موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الأربعاء 18 رمضان 1446 هجرية الموافق ل19 مارس 2025


الآية [189] من سورة  

يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا۟ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ وَأْتُوا۟ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَٰبِهَا وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ


ركن التفسير

189 - (يسألونك) يا محمد (عن الأهلة) جمع هلال ، لم تبدو دقيقة ثم تزيد حتى تمتلئ نورا ثم تعود كما بدت ولا تكون على حالة واحدة كالشمس (قل) لهم (هي مواقيت) جمع ميقات (للناس) يعلمون بها أوقات زرعهم ومتاجرهم وعدد نسائهم وصيامهم وإفطارهم (والحج) عطف على الناس أي يعلم بها وقته فلو استمرت على حالة لم يعرف ذلك (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) في الإحرام بأن تنقبوا فيها نقبا تدخلون منه وتخرجون وتتركوا الباب وكانوا يفعلون ذلك ويزعمونه برا (ولكن البر) أي ذا البر (من اتقى) الله بترك مخالفته (وأتوا البيوت من أبوابها) في الإحرام (واتقوا الله لعلكم تفلحون) تفوزون

قال العوفي عن ابن عباس سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة فنزلت هذه الآية "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية بلغنا أنهم قالوا يا رسول الله لم خلقت الأهلة؟ فأنزل الله "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" يقول جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وعدة نسائهم ومحل دينهم وكذا روي عن عطاء والضحاك وقتادة والسدي والربيع ابن أنس نحو ذلك وقال عبدالرزاق عن عبدالعزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما" ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن أبي رواد به وقال كان ثقة عابدا مجتهدا شريف النسب فهو صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعل الله الأهلة فإذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" وكذا روي من حديث أبي هريرة ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقوله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحق عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال: كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم لم يدخل الرجل من قبل بابه فنزلت هذه الآية قال الأعمش: عن أبي سفيان عن جابر كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر من الأنصار فقالوا يا رسول الله: إن قطبة بن عامر رجل تاجر وإنه خرج معك من الباب فقال له "ما حملك على ما صنعت" قال: رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت فقال: إني أحمس قال له: فإن ديني دينك. فأنزل الله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" رواه ابن أبي حاتم ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه وكذا روي عن مجاهد والزهري وقتادة وإبراهيم النخعي والسدي والربيع بن أنس وقال الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره لم يدخل البيت من بابه ولكن يتسوره من قبل ظهره فقال الله تعالى: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" الآية. وقال محمد بن كعب: كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت فأنزل الله هذه الآية. وقال عطاء بن أبي رباح: كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويرون أن ذلك أدنى إلى البر فقال الله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" ولا يرون أن ذلك أدنى إلى البر وقوله "واتقوا الله لعلكم تفلحون" أي اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه "لعلكم تفلحون" غدا إذا وقفتم بين يديه فيجازيكم على التمام والكمال.

﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هي مَواقِيتُ لِلنّاسِ والحَجِّ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ شَرائِعِ الأحْكامِ الرّاجِعَةِ إلى إصْلاحِ النِّظامِ، دَعا إلَيْهِ ما حَدَثَ مِنَ السُّؤالِ، فَقَدْ رَوى الواحِدِيُّ أنَّها نَزَلَتْ بِسَبَبِ أنَّ أحَدَ اليَهُودِ سَألَ أنْصارِيًّا عَنْ الأهِلَّةِ وأحْوالِها في الدِّقَّةِ إلى أنْ تَصِيرَ بَدْرًا ثُمَّ تَتَناقَصُ حَتّى تَخْتَفِيَ، فَسَألَ الأنْصارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، ويَظْهَرُ أنَّ نُزُولَها مُتَأخِّرٌ عَنْ نُزُولِ آياتِ فَرْضِ الصِّيامِ بِبِضْعِ سِنِينَ؛ لِأنَّ آيَةَ ﴿ولَيْسَ البِرُّ بِأنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِها﴾ مُتَّصِلَةٌ بِها. وسَيَأْتِي أنَّ تِلْكَ الآيَةَ نَزَلَتْ في عامِ الحُدَيْبِيَةِ أوْ عامِ عُمْرَةِ القَضِيَّةِ فَمُناسَبَةُ وضْعِها في هَذا المَوْضِعِ هي تَوْقِيتُ الصِّيامِ بِحُلُولِ شَهْرِ رَمَضانَ، فَكانَ مِنَ المُناسَبَةِ ذِكْرُ المَواقِيتِ لِإقامَةِ نِظامِ الجامِعَةِ الإسْلامِيَّةِ عَلى أكْمَلِ وجْهٍ. ومِن كَمالِ النِّظامِ ضَبْطُ الأوْقاتِ، ويَظْهَرُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ أيْضًا نَزَلَتْ بَعْدَ أنْ شُرِعَ الحَجُّ؛ أيْ: بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ هي مَواقِيتُ لِلنّاسِ والحَجِّ﴾ . وابْتُدِئَتِ الآيَةُ بِـ (يَسْألُونَكَ) لِأنَّ هُنالِكَ سُؤالًا واقِعًا عَنْ أمْرِ الأهِلَّةِ، وجَمِيعُ الآياتِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِـ (يَسْألُونَكَ) هي مُتَضَمِّنَةٌ لِأحْكامٍ وقَعَ السُّؤالُ عَنْها، فَيَكُونُ مَوْقِعُها في القُرْآنِ مَعَ آياتٍ تُناسِبُها نَزَلَتْ في وقْتِها أوْ قُرِنَتْ بِها. ورُوِيَ أنَّ الَّذِي سَألَهُ عَنْ ذَلِكَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ (p-١٩٤)وثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ الأنْصارِيُّ فَقالا: ما بالُ الهِلالِ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ يَزِيدُ حَتّى يَمْتَلِئَ ثُمَّ لا يَزالُ يَنْقُصُ حَتّى يَعُودَ كَما بَدَأ، قالَ العِراقِيُّ: لَمْ أقِفْ لِهَذا السَّبَبِ عَلى إسْنادٍ. وجَمَعَ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: (يَسْألُونَكَ) مَعَ أنَّ المَرْوِيَّ أنَّ الَّذِي سَألَهُ رَجُلانِ، نَظَرًا لِأنَّ المَسْئُولَ عَنْهُ يَهُمُّ جَمِيعَ السّامِعِينَ أثْناءَ تَشْرِيعِ الأحْكامِ؛ ولِأنَّ مِن تَمامِ ضَبْطِ النِّظامِ أنْ يَكُونَ المَسْئُولُ عَنْهُ قَدْ شاعَ بَيْنَ النّاسِ واسْتَشْرَفَ كَثِيرٌ مِنهم لِمَعْرِفَتِهِ، سَواءٌ في ذَلِكَ مَن سَألَ بِالقَوْلِ ومَن سَألَ نَفْسَهُ، وذَكَرَ فَوائِدَ خَلْقِ الأهِلَّةِ في هَذا المَقامِ لِلْإيماءِ إلى أنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْحَجِّ وقْتًا مِنَ الأشْهُرِ لا يَقْبَلُ التَّبْدِيلَ وذَلِكَ تَمْهِيدًا لِإبْطالِ ما كانَ في الجاهِلِيَّةِ مِنَ النَّسِيءِ في أشْهُرِ الحَجِّ في بَعْضِ السِّنِينَ. والسُّؤالُ: طَلَبَ أحَدٌ مِن آخَرَ بَذْلَ شَيْءٍ أوْ إخْبارًا بِخَبَرٍ، فَإذا كانَ طَلَبَ بَذْلٍ عُدِّيَ فِعْلُ السُّؤالِ بِنَفْسِهِ، وإذا كانَ طَلَبَ إخْبارٍ عُدِّيَ الفِعْلُ بِحَرْفِ (عَنْ) أوْ ما يَنُوبُ مَنابَهُ، وقَدْ تَكَرَّرَتْ في هَذِهِ السُّورَةِ آياتٌ مُفْتَتَحَةٌ بِـ (يَسْألُونَكَ) وهي سَبْعُ آياتٍ غَيْرُ بَعِيدٍ بَعْضُها مِن بَعْضٍ، جاءَ بَعْضُها غَيْرَ مَعْطُوفٍ بِحَرْفِ العَطْفِ وهي أرْبَعٌ، وبَعْضُها مَعْطُوفًا بِهِ وهي الثَّلاثُ الأواخِرُ مِنها، وأمّا غَيْرُ المُفْتَتَحَةِ بِحَرْفِ العَطْفِ فَلا حاجَةَ إلى تَبْيِينِ تَجَرُّدِها عَنِ العاطِفِ؛ لِأنَّها في اسْتِئْنافِ أحْكامٍ لا مُقارَنَةَ بَيْنَها وبَيْنَ مَضْمُونِ الجُمَلِ الَّتِي قَبْلَها فَكانَتْ جَدِيرَةً بِالفَصْلِ دُونَ عَطْفٍ، ولا يَتَطَلَّبُ لَها سِوى المُناسَبَةِ لِمَواقِعِها. وأمّا الجُمَلُ الثَّلاثُ الأواخِرُ المُفْتَتَحَةُ بِالعاطِفِ فَكُلُّ واحِدَةٍ مِنها مُشْتَمِلَةٌ عَلى أحْكامٍ لَها مَزِيدُ اتِّصالٍ بِمَضْمُونِ ما قَبْلَها، فَكانَ السُّؤالُ المَحْكِيُّ فِيها مِمّا شَأْنُهُ أنْ يَنْشَأ عَنِ الَّتِي قَبْلَها، فَكانَتْ حَقِيقِيَّةً بِالوَصْلِ بِحَرْفِ العَطْفِ كَما سَيَتَّضِحُ في مَواقِعِها. والسُّؤالُ عَنِ الأهِلَّةِ لا يَتَعَلَّقُ بِذَواتِها؛ إذِ الذَّواتُ لا يُسْألُ إلّا عَنْ أحْوالِها، فَيُعْلَمُ هُنا تَقْدِيرٌ وحَذْفٌ؛ أيْ: عَنْ أحْوالِ الأهِلَّةِ، فَعَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ السُّؤالِ واقِعًا بِها غَيْرَ مَفْرُوضٍ، فَهو يَحْتَمِلُ السُّؤالَ عَنِ الحِكْمَةِ ويَحْتَمِلُ السُّؤالَ عَنِ السَّبَبِ، فَإنْ كانَ عَنِ الحِكْمَةِ فالجَوابُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ هي مَواقِيتُ لِلنّاسِ﴾ جارٍ عَلى وفْقِ السُّؤالِ وإلى هَذا ذَهَبَ صاحِبُ الكَشّافِ، ولَعَلَّ المَقْصُودَ مِنَ السُّؤالِ حِينَئِذٍ اسْتِثْباتُ كَوْنِ المُرادِ الشَّرْعِيِّ مِنها مُوافِقًا لِما اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ؛ لِأنَّ كَوْنَها مَواقِيتَ لَيْسَ مِمّا يَخْفى حَتّى يُسْألَ عَنْهُ، فَإنَّهُ مُتَعارَفٌ لَهم، فَيَتَعَيَّنُ كَوْنُ المُرادِ مِن سُؤالِهِمْ إنْ كانَ واقِعًا هو تَحَقُّقُ المُوافَقَةِ لِلْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ. وإنْ كانَ السُّؤالُ عَنِ السَّبَبِ فالجَوابُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ هي مَواقِيتُ﴾ (p-١٩٥)غَيْرُ مُطابِقٍ لِلسُّؤالِ، فَيَكُونُ إخْراجًا لِلْكَلامِ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ بِصَرْفِ السّائِلِ إلى غَيْرِ ما يَتَطَلَّبُ، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ ما صُرِفَ إلَيْهِ هو المُهِمُّ لَهُ؛ لِأنَّهم في مَبْدَأِ تَشْرِيعٍ جَدِيدٍ، والمَسْئُولُ هو الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكانَ المُهِمُّ لَهم أنْ يَسْألُوهُ عَمّا يَنْفَعُهم في صَلاحِ دُنْياهم وأُخْراهم، وهو مَعْرِفَةُ كَوْنِ الأهِلَّةِ تَرَتَّبَتْ عَلَيْها آجالُ المُعامَلاتِ والعِباداتِ كالحَجِّ والصِّيامِ والعِدَّةِ، ولِذَلِكَ صَرَفَهم عَنْ بَيانِ مَسْئُولِهِمْ إلى بَيانِ فائِدَةٍ أُخْرى، لا سِيَّما والرَّسُولُ لَمْ يَجِئْ مُبَيِّنًا لِعِلَلِ اخْتِلافِ أحْوالِ الأجْرامِ السَّماوِيَّةِ، والسّائِلُونَ لَيْسَ لَهم مِن أُصُولِ مَعْرِفَةِ الهَيْئَةِ ما يُهَيِّئُهم إلى فَهْمِ ما أرادُوا عِلْمَهُ بِمُجَرَّدِ البَيانِ اللَّفْظِيِّ بَلْ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي تَعْلِيمَهم مُقَدِّماتٍ لِذَلِكَ العِلْمِ، عَلى أنَّهُ لَوْ تَعَرَّضَ صاحِبُ الشَّرِيعَةِ لِبَيانِهِ لَبَيَّنَ أشْياءَ مِن حَقائِقِ العِلْمِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهم ولا تَقْبَلُها عُقُولُهم يَوْمَئِذٍ، ولَكانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلى طَعْنِ المُشْرِكِينَ والمُنافِقِينَ بِتَكْذِيبِهِ، فَإنَّهم قَدْ أسْرَعُوا إلى التَّكْذِيبِ فِيما لَمْ يَطَّلِعُوا عَلى ظَواهِرِهِ كَقَوْلِهِمْ: ﴿هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكم إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [سبإ: ٧] ﴿أفْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ [سبإ: ٨]، وقَوْلِهِمْ: ﴿ما سَمِعْنا بِهَذا في المِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هَذا إلّا اخْتِلاقٌ﴾ [ص: ٧] وعَلَيْهِ فَيَكُونُ هَذا الجَوابُ بِقَوْلِهِ: ﴿هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ والحَجِّ﴾ تَخْرِيجًا لِلْكَلامِ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ؛ أنْشُدُهُ في المِفْتاحِ ولَمْ يَنْسُبْهُ ولَمْ أقِفْ عَلى قائِلِهِ ولَمْ أرَهُ في غَيْرِهِ: ؎أتَتْ تَشْتَكِي مِنِّي مُزاوَلَةَ القِرى وقَدْ رَأتِ الأضْيافُ يَنْحَوْنَ مَنزِلِي ؎فَقُلْتُ لَها لَمّا سَمِعْتُ كَلامَها ∗∗∗ هُمُ الضَّيْفُ جِدِّي في قِراهِمْ وعِجِّلِي وإلى هَذا نَحا صاحِبُ المِفْتاحِ وكَأنَّهُ بَناهُ عَلى أنَّهم لا يُظَنُّ بِهِمُ السُّؤالُ عَنِ الحِكْمَةِ في خَلْقِ الأهِلَّةِ: لِظُهُورِها، وعَلى أنَّ الوارِدَ في قِصَّةِ مُعاذٍ وثَعْلَبَةَ يُشْعِرُ بِأنَّهُما سَألا عَنِ السَّبَبِ إذْ قالا: ما بالُ الهِلالِ يَبْدُو دَقِيقًا إلَخْ. والأهِلَّةُ: جَمْعُ هِلالٍ، وهو القَمَرُ في أوَّلِ اسْتِقْبالِهِ الشَّمْسَ كُلَّ شَهْرٍ قَمَرِيٍّ في اللَّيْلَةِ الأُولى والثّانِيَةِ، قِيلَ: والثّالِثَةُ، ومَن قالَ إلى السَّبْعِ فَإنَّما أرادَ الحِجازَ؛ لِأنَّهُ يُشْبِهُ الهِلالَ، ويُطْلَقُ الهِلالُ عَلى القَمَرِ لَيْلَةَ سِتٍّ وعِشْرِينَ، وسَبْعٍ وعِشْرِينَ؛ لِأنَّهُ في قَدْرِ الهِلالِ في أوَّلِ الشَّهْرِ، وإنَّما سُمِّيَ الهِلالُ هِلالًا؛ لِأنَّ النّاسَ إذا رَأوْهُ رَفَعُوا أصْواتَهم بِالإخْبارِ عَنْهُ يُنادِي بَعْضُهم بَعْضًا لِذَلِكَ، وإنَّ هَلَّ وأهَلَّ بِمَعْنى رَفَعَ صَوْتَهُ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] . (p-١٩٦)وقَوْلُهُ: ﴿مَواقِيتُ لِلنّاسِ﴾ أيْ: مَواقِيتُ لِما يُوَقَّتُ مِن أعْمالِهِمْ، فاللّامُ لِلْعِلَّةِ؛ أيْ: لِفائِدَةِ النّاسِ، وهو عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ، أيْ: لِأعْمالِ النّاسِ، ولَمْ تُذْكَرِ الأعْمالُ المُوَقَّتَةُ بِالأهِلَّةِ لِيَشْمَلَ الكَلامُ كُلَّ عَمَلٍ مُحْتاجٍ إلى التَّوْقِيتِ، وعَطَفَ الحَجَّ عَلى النّاسِ مَعَ اعْتِبارِ المَحْذُوفِ مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ لِلِاهْتِمامِ بِهِ. واحْتِياجُ الحَجِّ لِلتَّوْقِيتِ ضَرُورِيٌّ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُوَقَّتْ لَجاءَ النّاسُ لِلْحَجِّ مُتَخالِفِينَ فَلَمْ يَحْصُلِ المَقْصُودُ مِنِ اجْتِماعِهِمْ، ولَمْ يَجِدُوا ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ في أسْفارِهِمْ وحُلُولِهِمْ بِمَكَّةَ وأسْواقِها؛ بِخِلافِ الصَّلاةِ فَلَيْسَتْ مُوَقَّتَةً بِالأهِلَّةِ، وبِخِلافِ الصَّوْمِ فَإنَّ تَوْقِيتَهُ بِالهِلالِ تَكْمِيلِيٌّ لَهُ؛ لِأنَّهُ عِبادَةٌ مَقْصُورَةٌ عَلى الذّاتِ فَلَوْ جاءَ بِها المُنْفَرِدُ لَحَصَلَ المَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ، ولَكِنْ شُرِعَ فِيهِ تَوْحِيدُ الوَقْتِ لِيَكُونَ أخَفَّ عَلى المُكَلَّفِينَ، فَإنَّ الصَّعْبَ يَخِفُّ بِالِاجْتِماعِ ولِيَكُونَ حالُهم في تِلْكَ المُدَّةِ مُماثِلًا، فَلا يَشُقُّ أحَدٌ عَلى آخَرَ في اخْتِلافِ أوْقاتِ الأكْلِ والنَّوْمِ ونَحْوِهِما. والمَواقِيتُ جَمْعُ مِيقاتٍ، والمِيقاتُ جاءَ بِوَزْنِ اسْمِ الآلَةِ مِن وقَّتَ، وسَمّى العَرَبُ بِهِ الوَقْتَ، وكَذَلِكَ سُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا مُشْتَقًّا مِنَ الشُّهْرَةِ؛ لِأنَّ الَّذِي يَرى هِلالَ الشَّهْرِ يُشْهِرُهُ لَدى النّاسِ. وسَمّى العَرَبُ الوَقْتَ المُعَيَّنَ مِيقاتًا كَأنَّهُ مُبالَغَةٌ، وإلّا فَهو الوَقْتُ عَيْنُهُ، وقِيلَ: المِيقاتُ أخَصُّ مِنَ الوَقْتِ؛ لِأنَّهُ وقْتٌ قُدِّرَ فِيهِ عَمَلٌ مِنَ الأعْمالِ، قُلْتُ: فَعَلَيْهِ يَكُونُ صَوْغُهُ بِصِيغَةِ اسْمِ الآلَةِ اعْتِبارًا بِأنَّ ذَلِكَ العَمَلَ المُعَيَّنَ يَكُونُ وسِيلَةً لِتَحْدِيدِ الوَقْتِ، فَكَأنَّهُ آلَةٌ لِلضَّبْطِ والِاقْتِصارِ عَلى الحَجِّ دُونَ العُمْرَةِ؛ لِأنَّ العُمْرَةَ لا وقْتَ لَها فَلا تَكُونُ لِلْأهِلَّةِ فائِدَةٌ في فِعْلِها. ومَجِيءُ ذِكْرِ الحَجِّ في هاتِهِ الآيَةِ، وهي مِن أوَّلِ ما نَزَلَ بِالمَدِينَةِ، ولَمْ يَكُنِ المُسْلِمُونَ يَسْتَطِيعُونَ الحَجَّ؛ لِأنَّ المُشْرِكِينَ يَمْنَعُونَهم، إشارَةً إلى أنَّ وُجُوبَ الحَجِّ ثابِتٌ، ولَكِنَّ المُشْرِكِينَ حالُوا دُونَ المُسْلِمِينَ ودُونَهُ. وسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ﴾ [آل عمران: ٩٧] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ وعِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧] في هَذِهِ السُّورَةِ. * * * (p-١٩٧)﴿ولَيْسَ البِرُّ بِأنْ تَأْتُوا البِيُوتَ مِن ظُهُورِها ولَكِنِ البِرُّ مَنِ اتَّقى وأْتُوا البِيُوتَ مِن أبْوابِها واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى (يَسْألُونَكَ) ولَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ ﴿هِيَ مَواقِيتُ﴾ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمّا سَألُوا عَنْهُ حَتّى يَكُونَ مَقُولًا لِلْمُجِيبِ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الجُمْلَةِ لِلَّتِي قَبْلَها أنَّ سَبَبَ نُزُولِها كانَ مُوالِيًا أوْ مُقارِنًا لِسَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها، وأنَّ مَضْمُونَ كِلْتا الجُمْلَتَيْنِ كانَ مُثارَ تَرَدُّدٍ وإشْكالٍ عَلَيْهِمْ مِن شَأْنِهِ أنْ يُسْألَ عَنْهُ، فَكانُوا إذا أحْرَمُوا بِالحَجِّ أوِ العُمْرَةِ مِن بِلادِهِمْ جَعَلُوا مِن أحْكامِ الإحْرامِ ألّا يَدْخُلَ المُحْرِمُ بَيْتَهُ مِن بابِهِ أوْ لا يَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ السَّماءِ، وكانَ المُحْرِمُونَ إذا أرادُوا أخْذَ شَيْءٍ مِن بُيُوتِهِمْ تَسَنَّمُوا عَلى ظُهُورِ البُيُوتِ أوِ اتَّخَذُوا نَقْبًا في ظُهُورِ البُيُوتِ إنْ كانُوا مَن أهْلِ المَدَرِ، وإنْ كانُوا مِن أهْلِ الخِيامِ دَخَلُوا خَلْفَ الخَيْمَةِ، وكانَ الأنْصارُ يَدِينُونَ بِذَلِكَ، وأمّا الحُمْسُ فَلَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ هَذا، والحُمْسُ جَمْعُ أحْمَسَ، والأحْمَسُ المُتَشَدِّدُ بِأمْرِ الدِّينِ لا يُخالِفُهُ، وهم: قُرَيْشٌ. وكِنانَةُ. وخُزاعَةُ. وثَقِيفٌ. وجُشْمٌ. وبَنُو نَصْرِ بْنِ مُعاوِيَةَ. ومُدْلِجٌ. وعَدْوانُ. وعَضَلٌ. وبَنُو الحارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنافٍ، وبَنُو عامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وكُلُّهم مِن سُكّانِ مَكَّةَ وحَرَّمَها ما عَدا بَنِي عامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَإنَّهم تَحَمَّسُوا لِأنَّ أُمَّهم قُرَشِيَّةٌ، ومَعْنى نَفْيِ البِرِّ عَنْ هَذا: نَفْيٌ أنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا أوْ مِنَ الحَنِيفِيَّةِ، وإنَّما لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا؛ لِأنَّهُ غُلُوٌّ في أفْعالِ الحَجِّ، فَإنَّ الحَجَّ وإنِ اشْتَمَلَ عَلى أفْعالٍ راجِعَةٍ إلى تَرْكِ التَّرَفُّهِ عَنِ البَدَنِ كَتَرْكِ المَخِيطِ وتَرْكِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ إلّا أنَّهُ لَمْ يَكُنِ المَقْصِدُ مِن تَشْرِيعِهِ إعْناتَ النّاسِ بَلْ إظْهارَ التَّجَرُّدِ وتَرْكَ التَّرَفُّهِ، ولِهَذا لَمْ يَكُنِ الحُمْسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؛ لِأنَّهم أقْرَبُ إلى دِينِ إبْراهِيمَ، فالنَّفْيُ في قَوْلِهِ: ﴿ولَيْسَ البِرُّ﴾ نَفْيُ جِنْسِ البِرِّ عَنْ هَذا الفِعْلِ بِخِلافِ قَوْلِهِ المُتَقَدِّمِ: ﴿لَيْسَ البِرُّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ [البقرة: ١٧٧] والقَرِينَةُ هُنا هي قَوْلُهُ: ﴿وأْتُوا البُيُوتَ مِن أبْوابِها﴾ ولَمْ يَقُلْ هُنالِكَ: واسْتَقْبِلُوا أيَّةَ جِهَةٍ شِئْتُمْ، والمَقْصُودُ مِنَ الآيَتَيْنِ إظْهارُ البِرِّ العَظِيمِ وهو ما ذُكِرَ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِدْراكِ في الآيَتَيْنِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمّا نَفى عَنْهُ البِرَّ، وهَذا هو مَناطُ الشَّبَهِ والِافْتِراقِ بَيْنَ الآيَتَيْنِ. رَوى الواحِدِيُّ في أسْبابِ النُّزُولِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ أهَّلَ عامَ الحُدَيْبِيَةِ مِنَ المَدِينَةِ وأنَّهُ دَخَلَ بَيْتًا وأنَّ أحَدًا مِنَ الأنْصارِ قِيلَ: اسْمُهُ قُطْبَةُ بْنُ عامِرٍ وقِيلَ: رِفاعَةُ بْنُ تابُوتٍ (p-١٩٨)كانَ دَخَلَ ذَلِكَ البَيْتَ مِن بابِهِ اقْتِداءً بِرَسُولِ اللَّهِ فَقالَ لَهُ النَّبِيءُ ﷺ: «لِمْ دَخَلْتَ وأنْتَ قَدْ أحْرَمْتَ ؟ فَقالَ لَهُ الأنْصارِيُّ: دَخَلْتَ أنْتَ فَدَخَلْتُ بِدُخُولِكَ، فَقالَ لَهُ النَّبِيءُ ﷺ: إنِّي أحْمَسُ فَقالَ لَهُ الأنْصارِيُّ: وأنا دِينِي عَلى دِينِكَ رَضِيتُ بِهَدْيِكَ» فَنَزَلَتِ الآيَةُ، فَظاهِرُ هَذِهِ الرِّواياتِ أنَّ الرَّسُولَ نَهى غَيْرَ الحُمْسِ عَنْ تَرْكِ ما كانُوا يَفْعَلُونَهُ حَتّى نَزَلَتِ الآيَةُ في إبْطالِهِ، وفي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ السُّدِّيِّ ما يُخالِفُ ذَلِكَ، وهو «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ دَخَلَ بابًا وهو مُحْرِمٌ وكانَ مَعَهُ رَجُلٌ مِن أهْلِ الحِجازِ» فَوَقَفَ الرَّجُلُ وقالَ: إنِّي أحْمَسُ، فَقالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ: وأنا أحْمَسُ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ، فَهَذِهِ الرِّوايَةُ تَقْتَضِي أنَّ النَّبِيءَ أعْلَنَ إبْطالَ دُخُولِ البُيُوتِ مِن ظُهُورِها وأنَّ الحُمْسَ هُمُ الَّذِينَ كانُوا يَدْخُلُونَ البُيُوتَ مِن ظُهُورِها، وأقُولُ: الصَّحِيحُ مِن ذَلِكَ ما رَواهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ، عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ قالَ: كانَتِ الأنْصارُ إذا حَجُّوا فَجاءُوا لا يَدْخُلُونَ مِن أبْوابِ بُيُوتِهِمْ ولَكِنْ مِن ظُهُورِها فَجاءَ رَجُلٌ فَدَخَلَ مِن بابِهِ فَكَأنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، ورِوايَةُ السُّدِّيِّ وهْمٌ، ولَيْسَ في الصَّحِيحِ ما يَقْتَضِي أنَّ رَسُولَ اللَّهِ أمَرَ بِذَلِكَ ولا يُظَنُّ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنهُ، وسِياقُ الآيَةِ يُنافِيهِ. وقَوْلُهُ: ﴿ولَكِنِ البِرُّ مَنِ اتَّقى﴾ القَوْلُ فِيهِ كالقَوْلِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَكِنِ البِرُّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [البقرة: ١٧٧] . و(اتَّقى) فِعْلٌ مُنَزَّلٌ مَنزِلَةَ اللّازِمِ؛ لِأنَّ المُرادَ بِهِ مَنِ اتَّصَفَ بِالتَّقْوى الشَّرْعِيَّةِ بِامْتِثالِ المَأْمُوراتِ واجْتِنابِ المَنهِيّاتِ. وجَرُّ ﴿بِأنْ تَأْتُوا﴾ بِالباءِ الزّائِدَةِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ بِلَيْسَ، ومُقْتَضى تَأْكِيدِ النَّفْيِ أنَّهم كانُوا يَظُنُّونَ أنَّ هَذا المَنفِيَّ - مِنَ البِرِّ ظَنًّا قَوِيًّا، فَلِذَلِكَ كانَ مُقْتَضى حالِهِمْ أنْ يُؤَكَّدَ نَفْيُ هَذا الظَّنِّ. وقَوْلُهُ: ﴿وأْتُوا البُيُوتَ مِن أبْوابِها﴾ مَعْطُوفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ولَيْسَ البِرُّ﴾ عَطْفَ الإنْشاءِ عَلى الخَبَرِ الَّذِي هو في مَعْنى الإنْشاءِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَيْسَ البِرُّ﴾ [البقرة: ١٧٧] في مَعْنى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، فَكانَ كَعَطْفِ أمْرٍ عَلى نَهْيٍ. وهَذِهِ الآيَةُ يَتَعَيَّنُ أنْ تَكُونَ نَزَلَتْ في سَنَةَ خَمْسٍ حِينَ أزْمَعَ النَّبِيءُ ﷺ الخُرُوجَ إلى العُمْرَةِ في ذِي القِعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الهِجْرَةِ، والظّاهِرُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَوى أنْ يَحُجَّ (p-١٩٩)بِالمُسْلِمِينَ إنْ لَمْ يَصُدَّهُ المُشْرِكُونَ، فَيُحْتَمَلُ أنَّها نَزَلَتْ في ذِي القِعْدَةِ أوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (البِيُوتَ) في المَوْضِعَيْنِ في الآيَةِ بِكَسْرِ الباءِ عَلى خِلافِ صِيغَةِ جَمْعِ فَعْلٍ عَلى فُعُولٍ، فَهي كَسْرَةٌ لِمُناسَبَةِ وُقُوعِ الياءِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَ حَرَكَةِ الضَّمِّ لِلتَّخْفِيفِ كَما قَرَءُوا: (عِيُونَ)، وقَرَأهُ أبُو عَمْرٍو ووَرْشٌ، عَنْ نافِعٍ وحَفْصٌ، عَنْ عاصِمٍ وأبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الباءِ عَلى أصْلِ صِيغَةِ الجَمْعِ مَعَ عَدَمِ الِاعْتِدادِ بِبَعْضِ الثِّقَلِ؛ لِأنَّهُ لا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الثِّقَلِ المُوجِبِ لِتَغْيِيرِ الحَرَكَةِ، قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في العَواصِمِ: والَّذِي أخْتارُهُ لِنَفْسِي إذا قَرَأْتُ أكْسِرُ الحُرُوفَ المَنسُوبَةَ إلى قالُونَ إلّا الهَمْزَةَ فَإنِّي أتْرُكُهُ أصْلًا إلّا فِيما يُحِيلُ المَعْنى أوْ يُلْبِسُهُ ولا أكْسِرُ باءَ (بُيُوتٍ) ولا عَيْنَ (عُيُونٍ)، وأطالَ بِما في بَعْضِهِ نَظَرٌ، وهَذا اخْتِيارٌ لِنَفْسِهِ بِتَرْجِيحِ بَعْضِ القِراءاتِ المَشْهُورَةِ عَلى بَعْضٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ خِلافُ القُرّاءِ في نَصْبِ (البِرِّ) مِن قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ البِرُّ﴾ [البقرة: ١٧٧] وفي تَشْدِيدِ نُونِ (لَكِنَّ) مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنِ البِرُّ﴾ . وقَوْلُهُ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ أيْ: تَظْفَرُونَ بِمَطْلَبِكم مِنَ البِرِّ؛ فَإنَّ البِرَّ في اتِّباعِ الشَّرْعِ، فَلا تَفْعَلُوا شَيْئًا إلّا إذا كانَ فِيهِ مَرْضاةَ اللَّهِ ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ المُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ زادُوا في الحَجِّ ما لَيْسَ مِن شَرْعِ إبْراهِيمَ وقَدْ قِيلَ في تَفْسِيرِ الآيَةِ وُجُوهٌ واحْتِمالاتٌ أُخْرى كُلُّها بَعِيدَةٌ، فَقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولَيْسَ البِرُّ﴾ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِما كانُوا يَأْتُونَهُ مِنَ النَّسِيءِ، قالَهُ أبُو مُسْلِمٍ وفِيهِ بُعْدٌ حَقِيقَةً ومَجازًا ومَعْنًى؛ لِأنَّ الآياتِ خِطابٌ لِلْمُسْلِمِينَ وهُمُ الَّذِينَ سَألُوا عَنِ الأهِلَّةِ، والنَّسِيءُ مِن أحْوالِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ؛ ولِأنَّهُ يَئُولُ إلى اسْتِعارَةٍ غَيْرِ رَشِيقَةٍ، وقِيلَ: مَثَلٌ ضُرِبَ لِسُؤالِهِمْ عَنِ الأهِلَّةِ مَن لا يَعْلَمُ، وأمَرَهم بِتَفْوِيضِ العِلْمِ إلى اللَّهِ وهو بَعِيدٌ جِدًّا لِحُصُولِ الجَوابِ مِن قَبْلُ، وقِيلَ: كانُوا يَنْذِرُونَ إذا تَعَسَّرَ عَلَيْهِمْ مَطْلُوبُهم ألّا يَدْخُلُوا بُيُوتَهم مِن أبْوابِها فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وهَذا بَعِيدٌ مَعْنًى؛ لِأنَّ الكَلامَ مَعَ المُسْلِمِينَ وهم لا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وسَنَدًا؛ إذْ لَمْ يَرْوِ أحَدٌ أنَّ هَذا سَبَبُ النُّزُولِ.


ركن الترجمة

They ask you of the new moons. Say: "These are periods set for men (to reckon) time, and for pilgrimage." Piety does not lie in entering the house through the back door, for the pious man is he who follows the straight path. Enter the house through the main gate, and obey God. You may haply find success.

Ils t'interrogent sur les nouvelles lunes - Dis: «Elles servent aux gens pour compter le temps, et aussi pour le hajj [pèlerinage]. Et ce n'est pas un acte de bienfaisance que de rentrer chez vous par l'arrière des maisons. Mais la bonté pieuse consiste à craindre Allah. Entrez donc dans les maisons par leurs portes. Et craignez Allah, afin que vous réussissiez!

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :