُمُ المالَ يَجْبُرُ صَدْعَ حَياتِهِمْ، وذَكَرَ السّائِلِينَ؛ وهُمُ الفُقَراءُ، والمَسْكَنَةُ: الذُّلُّ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّكُونِ، ووَزْنُ مِسْكِينٍ مِفْعِيلٌ لِلْمُبالِغَةِ، مِثْلَ مِنطِيقٍ، والمِسْكِينُ الفَقِيرُ الَّذِي أذَلَّهُ الفَقْرُ، وقَدِ اتَّفَقَ أئِمَّةُ اللُّغَةِ أنَّ المِسْكِينَ غَيْرُ الفَقِيرِ، فَقِيلَ: هو أقَلُّ فَقْرًا مِنَ الفَقِيرِ، وقِيلَ: هو أشَدُّ فَقْرًا، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ، وقَدْ يُطْلَقُ أحَدُهُما في مَوْضِعِ الآخَرِ إذا لَمْ يَجْتَمِعا وقَدِ اجْتَمَعَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ﴾ [التوبة: ٦٠]، ونَظِيرُها في ذِكْرِ هَؤُلاءِ الأرْبَعَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: ٢١٥] . وذَكَرَ (السّائِلِينَ) وهُمُ الفُقَراءُ كَنّى عَنْهم بِالسّائِلِينَ؛ لِأنَّ شَأْنَ المَرْءِ أنْ تَمْنَعَهُ نَفْسُهُ مِن أنْ يَسْألَ النّاسَ لِغَيْرِ حاجَةٍ غالِبًا. فالسُّؤالُ عَلامَةُ الحاجَةِ غالِبًا، ولَوْ أدْخَلَ الشَّكَّ في العَلاماتِ الِاعْتِيادِيَّةِ لارْتَفَعَتِ الأحْكامُ فَلَوْ تَحَقَّقَ غِنى السّائِلِ لَما شُرِعَ إعْطاؤُهُ لِمُجَرَّدِ سُؤالِهِ، ورَوَوْا: لِلسّائِلِ حَقٌّ ولَوْ جاءَ راكِبًا عَلى فَرَسٍ، وهو ضَعِيفٌ. وذَكَرَ (ابْنَ السَّبِيلِ) وهو الغَرِيبُ أعْنِي الضَّيْفَ في البَوادِي؛ إذْ لَمْ يَكُنْ في القَبائِلِ نُزُلٌ أوْ حاناتٌ أوْ فَنادِقُ، ولَمْ يَكُنِ السّائِرُ يَسْتَصْحِبُ مَعَهُ المالَ، وإنَّما يَحْمِلُ زادَ يَوْمِهِ، ولِذَلِكَ كانَ حَقُّ الضِّيافَةِ فَرْضًا عَلى المُسْلِمِينَ؛ أيْ: في البَوادِي ونَحْوِها. وذَكَرَ الرِّقابَ، والمُرادُ فِداءُ الأسْرى وعِتْقُ العَبِيدِ. ثُمَّ ذَكَرَ الزَّكاةَ وهي حَقُّ المالِ لِأجْلِ الغِنى، ومَصارِفُها مَذْكُورَةٌ في آيَتِها، وذَكَرَ (الوَفاءَ بِالعَهْدِ) لِما فِيهِ مِنَ الثِّقَةِ بِالمُعاهِدِ ومِن كَرَمِ النَّفْسِ وكَوْنِ الجِدِّ والحَقِّ لَها دُرْبَةً وسَجِيَّةً، وإنَّما قَيَّدَ بِالظَّرْفِ وهو إذا عاهَدُوا؛ أيْ: وقْتَ حُصُولِ العَهْدِ فَلا يَتَأخَّرُ وفاؤُهم طَرْفَةَ عَيْنٍ، وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى وُجُوبِ الِاحْتِياطِ عِنْدَ بَذْلِ العَهْدِ بِحَيْثُ لا يُعاهِدُ حَتّى يَتَحَقَّقَ أنَّهُ يَسْتَطِيعُ الوَفاءَ، كَأنَّهُ يَقُولُ: فَإنْ عَلِمُوا ألّا يَفُوا فَلا يُعاهِدُوا. وعَطَفَ ”والمُوفُونَ“ عَلى ”مَن آمَنَ بِاللَّهِ“ وغَيَّرَ أُسْلُوبَ الوَصْفِ فَلَمْ يَقُلْ: ومَن أوْفى بِعَهْدِهِ؛ لِلدَّلالَةِ عَلى مُغايَرَةِ الوَصْفَيْنِ بِأنَّ الأوَّلَ مِن عَلائِقِ حَقِّ اللَّهِ تَعالى وأُصُولِ الدِّينِ، والثّانِي مِن حُقُوقِ العِبادِ. وذَكَرَ (﴿والصّابِرِينَ في البَأْساءِ﴾) لِما في الصَّبْرِ مِنَ الخَصائِصِ الَّتِي ذَكَرْناها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: (p-١٣٢)﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ [البقرة: ٤٥] ثُمَّ ذَكَرَ مَواقِعَهُ الَّتِي لا يَعْدُوها وهي حالَةُ الشِّدَّةِ، وحالَةُ الضُّرِّ، وحالَةُ القِتالِ، فالبَأْساءُ والضَّرّاءُ اسْمانِ عَلى وزْنِ فَعَلاءَ ولَيْسا وصْفَيْنِ؛ إذْ لَمْ يُسْمَعْ لَهُما أفْعَلُ مُذَكَّرًا، والبَأْساءُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ البُؤْسِ، وهو سُوءُ الحالَةِ مِن فَقْرٍ ونَحْوِهِ مِنَ المَكْرُوهِ، قالَ الرّاغِبُ: وقَدْ غَلَبَ في الفَقْرِ ومِنهُ البَئِيسُ الفَقِيرُ، فالبَأْساءُ الشِّدَّةُ في المالِ. والضَّرّاءُ شِدَّةُ الحالِ عَلى الإنْسانِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الضُّرِّ، ويُقابِلُها السَّرّاءُ وهي ما يَسُرُّ الإنْسانَ مِن أحْوالِهِ، والبَأْسُ النِّكايَةُ والشِّدَّةُ في الحَرْبِ ونَحْوُها، كالخُصُومَةِ ﴿قالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [النمل: ٣٣] ﴿بَأْسُهم بَيْنَهم شَدِيدٌ﴾ [الحشر: ١٤] والشَّرُّ أيْضًا بَأْسٌ، والمُرادُ بِهِ هُنا الحَرْبُ. فَلِلَّهِ هَذا الِاسْتِقْراءُ البَدِيعُ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ كُلُّ خَطِيبٍ وحَكِيمٍ غَيْرَ العَلّامِ الحَكِيمِ، وقَدْ جُمِعَتْ هَذِهِ الخِصالُ جِماعَ الفَضائِلِ الفَرْدِيَّةِ والِاجْتِماعِيَّةِ النّاشِئِ عَنْها صَلاحُ أفْرادِ المُجْتَمَعِ مِن أُصُولِ العَقِيدَةِ وصالِحاتِ الأعْمالِ. فالإيمانُ وإقامُ الصَّلاةِ هُما مَنبَعُ الفَضائِلِ الفَرْدِيَّةِ؛ لِأنَّهُما يَنْبَثِقُ عَنْهُما سائِرُ التَّحَلِّيّاتِ المَأْمُورِ بِها، والزَّكاةُ وإيتاءُ المالِ أصْلُ نِظامِ الجَماعَةِ صَغِيرِها وكَبِيرِها، والمُواساةُ تَقْوى عَنْها الأُخُوَّةُ والِاتِّحادُ وتُسَدِّدُ مَصالِحَ لِلْأُمَّةِ كَثِيرَةً، وبِبَذْلِ المالِ في الرِّقابِ يَتَعَزَّزُ جانِبُ الحُرِّيَّةِ المَطْلُوبَةِ لِلشّارِعِ حَتّى يَصِيرَ النّاسُ كُلُّهم أحْرارًا. والوَفاءُ بِالعَهْدِ فِيهِ فَضِيلَةٌ فَرْدِيَّةٌ، وهي عُنْوانُ كَمالِ النَّفْسِ، وفَضِيلَةٌ اجْتِماعِيَّةٌ وهي ثِقَةُ النّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. والصَّبْرُ فِيهِ جِماعُ الفَضائِلِ وشَجاعَةُ الأُمَّةِ ولِذَلِكَ قالَ تَعالى هُنا: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ فَحَصَرَ فِيهِمُ الصِّدْقَ والتَّقْوى حَصْرًا ادِّعائِيًّا لِلْمُبالَغَةِ. ودَلَّتْ عَلى أنَّ المُسْلِمِينَ قَدْ تَحَقَّقَ فِيهِمْ مَعْنى البِرِّ، وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ أهْلَ الكِتابِ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِمْ؛ لِأنَّهم لَمْ يُؤْمِنُوا بِبَعْضِ المَلائِكَةِ وبَعْضِ النَّبِيِّينَ، ولِأنَّهم حَرَمُوا كَثِيرًا مِنَ النّاسِ حُقُوقَهم، ولَمْ يَفُوا بِالعَهْدِ، ولَمْ يَصْبِرُوا. وفِيها أيْضًا تَعْرِيضٌ بِالمُشْرِكِينَ إذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِاليَوْمِ الآخِرِ والنَّبِيئِينَ والكِتابِ وسَلَبُوا اليَتامى أمْوالَهم، ولَمْ يُقِيمُوا الصَّلاةَ، ولَمْ يُؤْتُوا الزَّكاةَ. ونَصْبُ (الصّابِرِينَ) وهو مَعْطُوفٌ عَلى مَرْفُوعاتٍ نَصْبٌ عَلى الِاخْتِصاصِ عَلى ما هو المُتَعارَفُ في كَلامِ العَرَبِ في عَطْفِ النُّعُوتِ مِن تَخْيِيرِ المُتَكَلِّمِ بَيْنَ الإتْباعِ في الإعْرابِ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وبَيْنَ القَطْعِ قالَهُ الرَّضِيُّ، والقَطْعُ يَكُونُ بِنَصْبِ ما حَقُّهُ أنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أوْ مَجْرُورًا، وبِرَفْعِ ما هو بِعَكْسِهِ لِيَظْهَرَ قَصْدُ المُتَكَلِّمِ القَطْعُ حِينَ يَخْتَلِفُ الإعْرابُ؛ إذْ لا يُعْرَفُ أنَّ المُتَكَلِّمَ قَصَدَ (p-١٣٣)القَطْعَ إلّا بِمُخالَفَةِ الإعْرابِ، فَأمّا النَّصْبُ فَبِتَقْدِيرِ فِعْلِ مَدْحٍ أوْ ذَمٍّ بِحَسَبِ المَقامِ، والأظْهَرُ تَقْدِيرُ فِعْلِ ”أخُصُّ“ لِأنَّهُ يُفِيدُ المَدْحَ بَيْنَ المَمْدُوحِينَ والذَّمَّ بَيْنَ المَذْمُومِينَ. وقَدْ حَصَلَ بِنَصْبِ الصّابِرِينَ هُنا فائِدَتانِ: إحْداهُما عامَّةٌ في كُلِّ قَطْعٍ مِنَ النُّعُوتِ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ أنَّهُ إذا ذُكِرَتِ الصِّفاتُ الكَثِيرَةُ في مَعْرِضِ المَدْحِ أوِ الذَّمِّ فالأحْسَنُ أنْ يُخالَفَ إعْرابُها ولا تُجْعَلَ كُلُّها جارِيَةً عَلى مَوْصُوفِها؛ لِأنَّ هَذا مِن مَواضِعِ الإطْنابِ فَإذا خُولِفَ إعْرابُ الأوْصافِ كانَ المَقْصُودُ أكْمَلَ؛ لِأنَّ الكَلامَ عِنْدَ اخْتِلافِ الإعْرابِ يَصِيرُ كَأنَّهُ أنْواعٌ مِنَ الكَلامِ وضُرُوبٌ مِنَ البَيانِ. قالَ في الكَشّافِ: نُصِبَ عَلى المَدْحِ وهو بابٌ واسِعٌ كَسَّرَهُ سِيبَوَيْهِ عَلى أمْثِلَةٍ وشَواهِدَ ا هـ. قُلْتُ: قالَ سِيبَوَيْهِ في بابِ ما يَنْتَصِبُ عَلى التَّعْظِيمِ والمَدْحِ: وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ صِفَةً فَجَرى عَلى الأوَّلِ، وإنْ شِئْتَ قَطَعْتَهُ فابْتَدَأْتَهُ، مِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَكِنِ البِرُّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ”والصّابِرِينَ“ ولَوْ رُفِعَ الصّابِرِينَ عَلى أوَّلِ الكَلامِ كانَ جَيِّدًا، ولَوِ ابْتَدَأْتَهُ فَرَفَعْتَهُ عَلى الِابْتِداءِ كانَ جَيِّدًا، ونَظِيرُ هَذا النَّصْبِ قَوْلُ الخِرْنِقِ: ؎لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُوا ∗∗∗ سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ ؎النّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ∗∗∗ والطَّيِّبُونَ مَعاقِدَ الأُزْرِ بِنَصْبِ النّازِلِينَ، ثُمَّ قالَ: وزَعَمَ الخَلِيلُ أنَّ نَصْبَ هَذا عَلى أنَّكَ لَمْ تُرِدْ أنْ تُحَدِّثَ النّاسَ ولا مَن تُخاطِبُ بِأمْرٍ جَهِلُوهُ ولَكِنَّهم قَدْ عَلِمُوا مِن ذَلِكَ ما قَدْ عَلِمْتَ، فَجَعَلْتَهُ ثَناءً وتَعْظِيمًا، ونَصْبُهُ عَلى الفِعْلِ كَأنَّهُ قالَ: أذْكُرُ أهْلَ ذَلِكَ وأذْكُرُ المُقِيمِينَ، ولَكِنَّهُ فِعْلٌ لا يُسْتَعْمَلُ إظْهارُهُ ا هـ. قُلْتُ: يُؤَيِّدُ هَذا الوَجْهَ أنَّهُ تَكَرَّرَ مِثْلُهُ في نَظائِرِ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ النِّساءِ ﴿والمُقِيمِينَ الصَّلاةَ﴾ [النساء: ١٦٢] عَطْفًا عَلى ﴿لَكِنِ الرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ [النساء: ١٦٢] وفي سُورَةِ العُقُودِ ”والصّابِئُونَ“ عَطْفًا عَلى ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا﴾ [البقرة: ٦٢] . الفائِدَةُ الثّانِيَةُ في نَصْبِ الصّابِرِينَ بِتَقْدِيرِ أخُصُّ أوْ أمْدَحُ تَنْبِيهًا عَلى خَصِيصِيَّةِ الصّابِرِينَ ومَزِيَّةِ صِفَتِهِمُ الَّتِي هي الصَّبْرُ. قالَ في الكَشّافِ: ولا يُلْتَفَتُ إلى ما زَعَمُوا مِن وُقُوعِهِ لَحْنًا في خَطِّ المُصْحَفِ، ورُبَّما التَفَتَ إلَيْهِ مَن لَمْ يَنْظُرْ في الكِتابِ ولَمْ يَعْرِفْ مَذاهِبَ العَرَبِ وما لَهم في النَّصْبِ عَلى (p-١٣٤)الِاخْتِصاصِ مِنَ الِافْتِنانِ ا هـ وأقُولُ: إنَّ تَكَرُّرَهُ كَما ذَكَرْنا وتَقارُبَ الكَلِماتِ يَرْبَأُ بِهِ عَنْ أنْ يَكُونَ خَطَأً أوْ سَهْوًا، وهو بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مُخالِفَتَيْنِ إعْرابُهُ. وعَنِ الكِسائِيِّ أنَّ نَصْبَهُ عَطْفٌ عَلى مَفاعِيلَ ”آتى“؛ أيْ: وآتى المالَ الصّابِرِينَ؛ أيِ: الفُقَراءَ المُتَعَفِّفِينَ عَنِ المَسْألَةِ حِينَ تُصِيبُهُمُ البَأْساءُ والضَّرّاءُ، والصّابِرِينَ حِينَ البَأْسِ؛ وهُمُ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ لِلْغَزْوِ ويُحِبُّونَ أنْ يَغْزُوا؛ لِأنَّ فِيهِمْ غِناءً عَنِ المُسْلِمِينَ قالَ تَعالى: ﴿ولا عَلى الَّذِينَ إذا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهم قُلْتَ لا أجِدُ ما أحْمِلُكم عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وأعْيُنُهم تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا ألّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: ٩٢] وعَنْ بَعْضِ المُتَأوِّلِينَ أنَّ نَصْبَ (والصّابِرِينَ) وقَعَ خَطَأً مِن كُتّابِ المَصاحِفِ، وأنَّهُ مِمّا أرادَهُ عُثْمانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيما نُقِلَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ بَعْدَ أنْ قَرَأ المُصْحَفَ الَّذِي كَتَبُوهُ: إنِّي أجِدُ بِهِ لَحْنًا سَتُقِيمُهُ العَرَبُ بِألْسِنَتِها، وهَذا مُتَقَوَّلٌ عَلى عُثْمانَ، ولَوْ صَحَّ لَكانَ يُرِيدُ بِاللَّحْنِ ما في رَسْمِ المَصاحِفِ مِن إشاراتٍ، مِثْلَ: كِتابَةِ الألِفِ في صُورَةِ الياءِ إشارَةً إلى الإمالَةِ، ولَمْ يَكُنِ اللَّحْنُ يُطْلَقُ عَلى الخَطَأِ. وقَرَأ يَعْقُوبُ (والصّابِرُونَ) بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلى (والمُوفُونَ) .