موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الثلاثاء 17 رمضان 1446 هجرية الموافق ل18 مارس 2025


الآية [183] من سورة  

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ


ركن التفسير

183 - (يا أيها الذين آمنوا كُتب) فرض (عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) من الأمم (لعلكم تتقون) المعاصي فإنه يكسر الشهوة التي هي مبدؤها

يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة حسنة وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك كما قال تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات" الآية ولهذا قال ههنا "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان ولهذا ثبت فى الصحيحين "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ثم بين مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه بل في أيام معدودات وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كل شهر ثلاثة أيام ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه وقد روى أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام عن معاذ وابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك بن مزاحم وزاد لم يزل هذا مشروعا من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان وقال عباد بن منصور عن الحسن البصري "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات" فقال نعم والله لقد كتب الصيام على كل أمة قد خلت كما كتبه علينا شهرا كاملا وأياما معدودات عددا معلوما وروى عن السدي نحوه وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبدالرحمن المقري حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثني عبدالله بن الوليد عن أبي الربيع رجل من أهل المدينة عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم" في حديث طويل اختصر منه ذلك وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عمن حدثه عن ابن عمر قال أنزلت "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها قال ابن أبي حاتم وروى عن ابن عباس وأبي العالية وعبدالرحمن بن أبي ليلى ومجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس وعطاء الخراساني نحو ذلك: وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس "كما كتب على الذين من قبلكم" يعني بذلك أهل الكتاب وروى عن الشعبي والسدي وعطاء الخراساني مثله ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة عليهما بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيرا بين الصيام وبين الاطعام إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير وإن صام فهو أفضل من الإطعام قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطاوس ومقاتل بن حيان وغيرهم من السلف ولهذا قال تعالى "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون". وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا المسعودي حدثنا عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ثم إن الله عز وجل أنزل عليه "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" الآية فوجهه الله إلى مكة هذا حول قال وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضا حتى نقسوا أو كادوا ينقسون ثم إن رجلا من الأنصار يقال له عبدالله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال يا رسول الله إنى رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إنى لم أكن نائما لصدقت إنى بينا أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله - مثنى - حتى فرغ من الأذان ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قال غير أنه يزيد في ذلك: قد قامت الصلاة - مرتين - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "علمها بلالا فليؤذن بها" فكان بلال أول من أذن بها: قال وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله قد طاف بي مثل الذي طاف به غير أنه سبقني فهذان حالان قال وكانوا يأتون الصلاة وقد سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها فكان الرجل يشير إلى الرجل إذن كم صلى فيقول واحدة أو اثنتين فيصليهما ثم يدخل مع القوم في صلاتهم قال فجاء معاذ فقال لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني قال فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها قال فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوا" فهذه ثلاثة أحوال وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" إلى قوله "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" إلى قوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فهذان حالان قال وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا ثم إن رجلا من الأنصار يقال له صرمة كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدا شديدا فقال "مالي أراك قد جهدت جهدا شديدا؟ قال يا رسول الله إنى عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائما قال وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله عز وجل "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" - إلى قوله - "ثم أتموا الصيام إلى الليل" وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه من حديث المسعودي به وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت كان عاشوراء يصام فلما نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله. وقوله تعالى "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كما قال معاذ رضي الله عنه كان في ابتداء الأمر من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وروى أيضا من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال هي منسوخة: وقال السدي عن مرة عن عبدالله قال لما نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال يقول "وعلى الذين يطيقونه" أي يتجشمونه: قال عبدالله فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا "فمن تطوع" يقول أطعم مسكينا آخر فهر خير له "وأن تصوموا خير لكم" فكانوا كذلك حتى نسختها "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وقال البخاري أيضا أخبرنا إسحاق حدثنا روح حدثنا زكريا بن إسحاق حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال ابن عباس ليست منسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينا وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد حدثنا الحسين بن محمد بن بهرام المخزومي حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد بن عبدالله عن ابن أبي ليلى قال دخلت على عطاء فى رمضان وهو يأكل فقال: قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر- فحاصل الأمر أن النسخ ثابت فى حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه لقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكينا إذا كان ذا جدة؟ فيه قولان للعلماء أحدهما لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه فلم يجب عليه فدية كالصبي لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي والثاني وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ و"على الذين يطيقونه" أي يتجشمونه كما قاله ابن مسعود وغيره وهو اختيار البخاري فإنه قال وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاما أو عامين عن كل يوم مسكينا خبزا ولحما وأفطر وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال حدثنا عبدالله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا عمران عن أيوب بن أبي تميمة قال ضعف أنس عن الصوم فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم ورواه عبد بن حميد عن روح بن عبادة عن عمران وهو ابن جرير عن أيوب به ورواه عبد أيضا من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس بمعناه. ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ففيهما خلاف كثير بين العلماء فمنهم من قال يفطران ويفديان ويقضيان وقيل يفديان فقط ولا قضاء وقيل يجب القضاء بلا فدية وقيل يفطران ولا فدية ولا قضاء وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه ولله الحمد والمنة.

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكم لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] حُكْمُ الصِّيامِ حُكْمٌ عَظِيمٌ مِنَ الأحْكامِ الَّتِي شَرَعَها اللَّهُ تَعالى لِلْأُمَّةِ، وهو مِنَ العِباداتِ الرّامِيَةِ إلى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ ورِياضَتِها، وفي ذَلِكَ صَلاحُ حالِ الأفْرادِ فَرْدًا فَرْدًا؛ إذْ مِنها يَتَكَوَّنُ المُجْتَمَعُ، وفُصِلَتِ الجُمْلَةُ عَنْ سابِقَتِها لِلِانْتِقالِ إلى غَرَضٍ آخَرَ، وافْتُتِحَتْ بِـ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لِما في النِّداءِ مِن إظْهارِ العِنايَةِ بِما سَيُقالُ بَعْدَهُ. والقَوْلُ في مَعْنى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ ودَلالَتُهُ عَلى الوُجُوبِ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ﴾ [البقرة: ١٨٠] الآيَةَ. والصِّيامُ، ويُقالُ الصَّوْمُ: هو في اصْطِلاحِ الشَّرْعِ: اسْمٌ لِتَرْكِ جَمِيعِ الأكْلِ وجَمِيعِ الشُّرْبِ وقُرْبانِ النِّساءِ مُدَّةً مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ بِنِيَّةِ الِامْتِثالِ لِأمْرِ اللَّهِ أوْ لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ بِنَذْرٍ لِلتَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ. (p-١٥٥)والصِّيامُ اسْمٌ مَنقُولٌ مِن مَصْدَرِ فَعّالٍ، وعَيْنُهُ واوٌ قُلِبَتْ ياءً لِأجْلِ كَسْرَةِ فاءِ الكَلِمَةِ، وقِياسُ المَصْدَرِ الصَّوْمُ، وقَدْ ورَدَ المَصْدَرانِ في القُرْآنِ، فَلا يُطْلَقُ الصِّيامُ حَقِيقَةً في اللُّغَةِ إلّا عَلى تَرْكِ كُلِّ طَعامٍ وشَرابٍ، وأُلْحِقَ بِهِ في الإسْلامِ تَرْكُ قُرْبانِ كُلِّ النِّساءِ، فَلَوْ تَرَكَ أحَدٌ بَعْضَ أصْنافِ المَأْكُولِ أوْ بَعْضَ النِّساءِ؛ لَمْ يَكُنْ صِيامًا كَما قالَ العَرْجِيُّ: ؎فَإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِواكم وإنْ شِئْتِ لَمْ أطْعَمْ نُقاخًا ولا بَرْدًا ولِلصِّيامِ إطْلاقاتٌ أُخْرى مَجازِيَّةٌ كَإطْلاقِهِ عَلى إمْساكِ الخَيْلِ عَنِ الجَرْيِ في قَوْلِ النّابِغَةِ: ؎خَيْلٌ صِيامٌ وخَيْلٌ غَيْرُ صائِمَةٍ ∗∗∗ تَحْتَ العَجاجِ وأُخْرى تَعْلُكُ اللُّجُما وأُطْلِقَ عَلى تَرْكِ شُرْبِ حِمارِ الوَحْشِ الماءَ، وقالَ لَبِيَدٌ يَصِفُ حِمارَ الوَحْشِ وأتانَهُ في إثْرِ فَصْلِ الشِّتاءِ حَيْثُ لا تَشْرَبُ الحُمُرُ ماءً لِاجْتِزائِها بِالمَرْعى الرَّطْبِ: ؎حَتّى إذا سَلَخا جُمادى سِتَّةً ∗∗∗ جَزْءًا فَطالَ صِيامُهُ وصِيامُها والظّاهِرُ أنَّ اسْمَ الصَّوْمِ في اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ في تَرْكِ الأكْلِ والشُّرْبِ بِقَصْدِ القُرْبَةِ، فَقَدْ عَرَفَ العَرَبُ الصَّوْمَ في الجاهِلِيَّةِ مِنَ اليَهُودِ في صَوْمِهِمْ يَوْمَ عاشُوراءَ كَما سَنَذْكُرُهُ. وقَوْلُ الفُقَهاءِ: إنَّ الصَّوْمَ في اللُّغَةِ مُطْلَقُ الإمْساكِ وإنَّ إطْلاقَهُ عَلى الإمْساكِ عَنِ الشَّهْوَتَيْنِ اصْطِلاحٌ شَرْعِيٌّ - لا يَصِحُّ؛ لِأنَّهُ مُخالِفٌ لِأقْوالِ أهْلِ اللُّغَةِ كَما في الأساسِ وغَيْرِهِ، وأمّا إطْلاقُ الصَّوْمِ عَلى تَرْكِ الكَلامِ في قَوْلِهِ تَعالى حِكايَةً عَنْ قَوْلِ أُمِّ عِيسى: ﴿فَقُولِي إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾ [مريم: ٢٦] فَلَيْسَ إطْلاقًا لِلصَّوْمِ عَلى تَرْكِ الكَلامِ ولَكِنَّ المُرادَ أنَّ الصَّوْمَ كانَ يَتْبَعُهُ تَرْكُ الكَلامِ عَلى وجْهِ الكَمالِ والفَضْلِ. فالتَّعْرِيفُ في الصِّيامِ في الآيَةِ تَعْرِيفُ العَهْدِ الذِّهْنِيِّ؛ أيْ: كُتِبَ عَلَيْكم جِنْسُ الصِّيامِ المَعْرُوفِ. وقَدْ كانَ العَرَبُ يَعْرِفُونَ الصَّوْمَ، فَقَدْ جاءَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: كانَ يَوْمُ عاشُوراءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ في الجاهِلِيَّةِ، وفي بَعْضِ الرِّواياتِ قَوْلُها «وكانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصُومُهُ»، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «لَمّا هاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ إلى المَدِينَةِ وجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ في يَوْمِ عاشُوراءَ، فَقالَ: ما هَذا ؟ فَقالُوا: يَوْمٌ نَجّى اللَّهُ فِيهِ مُوسى، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ: نَحْنُ أحَقُّ بِمُوسى مِنكم فَصامَهُ وأمَرَ بِصَوْمِهِ» فَمَعْنى سُؤالِهِ هو السُّؤالُ عَنْ مَقْصِدِ اليَهُودِ مِن صَوْمِهِ، لا تَعْرِفُ أصْلَ صَوْمِهِ، وفي حَدِيثِ عائِشَةَ: فَلَمّا نَزَلَ رَمَضانُ كانَ رَمَضانُ الفَرِيضَةَ، وقالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَن شاءَ صامَ يَوْمَ عاشُوراءَ ومَن شاءَ لَمْ يَصُمْهُ» فَوَجَبَ صَوْمُ يَوْمِ عاشُوراءَ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالقُرْآنِ (p-١٥٦)فالمَأْمُورُ بِهِ صَوْمٌ مَعْرُوفٌ زِيدَتْ في كَيْفِيَّتِهِ المُعْتَبَرَةِ شَرْعًا قُيُودُ تَحْدِيدِ أحْوالِهِ وأوْقاتِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ [البقرة: ١٨٧]، وقَوْلِهِ: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ﴾ [البقرة: ١٨٥] الآيَةِ، وقَوْلِهِ: ﴿ومَن كانَ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وبِهَذا يَتَبَيَّنُ أنَّ في قَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ إجْمالًا وقَعَ تَفْصِيلُهُ في الآياتِ بَعْدَهُ. فَحَصَلَ في صِيامِ الإسْلامِ ما يُخالِفُ صِيامَ اليَهُودِ والنَّصارى في قُيُودِ ماهِيَّةِ الصِّيامِ وكَيْفِيَّتِها، ولَمْ يَكُنْ صِيامُنا مُماثِلًا لِصِيامِهِمْ تَمامَ المُماثَلَةِ. فَقَوْلُهُ: ﴿كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ تَشْبِيهٌ في أصْلِ فَرْضِ ماهِيَّةِ الصَّوْمِ في الكَيْفِيّاتِ، والتَّشْبِيهُ يُكْتَفى فِيهِ بِبَعْضِ وُجُوهِ المُشابَهَةِ، وهو وجْهُ الشَّبَهِ المُرادُ في القَصْدِ، ولَيْسَ المَقْصُودُ مِن هَذا التَّشْبِيهِ الحَوالَةَ في صِفَةِ الصَّوْمِ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الأُمَمِ السّابِقَةِ، ولَكِنَّ فِيهِ أغْراضًا ثَلاثَةً تَضَمَّنَها التَّشْبِيهُ: أحَدُها: الِاهْتِمامُ بِهَذِهِ العِبادَةِ، والتَّنْوِيهُ بِها؛ لِأنَّها شَرَعَها اللَّهُ قَبْلَ الإسْلامِ لِمَن كانُوا قَبْلَ المُسْلِمِينَ، وشَرَعَها لِلْمُسْلِمِينَ، وذَلِكَ يَقْتَضِي اطِّرادَ صَلاحِها ووَفْرَةَ ثَوابِها، وإنْهاضَ هِمَمِ المُسْلِمِينَ لِتَلَقِّي هَذِهِ العِبادَةِ كَيْلا يَتَمَيَّزَ بِها مَن كانَ قَبْلَهم. إنَّ المُسْلِمِينَ كانُوا يَتَنافَسُونَ في العِباداتِ كَما ورَدَ في الحَدِيثِ «أنَّ ناسًا مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ يُصَلُّونَ كَما نُصَلِّي ويَصُومُونَ كَما نَصُومُ ويَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أمْوالِهِمُ» الحَدِيثَ، ويُحِبُّونَ التَّفْضِيلَ عَلى أهْلِ الكِتابِ وقَطْعَ تَفاخُرِ أهْلِ الكِتابِ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم أهْلُ شَرِيعَةٍ قالَ تَعالى: ﴿أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا وإنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ﴾ [الأنعام: ١٥٦] ﴿أوْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابُ لَكُنّا أهْدى مِنهم فَقَدْ جاءَكم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكم وهُدًى ورَحْمَةٌ﴾ [الأنعام: ١٥٧] . فَلا شَكَّ أنَّهم يَغْتَبِطُونَ أمْرَ الصَّوْمِ، وقَدْ كانَ صَوْمُهُمُ الَّذِي صامُوهُ وهو يَوْمُ عاشُوراءَ إنَّما اقْتَدَوْا فِيهِ بِاليَهُودِ، فَهم في تَرَقُّبٍ إلى تَخْصِيصِهِمْ مِنَ اللَّهِ بِصَوْمٍ أُنُفٍ، فَهَذِهِ فائِدَةُ التَّشْبِيهِ لِأهْلِ الهِمَمِ مِنَ المُسْلِمِينَ إذْ ألْحَقَهُمُ اللَّهُ بِصالِحِ الأُمَمِ في الشَّرائِعِ العائِدَةِ بِخَيْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، قالَ تَعالى: ﴿وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسُونَ﴾ [المطففين: ٢٦] . والغَرَضُ الثّانِي: أنَّ في التَّشْبِيهِ بِالسّابِقِينَ تَهْوِينًا عَلى المُكَلَّفِينَ بِهَذِهِ العِبادَةِ أنْ يَسْتَثْقِلُوا (p-١٥٧)هَذا الصَّوْمَ؛ فَإنَّ في الِاقْتِداءِ بِالغَيْرِ أُسْوَةً في المَصاعِبِ، فَهَذِهِ فائِدَةٌ لِمَن قَدْ يَسْتَعْظِمُ الصَّوْمَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَيَمْنَعُهُ وُجُودُهُ في الإسْلامِ مِنَ الإيمانِ، ولِمَن يَسْتَثْقِلُهُ مِن قَرِيبِي العَهْدِ بِالإسْلامِ، وقَدْ أكَّدَ هَذا المَعْنى الضِّمْنِيَّ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] . والغَرَضُ الثّالِثُ: إثارَةُ العَزائِمِ لِلْقِيامِ بِهَذِهِ الفَرِيضَةِ حَتّى لا يَكُونُوا مُقَصِّرِينَ في قَبُولِ هَذا الفَرْضِ، بَلْ لِيَأْخُذُوهُ بِقُوَّةٍ تَفُوقُ ما أدّى بِهِ الأُمَمُ السّابِقَةُ. ووَقَعَ لِأبِي بَكْرِ بْنِ العَرَبِيِّ في العارِضَةِ قَوْلُهُ: كانَ مِن قَوْلِ مالِكٍ في كَيْفِيَّةِ صِيامِنا أنَّهُ كانَ مِثْلَ صِيامِ مَن قَبْلَنا وذَلِكَ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ وفِيهِ بَحْثٌ سَنَتَعَرَّضُ لَهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] . فَهَذِهِ الآيَةُ شَرَعَتْ وُجُوبَ صِيامِ رَمَضانَ، لِأنَّ فِعْلَ ”كُتِبَ“ يَدُلُّ عَلى الوُجُوبِ، وابْتِداءُ نُزُولِ سُورَةِ البَقَرَةِ كانَ في أوَّلِ الهِجْرَةِ كَما تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ صَوْمُ عاشُوراءَ تَقَدَّمَ عامًا، ثُمَّ فُرِضَ رَمَضانُ في العامِ الَّذِي يَلِيهِ، وفي الصَّحِيحِ: «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ صامَ تِسْعَ رَمَضاناتٍ»، فَلا شَكَّ أنَّهُ صامَ أوَّلَ رَمَضانَ في العامِ الثّانِي مِنَ الهِجْرَةِ، ويَكُونُ صَوْمُ عاشُوراءَ قَدْ فُرِضَ عامًا فَقَطْ وهو أوَّلُ العامِ الثّانِي مِنَ الهِجْرَةِ. والمُرادُ بِـ ﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ مَن كانَ قَبْلَ المُسْلِمِينَ مِن أهْلِ الشَّرائِعِ، وهم أهْلُ الكِتابِ - أعْنِي اليَهُودَ - لِأنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمُ المُخاطَبُونَ ويَعْرِفُونَ ظاهِرَ شِئُونِهِمْ وكانُوا عَلى اخْتِلاطٍ بِهِمْ في المَدِينَةِ، وكانَ لِلْيَهُودِ صَوْمٌ فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهو صَوْمُ اليَوْمِ العاشِرِ مِنَ الشَّهْرِ السّابِعِ مِن سَنَتِهِمْ، وهو الشَّهْرُ المُسَمّى عِنْدَهم (تِسْرِي) يَبْتَدِئُ الصَّوْمُ مِن غُرُوبِ اليَوْمِ التّاسِعِ إلى غُرُوبِ اليَوْمِ العاشِرِ وهو يَوْمُ كَفّارَةِ الخَطايا، ويُسَمُّونَهُ (كَبُّورَ) ثُمَّ إنَّ أحْبارَهم شَرَعُوا صَوْمَ أرْبَعَةِ أيّامٍ أُخْرى، وهي الأيّامُ الأُوَلُ مِنَ الأشْهُرِ الرّابِعِ والخامِسِ والسّابِعِ والعاشِرِ مِن سَنَتِهِمْ تِذْكارًا لِوَقائِعِ بَيْتِ المَقْدِسِ، وصَوْمَ يَوْمِ (بُورِيمْ) تِذْكارًا لِنَجاتِهِمْ مِن غَصْبِ مَلِكِ الأعاجِمِ أحْشُويُرُوشَ في واقِعَةِ (اسْتِيرَ) وعِنْدَهم صَوْمُ التَّطَوُّعِ، وفي الحَدِيثِ: «أحَبُّ الصِّيامِ إلى اللَّهِ صِيامُ داوُدَ كانَ يَصُومُ يَوْمًا ويُفْطِرُ يَوْمًا»، أمّا النَّصارى فَلَيْسَ في شَرِيعَتِهِمْ نَصٌّ عَلى تَشْرِيعِ صَوْمٍ زائِدٍ عَلى ما في التَّوْراةِ فَكانُوا يَتَّبِعُونَ صَوْمَ اليَهُودِ، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ يَوْمَ عاشُوراءَ تُعَظِّمُهُ اليَهُودُ والنَّصارى» ثُمَّ إنَّ رُهْبانَهم شَرَعُوا صَوْمَ أرْبَعِينَ يَوْمًا اقْتِداءً بِالمَسِيحِ، إذْ صامَ أرْبَعِينَ يَوْمًا قَبْلَ بَعْثَتِهِ، (p-١٥٨)ويُشْرَعُ عِنْدَهم نَذْرُ الصَّوْمِ عِنْدَ التَّوْبَةِ وغَيْرِها، إلّا أنَّهم يَتَوَسَّعُونَ في صِفَةِ الصَّوْمِ، فَهو عِنْدَهم تَرْكُ الأقْواتِ القَوِيَّةِ والمَشْرُوباتِ، أوْ هو تَناوُلُ طَعامٍ واحِدٍ في اليَوْمِ يَجُوزُ أنْ تَلْحَقَهُ أكْلَةٌ خَفِيفَةٌ. وقَوْلُهُ: ﴿لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ بَيانٌ لِحِكْمَةِ الصِّيامِ وما لِأجْلِهِ شُرِعَ، فَهو في قُوَّةِ المَفْعُولِ لِأجْلِهِ لِـ (كُتِبَ) و”لَعَلَّ“ إمّا مُسْتَعارَةٌ لِمَعْنى ”كَيِ“ اسْتِعارَةً تَبَعِيَّةً، وإمّا تَمْثِيلِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ شَأْنِ اللَّهِ في إرادَتِهِ مِن تَشْرِيعِ الصَّوْمِ التَّقْوى، بِحالِ المُتَرَجِّي مِن غَيْرِهِ فِعْلًا ما، والتَّقْوى الشَّرْعِيَّةُ هي اتِّقاءُ المَعاصِي، وإنَّما كانَ الصِّيامُ مُوجِبًا لِاتِّقاءِ المَعاصِي؛ لِأنَّ المَعاصِيَ قِسْمانِ؛ قِسْمٌ يَنْجَعُ في تَرْكِهِ التَّفَكُّرُ كالخَمْرِ والمَيْسِرِ والسَّرِقَةِ والغَصْبِ، فَتَرْكُهُ يَحْصُلُ بِالوَعْدِ عَلى تَرْكِهِ والوَعِيدِ عَلى فِعْلِهِ والمَوْعِظَةِ بِأحْوالِ الغَيْرِ، وقِسْمٌ يَنْشَأُ مِن دَواعٍ طَبِيعِيَّةٍ كالأُمُورِ النّاشِئَةِ عَنِ الغَضَبِ وعَنِ الشَّهْوَةِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي قَدْ يَصْعُبُ تَرْكُها بِمُجَرَّدِ التَّفَكُّرِ، فَجَعَلَ الصِّيامَ وسِيلَةً لِاتِّقائِها؛ لِأنَّهُ يَعْدِلُ القُوى الطَّبِيعِيَّةَ الَّتِي هي داعِيَةُ تِلْكَ المَعاصِي، لِيَرْتَقِيَ المُسْلِمُ بِهِ عَنْ حَضِيضِ الِانْغِماسِ في المادَّةِ إلى أوْجِ العالَمِ الرُّوحانِيِّ، فَهو وسِيلَةٌ لِلِارْتِياضِ بِالصِّفاتِ المَلَكِيَّةِ والِانْتِفاضِ مِن غُبارِ الكُدُراتِ الحَيَوانِيَّةِ. وفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ «الصَّوْمُ جُنَّةٌ» أيْ: وِقايَةٌ، ولَمّا تَرَكَ ذِكْرَ مُتَعَلِّقِ (جُنَّةٍ) تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلى ما يَصْلُحُ لَهُ مِن أصْنافِ الوِقايَةِ المَرْغُوبَةِ، فَفي الصَّوْمِ وِقايَةٌ مِنَ الوُقُوعِ في المَآثِمِ، ووِقايَةٌ مِنَ الوُقُوعِ في عَذابِ الآخِرَةِ، ووِقايَةٌ مِنَ العِلَلِ والأدْواءِ النّاشِئَةِ عَنِ الإفْراطِ في تَناوُلِ اللَّذّاتِ؛ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] ظَرْفٌ لِلصِّيامِ مِثْلَ قَوْلِكَ: الخُرُوجُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، ولا يَضُرُّ وُقُوعُ الفَصْلِ بَيْنَ ”الصِّيامُ“ وبَيْنَ ”أيّامًا“، وهو قَوْلُهُ: (كَما كُتِبَ) إلى (تَتَّقُونَ) لِأنَّ الفَصْلَ لَمْ يَكُنْ بِأجْنَبِيٍّ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، إذِ الحالُ والمَفْعُولُ لِأجْلِهِ المُسْتَفادُ مِن ”لَعَلَّ“ كُلُّ ذَلِكَ مِن تَمامِ عامِلِ المَفْعُولِ فِيهِ، وهو قَوْلُهُ ”صِيامٌ“، ومِن تَمامِ العامِلِ في ذَلِكَ العامِلُ وهو (كُتِبَ) فَإنَّ عامِلَ العامِلِ في الشَّيْءِ عامِلٌ في ذَلِكَ الشَّيْءِ، ولِجَوازِ الفَصْلِ بِالأجْنَبِيِّ إذا كانَ المَعْمُولُ ظَرْفًا، لِاتِّساعِهِمْ في الظُّرُوفِ وهَذا مُخْتارُ الزَّجّاجِ والزَّمَخْشَرِيِّ والرَّضِيِّ، ومَرْجِعُ هَذِهِ المَسْألَةِ إلى تَجَنُّبِ تَشْتِيتِ الكَلامِ بِاخْتِلالِ نِظامِهِ المَعْرُوفِ، تَجَنُّبًا لِلتَّعْقِيدِ المُخِلِّ بِالفَصاحَةِ. والغالِبُ عَلى أحْوالِ الأُمَمِ في جاهِلِيَّتِها، وبِخاصَّةٍ العَرَبُ هو الِاسْتِكْثارُ مِن تَناوُلِ اللَّذّاتِ مِنَ المَآكِلِ والخُمُورِ ولَهْوِ النِّساءِ والدَّعَةِ، وكُلُّ ذَلِكَ يُوَفِّرُ القُوى الجُسْمانِيَّةَ والدَّمَوِيَّةَ (p-١٥٩)فِي الأجْسادِ، فَتَقْوى الطَّبائِعُ الحَيَوانِيَّةُ الَّتِي في الإنْسانِ مِنَ القُوَّةِ الشَّهْوِيَّةِ والقُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ. وتَطْغَيانِ عَلى القُوَّةِ العاقِلَةِ، فَجاءَتِ الشَّرائِعُ بِشَرْعِ الصِّيامِ؛ لِأنَّهُ يَفِي بِتَهْذِيبِ تِلْكَ القُوى، إذْ هو يُمْسِكُ الإنْسانَ عَنِ الِاسْتِكْثارِ مِن مُثِيراتِ إفْراطِها، فَتَكُونُ نَتِيجَتُهُ تَعْدِيلَها في أوْقاتٍ مُعَيَّنَةٍ هي مَظِنَّةُ الِاكْتِفاءِ بِها إلى أوْقاتٍ أُخْرى. والصَّوْمُ بِمَعْنى إقْلالِ تَناوُلِ الطَّعامِ عَنِ المِقْدارِ الَّذِي يَبْلُغُ حَدَّ الشِّبَعِ أوْ تَرْكِ بَعْضِ المَأْكَلِ، أصْلٌ قَدِيمٌ مِن أُصُولِ التَّقْوى لَدى المِلِّيِّينَ ولَدى الحُكَماءِ الإشْراقِيِّينَ، والحِكْمَةُ الإشْراقِيَّةُ مَبْناها عَلى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِإزالَةِ كُدُراتِ البَهِيمِيَّةِ عَنْها بِقَدْرِ الإمْكانِ، بِناءً عَلى أنَّ لِلْإنْسانِ قُوَّتَيْنِ: إحْداهُما رُوحانِيَّةٌ مُنْبَثَّةٌ في قَرارَتِها مِنَ الحَواسِّ الباطِنِيَّةِ، والأُخْرى حَيَوانِيَّةٌ مُنْبَثَّةٌ في قَرارَتِها مِنَ الأعْضاءِ الجُسْمانِيَّةِ كُلِّها، وإذْ كانَ الغِذاءُ يُخَلِّفُ لِلْجَسَدِ ما يُضَيِّعُهُ مِن قُوَّتِهِ الحَيَوانِيَّةِ إضاعَةً تَنْشَأُ عَنِ العَمَلِ الطَّبِيعِيِّ لِلْأعْضاءِ الرَّئِيسِيَّةِ وغَيْرِها، فَلا جَرَمَ كانَتْ زِيادَةُ الغِذاءِ عَلى القَدْرِ المُحْتاجِ إلَيْهِ تُوَفِّرُ لِلْجِسْمِ مِنَ القُوَّةِ الحَيَوانِيَّةِ فَوْقَ ما يَحْتاجُهُ، وكانَ نُقْصانُهُ يُقَتِّرُ عَلَيْهِ مِنها إلى أنْ يَبْلُغَ إلى المِقْدارِ الَّذِي لا يُمْكِنُ حِفْظُ الحَياةِ بِدُونِهِ، وكانَ تَغَلُّبُ مَظْهَرِ إحْدى القُوَّتَيْنِ بِمِقْدارِ تَضاؤُلِ مَظْهَرِ القُوَّةِ الأُخْرى، فَلِذَلِكَ وجَدُوا أنَّ ضَعْفَ القُوَّةِ الحَيَوانِيَّةِ يُقَلِّلُ مَعْمُولَها فَتَتَغَلَّبُ القُوَّةُ الرُّوحانِيَّةُ عَلى الجَسَدِ، ويَتَدَرَّجُ بِهِ الأمْرُ حَتّى يَصِيرَ صاحِبُ هَذِهِ الحالِ أقْرَبَ إلى الأرْواحِ والمُجَرَّداتِ مِنهُ إلى الحَيَوانِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ لا حَظَّ لَهُ في الحَيَوانِيَّةِ إلّا حَياةُ الجِسْمِ الحافِظَةُ لِبَقاءِ الرُّوحِ فِيهِ، ولِذَلِكَ لَزِمَ تَعْدِيلُ مِقْدارِ هَذا التَّناقُصِ بِكَيْفِيَّةٍ لا تُفْضِي إلى اضْمِحْلالِ الحَياةِ، لِأنَّ ذَلِكَ يُضَيِّعُ المَقْصُودَ مِن تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وإعْدادِها لِلْعَوالِمِ الأُخْرَوِيَّةِ، فَهَذا التَّعادُلُ والتَّرْجِيحُ بَيْنَ القُوَّتَيْنِ هو أصْلُ مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيامِ في المِلَلِ ووَضْعِيَّتِهِ في حِكْمَةِ الإشْراقِ، وفي كَيْفِيَّتِهِ تَخْتَلِفُ الشَّرائِعُ اخْتِلافًا مُناسِبًا لِلْأحْوالِ المُخْتَصَّةِ هي بِها بِحَيْثُ لا يَفِيتُ المَقْصِدُ مِنَ الحَياتَيْنِ، ولا شَكَّ أنَّ أفْضَلَ الكَيْفِيّاتِ لِتَحْصِيلِ هَذا الغَرَضِ مِنَ الصِّيامِ هو الكَيْفِيَّةُ الَّتِي جاءَ بِها الإسْلامُ، قِيلَ في هَياكِلِ النُّورِ: النُّفُوسُ النّاطِقَةُ مِن جَوْهَرِ المَلَكُوتِ إنَّما شَغَلَها عَنْ عالَمِها القُوى البَدَنِيَّةُ ومُشاغَلَتُها، فَإذا قَوِيَتِ النَّفْسُ بِالفَضائِلِ الرُّوحانِيَّةِ وضَعُفَ سُلْطانُ القُوى البَدَنِيَّةِ بِتَقْلِيلِ الطَّعامِ وتَكْثِيرِ السَّهَرِ تَتَخَلَّصُ أحْيانًا إلى عالَمِ القُدْسِ وتَتَّصِلُ بِأبِيها المُقَدَّسِ وتَتَلَقّى مِنهُ المَعارِفَ، فَمِنَ الصَّوْمِ تَرْكُ البَراهِمَةِ أكْلَ لُحُومِ الحَيَوانِ والِاقْتِصارُ عَلى النَّباتِ (p-١٦٠)أوِ الألْبانِ، وكانَ حُكَماءُ اليُونانِ يَرْتاضُونَ عَلى إقْلالِ الطَّعامِ بِالتَّدْرِيجِ حَتّى يَعْتادُوا تَرْكَهُ أيّامًا مُتَوالِيَةً، واصْطَلَحُوا عَلى أنَّ التَّدْرِيجَ في إقْلالِ الطَّعامِ تَدْرِيجًا لا يُخْشى مِنهُ انْخِرامُ صِحَّةِ البَدَنِ أنْ يَزِنَ الحَكِيمُ شَبَعَهُ مِنَ الطَّعامِ بِأعْوادٍ مِن شَجَرِ التِّينِ رَطْبَةً، ثُمَّ لا يُجَدِّدُها فَيَزِنُ بِها كُلَّ يَوْمٍ طَعامَهُ لا يَزِيدُ عَلى زِنَتِها وهَكَذا يَسْتَمِرُّ حَتّى تَبْلُغَ مِنَ اليُبْسِ إلى حَدٍّ لا يُبْسَ بَعْدَهُ، فَتَكُونُ هي زِنَةُ طَعامِ كُلِّ يَوْمٍ. وفِي حِكْمَةِ الإشْراقِ لِلسَّهْرُوَرْدِيِّ: ”وقَبْلَ الشُّرُوعِ في قِراءَةِ هَذا الكِتابِ يَرْتاضُ أرْبَعِينَ يَوْمًا تارِكًا لِلُحُومِ الحَيَواناتِ مُقَلِّلًا لِلطَّعامِ مُنْقَطِعًا إلى التَّأمُّلِ لِنُورِ اللَّهِ“ ا هـ. وإذْ قَدْ كانَ مِنَ المُتَعَذِّرِ عَلى الهَيْكَلِ البَشَرِيِّ بِما هو مُسْتَوْدَعُ حَياةٍ حَيَوانِيَّةٍ أنْ يَتَجَرَّدَ عَنْ حَيَوانِيَّتِهِ، فَمِنَ المُتَعَذِّرِ عَلَيْهِ الِانْقِطاعُ الباتُّ عَنْ إمْدادِ حَيَوانِيَّتِهِ بِمَطْلُوباتِها، فَكانَ مِنَ اللّازِمِ لِتَطَلُّبِ ارْتِقاءِ نَفْسِهِ أنْ يَتَدَرَّجَ بِهِ في الدَّرَجاتِ المُمْكِنَةِ مِن تَهْذِيبِ حَيَوانِيَّتِهِ وتَخْلِيصِهِ مِنَ التَّوَغُّلِ فِيها بِقَدْرِ الإمْكانِ، لِذَلِكَ كانَ الصَّوْمُ مِن أهَمِّ مُقَدِّماتِ هَذا الغَرَضِ؛ لِأنَّ فِيهِ خَصْلَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ؛ هُما الِاقْتِصادُ في إمْدادِ القُوى الحَيَوانِيَّةِ وتَعَوُّدُ الصَّبْرِ بِرَدِّها عَنْ دَواعِيها، وإذْ قَدْ كانَ البُلُوغُ إلى الحَدِّ الأتَمِّ مِن ذَلِكَ مُتَعَذِّرًا كَما عَلِمْتَ، حاوَلَ أساطِينُ الحِكْمَةِ النَّفْسانِيَّةِ الإقْلالَ مِنهُ، فَمِنهم مَن عالَجَ الإقْلالَ بِنَقْصِ الكَمِّيّاتِ وهَذا صَوْمُ الحُكَماءِ، ومِنهم مَن حاوَلَهُ مِن جانِبِ نَقْصِ أوْقاتِ التَّمَتُّعِ بِها وهَذا صَوْمُ الأدْيانِ وهو أبْلَغُ إلى القَصْدِ وأظْهَرُ في مَلَكَةِ الصَّبْرِ، وبِذَلِكَ يَحْصُلُ لِلْإنْسانِ دُرْبَةٌ عَلى تَرْكِ شَهَواتِهِ، فَيَتَأهَّلُ لِلتَّخَلُّقِ بِالكَمالِ فَإنَّ الحائِلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الكَمالاتِ والفَضائِلِ هو ضَعْفُ التَّحَمُّلِ لِلِانْصِرافِ عَنْ هَواهُ وشَهَواتِهِ. ؎إذا المَرْءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعامًا يُحِبُّهُ ∗∗∗ ولَمْ يَنْهَ قَلْبًا غاوِيًا حَيْثُ يَمَّما ؎فَيُوشِكُ أنْ تَلْقى لَهُ الدَّهْرَ سُبَّةً ∗∗∗ إذا ذُكِرَتْ أمْثالُها تَمْلَأُ الفَما فَإنْ قُلْتَ: إذا كانَ المَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ مِنَ الصَّوْمِ ارْتِياضَ النَّفْسِ عَلى تَرْكِ الشَّهَواتِ وإثارَةِ الشُّعُورِ بِما يُلاقِيهِ أهْلُ الخَصاصَةِ مِن ألَمِ الجُوعِ، واسْتِشْعارَ المُساواةِ بَيْنَ أهْلِ الجِدَّةِ والرَّفاهِيَةِ وأهْلِ الشَّظَفِ في أُصُولِ المَلَذّاتِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ واللَّهْوِ، فَلِماذا اخْتَلَفَتِ الأدْيانُ الإلَهِيَّةُ في كَيْفِيَّةِ الصِّيامِ، ولِماذا التَزَمَتِ الدِّيانَةُ الإسْلامِيَّةُ في كَيْفِيَّتِهِ صُورَةً واحِدَةً، ولَمْ تَكِلْ ذَلِكَ إلى المُسْلِمِ يَتَّخِذُ لِإراضَةِ نَفْسِهِ ما يَراهُ لائِقًا بِهِ في تَحْصِيلِ المَقاصِدِ المُرادَةِ. (p-١٦١)قُلْتُ: شَأْنُ التَّعْلِيمِ الصّالِحِ أنْ يَضْبُطَ لِلْمُتَعَلِّمِ قَواعِدَ وأسالِيبَ تَبْلُغُ بِهِ إلى الثَّمَرَةِ المَطْلُوبَةِ مِنَ المَعارِفِ الَّتِي يُزاوِلُها، فَإنَّ مُعَلِّمَ الرِّياضَةِ البَدَنِيَّةِ يَضْبُطُ لِلْمُتَعَلِّمِ كَيْفِيّاتٍ مِنَ الحَرَكاتِ بِأعْضائِهِ وتَطَوُّرَ قامَتِهِ انْتِصابًا ورُكُوعًا وقُرْفُصاءَ، بَعْضُ ذَلِكَ يُثْمِرُ قُوَّةَ عَضَلاتِهِ وبَعْضُها يُثْمِرُ اعْتِدالَ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ، وبَعْضُها يُثْمِرُ وظائِفَ شَرايِينِهِ، وهي كَيْفِيّاتٌ حَدَّدَها أهْلُ تِلْكَ المَعْرِفَةِ وأدْنَوْا بِها حُصُولَ الثَّمَرَةِ المَطْلُوبَةِ، ولَوْ وكَّلَ ذَلِكَ لِلطّالِبِينَ لَذَهَبَتْ أوْقاتٌ طَوِيلَةٌ في التَّجارِبِ وتَعَدَّدَتِ الكَيْفِيّاتُ بِتَعَدُّدِ أفْهامِ الطّالِبِينَ واخْتِيارِهِمْ، وهَذا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] . والمُرادُ بِالأيّامِ مِن قَوْلِهِ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] شَهْرُ رَمَضانَ عِنْدَ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ، وإنَّما عَبَّرَ عَنْ رَمَضانَ بِأيّامٍ وهي جَمْعُ قِلَّةٍ، ووَصَفَ بِمَعْدُوداتٍ وهي جَمْعُ قِلَّةٍ أيْضًا؛ تَهْوِينًا لِأمْرِهِ عَلى المُكَلَّفِينَ، والمَعْدُوداتُ كِنايَةٌ عَنِ القِلَّةِ؛ لِأنَّ الشَّيْءَ القَلِيلَ يُعَدُّ عَدًّا؛ ولِذَلِكَ يَقُولُونَ: الكَثِيرُ لا يُعَدُّ، ولِأجْلِ هَذا اخْتِيرَ في وصْفِ الجَمْعِ مَجِيئُهُ في التَّأْنِيثِ عَلى طَرِيقَةِ الجَمْعِ بِألِفٍ وتاءٍ وإنْ كانَ مَجِيئُهُ عَلى طَرِيقَةِ الجَمْعِ المُكَسَّرِ الَّذِي فِيهِ هاءُ تَأْنِيثٍ أكْثَرَ، قالَ أبُو حَيّانَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى الآتِي بَعْدَهُ ﴿مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]: صِفَةُ الجَمْعِ الَّذِي لا يَعْقِلُ تارَةً تُعامَلُ مُعامَلَةَ الواحِدَةِ المُؤَنَّثَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] وتارَةً تُعامَلُ مُعامَلَةَ جَمْعِ المُؤَنَّثِ نَحْوَ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] فَمَعْدُوداتٌ جَمْعٌ لِمَعْدُودَةٍ، وأنْتَ لا تَقُولُ يَوْمٌ مَعْدُودَةٌ، وكِلا الِاسْتِعْمالَيْنِ فَصِيحٌ، ويَظْهَرُ أنَّهُ تُرِكَ فِيهِ تَحْقِيقًا، وذَلِكَ أنَّ الوَجْهَ في الوَصْفِ الجارِي عَلى جَمْعٍ مُذَكَّرٍ إذا أنَّثُوهُ أنْ يَكُونَ مُؤَنَّثًا مُفْرَدًا؛ لِأنَّ الجَمْعَ قَدْ أُوِّلَ بِالجَماعَةِ، والجَماعَةُ كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ، وهَذا هو الغالِبُ، غَيْرَ أنَّهم إذا أرادُوا التَّنْبِيهَ عَلى كَثْرَةِ ذَلِكَ الجَمْعِ أجْرَوْا وصْفَهُ عَلى صِيغَةِ جَمْعِ المُؤَنَّثِ؛ لِيَكُونَ في مَعْنى الجَماعاتِ، وأنَّ الجَمْعَ يَنْحَلُّ إلى جَماعاتٍ كَثِيرَةٍ، ولِذَلِكَ فَأنا أرى أنَّ مَعْدُوداتٍ أكْثَرُ مِن مَعْدُودَةٍ، ولِأجْلِ هَذا قالَ تَعالى: ﴿وقالُوا لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] لِأنَّهم يُقَلِّلُونَها غُرُورًا أوْ تَغْرِيرًا، وقالَ هُنا: مَعْدُوداتٌ؛ لِأنَّها ثَلاثُونَ يَوْمًا، وقالَ في الآيَةِ الآتِيَةِ: ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧] وهَذا مِثْلَ قَوْلِهِ في جَمْعِ جَمَلٍ جِمالاتٍ عَلى أحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، وهو أكْثَرُ مِن جِمالٍ، وعَنِ المازِنِيِّ أنَّ الجَمْعَ لِما لا يَعْقِلُ يَجِيءُ الكَثِيرُ مِنهُ بِصِيغَةِ الواحِدَةِ المُؤَنَّثَةِ تَقُولُ: الجُذُوعُ انْكَسَرَتْ والقَلِيلُ مِنهُ يَجِيءُ بِصِيغَةِ الجَمْعِ تَقُولُ: الأجْذاعُ انْكَسَرَتِ ا هـ. وهو غَيْرُ ظاهِرٍ. وقِيلَ: المُرادُ بِالأيّامِ غَيْرُ رَمَضانَ بَلْ هي أيّامٌ وجَبَ صَوْمُها عَلى المُسْلِمِينَ عِنْدَما فُرِضَ (p-١٦٢)الصِّيامُ بِقَوْلِهِ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] ثُمَّ نُسِخَ صَوْمُها بِصَوْمِ رَمَضانَ، وهي يَوْمُ عاشُوراءَ وثَلاثَةُ أيّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ وهي أيّامُ البِيضِ الثّالِثَ عَشَرَ والرّابِعَ عَشَرَ والخامِسَ عَشَرَ، وإلَيْهِ ذَهَبَ مُعاذٌ وقَتادَةُ وعَطاءٌ ولَمْ يَثْبُتْ مِنَ الصَّوْمِ المَشْرُوعِ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ رَمَضانَ إلّا صَوْمُ يَوْمِ عاشُوراءَ، كَما في الصَّحِيحِ وهو مَفْرُوضٌ بِالسُّنَّةِ، وإنَّما ذُكِرَ أنَّ صَوْمَ عاشُوراءَ والأيّامِ البِيضِ كانَ فَرْضًا عَلى النَّبِيءِ ﷺ ولَمْ يَثْبُتْ رِوايَةً، فَلا يَصِحُّ كَوْنُها المُرادَ مِنَ الآيَةِ لا لَفْظًا ولا أثَرًا، عَلى أنَّهُ قَدْ نُسِخَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِصَوْمِ رَمَضانَ كَما دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ السّائِلِ الَّذِي قالَ: لا أزِيدُ عَلى هَذا ولا أنْقُصُ مِنهُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أفْلَحَ إنْ صَدَقَ» .


ركن الترجمة

O believers, fasting is enjoined on you as it was on those before you, so that you might become righteous.

O les croyants! On vous a prescrit aS-Siyâm comme on l'a prescrit à ceux d'avant vous, ainsi atteindrez-vous la piété,

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :