موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الخميس 19 رمضان 1446 هجرية الموافق ل20 مارس 2025


الآية [184] من سورة  

أَيَّامًا مَّعْدُودَٰتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُۥ وَأَن تَصُومُوا۟ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ


ركن التفسير

184 - (أياماً) نصب بالصيام أو يصوموا مقدرا (معدودات) أي قلائل أو مؤقتات بعدد معلوم وهي رمضان كما سيأتي ، وقلّله تسهيلا على المكلفين (فمن كان منكم) حين شهوده (مريضاً أو على سفر) أي مسافر سفر القصر وأجهده الصوم في الحالين فأفطر (فعدة) فعليه عدة ما أفطر (من أيام أخر) يصومها بدله يصومها بدله (وعلى الذين) لا (يطيقونه) لكبر أو مرض لا يرجى بُرْؤه (فدية) هي (طعام مسكين) أي قدر ما يأكله في يومه وهو مُدٌّ من غالب قوت البلد لكل يوم ، وفي قراءة بإضافة فدية وهي للبيان وقيل لا غير مقدرة وكانوا مخيرين في صدر الإسلام بين الصوم والفدية ثم نسخ بتعيين الصوم بقوله من شهد منكم الشهر فليصمه ، قال ابن عباس: إلا الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفا على الولد فإنها باقية بلا نسخ في حقهما (فمن تطوع خيرا) بالزيادة على القدر المذكور في الفدية (فهو) أي التطوع (خير له ، وأن تصوموا) مبتدأ خبره (خير لكم) من الإفطار والفدية (إن كنتم تعلمون) أنه خير لكم فافعلوه

يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة حسنة وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك كما قال تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات" الآية ولهذا قال ههنا "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان ولهذا ثبت فى الصحيحين "يا معشر الشباب من أستطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ثم بين مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه بل في أيام معدودات وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كل شهر ثلاثة أيام ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه وقد روى أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام عن معاذ وابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك بن مزاحم وزاد لم يزل هذا مشروعا من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان وقال عباد بن منصور عن الحسن البصري "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات" فقال نعم والله لقد كتب الصيام على كل أمة قد خلت كما كتبه علينا شهرا كاملا وأياما معدودات عددا معلوما وروى عن السدي نحوه وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبدالرحمن المقري حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثني عبدالله بن الوليد عن أبي الربيع رجل من أهل المدينة عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم" في حديث طويل أختصر منه ذلك وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عمن حدثه عن ابن عمر قال أنزلت "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها قال ابن أبي حاتم وروى عن ابن عباس وأبي العالية وعبدالرحمن بن أبي ليلى ومجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس وعطاء الخراساني نحو ذلك: وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس "كما كتب على الذين من قبلكم" يعني بذلك أهل الكتاب وروى عن الشعبي والسدي وعطاء الخراساني مثله ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة عليهما بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيرا بين الصيام وبين الاطعام إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير وإن صام فهو أفضل من الأطعام قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطاوس ومقاتل بن حيان وغيرهم من السلف ولهذا قال تعالى "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون". وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا المسعودي حدثنا عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ثم إن الله عز وجل أنزل عليه "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" الآية فوجهه الله إلى مكة هذا حول قال وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضا حتى نقسوا أو كادوا ينقسون ثم إن رجلا من الأنصار يقال له عبدالله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال يا رسول الله إنى رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إنى لم أكن نائما لصدقت إنى بينا أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله - مثنى - حتى فرغ من الأذان ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قال غير أنه يزيد في ذلك: قد قامت الصلاة - مرتين - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "علمها بلالا فليؤذن بها" فكان بلال أول من أذن بها: قال وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله قد طاف بي مثل الذي طاف به غير أنه سبقني فهذان حالان قال وكانوا يأتون الصلاة وقد سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها فكان الرجل يشير إلى الرجل إذن كم صلى فيقول واحدة أو اثنتين فيصليهما ثم يدخل مع القوم في صلاتهم قال فجاء معاذ فقال لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني قال فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها قال فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوا" فهذه ثلاثة أحوال وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" إلى قوله "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" إلى قوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الاطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فهذان حالان قال وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا أمتنعوا ثم إن رجلا من الأنصار يقال له صرمة كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدا شديدا فقال "مالي أراك قد جهدت جهدا شديدا؟ قال يا رسول الله إنى عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائما قال وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله عز وجل "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" - إلى قوله - "ثم أتموا الصيام إلى الليل" وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه من حديث المسعودي به وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت كان عاشوراء يصام فلما نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله. وقوله تعالى "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كما قال معاذ رضي الله عنه كان في ابتداء الأمر من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وروى أيضا من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال هي منسوخة: وقال السدي عن مرة عن عبدالله قال لما نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال يقول "وعلى الذين يطيقونه" أي يتجشمونه: قال عبدالله فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا "فمن تطوع" يقول أطعم مسكينا آخر فهر خير له "وأن تصوموا خير لكم" فكانوا كذلك حتى نسختها "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وقال البخاري أيضا أخبرنا أسحق حدثنا روح حدثنا زكريا بن إسحاق حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال ابن عباس ليست منسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينا وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد حدثنا الحسين بن محمد بن بهرام المخزومي حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد بن عبدالله عن ابن أبي ليلى قال دخلت على عطاء فى رمضان وهو يأكل فقال: قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر- فحاصل الأمر أن النسخ ثابت فى حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه لقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكينا إذا كان ذا جدة؟ فيه قولان للعلماء أحدهما لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه فلم يجب عليه فدية كالصبي لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي والثاني وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ و"على الذين يطيقونه" أي يتجشمونه كما قاله ابن مسعود وغيره وهو أختيار البخاري فإنه قال وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاما أو عامين عن كل يوم مسكينا خبزا ولحما وأفطر وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال حدثنا عبدالله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا عمران عن أيوب بن أبي تميمة قال ضعف أنس عن الصوم فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم ورواه عبد بن حميد عن روح بن عبادة عن عمران وهو ابن جرير عن أيوب به ورواه عبد أيضا من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس بمعناه. ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ففيهما خلاف كثير بين العلماء فمنهم من قال يفطران ويفديان ويقضيان وقيل يفديان فقط ولا قضاء وقيل يجب القضاء بلا فدية وقيل يفطران ولا فدية ولا قضاء وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه ولله الحمد والمنة.

﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ تَعْقِيبٌ لِحُكْمِ العَزِيمَةِ بِحُكْمِ الرُّخْصَةِ، فالفاءُ لِتَعْقِيبِ الأخْبارِ لا لِلتَّفْرِيعِ، وتَقْدِيمُهُ هُنا قَبْلَ ذِكْرِ بَقِيَّةِ تَقْدِيرِ الصَّوْمِ تَعْجِيلٌ بِتَطْمِينِ نُفُوسِ السّامِعِينَ، لِئَلّا يَظُنُّوا وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ في كُلِّ حالٍ. والمَرِيضُ مَن قامَ بِهِ المَرَضُ، وهو انْحِرافُ المِزاجِ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدالِ الطَّبِيعِيِّ بِحَيْثُ تَثُورُ في الجَسَدِ حُمًّى أوْ وجَعٌ أوْ فَشَلٌ. وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في تَحْدِيدِ المَرَضِ المُوجِبِ لِلْفِطْرِ، فَأمّا المَرَضُ الغالِبُ الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ المَرِيضُ مَعَهُ الصَّوْمَ بِحالٍ بِحَيْثُ يَخْشى الهَلاكَ أوْ مُقارَبَتَهُ، فَلا خِلافَ بَيْنَهم في أنَّهُ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ بَلْ يُوجِبُ الفِطْرَ، وأمّا المَرَضُ الَّذِي دُوَنَ ذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا في مِقْدارِهِ فَذَهَبَ مُحَقِّقُو الفُقَهاءِ إلى أنَّهُ المَرَضُ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ مَعَ الصِّيامِ مَشَقَّةٌ زائِدَةٌ عَلى مَشَقَّةِ الصَّوْمِ لِلصَّحِيحِ مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ المُعْتادَيْنِ، بِحَيْثُ يُسَبِّبُ لَهُ أوْجاعًا أوْ ضَعْفًا مُنْهِكًا أوْ تُعاوِدُهُ بِهِ أمْراضٌ ساكِنَةٌ أوْ يَزِيدُ في انْحِرافِهِ إلى حَدِّ المَرَضِ أوْ يُخافُ تَمادِي المَرَضِ بِسَبَبِهِ. وهَذا قَوْلُ مالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ والشّافِعِيِّ عَلى تَفاوُتٍ بَيْنَهم في التَّعْبِيرِ، وأعْدَلُ العِباراتِ ما نُقِلَ عَنْ مالِكٍ، لِأنَّ اللَّهَ أطْلَقَ المَرَضَ ولَمْ يُقَيِّدْهُ، وقَدْ عَلِمْنا أنَّهُ ما أباحَ الفِطْرَ إلّا لِأنَّ لِذَلِكَ المَرَضِ تَأْثِيرًا في الصّائِمِ، ويَكْشِفُ ضابِطَ ذَلِكَ قَوْلُ القَرافِيِّ في الفَرْقِ الرّابِعَ عَشَرَ، إذْ قالَ: إنَّ المَشاقَّ قِسْمانِ: قِسْمٌ ضَعِيفٌ لا تَنْفَكُّ عَنْهُ تِلْكَ العِبادَةُ كالوُضُوءِ والغُسْلِ في زَمَنِ البَرْدِ وكالصَّوْمِ، وكالمُخاطَرَةِ بِالنَّفْسِ في الجِهادِ، وقِسْمٌ هو ما تَنْفَكُّ عَنْهُ العِبادَةُ، وهَذا أنْواعٌ: نَوْعٌ لا تَأْثِيرَ لَهُ في العِبادَةِ (p-١٦٣)كَوَجَعِ إصْبَعٍ، فَإنَّ الصَّوْمَ لا يَزِيدُ وجَعَ الإصْبَعِ، وهَذا لا التِفاتَ إلَيْهِ، ونَوْعٌ لَهُ تَأْثِيرٌ شَدِيدٌ مَعَ العِبادَةِ كالخَوْفِ عَلى النَّفْسِ والأعْضاءِ والمَنافِعِ، وهَذا يُوجِبُ سُقُوطَ تِلْكَ العِبادَةِ، ونَوْعٌ يَقْرُبُ مِن هَذا فَيُوجِبُ ما يُوجِبُهُ. وذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ وعَطاءٌ: والبُخارِيُّ إلى أنَّ المَرَضَ وهو الوَجَعُ والِاعْتِلالُ يُسَوِّغُ الفِطْرَ ولَوْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ مُؤَثِّرًا فِيهِ شِدَّةً أوْ زِيادَةً؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ المَرَضَ سَبَبَ الفِطْرِ، كَما جَعَلَ السَّفَرَ سَبَبَ الفِطْرِ مِن غَيْرِ أنْ تَدْعُوَ إلى الفِطْرِ ضَرُورَةٌ كَما في السَّفَرِ، يُرِيدُونَ أنَّ العِلَّةَ هي مَظِنَّةُ المَشَقَّةِ الزّائِدَةِ غالِبًا، قِيلَ: دَخَلَ بَعْضُهم عَلى ابْنِ سِيرِينَ في نَهارِ رَمَضانَ وهو يَأْكُلُ فَلَمّا فَرَغَ قالَ: إنَّهُ وجَعَتْنِي إصْبَعِي هَذِهِ فَأفْطَرْتُ، وعَنِ البُخارِيِّ قالَ: اعْتَلَلْتُ بِنَيْسابُورَ عِلَّةً خَفِيفَةً في رَمَضانَ فَعادَنِي إسْحاقُ ابْنُ راهَوَيْهِ في نَفَرٍ مِن أصْحابِهِ فَقالَ لِي: أفْطَرْتَ يا أبا عَبْدِ اللَّهِ قُلْتُ: نَعَمْ أخْبَرَنا عَبْدانُ، عَنِ ابْنِ المُبارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قالَ: قُلْتُ لِعَطاءٍ: مِن أيِّ المَرَضِ أُفْطِرُ ؟ قالَ: مِن أيِّ مَرَضٍ كانَ، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا﴾ وقِيلَ: إذا لَمْ يَقْدِرِ المَرِيضُ عَلى الصَّلاةِ قائِمًا أفْطَرَ، وإنَّما هَذِهِ حالَةٌ خاصَّةٌ تَصْلُحُ مِثالًا ولا تَكُونُ شَرْطًا، وعُزِيَ إلى الحَسَنِ والنَّخَعِيِّ ولا يَخْفى ضَعْفُهُ؛ إذْ أيْنَ القِيامُ في الصَّلاةِ مِنَ الإفْطارِ في الصِّيامِ، وفي هَذا الخِلافِ مَجالٌ لِلنَّظَرِ في تَحْدِيدِ مَدى الِانْحِرافِ والمَرَضِ المُسَوِّغَيْنِ إفْطارَ الصّائِمِ، فَعَلى الفَقِيهِ الإحاطَةُ بِكُلِّ ذَلِكَ ونُقِرُّ بِهِ مِنَ المَشَقَّةِ الحاصِلَةِ لِلْمُسافِرِ ولِلْمَرْأةِ الحائِضِ. وقَوْلُهُ: ﴿أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ أيْ: أوْ كانَ بِحالَةِ السَّفَرِ وأصْلُ (عَلى) الدَّلالَةُ عَلى الِاسْتِعْلاءِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ مَجازًا في التَّمَكُّنِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] ثُمَّ شاعَ في كَلامِ العَرَبِ أنْ يَقُولُوا: فُلانٌ عَلى سَفَرٍ؛ أيْ: مُسافِرٌ لِيَكُونَ نَصًّا في المُتَلَبِّسِ، لِأنَّ اسْمَ الفاعِلِ يَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبالَ، فَلا يَقُولُونَ عَلى سَفَرٍ لِلْعازِمِ عَلَيْهِ وأمّا قَوْلُ. . . . . ؎ماذا عَلى البَدْرِ المُحَجَّبِ لَوْ سَفَرْ إنَّ المُعَذَّبَ في هَواهُ عَلى سَفَرْ أرادَ أنَّهُ عَلى وشْكِ المَماتِ فَخَطَأٌ مِن أخْطاءِ المُوَلَّدِينَ في العَرَبِيَّةِ، فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعالى بِهَذا اللَّفْظِ المُسْتَعْمَلِ في التَّلَبُّسِ بِالفِعْلِ، عَلى أنَّ المُسافِرَ لا يُفْطِرُ حَتّى يَأْخُذَ في السَّيْرِ في السَّفَرِ دُونَ مُجَرَّدِ النِّيَّةِ، والمَسْألَةُ مُخْتَلَفٌ فِيها، فَعَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ أنَّهُ أرادَ السَّفَرَ في رَمَضانَ فَرُحِّلَتْ دابَّتُهُ ولَبِسَ ثِيابَ السَّفَرِ وقَدْ تَقارَبَ غُرُوبُ الشَّمْسِ فَدَعا بِطَعامٍ فَأكَلَ مِنهُ ثُمَّ رَكِبَ، وقالَ: هَذِهِ السُّنَّةُ، رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، وقالَ جَماعَةٌ: إذا أصْبَحَ مُقِيمًا ثُمَّ سافَرَ (p-١٦٤)بَعْدَ ذَلِكَ فَلا يُفْطِرُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وهو قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، ومالِكٍ والشّافِعِيِّ والأوْزاعِيِّ وأبِي حَنِيفَةَ وأبِي ثَوْرٍ، فَإنْ أفْطَرَ فَعَلَيْهِ القَضاءُ دُونَ الكَفّارَةِ، وبالَغَ بَعْضُ المالِكِيَّةِ فَقالَ: عَلَيْهِ الكَفّارَةُ، وهو قَوْلُ ابْنِ كِنانَةَ والمَخْزُومِيِّ، ومِنَ العَجَبِ اخْتِيارُ ابْنِ العَرَبِيِّ إيّاهُ، وقالَ أبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: لَيْسَ هَذا بِشَيْءٍ لِأنَّ اللَّهَ أباحَ لَهُ الفِطْرَ بِنَصِّ الكِتابِ، ولَقَدْ أجادَ أبُو عُمَرَ، وقالَ أحْمَدُ وإسْحاقُ والشَّعْبِيُّ: يُفْطِرُ إذا سافَرَ بَعْدَ الصُّبْحِ ورَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وهو الصَّحِيحُ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ في صَحِيحَيِ البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ المَدِينَةِ إلى مَكَّةَ، فَصامَ حَتّى بَلَغَ عُسْفانَ ثُمَّ دَعا بِماءٍ فَرَفَعَهُ إلى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ، فَأفْطَرَ حَتّى قَدِمَ مَكَّةَ»، قالَ القُرْطُبِيُّ: وهَذا نَصٌّ في البابِ فَسَقَطَ ما يُخالِفُهُ. وإنَّما قالَ تَعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] ولَمْ يَقُلْ: فَصِيامُ أيّامٍ أُخَرَ، تَنْصِيصًا عَلى وُجُوبِ صَوْمِ أيّامٍ بِعَدَدِ أيّامِ الفِطْرِ في المَرَضِ والسَّفَرِ؛ إذِ العَدَدُ لا يَكُونُ إلّا عَلى مِقْدارٍ مُماثِلٍ. فَمِن؛ لِلتَّبْعِيضِ إنِ اعْتُبِرَ ”أيّامٍ“ أعَمَّ مِن أيّامِ العِدَّةِ؛ أيْ: مِن أيّامِ الدَّهْرِ أوِ السَّنَةِ، أوْ تَكُونُ ”مِن“ تَمْيِيزَ ”عِدَّةٌ“ أيْ: عِدَّةٌ هي أيّامٌ، مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ﴾ [آل عمران: ١٢٥]، ووَصَفَ الأيّامَ بِأُخَرَ، وهو جَمْعُ الأُخْرى اعْتِبارًا بِتَأْنِيثِ الجَمْعِ؛ إذْ كُلُّ جَمْعٍ مُؤَنَّثٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى آنِفًا: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ قالَ أبُو حَيّانَ: واخْتِيرَ في الوَصْفِ صِيغَةُ الجَمْعِ دُونَ أنْ يُقالَ أُخْرى لِئَلّا يُظَنَّ أنَّهُ وصْفٌ لِعِدَّةٍ، وفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّ هَذا الظَّنَّ لا يُوقِعُ في لَبْسٍ؛ لِأنَّ عِدَّةَ الأيّامِ هي أيّامٌ فَلا يُعْتَنى بِدَفْعِ هَذا الظَّنِّ، فالظّاهِرُ أنَّ العُدُولَ عَنْ أُخْرى لِمُراعاةِ صِيغَةِ الجَمْعِ في المَوْصُوفِ مَعَ طَلَبِ خِفَّةِ اللَّفْظِ. ولَفْظُ (أُخَرَ) مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ في كَلامِ العَرَبِ. وعَلَّلَ جُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ مَنعَهُ مِنَ الصَّرْفِ عَلى أُصُولِهِمْ بِأنَّ فِيهِ الوَصْفِيَّةَ والعَدْلَ، أمّا الوَصْفِيَّةُ فَظاهِرَةٌ وأمّا العَدْلُ فَقالُوا: لَمّا كانَ جَمْعُ آخَرَ، ومُفْرَدُهُ بِصِيغَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ، وكانَ غَيْرَ مُعَرَّفٍ بِاللّامِ كانَ حَقُّهُ أنْ يَلْزَمَ الإفْرادَ والتَّذْكِيرَ جَرْيًا عَلى سُنَنِ أصْلِهِ، وهو اسْمُ التَّفْضِيلِ إذا جُرِّدَ مِنَ التَّعْرِيفِ بِاللّامِ ومِنَ الإضافَةِ إلى المَعْرِفَةِ - أنَّهُ يَلْزَمُ الإفْرادَ والتَّذْكِيرَ، فَلَمّا نَطَقَ بِهِ العَرَبُ مُطابِقًا لِمَوْصُوفِهِ في التَّثْنِيَةِ والجَمْعِ عَلِمْنا أنَّهم عَدَلُوا بِهِ عَنْ أصْلِهِ، والعُدُولُ عَنِ الأصْلِ يُوجِبُ الثِّقَلَ عَلى اللِّسانِ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ مُعْتادِ الِاسْتِعْمالِ، فَخَفَّفُوهُ لِمَنعِهِ مِنَ الصَّرْفِ، وكَأنَّهم لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ في تَثْنِيَتِهِ وجَمْعِهِ بِالألِفِ والنُّونِ لِقِلَّةِ وُقُوعِهِما، وفِيهِ ما فِيهِ. (p-١٦٥)ولَمْ تُبَيِّنِ الآيَةُ صِفَةَ قَضاءِ صَوْمِ رَمَضانَ، فَأطْلَقَتْ ”﴿عِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخُرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]“، فَلَمْ تُبَيِّنْ أتَكُونُ مُتَتابِعَةً أمْ يَجُوزُ تَفْرِيقُها، ولا وُجُوبَ المُبادَرَةِ بِها أوْ جَوازَ تَأْخِيرِها، ولا وُجُوبَ الكَفّارَةِ عَلى الفِطْرِ مُتَعَمِّدًا في بَعْضِ أيّامِ القَضاءِ، ويَتَجاذَبُ النَّظَرُ في هَذِهِ الثَّلاثَةِ دَلِيلُ التَّمَسُّكِ بِالإطْلاقِ لِعَدَمِ وُجُودِ ما يُقَيِّدُهُ كَما يُتَمَسَّكُ بِالعامِّ إذا لَمْ يَظْهَرِ المُخَصِّصُ، ودَلِيلٌ أنَّ الأصْلَ في قَضاءِ العِبادَةِ أنْ يَكُونَ عَلى صِفَةِ العِبادَةِ المَقْضِيَّةِ. فَأمّا حُكْمُ تَتابُعِ أيّامِ القَضاءِ، فَرَوى الدّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قالَتْ عائِشَةُ نَزَلَتْ (فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ مُتَتابِعاتٍ) فَسَقَطَتْ ”مُتَتابِعاتٍ“، تُرِيدُ: نُسِخَتْ، وهو قَوْلُ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ، وبِهِ قالَ مِنَ الصَّحابَةِ أبُو هُرَيْرَةَ، وأبُو عُبَيْدَةَ، ومُعاذُ بْنُ جَبَلٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وتِلْكَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، ولِأجْلِ التَّنْبِيهِ عَلَيْها أطْلَقَ قَوْلَهُ: ﴿مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ ولَمْ يُقَيِّدْ بِالتَّتابُعِ كَما قالَ في كَفّارَةِ الظِّهارِ، وفي كَفّارَةِ قَتْلِ الخَطَأِ. فَلِذَلِكَ ألْغى الجُمْهُورُ إعْمالَ قاعِدَةِ جَرَيانِ قَضاءِ العِبادَةِ عَلى صِفَةِ المَقْضِيِّ، ولَمْ يُقَيِّدُوا مُطْلَقَ آيَةِ قَضاءِ الصَّوْمِ بِما قُيِّدَتْ بِهِ آيَةُ كَفّارَةِ الظِّهارِ وكَفّارَةِ قَتْلِ الخَطَأِ. وفِي المُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ يَقُولُ: يَصُومُ قَضاءَ رَمَضانَ مُتَتابِعًا مَن أفْطَرَهُ مِن مَرَضٍ أوْ سَفَرٍ، قالَ الباجِيُّ في المُنْتَقى: يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ الوُجُوبَ وأنْ يُرِيدَ الِاسْتِحْبابَ. وأمّا المُبادَرَةُ بِالقَضاءِ، فَلَيْسَ في الكِتابِ ولا في السُّنَّةِ ما يَقْتَضِيها، وقَوْلُهُ هُنا: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] مُرادٌ بِهِ الأمْرُ بِالقَضاءِ، وأصْلُ الأمْرِ لا يَقْتَضِي الفَوْرَ، ومَضَتِ السُّنَّةُ عَلى أنَّ قَضاءَ رَمَضانَ لا يَجِبُ فِيهِ الفَوْرُ بَلْ هو مُوَسَّعٌ إلى شَهْرِ شَعْبانَ مِنَ السَّنَةِ المُوالِيَةِ لِلشَّهْرِ الَّذِي أفْطَرَ فِيهِ، وفي الصَّحِيحِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِن رَمَضانَ فَما أسْتَطِيعُ أنْ أقْضِيَهُ إلّا في شَعْبانَ. وهَذا واضِحُ الدَّلالَةِ عَلى عَدَمِ وُجُوبِ الفَوْرِ، وبِذَلِكَ قالَ جُمْهُورُ العُلَماءِ وشَذَّ داوُدُ الظّاهِرِيُّ فَقالَ: يُشْرَعُ في قَضاءِ رَمَضانَ ثانِي يَوْمِ شَوّالٍ المُعاقِبِ لَهُ. وأمّا مَن أفْطَرَ مُتَعَمِّدًا في يَوْمٍ مِن أيّامِ قَضاءِ رَمَضانَ فالجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ لا كَفّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ الكَفّارَةَ شُرِعَتْ حِفْظًا لِحُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضانَ، ولَيْسَ لِأيّامِ القَضاءِ حُرْمَةٌ، وقالَ قَتادَةُ: تَجِبُ عَلَيْهِ الكَفّارَةُ بِناءً عَلى أنَّ قَضاءَ العِبادَةِ يُساوِي أصْلَهُ. * * * (p-١٦٦)﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعامِ مَساكِينَ﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] والمَعْطُوفُ بَعْضُ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَهو في المَعْنى كَبَدَلِ البَعْضِ؛ أيْ: وكُتِبَ عَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ؛ فَإنَّ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ بَعْضُ المُخاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] . والمُطِيقُ هو الَّذِي أطاقَ الفِعْلَ؛ أيْ: كانَ في طَوْقِهِ أنْ يَفْعَلَهُ، والطّاقَةُ أقْرَبُ دَرَجاتِ القُدْرَةِ إلى مَرْتَبَةِ العَجْزِ، ولِذَلِكَ يَقُولُونَ فِيما فَوْقَ الطّاقَةِ: هَذا ما لا يُطاقُ، وفَسَّرَها الفَرّاءُ بِالجَهْدِ - بِفَتْحِ الجِيمِ - وهو المَشَقَّةُ، وفي بَعْضِ رِواياتِ صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَرَأ: (وعَلى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فَلا يُطِيقُونَهُ) وهي تَفْسِيرٌ فِيما أحْسَبُ، وقَدْ صَدَرَ مِنهُ نَظائِرُ مِن هَذِهِ القِراءَةِ، وقِيلَ: الطّاقَةُ القُدْرَةُ مُطْلَقًا. فَعَلى تَفْسِيرِ الإطاقَةِ بِالجَهْدِ، فالآيَةُ مُرادٌ مِنها الرُّخْصَةُ عَلى مَن تَشْتَدُّ بِهِ مَشَقَّةُ الصَّوْمِ في الإفْطارِ والفِدْيَةِ. وقَدْ سَمَّوْا مِن هَؤُلاءِ الشَّيْخَ الهَرِمَ والمَرْأةَ المُرْضِعَ والحامِلَ، فَهَؤُلاءِ يُفْطِرُونَ ويُطْعِمُونَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُونَهُ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وأنَسِ بْنِ مالِكٍ والحَسَنِ البَصْرِيِّ وإبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ وهو مَذْهَبُ مالِكٍ والشّافِعِيِّ، ثُمَّ مَنِ اسْتَطاعَ مِنهُمُ القَضاءَ قَضى ومَن لَمْ يَسْتَطِعْهُ لَمْ يَقْضِ مِثْلَ الهَرِمِ، ووافَقَ أبُو حَنِيفَةُ في الفِطْرِ؛ إلّا أنَّهُ لَمْ يَرَ الفِدْيَةَ إلّا عَلى الهَرِمِ؛ لِأنَّهُ لا يَقْضِي بِخِلافِ الحامِلِ والمُرْضِعِ، ومَرْجِعُ الِاخْتِلافِ إلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ هَلْ هي لِأجْلِ الفِطْرِ أمْ لِأجْلِ سُقُوطِ القَضاءِ ؟ والآيَةُ تَحْتَمِلُهُما إلّا أنَّها في الأوَّلِ أظْهَرُ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ فِعْلُ السَّلَفِ، فَقَدَ كانَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ حِينَ هَرِمَ وبَلَغَ عَشْرًا بَعْدَ المِائَةِ يُفْطِرُ ويُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا خُبْزًا ولَحْمًا. وعَلى تَفْسِيرِ الطّاقَةِ بِالقُدْرَةِ فالآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلى الصَّوْمِ لَهُ أنْ يُعَوِّضَهُ بِالإطْعامِ، ولَمّا كانَ هَذا الحُكْمُ غَيْرَ مُسْتَمِرٍّ بِالإجْماعِ قالُوا في حَمْلِ الآيَةِ عَلَيْهِ: إنَّها حِينَئِذٍ تَضَمَّنَتْ حُكْمًا كانَ فِيهِ تَوْسِعَةٌ ورُخْصَةٌ ثُمَّ انْعَقَدَ الإجْماعُ عَلى نَسْخِهِ، وذَكَرَ أهْلُ النّاسِخِ والمَنسُوخِ أنَّ ذَلِكَ فُرِضَ في أوَّلِ الإسْلامِ لَمّا شَقَّ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥] ونُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وفي البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وسَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ (p-١٦٧)نَسَخَتْها آيَةُ شَهْرِ رَمَضانَ ثُمَّ أخْرَجَ عَنِ ابْنِ أبِي لَيْلى قالَ: حَدَّثَنا أصْحابُ مُحَمَّدٍ ﷺ: نَزَلَ رَمَضانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَكانَ مَن أطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مَن يُطِيقُهُ، ورُخِّصَ لَهم في ذَلِكَ، فَنَسَخَتْها ﴿وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، ورُوِيَتْ في ذَلِكَ آثارٌ كَثِيرَةٌ عَنِ التّابِعِينَ، وهو الأقْرَبُ مِن عادَةِ الشّارِعِ في تَدَرُّجِ تَشْرِيعِ التَّكالِيفِ الَّتِي فِيها مَشَقَّةٌ عَلى النّاسِ مِن تَغْيِيرِ مُعْتادِهِمْ كَما تَدَرَّجَ في تَشْرِيعِ مَنعِ الخَمْرِ، ونُلْحِقُ بِالهَرِمِ والمُرْضِعِ والحامِلِ كُلَّ مَن تَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ أوْ تَوَقُّعٌ ضُرٍّ مِثْلَهم، وذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأمْزِجَةِ واخْتِلافِ أزْمانِ الصَّوْمِ مِنِ اعْتِدالٍ أوْ شِدَّةِ بَرْدٍ أوْ حَرٍّ، وبِاخْتِلافِ أعْمالِ الصّائِمِ الَّتِي يَعْمَلُها لِاكْتِسابِهِ مِنَ الصَّنائِعِ كالصّائِغِ والحَدّادِ والحَمّامِيِّ وخِدْمَةِ الأرْضِ وسَيْرِ البَرِيدِ وحَمْلِ الأمْتِعَةِ وتَعْبِيدِ الطُّرُقاتِ والظِّئْرِ. وقَدْ فُسِّرَتِ الفِدْيَةُ بِالإطْعامِ إمّا بِإضافَةِ المُبَيَّنِ إلى بَيانِهِ كَما قَرَأ نافِعٌ وابْنُ ذَكْوانَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ وأبُو جَعْفَرٍ: (فِدْيَةُ طَعامِ مَساكِينَ) بِإضافَةِ فِدْيَةٍ إلى طَعامٍ، وقَرَأهُ الباقُونَ بِتَنْوِينِ ”فِدْيَةٌ“ وإبْدالِ ”طَعامُ“ مِن ”فِدْيَةٌ“ . وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وأبُو جَعْفَرَ: (مَساكِينَ) بِصِيغَةِ الجَمْعِ - جَمْعِ مِسْكِينٍ - وقَرَأهُ الباقُونَ بِصِيغَةِ المُفْرَدِ، والإجْماعُ عَلى أنَّ الواجِبَ إطْعامُ مِسْكِينٍ، فَقِراءَةُ الجَمْعِ مَبْنِيَّةٌ عَلى اعْتِبارِ جَمْعِ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ مِن مُقابَلَةِ الجَمْعِ بِالجَمْعِ، مِثْلَ: رَكِبَ النّاسُ دَوابَّهم، وقِراءَةُ الإفْرادِ اعْتِبارٌ بِالواجِبِ عَلى آحادِ المُفْطِرِينَ. والإطْعامُ هو ما يُشْبِعُ عادَةً مِنَ الطَّعامِ المُتَغَذّى بِهِ في البَلَدِ، وقَدَّرَهُ فُقَهاءُ المَدِينَةِ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيءِ ﷺ مِن بُرٍّ أوْ شَعِيرٍ أوْ تَمْرٍ. * * * ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهْوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ إلَخْ، والتَّطَوُّعُ: السَّعْيُ في أنْ يَكُونَ طائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ؛ أيْ: طاعَ طَوْعًا مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ. والخَيْرُ مَصْدَرُ خارَ إذا حَسُنَ وشَرُفَ وهو مَنصُوبٌ لِتَضْمِينِ تَطَوَّعَ مَعْنى أتى، أوْ يَكُونُ (خَيْرًا) صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: تَطَوُّعًا خَيْرًا. ولا شَكَّ أنَّ الخَيْرَ هُنا مُتَطَوَّعٌ بِهِ فَهو الزِّيادَةُ مِنَ الأمْرِ الَّذِي الكَلامُ بِصَدَدِهِ، وهو الإطْعامُ لا مَحالَةَ، وذَلِكَ إطْعامٌ غَيْرُ واجِبٍ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: فَمَن زادَ عَلى إطْعامِ (p-١٦٨)مِسْكِينٍ واحِدٍ فَهو خَيْرٌ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، أوْ أنْ يَكُونَ: مَن أرادَ الإطْعامَ مَعَ الصِّيامِ، قالَهُ ابْنُ شِهابٍ، وعَنْ مُجاهِدٍ: مَن زادَ في الإطْعامِ عَلى المُدِّ وهو بَعِيدٌ؛ إذْ لَيْسَ المُدُّ مُصَرَّحًا بِهِ في الآيَةِ، وقَدْ أطْعَمَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ خُبْزًا ولَحْمًا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ أفْطَرَهُ حِينَ شاخَ. و”خَيْرٌ“ الثّانِي في قَوْلِهِ: (فَهو خَيْرٌ لَهُ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كالأوَّلِ ويَكُونُ المُرادُ بِهِ خَيْرًا آخَرَ؛ أيْ: خَيْرَ الآخِرَةِ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ”خَيْرٌ“ الثّانِي تَفْضِيلًا؛ أيْ: فالتَّطَوُّعُ بِالزِّيادَةِ أفْضَلُ مِن تَرْكِها، وحَذَفَ المُفَضَّلَ عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ. * * * ﴿وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الظّاهِرُ رُجُوعُهُ لِقَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ فَإنْ كانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ نازِلًا في إباحَةِ الفِطْرِ لِلْقادِرِ فَقَوْلُهُ: ﴿وأنْ تَصُومُوا﴾ تَرْغِيبٌ في الصَّوْمِ وتَأْنِيسٌ بِهِ، وإنْ كانَ نازِلًا في إباحَتِهِ لِصاحِبِ المَشَقَّةِ كالهَرِمِ، فَكَذَلِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَرْجِعَ إلى قَوْلِهِ: ﴿ومَن كانَ مَرِيضًا﴾ [البقرة: ١٨٥] وما بَعْدَهُ، فَيَكُونُ تَفْضِيلًا لِلصَّوْمِ عَلى الفِطْرِ إلّا أنَّ هَذا في السَّفَرِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الأئِمَّةِ، ومَذْهَبُ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ الصَّوْمَ أفْضَلُ مِنَ الفِطْرِ وأمّا في المَرَضِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ بِحَسَبِ شِدَّةِ المَرَضِ. وقَوْلُهُ: (﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾) تَذْيِيلٌ؛ أيْ: تَعْلَمُونَ فَوائِدَ الصَّوْمِ عَلى رُجُوعِهِ لِقَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ إنْ كانَ المُرادُ بِهِمُ القادِرِينَ؛ أيْ: إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَوائِدَ الصَّوْمِ دُنْيا وثَوابَهُ أُخْرى، أوْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ثَوابَهُ عَلى الِاحْتِمالاتِ الأُخَرِ. وجِيءَ في الشَّرْطِ بِكَلِمَةِ (إنْ) لِأنَّ عِلْمَهم بِالأمْرَيْنِ مِن شَأْنِهِ ألّا يَكُونَ مُحَقَّقًا؛ لِخَفاءِ الفائِدَتَيْنِ.


ركن الترجمة

Fast a (fixed) number of days, but if someone is ill or is travelling (he should complete) the number of days (he had missed); and those who find it hard to fast should expiate by feeding a poor person. For the good they do with a little hardship is better for men. And if you fast it is good for you, if you knew.

pendant un nombre déterminé de jours. Quiconque d'entre vous est malade ou en voyage, devra jeûner un nombre égal d'autres jours. Mais pour ceux qui ne pourraient le supporter qu'(avec grande difficulté), il y a une compensation: nourrir un pauvre. Et si quelqu'un fait plus de son propre gré, c'est pour lui; mais il est mieux pour vous de jeûner; si vous saviez!

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :