ركن التفسير
196 - (وأتموا الحج والعمرة لله) أدوهما بحقوقهما (فإن أُحصِرتم) منعتم عن إتمامها بعدو (فما استيسر) تيسر (من الهدي) عليكم وهو شاة (ولا تحلقوا رؤوسكم) أي لا تتحللوا (حتى يبلغ الهدي) المذكور (محله) حيث يحل ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعي فيذبح فيه بنية التحلل ويُفَرَّق على مساكينه ويحلق وبه يحصل التحلل (فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه) كقمل وصداع فحلق في الإحرام (ففدية) عليه (من صيام) الثلاثة أيام (أو صدقة) بثلاثة آصع من غالب قوت البلد على ستة مساكين (أو نسك) أي ذبح شاة وأو للتخيير وألحق به من حلق لغير عذر لأنه أولى بالكفارة ، وكذا من استمتع بغير الخلق كالطيب واللبس والدهن لعذر أو غيره (فإذا أمنتم) العدو بأن ذهب أو لم يكن (فمن تمتع) استمتع (بالعمرة) أي بسبب فراغه منها بمحظورات الإحرام (إلى الحج) أي إلى الإحرام به بأن يكون أحرم بها في أشهره (فما استيسر) تيسر (من الهدي) عليه وهو شاة يذبحها بعد الإحرام به والأفضل يوم النحر (فمن لم يجد) الهدي لفقده أو فقد ثمنه (فصيام) أي فعليه صيام (ثلاثة أيام في الحج) أي في حال الإحرام به فيجب حينئذ أن يحرم قبل السابع من ذي الحجة والأفضل قبل السادس لكراهة صوم يوم عرفة ولا يجوز صومها أيام التشريق على أصح قولي الشافعي (وسبعة إذا رجعتم) إلى وطنكم مكة أو غيرها وقيل إذا فرغتم من أعمال الحج وفيه التفات عن الغيبة (تلك عشَرَة كاملة) جملة تأكيد لما قبلها. (ذلك) الحكم المذكور من وجوب الهدي أو الصيام على من تمتع (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) بأن لم يكونوا على دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي فإن كان فلا دمَ عليه ولا صيام وإن تمتع. وفي ذكر الأهل إشعار باشتراط الاستيطان ، فلو أقام قبل أشهر الحج ولم يستوطن أو تمتع فعليه ذلك وهو أحد وجهين عند الشافعي والثاني لا ، والأهل كناية عن النفس وألحق بالمتمتع فيما ذكر بالسنة القارن وهو من أحرم بالعمرة والحج معا أو يدخل الحج عليها قبل الطواف (واتقوا الله) فيما يأمركم به وينهاكم عنه (واعلموا أن الله شديد العقاب) لمن خالفه
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد شرع في بيان المناسك فأمر بإتمام الحج والعمرة وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما. ولهذا قال بعده فإن أحصرتم أي صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها كما هما قولان للعلماء وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا الأحكام مستقصى ولله الحمد والمنة. وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة عن علي أنه قال في هذه الآية "وأتموا الحج والعمرة لله" قال: أن تحرم من دويرة أهلك. وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية: إتمامهما أن تحرم من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة وتهل من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة حتى إذا كنت قريبا من مكة قلت لو حججت أو اعتمرت وذلك يجزئ ولكن التمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره. وقال مكحول: إتمامهما إنشاؤهما جميعا من الميقات. وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري قال بلغنا أن عمر قال في قول الله "وأتموا الحج والعمرة للّه" من تمامهما أن تفرد كل واحد منهما من الآخر وأن تعتمر في غير أشهر الحج إن الله تعالى يقول "الحج أشهر معلومات". وقال هشام عن ابن عون: سمعت القاسم بن محمد يقول إن العمرة في أشهر الحج ليست بتمامه فقيل له فالعمرة في المحرم؟ قال: كانوا يرونها تامة. وكذا روي عن قتادة بن دعامة رحمهما الله وهذا القول فيه نظر لأنه قد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معا في ذي القعدة سنة عشر وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته ولكن قال لأم هانئ "عمرة في رمضان تعدل حجة معي" وما ذاك إلا لأنها قد عزمت على الحج معه عليه السلام فاعتاقت عن ذلك بسبب الطهر كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري ونص سعيد بن جبير على أنه من خصائصها والله أعلم. وقال السدي في قوله "وأتموا الحج والعمرة للّه" أي أقيموا الحج والعمرة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "وأتموا الحج والعمرة للّه" يقول من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل. وقال قتادة عن زرارة عن ابن عباس أنه قال: الحج عرفة والعمرة الطواف. وكذا روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله "وأتموا الحج والعمرة للّه" قال هي قراءة عبدالله وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لا يجاوز بالعمرة البيت. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: كذلك قال ابن عباس. وقال سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه قال: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت. وكذا روى الثوري أيضا عن إبراهيم عن منصور عن إبراهيم أنه قرأ: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت. وقرأ الشعبي "وأتموا الحج والعمرة للّه" برفع العمرة وقال ليست بواجبة. وروي عنه خلاف ذلك. وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة عن أنس وجماعة من الصجابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع في إحرامه بحج وعمرة. وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه: "من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة". وقال في الصحيح أيضا "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة". وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثا غريبا فقال: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو عبدالله الهروي حدثنا غسان الهروي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عطاء عن صفوان بن أمية أنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - متضمخ بالزعفران عليه جبة فقال: كيف تأمرنى يا رسول الله في عمرتي؟ قال فأنزل الله "وأتموا الحج والعمرة للّه" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أين السائل عن العمرة" فقال ها أنا ذا. فقال له "ألق عنك ثيابك ثم اغتسل استنشق ما استطعت ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك" هذا حديث غريب وسياق عجيب والذي ورد في الصحيحين عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة فقال كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وخلوق فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جاءه الوحي ثم رفع رأسه فقال: "أين السائل؟" فقال: ها أنا ذا فقال "أما الجبة فانزعها وأما الطيب الذي بك فاغسله ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك" ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق ولا ذكر نزول هذه الآية وهو عن يعلى بن أمية لا صفوان بن أمية فالله أعلم. وقوله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ذكروا. أن هذه الآية نزلت في سنة ست أي عام الحديبية حين حال المشركون بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الوصول إلى البيت وأنزل الله في ذلك سورة الفتح بكمالها وأنزل لهم رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة وأن يحلقوا رءوسهم وأن يتحللوا من إحرامهم فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رءوسهم وأن يتحللوا فلم يفعلوا انتظارا للنسخ حتى خرج فحلق رأسه ففعل الناس وكان منهم من قصر رأسه ولم يحلقه فلذلك قال - صلى الله عليه وسلم - "رحم الله المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ فقال: في الثالثة "والمقصرين" وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك كل سبعة في بدنة وكانوا ألفا وأربعمائة وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم وقيل بل كانوا على طرف الحرم فالله أعلم. ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو فلا يتحلل إلا من حصره عدو لا مرض ولا غيره على قولين. فقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيد المقري حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس وابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس وابن أبي نجيح عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء إنما قال الله تعالى فإذا أمنتم فليس الأمن حصرا قال: وروي عن ابن عمر وطاوس والزهري وزيد بن أسلم نحو ذلك. والقول الثاني: أن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال وهو التوهان عن الطريق أو نحو ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حجاج بن الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "من كسر أو وجع أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى" قال: فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق. وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير به وفي رواية لأبي داود وابن ماجه من "عرج أو كسر أو مرض" فذكر معناه. ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة عن إسماعيل بن علية عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف به ثم قال: وروي عن ابن مسعود وابن الزبير وعلقمة وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ومجاهد والنخعي وعطاء ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: الإحصار من عدو أو مرض أو كسر وقال الثوري: الإحصار من كل شيء آذاه. وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني" ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القول بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث قال البيهقي وغيره من الحفاظ وقد صح وللّه الحمد. وقوله "فما استيسر من الهدي" قال الإمام مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول "فما استيسر من الهدي" شاة. وقال ابن عباس الهدي من الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والمعز والضأن. وقال الثوري عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله "فما استيسر من الهدي" قال شاة. وكذا قال عطاء ومجاهد وطاوس وأبو العالية ومحمد بن علي بن الحسين وعبدالرحمن بن القاسم والشعبي والنخعي والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم مثل ذلك وهو مذهب الأئمة الأربعة: وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر قال وروي عن سالم والقاسم وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير نحو ذلك "قلت" والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة وإنما ذبحوا الإبل والبقر ففي الصحيحين عن جابر قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس في قوله "فما استيسر من الهدي" قال بقدر يسارته وقال العوفي عن ابن عباس: إن كان موسرا فمن الإبل وإلا فمن البقر وإلا فمن الغنم وقال هشام بن عروة عن أبيه "فما استيسر من الهدي" قال إنما ذلك فيما بين الرخص والغلاء والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشاة في الإحصار أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي أي مهما تيسر مما يسمى هديا والهدي من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم. كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن وابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة غنما. وقوله "ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله" معطوف على قوله "وأتموا الحج والعمرة للّه" وليس معطوفا على قوله "فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي" كما زعمه ابن جرير رحمه الله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق "حتى يبلغ الهدي محله" ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارنا أو من فعل أحدهما إن كان مفردا أو متمتعا كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: "إنى لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر". وقوله "فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك". قال البخاري: حدثنا آدم حدثنا شعبة عن عبدالرحمن بن الأصبهاني سمعت عبدالله بن معقل قال: قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد يعني مسجد الكوفة فسألته عن فدية من صيام فقال: حملت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي فقال "ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا أما تجد شاة" قلت: لا. قال: "صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك" فنزلت في خاصة وهي لكم عامة. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن مجاهد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: أتى علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر والقمل يتناثر على وجهي أو قال حاجبي فقال "يؤذيك هوام رأسك؟" قلت نعم. قال: "فاحلقه وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة" قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ. وقال أحمد أيضا: حدثنا هشام حدثنا أبو بشر عن مجاهد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ونحن محرمون وقد حصره المشركون وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تساقط على وجهي فمر علي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أيؤذيك هوام رأسك" فأمره أن يحلق قال ونزلت هذه الآية فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك. وكذا رواه عثمان عن شعبة عن أبي بشر وهو جعفر بن إياس به وعن شعبة عن الحكم عن عبدالرحمن بن أبي ليلى به وعن شعبة عن داود عن الشعبي عن كعب بن عجرة نحوه ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس عن مجاهد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة فذكر نحوه. وقال سعد بن إسحق بن كعب بن عجرة عن أبان بن صالح عن الحسن البصري أنه سمع كعب بن عجرة يقول: فذبحت شاة ورواه ابن مردويه وروي أيضا من حديث عمر بن قيس وهو ضعيف عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "النسك شاة والصيام ثلاثة أيام والطعام فرق بين ستة" وكذا روي عن علي ومحمد بن كعب وعلقمة وإبراهيم ومجاهد وعطاء والسدي والربيع بن أنس. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبدالأعلى أخبرنا عبدالله بن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن عبدالكريم بن مالك الجزري عن مجاهد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذاه القمل في رأسه فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلق رأسه وقال "صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل إنسان أو انسك شاة أي ذلك فعلت أجزأ عنك" وهكذا روى ابن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس في قوله "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال إذا كان أو فأيه أخذت أجزأ عنك. قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وعكرمة وعطاء وطاوس والحسن وحميد الأعرج وإبراهيم النخعي والضحاك نحو ذلك "قلت" وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام إن شاء صام وإن شاء تصدق بفرق وهو ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع وهو مدان وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء أي ذلك فعل أجزأه ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة بالأسهل فالأسهل "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" ولما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كعب بن عجرة بذلك أرشده إلى الأفضل فالأفضل فقال: "انسك شاة أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام" فكل حسن في مقامه ولله الحمد والمنة. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر بن عياش قال: ذكر الأعمش قال: سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فأجابه بقول يحكم عليه طعام فإن كان عنده اشترى شاة وإن لم يكن قومت الشاة دراهم وجعل مكانها طعام فتصدق وإلا صام لكل نصف صاع يوما. قال إبراهيم كذلك سمعت علقمة يذكر قال: لما قال لي سعيد بن جبير من هذا ما أظرفه؟ قال: قلت هذا إبراهيم فقال ما أظرفه كان يجالسنا قال: فذكرت ذلك لإبراهيم قال: فلما قلت يجالسنا انتفض منها. وقال ابن جرير أيضا: حدثنا ابن أبي عمران حدثنا عبيدالله بن معاذ عن أبيه عن أشعث عن الحسن في قوله "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء والصيام عشرة أيام والصدقة على عشرة مساكين كل مسكين مكوكين مكوكا من تمر ومكوكا من بر والنسك شاة. وقال قتادة عن الحسن وعكرمة في قوله "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: إطعام عشرة مساكين. وهذان القولان من سعيد بن جبير وعلقمة والحسن وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر لأنه قد ثبتت السنة في حديث كعب بن عجرة الصيام ثلاثة أيام لا ستة أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة وإن ذلك على التخيير كما دل عليه سياق القرآن وأما هذا الترتيب فإنما هو معروف في قتل الصيد كما هو نص القرآن وعليه أجمع الفقهاء هناك بخلاف هذا والله أعلم. وقال هشام: أخبرنا ليث عن طاوس أنه كان يقول: ما كان من دم أو طعام فبمكة وما كان من صيام فحيث شاء وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن وقال هشام: أخبرنا حجاج وعبدالملك وغيرهما عن عطاء أنه كان يقول: ما كان من دم فبمكة وما كان من طعام وصيام فحيث شاء. وقال هشيم: أخبرنا يحيى بن سعيد عن يعقوب بن خالد أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر قال: حج عثمان بن عفان ومعه علي والحسين بن علي فارتحل عثمان. قال أبو أسماء: وكنت مع ابن جعفر فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه قال: فقلت أيها النائم! فاستيقظ فإذا الحسين بن علي قال فحمله ابن جعفر حتى أتينا به السقيا قال: فأرسل إلى علي ومعه أسماء بنت عميس قال: فمرضناه نحوا من عشرين ليلة قال: قال علي للحسين ما الذي تجد؟ قال: فأومأ بيده إلى رأسه قال: فأمر به علي فحلق رأسه ثم دعا ببدنة فنحرها فإن كانت هذه النافة عن الحلق ففيه أنه نحرها دون مكة. وإن كانت عن التحلل فواضح. وقوله "فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي" أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص وهو المعروف في كلام الفقهاء والتمتع العام يشمل القسمين كما دلت عليه الأحاديث الصحاح فإن من الرواة من يقول: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر يقول: قرن ولا خلاف أنه ساق هديا وقال تعالى "فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي" أي فليذبح ما قدر عليه من الهدي وأقله شاة وله أن يذبح البقر لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح عن نسائه البقر وقال الأوزاعي عن يحيى بن أبى كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح البقر عن نسائه وكن متمتعات رواه أبو بكر بن مردويه وفي هذا دليل على مشروعية التمتع كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء. قال البخاري: يقال إنه عمر وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحا به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع ويقول إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمر بالتمام يعني قوله "وأتموا الحج والعمرة للّه" وفي نفس الأمر لم يكن عمر - رضي الله عنه - ينهى عنها محرما لها إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين كما قد صرح به رضي الله عنه. وقوله "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة" يقول تعالى: فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج أي في أيام المناسك. قال العلماء: والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر قاله عطاء أو من حين يحرم قاله ابن عباس وغيره لقوله في الحج ومنهم من يجوز صيامها من أول شوال قاله طاوس ومجاهد وغير واحد وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والسدي وعطاء وطاوس والحكم والحسن وحماد وإبراهيم أبو جعفر الباقر والربيع ومقاتل بن حيان. وقال العوفي عن ابن عباس: إذا لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله وكذا روى ابن إسحق عن وبرة عن ابن عمر قال: يصوم يوما قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة وكذا روى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أيضا فلو لم يصمها أو بعضها قبل العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق؟ فيه قولان للعلماء وهما للإمام الشافعي أيضا القديم منهما أنه يجوز له صيامها لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي هكذا رواه مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة وعن سالم عن ابن عمر وقد روي من غير وجه عنهما. ورواه سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أنه كان يقول: من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق وبهذا يقول عبيد بن عمير الليثي عن عكرمة والحسن البصري وعروة بن الزبير وإنما قالوا ذلك لعموم قوله "فصيام ثلاثة أيام في الحج" والجديد من القولين أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق لما رواه مسلم عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل" وقوله "وسبعة إذا رجعتم" فيه قولان: "أحدهما" إذا رجعتم إلى رحالكم. ولهذا قال مجاهد هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق وكذا قال عطاء بن أبي رباح والقول "الثاني" إذا رجعتم إلى أوطانكم. قال عبدالرزاق: أخبرنا الثوري عن يحيى بن سعيد عن سالم سمعت ابن عمر قال: "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم" قال: إذا رجع إلى أهله. وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والزهري والربيع بن أنس وحكى على ذلك أبو جعفر بن جرير الإجماع وقد قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبدالله أن ابن عمر قال: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة فأهل بعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس: "من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله". وذكر تمام الحديث قال الزهري: وأخبرني عروة عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه والحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري به وقوله "تلك عشرة كاملة" قيل: تأكيد كما تقول العرب رأيت بعيني وسمعت بأذني وكتبت بيدي وقال الله تعالى "ولا طائر يطير بجناحيه" وقال "ولا تخطه بيمينك" وقال "وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة" وقيل معنى كاملة الأمر بإكمالها وإتمامها. اختاره ابن جرير وقيل معنى كاملة أي مجزئة عن الهدي قال هشام عن عباد بن راشد عن الحسن البصري في قوله "تلك عشرة كاملة" قال: من الهدي. وقوله "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" قال ابن جرير: واختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله "لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به وأنه لا متعة لهم فقال بعضهم عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم. حدثنا ابن بشار حدثنا عبدالرحمن حدثنا سفيان هو الثوري قال: قال ابن عباس: هم أهل الحرم وكذا روى ابن المبارك عن الثوري وزاد الجماعة عليه وقال قتادة: ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: يا أهل مكة لا متعة لكم أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم إنما يقطع أحدكم واديا أو قال يجعل بينه وبين الحرم واديا ثم يهل بعمرة. وقال عبدالرزاق: حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: المتعة للناس لا لأهل مكة من لم يكن أهله من الحرم. وكذا قول الله عز وجل "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" قال: وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس. وقال آخرون: هم أهل الحرم ومن بينه وبين المواقيت كما قال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن عطاء قال: من كان أهله دون المواقيت فهو كأهل مكة لا يتمتع وقال عبدالله بن المبارك عن عبدالرحمن بن يزيد عن جابر عن مكحول في قوله "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" قال: من كان دون الميقات. وقال ابن جريج عن عطاء: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. قال: عرفة ومزدلفة وعرنة والرجيع. وقال عبدالرزاق: حدثنا معمر سمعت الزهري يقول: من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع. وفي رواية عنه اليوم واليومين. واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة لأن من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرا والله أعلم. وقوله "واتقوا الله" أي فيما أمركم ونهاكم "واعلموا أن الله شديد العقاب" أي لمن خالف أمره وارتكب ما عنه زجره.
﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾ هَذا عَوْدٌ إلى الكَلامِ عَلى العُمْرَةِ فَهو عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ولَيْسَ البِرُّ بِأنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِها﴾ [البقرة: ١٨٩] إلَخْ، وما بَيْنَهُما اسْتِطْرادٌ أوِ اعْتِراضٌ، عَلى أنَّ عَطْفَ الأحْكامِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ لِلْمُناسَبَةِ طَرِيقَةٌ قُرْآنِيَّةٌ، فَلَكَ أنْ تَجْعَلَ هَذِهِ الجُمْلَةَ عَطْفًا عَلى الَّتِي قَبْلَها عَطْفَ قِصَّةٍ عَلى قِصَّةٍ. ولا خِلافَ في أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في الحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ حِينَ صَدَّ المُشْرِكُونَ المُسْلِمِينَ عَنِ البَيْتِ كَما سَيَأْتِي في حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وقَدْ كانُوا ناوِينَ العُمْرَةَ وذَلِكَ قَبْلَ أنْ يُفْرَضَ الحَجُّ (p-٢١٧)فالمَقْصُودُ مِنَ الكَلامِ هو العُمْرَةُ، وإنَّما ذُكِرَ الحَجُّ عَلى وجْهِ الإدْماجِ تَبْشِيرًا بِأنَّهم سَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ الحَجِّ فِيما بَعْدُ، وهَذا مِن مُعْجِزاتِ القُرْآنِ. والإتْمامُ إكْمالُ الشَّيْءِ والإتْيانُ عَلى بَقايا ما بَقِيَ مِنهُ حَتّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَهُ. ومِثْلُ هَذا الأمْرِ المُتَعَلِّقِ بِوَصْفِ فِعْلٍ يَقَعُ في كَلامِهِمْ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدِهِما: وهو الأكْثَرُ أنْ يَكُونَ المَطْلُوبُ تَحْصِيلَ وصْفٍ خاصٍّ لِلْفِعْلِ المُتَعَلِّقِ بِهِ الوَصْفُ كالإتْمامِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ﴾ أيْ: كَمِّلُوهُ إنْ شَرَعْتُمْ فِيهِ، وكَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] عَلى ما اخْتَرْناهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ﴾ [التوبة: ٤] ومِثْلُهُ أنْ تَقُولَ: أسْرِعِ السِّيَرَ لِلَّذِي يَسِيرُ سَيْرًا بَطِيئًا، وثانِيهِما: أنْ يَجِيءَ الأمْرُ بِوَصْفِ الفِعْلِ مُرادًا بِهِ تَحْصِيلُ الفِعْلِ مِن أوَّلِ وهْلَةٍ عَلى تِلْكَ الصِّفَةِ، نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٠] وذَلِكَ كَقَوْلِكَ: أسْرِعِ السَّيْرَ فادْعُ لِي فُلانًا، تُخاطِبُ بِهِ مُخاطَبًا لَمْ يَشْرَعْ في السَّيْرِ بَعْدُ، فَأنْتَ تَأْمُرُهُ بِإحْداثِ سَيْرٍ سَرِيعٍ مِن أوَّلِ وهْلَةٍ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهم: وسِّعْ فَمَ الرَّكِيَّةِ - وقَوْلُهم: وسِّعْ كُمَّ الجُبَّةِ وضَيِّقْ جَيْبَها؛ أيْ: أوْجِدْها كَذَلِكَ مِن أوَّلِ الأمْرِ، وهَذا ضَرْبٌ مِن ضُرُوبِ التَّعْبِيرِ لَيْسَ بِكِنايَةٍ ولا مَجازٍ، ولَكِنَّهُ أمْرٌ بِمَجْمُوعِ شَيْئَيْنِ وهو أقَلُّ؛ لِأنَّ الشَّأْنَ أنْ يَكُونَ المَطْلُوبُ بِصِيغَةِ الأمْرِ ابْتِداءً هو الحَدَثُ الَّذِي مِنهُ مادَّةُ تِلْكَ الصِّيغَةِ. والآيَةُ تَحْتَمِلُ الِاسْتِعْمالَيْنِ، فَإنْ كانَ الأوَّلُ فَهي أمْرٌ بِإكْمالِ الحَجِّ والعُمْرَةِ، بِمَعْنى ألّا يَكُونَ حَجًّا وعُمْرَةً مَشُوبَيْنِ بِشَغَبٍ وفِتْنَةٍ واضْطِرابٍ، أوْ هي أمْرٌ بِإكْمالِهِما وعَدَمِ الرُّجُوعِ عَنْهُما بَعْدَ الإهْلالِ بِهِما، ولا يَصُدُّهم عَنْهُما شَنَآنُ العَدُوِّ، وإنْ كانَ الثّانِي فَهي أمْرٌ بِالإتْيانِ بِهِما تامَّيْنِ؛ أيْ: مُسْتَكْمِلَيْنِ ما شُرِعَ فِيهِما. والمَعْنى الأوَّلُ أظْهَرُ وأنْسَبُ بِالآياتِ الَّتِي قَبْلَها، وكَأنَّ هَذا التَّحْرِيضَ مُشِيرٌ إلى أنَّ المَقْصُودَ الأهَمَّ مِنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ هُنا هُما الصَّرُورَةُ في الحَجِّ، وكَذا في العُمْرَةِ عَلى القَوْلِ بِوُجُوبِها. واللّامُ في الحَجِّ والعُمْرَةِ لِتَعْرِيفِ الجِنْسِ، وهُما عِبادَتانِ مَشْهُورَتانِ عِنْدَ المُخاطَبِينَ مُتَمَيِّزَتانِ عَنْ بَقِيَّةِ الأجْناسِ، فالحَجُّ هو زِيارَةُ الكَعْبَةِ في مَوْسِمٍ مُعَيَّنٍ في وقْتٍ واحِدٍ لِلْجَماعَةِ وفِيهِ وُقُوفُ عَرَفَةَ، والعُمْرَةُ زِيارَةُ الكَعْبَةِ في غَيْرِ مَوْسِمٍ مُعَيَّنٍ وهي لِكُلِّ فَرْدٍ بِخُصُوصِهِ، وأصْلُ الحَجِّ في اللُّغَةِ بِفَتْحِ الحاءِ وكَسْرِها: تَكَرُّرُ القَصْدِ إلى الشَّيْءِ أوْ كَثْرَةُ قاصِدِيهِ. وعَنِ (p-٢١٨)ابْنِ السِّكِّيتِ: الحَجُّ كَثْرَةُ الِاخْتِلافِ والتَّرَدُّدِ، يُقالُ حَجَّ بَنُو فُلانٍ فُلانًا: أطالُوا الِاخْتِلافَ إلَيْهِ، وفي الأساسِ: فُلانٌ تَحُجُّهُ الرِّفاقُ؛ أيْ: تَقْصِدُهُ ا هـ. فَجَعَلَهُ مُفِيدًا بِقَصْدٍ مِن جَماعَةٍ كَقَوْلِ المُخَبَّلِ السَّعْدِيِّ واسْمُهُ الرَّبِيعُ: ؎وأشْهَدُ مِن عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرَقانِ المُزَعْفَرا والحَجُّ مِن أشْهُرِ العِباداتِ عِنْدَ العَرَبِ وهو مِمّا ورِثُوهُ عَنْ شَرِيعَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَما حَكى اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ﴾ [الحج: ٢٧] الآيَةَ، حَتّى قِيلَ: إنَّ العَرَبَ هم أقْدَمُ أُمَّةٍ عُرِفَتْ عِنْدَها عادَةُ الحَجِّ، وهم يَعْتَقِدُونَ أنَّ زِيارَةَ الكَعْبَةِ سَعْيٌ لِلَّهِ تَعالى قالَ النّابِغَةُ يَصِفُ الحَجِيجَ ورَواحِلَهم: ؎عَلَيْهِنَّ شُعْثٌ عامِدُونَ لِرَبِّهِمْ ∗∗∗ فَهُنَّ كَأطْرافِ الحَنِيِّ خَواشِعُ وكانُوا يَتَجَرَّدُونَ عِنْدَ الإحْرامِ مِن مَخِيطِ الثِّيابِ ولا يَمَسُّونَ الطِّيبَ ولا يَقْرَبُونَ النِّساءَ ولا يَصْطادُونَ، وكانَ الحَجُّ طَوافًا بِالبَيْتِ وسَعْيًا بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ ووُقُوفًا بِعَرَفَةَ ونَحْرًا بِمِنًى. ورُبَّما كانَ بَعْضُ العَرَبِ لا يَأْكُلُ مُدَّةَ الحَجِّ أقْطًا ولا سَمْنًا - أيْ: لِأنَّهُ أكْلُ المُتَرَفِّهِينَ - ولا يَسْتَظِلُّ بِسَقْفٍ، ومِنهم مَن يَحُجُّ مُتَجَرِّدًا مِنَ الثِّيابِ، ومِنهم مَن لا يَسْتَظِلُّ مِنَ الشَّمْسِ، ومِنهم مَن يَحُجُّ صامِتًا لا يَتَكَلَّمُ، ولا يَشْرَبُونَ الخَمْرَ في أشْهُرِ الحَجِّ، ولَهم في الحَجِّ مَناسِكُ وأحْكامٌ ذَكَرْناها في تارِيخِ العَرَبِ، وكانَ لِلْأُمَمِ المُعاصِرَةِ لِلْعَرَبِ حُجُوجٌ كَثِيرَةٌ، وأشْهَرُ الأُمَمِ في ذَلِكَ اليَهُودُ فَقَدْ كانُوا يَحُجُّونَ إلى المَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ تابُوتُ العَهْدِ؛ أيْ: إلى هَيْكَلِ أُورْشَلِيمَ وهو المَسْجِدُ الأقْصى ثَلاثَ مَرّاتٍ في السَّنَةِ لِيَذْبَحُوا هُناكَ فَإنَّ القَرابِينَ لا تَصِحُّ إلّا هُناكَ، ومِن هَذِهِ المَرّاتِ مَرَّةٌ في عِيدِ الفِصْحِ. واتَّخَذَتِ النَّصارى زِياراتٍ كَثِيرَةٍ حَجًّا، أشْهَرُها زِياراتُهم لِمَنازِلِ وِلادَةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وزِيارَةِ أُورْشَلِيمَ، وكَذا زِيارَةُ قَبْرِ مارْبُولِسْ وقَبْرِ مارْبُطْرُسْ بِرُومَةَ، ومِن حَجِّ النَّصارى الَّذِي لا يَعْرِفْهُ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ وهو أقْدَمُ حَجِّهِمْ أنَّهم كانُوا قَبْلَ الإسْلامِ يَحُجُّونَ إلى مَدِينَةِ عَسْقَلانَ مِن بِلادِ السَّواحِلِ الشّامِيَّةِ، والمَظْنُونُ أنَّ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا حَجَّها هم نَصارى الشّامِ مِنَ الغَساسِنَةِ لِقَصْدِ صَرْفِ النّاسِ عَنْ زِيارَةِ الكَعْبَةِ، وقَدْ ذَكَرَهُ سُحَيْمٌ عَبْدُ بَنِي الحِسْحاسِ وهو مِنَ المُخَضْرَمِينَ في قَوْلِهِ يَصِفُ وُحُوشًا جَرَفَها السَّيْلُ: ؎كَأنَّ الوُحُوشَ بِهِ عَسْقَلا ∗∗∗ نُ صادَفْنَ في قَرْنِ حَجٍّ ذِيافا (p-٢١٩)أيْ: أصابَهُنَّ سُمٌّ فَقَتَلَهُنَّ، وقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أئِمَّةُ اللُّغَةِ، وقَدْ كانَ لِلْمِصْرِيِّينَ والكِلْدانِ حَجٌّ إلى البُلْدانِ المُقَدَّسَةِ عِنْدَهم، ولِلْيُونانِ زِياراتٌ كَثِيرَةٌ لِمَواقِعَ مُقَدَّسَةٍ مِثْلَ أُولُمْبِيا وهَيْكَلِ زِفِسْ ولِلْهُنُودِ حُجُوجٌ كَثِيرَةٌ. والمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ إتْمامُ العُمْرَةِ الَّتِي خَرَجُوا لِقَضائِها، وذِكْرُ الحَجِّ مَعَها إدْماجٌ؛ لِأنَّ الحَجَّ لَمْ يَكُنْ قَدْ وجَبَ يَوْمَئِذٍ؛ إذْ كانَ الحَجُّ بِيَدِ المُشْرِكِينَ فَفي ذِكْرِهِ بِشارَةٌ بِأنَّهُ يُوشِكُ أنْ يَصِيرَ في قَبْضَةِ المُسْلِمِينَ. وأمّا العُمْرَةُ فَهي مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّعْمِيرِ، وهو شَغْلُ المَكانِ ضِدُّ الإخْلاءِ، ولَكِنَّها بِهَذا الوَزْنِ لا تُطْلَقُ إلّا عَلى زِيارَةِ الكَعْبَةِ في غَيْرِ أشْهُرِ الحَجِّ، وهي مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ العَرَبِ، وكانُوا يَجْعَلُونَ مِيقاتَها ما عَدا أشْهُرَ ذِي الحِجَّةِ والمُحَرَّمِ وصَفَرٍ، فَكانُوا يَقُولُونَ: إذا بَرِئَ الدُّبُرُ، وعَفا الأثَرُ، وخَرَجَ صَفَرٌ، حَلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ. ولَعَلَّهم جَعَلُوا ذَلِكَ لِتَكُونَ العُمْرَةُ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الحَجِّ وإراحَةِ الرَّواحِلِ. واصْطَلَحَ المُضَرِيُّونَ، عَلى جَعْلِ رَجَبٍ هو شَهْرُ العُمْرَةِ، ولِذَلِكَ حَرَّمَتْهُ مُضَرٌ فَلُقِّبَ بِرَجَبِ مُضَرٍ، وتَبِعَهم بَقِيَّةُ العَرَبِ، لِيَكُونَ المُسافِرُ لِلْعُمْرَةِ آمِنًا مِن عَدُوِّهِ؛ ولِذَلِكَ لَقَّبُوا رَجَبًا مُنْصِلَ الأسِنَّةِ، ويَرَوْنَ العُمْرَةَ في أشْهُرِ الحَجِّ فُجُورًا. وقَوْلُهُ: (لِلَّهِ) أيْ: لِأجْلِ اللَّهِ وعِبادَتِهِ، والعَرَبُ مِن عَهْدِ الجاهِلِيَّةِ لا يَنْوُونَ الحَجَّ إلّا لِلَّهِ ولا العُمْرَةَ إلّا لَهُ؛ لِأنَّ الكَعْبَةَ بَيْتُ اللَّهِ وحَرَمُهُ، فالتَّقْيِيدُ هُنا بِقَوْلِهِ: (لِلَّهِ) تَلْوِيحٌ إلى أنَّ الحَجَّ والعُمْرَةَ لَيْسا لِأجْلِ المُشْرِكِينَ، وإنْ كانَ لَهم فِيهِما مَنفَعَةٌ، وكانُوا هم سَدَنَةَ الحَرَمِ، وهُمُ الَّذِينَ مَنَعُوا المُسْلِمِينَ مِنهُ، كَيْ لا يَسْأمَ المُسْلِمُونَ مِنَ الحَجِّ الَّذِي لاقَوْا فِيهِ أذى المُشْرِكِينَ، فَقِيلَ لَهم: إنَّ ذَلِكَ لا يَصُدُّ عَنِ الرَّغْبَةِ في الحَجِّ والعُمْرَةِ؛ لِأنَّكم إنَّما تَحُجُّونَ لِلَّهِ لا لِأجْلِ المُشْرِكِينَ، ولِأنَّ الشَّيْءَ الصّالِحَ المَرْغُوبَ فِيهِ إذا حَفَّ بِهِ ما يُكْرَهُ لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ ذَلِكَ صارِفًا عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ إزالَةُ ذَلِكَ العارِضِ عَنْهُ، ومِن طُرُقِ إزالَتِهِ القِتالُ المُشارُ إلَيْهِ بِالآياتِ السّابِقَةِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: (لِلَّهِ) لِتَجْرِيدِ النِّيَّةِ مِمّا كانَ يُخامِرُ نَوايا النّاسِ في الجاهِلِيَّةِ مِنَ التَّقَرُّبِ إلى الأصْنامِ، فَإنَّ المُشْرِكِينَ لَمّا وضَعُوا هُبَلًا عَلى الكَعْبَةِ ووَضَعُوا إسافًا ونائِلَةَ عَلى الصَّفا والمَرْوَةِ قَدْ أشْرَكُوا بِطَوافِهِمْ وسَعْيِهِمُ الأصْنامَ مَعَ اللَّهِ تَعالى. وقَدْ يَكُونُ القَصْدُ مِن هَذا التَّقْيِيدِ كِلْتا الفائِدَتَيْنِ. (p-٢٢٠)ولَيْسَ في الآيَةِ حُجَّةٌ عِنْدَ مالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُما اللَّهُ عَلى وُجُوبِ الحَجِّ ولا العُمْرَةِ، ولَكِنْ دَلِيلُ حُكْمِ الحَجِّ والعُمْرَةِ عِنْدَهُما غَيْرُ هَذِهِ الآيَةِ، وعَلَيْهِ فَمَحْمَلُ الآيَةِ عِنْدَهُما عَلى وُجُوبِ هاتَيْنِ العِبادَتَيْنِ لِمَن أحْرَمَ لَهُما، فَأمّا مالِكٌ فَقَدْ عَدَّهُما مِنَ العِباداتِ الَّتِي تَجِبُ بِالشُّرُوعِ فِيها وهي سَبْعُ عِباداتٍ عِنْدَنا هي: الصَّلاةُ والصِّيامُ والِاعْتِكافُ والحَجُّ والعُمْرَةُ والطَّوافُ والإتْمامُ، وأمّا أبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ أوْجَبَ النَّوافِلَ كُلَّها بِالشُّرُوعِ. ومَن لَمْ يَرَ وُجُوبَ النَّوافِلِ بِالشُّرُوعِ ولَمْ يَرَ العُمْرَةَ واجِبَةً يَجْعَلُ حُكْمَ إتْمامِها كَحُكْمِ أصْلِ الشُّرُوعِ فِيها، ويَكُونُ الأمْرُ بِالإتْمامِ في الآيَةِ مُسْتَعْمَلًا في القَدْرِ المُشْتَرَكِ مِنَ الطَّلَبِ اعْتِمادًا عَلى القَرائِنِ، ومِن هَؤُلاءِ مَن قَرَأ: (والعُمْرَةُ) بِالرَّفْعِ، حَتّى لا تَكُونَ فِيما شَمَلَهُ الأمْرُ بِالإتْمامِ بِناءً عَلى أنَّ الأمْرَ لِلْوُجُوبِ، فَيُخْتَصُّ بِالحَجِّ. وجَعَلَها الشّافِعِيَّةُ دَلِيلًا عَلى وُجُوبِ العُمْرَةِ كالحَجِّ، ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ لَهُ أنَّ اللَّهَ أمَرَ بِإتْمامِها، فَإمّا أنْ يَكُونَ الأمْرُ بِالإتْمامِ مُرادًا بِهِ الإتْيانُ بِهِما تامَّيْنِ؛ أيْ: مُسْتَجْمِعِي الشَّرائِطِ والأرْكانِ، فالمُرادُ بِالإتْمامِ إتْمامُ المَعْنى الشَّرْعِيِّ عَلى أحَدِ الِاسْتِعْمالَيْنِ السّابِقَيْنِ، قالُوا: إذْ لَيْسَ هُنا كَلامٌ عَلى الشُّرُوعِ حَتّى يُؤْمَرَ بِالإتْمامِ، ولِأنَّهُ مَعْضُودٌ بِقِراءَةِ (وأقِيمُوا الحَجَّ) وإمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالإتْمامِ هُنا الإتْيانَ عَلى آخِرِ العِبادَةِ فَهو يَسْتَلْزِمُ الأمْرَ بِالشُّرُوعِ؛ لِأنَّ الإتْمامَ يَتَوَقَّفُ عَلى الشُّرُوعِ، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلّا بِهِ فَهو واجِبٌ فَيَكُونُ الأمْرُ بِالإتْمامِ كِنايَةً عَنِ الأمْرِ بِالفِعْلِ. والحَقُّ أنَّ حَمْلَ الأمْرِ في ذَلِكَ عَلى الأمْرِ بِأصْلِ الماهِيَّةِ لا بِصِفَتِها - اسْتِعْمالٌ قَلِيلٌ كَما عَرَفْتَ، وقِراءَةُ: (وأقِيمُوا) لِشُذُوذِها لا تَكُونُ داعِيًا لِلتَّأْوِيلِ، ولا تَتَنَزَّلُ مَنزِلَةَ خَبَرِ الآحادِ، إذا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُها إلى مَن نُسِبَتْ إلَيْهِ، وأمّا عَلى الِاحْتِمالِ الأوَّلِ فَلِأنَّ التَّكَنِّيَ بِالإتْمامِ عَنْ إيجابِ الفِعْلِ مَصِيرٌ إلى خِلافِ الظّاهِرِ مَعَ أنَّ اللَّفْظَ صالِحٌ لِلْحَمْلِ عَلى الظّاهِرِ؛ بِأنْ يَدُلَّ عَلى مَعْنى: إذا شَرَعْتُمْ فَأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ، فَيَكُونُ مِن دَلالَةِ الِاقْتِضاءِ، ويَكُونُ حَقِيقَةً وإيجازًا بَدِيعًا، وهو الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ السِّياقُ كَما قَدَّمْنا؛ لِأنَّهم كانُوا نَوَوُا العُمْرَةَ، عَلى أنَّ شَأْنَ إيجابِ الوَسِيلَةِ بِإيجابِ المُتَوَسِّلِ إلَيْهِ أنْ يَكُونَ المَنصُوصُ عَلى وُجُوبِهِ هو المَقْصِدَ، فَكَيْفَ يَدَّعِي الشّافِعِيَّةُ أنَّ ”أتِمُّوا“ هَنا مُرادٌ مِنهُ إيجابُ الشُّرُوعِ؛ لِأنَّ ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلّا بِهِ فَهو واجِبٌ كَما أشارَ لَهُ العِصامُ. (p-٢٢١)فالحَقُّ أنَّ الآيَةَ لَيْسَتْ دَلِيلًا لِحُكْمِ العُمْرَةِ، وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في حُكْمِها: فَذَهَبَ مالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ إلى أنَّها سُنَّةٌ، قالَ مالِكٌ: لا أعْلَمُ أحَدًا رَخَّصَ في تَرْكِها، وهَذا هو مَذْهَبُ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحابَةِ، والنَّخَعِيِّ مِنَ التّابِعِينَ. وذَهَبَ الشّافِعِيُّ وأحْمَدُ وابْنُ الجَهْمِ مِنَ المالِكِيَّةِ إلى وُجُوبِهِما، وبِهِ قالَ عُمَرُ وابْنُ عُمَرَ وابْنُ عَبّاسٍ مِنَ الصَّحابَةِ، وعَطاءٌ وطاوُسٌ ومُجاهِدٌ والحَسَنُ، وابْنُ سِيرِينَ والشَّعْبِيُّ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وأبُو بُرْدَةَ، ومَسْرُوقٌ وإسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ ودَلِيلُنا حَدِيثُ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، «قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ العُمْرَةُ واجِبَةٌ مِثْلَ الحَجِّ فَقالَ: لا، وأنْ تَعْتَمِرُوا فَهو أفْضَلُ»، أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، ولِأنَّ عِبادَةً مِثْلَ هَذِهِ لَوْ كانَتْ واجِبَةً لَأمَرَ بِها النَّبِيءُ ﷺ، ولا يَثْبُتُ وُجُوبُها بِتَلْفِيقاتٍ ضَعِيفَةٍ، وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: لَوْلا التَّحَرُّجُ وأنِّي لَمْ أسْمَعْ مِن رَسُولِ اللَّهِ في ذَلِكَ شَيْئًا لَقُلْتُ: العُمْرَةُ واجِبَةٌ ا هـ. مَحَلُّ الِاحْتِجاجِ قَوْلُهُ: لَمْ أسْمَعْ. إلَخْ، ولِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ﴾ [آل عمران: ٩٧] ولَمْ يَذْكُرِ العُمْرَةَ، ولِأنَّهُ لا يَكُونُ عِبادَتانِ واجَبَتانِ هُما مِن نَوْعٍ واحِدٍ. ولِأنَّ شَأْنَ العِبادَةِ الواجِبَةِ أنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً، واحْتَجَّ أصْحابُنا أيْضًا بِحَدِيثِ: «بُنِيَ الإسْلامُ عَلى خَمْسٍ»، وحَدِيثِ جِبْرِيلَ في الإيمانِ والإسْلامِ ولَمْ يَذْكُرْ فِيها العُمْرَةَ، وحَدِيثِ «الأعْرابِيِّ الَّذِي قالَ: لا أزْيَدُ ولا أنْقُصُ: فَقالَ: أفْلَحَ إنْ صَدَقَ» ولَمْ يَذْكُرِ العُمْرَةَ ولَمْ يَحْتَجَّ الشّافِعِيَّةُ بِأكْثَرَ مِن هَذِهِ الآيَةِ؛ إذْ قُرِنَتْ فِيها مَعَ الحَجِّ، وبِقَوْلِ بَعْضِ الصَّحابَةِ وبِالِاحْتِياطِ. واحْتَجَّ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى مَنعِ التَّمَتُّعِ وهو الإحْرامُ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ الحِلِّ مِنها في مُدَّةِ الحَجِّ، ثُمَّ الحَجِّ في عامَّةِ ذَلِكَ قَبْلَ الرُّجُوعِ إلى بَلَدِهِ، فَفي البُخارِيِّ أخْرَجَ حَدِيثَ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ قالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى قَوْمٍ بِاليَمَنِ فَجِئْتُ وهو بِالبَطْحاءِ عامَ حَجَّةِ الوَداعِ فَقالَ: بِمَ أهْلَلْتَ ؟ فَقُلْتُ: أهْلَلْتُ كَإهْلالِ النَّبِيءِ قالَ: أحْسَنْتَ؛ هَلْ مَعَكَ مِن هَدْيٍ؛ قُلْتُ: لا، فَأمَرَنِي فَطُفْتُ بِالبَيْتِ وبِالصَّفا وبِالمَرْوَةِ ثُمَّ أمَرَنِي فَأحْلَلْتُ فَأتَيْتُ امْرَأةً مِن قَوْمِي فَمَشَّطَتْنِي أوْ غَسَلَتْ رَأْسِي، ثُمَّ أهَلَلْتُ بِالحَجِّ، فَكُنْتُ أُفْتِي النّاسَ بِهِ حَتّى خِلافَةِ عُمَرَ، فَذَكَرْتُهُ لَهُ، فَقالَ: إنْ نَأْخُذْ بِكِتابِ اللَّهِ، فَإنَّهُ يَأْمُرُنا بِالتَّمامِ، قالَ تَعالى: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ وإنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتّى بَلَغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ، يُرِيدُ عُمَرُ واللَّهُ أعْلَمُ أنَّ أبا مُوسى أهَّلَ بِإهْلالٍ كَإهْلالِ النَّبِيءِ صَلّى اللَّهُ (p-٢٢٢)عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والنَّبِيءُ كانَ مُهِلًّا بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ مَعًا، فَهو قارِنٌ والقارِنُ مُتَلَبِّسٌ بِحَجٍّ، فَلا يَجُوزُ أنْ يُحِلَّ في أثْناءِ حَجِّهِ وتَمَسَّكَ بِفِعْلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ كانَ قارِنًا ولَمْ يُحِلَّ، وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى عَدَمِ تَخْصِيصِ المُتَواتِرِ بِالآحادِ كَما هو قَوْلُهُ في حَدِيثِ فاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ في النَّفَقَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ عَطْفٌ عَلى (أتِمُّوا) والفاءُ لِلتَّفْرِيعِ الذِّكْرِيِّ، فَإنَّهُ لَمّا أمَرَ بِإتْمامِ الحَجِّ والعُمْرَةِ ذَكَرَ حُكْمَ ما يَمْنَعُ مِن ذَلِكَ الإتْمامِ. ولا سِيَّما الحَجِّ؛ لِأنَّ وقْتَهُ يَفُوتُ غالِبًا بَعْدَ ارْتِفاعِ المانِعِ، بِخِلافِ العُمْرَةِ، والإحْصارُ في كَلامِ العَرَبِ مَنعُ الذّاتِ مِن فِعْلٍ ما، يُقالُ: أحْصَرَهُ مَنعَهُ مانِعٌ، قالَ تَعالى: ﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٧٣] أيْ: مَنَعَهُمُ الفَقْرُ مِنَ السَّفَرِ لِلْجِهادِ، وقالَ ابْنُ مَيّادَةَ: ؎وما هَجْرُ لَيْلى أنْ تَكُونَ تَباعَدَتْ ∗∗∗ عَلَيْكَ ولا أنْ أحْصَرَتْكَ شُغُولُ وهُوَ فِعْلٌ مَهْمُوزٌ لَمْ تُكْسِبْهُ هَمْزَتُهُ تَعْدِيَةً؛ لِأنَّهُ مُرادِفُ حَصَرَهُ، ونَظِيرُهُما صَدَّهُ وأصَدَّهُ، هَذا قَوْلُ المُحَقِّقِينَ مِن أئِمَّةِ اللُّغَةِ، ولَكِنْ كَثُرَ اسْتِعْمالُ ”أحْصَرَ“ المَهْمُوزِ في المَنعِ الحاصِلِ مِن غَيْرِ العَدُوِّ، وكَثُرَ اسْتِعْمالُ ”حَصَرَ“ المُجَرَّدِ في المَنعِ مِنَ العَدُوِّ، قالَ: ﴿وخُذُوهم واحْصُرُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] فَهو حَقِيقَةٌ في المَعْنَيَيْنِ، ولَكِنَّ الِاسْتِعْمالَ غَلَّبَ أحَدَهُما كَما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الكَشّافِ، ومِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَن قالَ: ”أحْصَرَ“ حَقِيقَةٌ في مَنعِ غَيْرِ العَدُوِّ، و”حَصَرَ“ حَقِيقَةٌ في مَنعِ العَدُوِّ، وهو قَوْلُ الكِسائِيِّ وأبِي عُبَيْدَةَ والزَّجّاجِ، ومِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَن عَكَسَ، وهو ابْنُ فارِسٍ لَكِنَّهُ شاذٌّ جِدًّا. وجاءَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ ”إنْ“ لِأنَّ مَضْمُونَ الشَّرْطِ كَرِيهٌ لَهم، فَألْقى إلَيْهِمُ الكَلامَ إلْقاءَ الخَبَرِ الَّذِي يُشَكُّ في وُقُوعِهِ، والمَقْصُودُ إشْعارُهم بِأنَّ المُشْرِكِينَ سَيَمْنَعُونَهم مِنَ العُمْرَةِ، وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في المُرادِ مِنَ الإحْصارِ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى نَحْوِ الِاخْتِلافِ في الوَضْعِ أوْ في الِاسْتِعْمالِ، والأظْهَرُ عِنْدِي أنَّ الإحْصارَ هُنا أُطْلِقَ عَلى ما يَعُمُّ المَنعَ مِن عَدُوٍّ أوْ مِن غَيْرِهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعالى عَقِبَهُ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾ فَإنَّهُ ظاهِرٌ قَوِيٌّ في أنَّ المُرادَ مِنهُ الأمْنُ مِن خَوْفِ العَدُوِّ، وأنَّ هَذا التَّعْمِيمَ فِيهِ قَضاءُ حَقِّ الإيجازِ في جَمْعِ أحْكامِ الإحْصارِ ثُمَّ تَفْرِيقِها كَما سَأُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾ وكَأنَّ هَذا هو الَّذِي يَراهُ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، ولِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجَّ في المُوَطَّأِ عَلى حُكْمِ الإحْصارِ بِغَيْرِ عَدُوٍّ بِهَذِهِ الآيَةِ، وإنَّما احْتَجَّ بِالسُّنَّةِ، وقالَ جُمْهُورُ أصْحابِهِ: أُرِيدَ بِها المَنعُ الحاصِلُ مِن مَرَضٍ ونَحْوِهِ دُونَ مَنعِ العَدُوِّ، بِناءً عَلى أنَّ إطْلاقَ الإحْصارِ عَلى هَذا المَنعِ هو الأكْثَرُ في اللُّغَةِ. ولِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ جَعَلَتْ عَلى المَحْصَرِ هَدْيًا، ولَمْ تَرِدِ السُّنَّةُ بِمَشْرُوعِيَّةِ الهَدْيِ فِيمَن حَصَرَهُ العَدُوُّ (p-٢٢٣)؛ أيْ: مَشْرُوعِيَّةِ الهَدْيِ لِأجْلِ الإحْصارِ أمّا مَن ساقَ مَعَهُ الهَدْيَ فَعَلَيْهِ نُسُكُهُ لا لِأجْلِ الإحْصارِ، ولِذَلِكَ قالَ مالِكٌ بِوُجُوبِ الهَدْيِ عَلى مَن أُحْصِرَ بِمَرَضٍ أوْ نِفاسٍ أوْ كَسْرٍ مِن كُلِّ ما يَمْنَعُهُ أنْ يَقِفَ المَوْقِفَ مَعَ النّاسِ مَعَ وُجُوبِ الطَّوافِ والسَّعْيِ عِنْدَ زَوالِ المانِعِ ووُجُوبِ القَضاءِ مِن قابِلٍ لِما في المُوَطَّأِ مِن حَدِيثِ مَعْبَدِ بْنِ حُزابَةَ المَخْزُومِيِّ أنَّهُ صُرِعَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ وهو مُحْرِمٌ فَسَألَ ابْنَ عُمَرَ وابْنَ الزُّبَيْرِ ومَرْوانَ بْنَ الحَكَمِ فَكُلُّهم أمَرَهُ أنْ يَتَداوى ويَفْتَدِيَ، فَإذا أصَحَّ اعْتَمَرَ فَحَلَّ مِن إحْرامِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ حَجُّ قابِلٍ، وأنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ أمَرَ بِذَلِكَ أبا أيُّوبَ وهَبّارَ بْنَ الأسْوَدِ حِينَ فاتَهُما وُقُوفُ عَرَفَةَ، بِخِلافِ حِصارِ العَدُوِّ، واحْتَجَّ في المُوَطَّأِ بِأنَّ النَّبِيءَ ﷺ لَمْ يَأْمُرْ أحَدًا مِن أصْحابِهِ ولا مَن كانَ مَعَهُ أنْ يَقْضُوا شَيْئًا ولا أنْ يَعُودُوا لِشَيْءٍ، ووَجَّهَ أصْحابُنا ذَلِكَ بِالتَّفْرِقَةِ؛ لِأنَّ المانِعَ في المَرَضِ ونَحْوِهِ مِن ذاتِ الحاجِّ؛ فَلِذَلِكَ كانَ مُطالَبًا بِالإتْمامِ، وأمّا في إحْصارِ العَدُوِّ فالمانِعُ خارِجِيٌّ، والأظْهَرُ في الِاسْتِدْلالِ أنَّ الآيَةَ وإنْ صَلُحَتْ لِكُلِّ مَنعٍ لَكِنَّها في مَنعِ غَيْرِ العَدُوِّ أظْهَرُ، وقَدْ تَأيَّدَتْ أظْهَرِيَّتُها بِالسُّنَّةِ، وقالالشّافِعِيُّ: لا قَضاءَ فِيهِما، وهو ظاهِرُ الآيَةِ لِلِاقْتِصارِ عَلى الهَدْيِ، وهو اقْتِصارٌ عَلى مَفْهُومِ الآيَةِ ومُخالَفَةُ ما ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ مَنعٍ مِن عَدُوٍّ أوْ مَرَضٍ فِيهِ وُجُوبُ القَضاءِ والهَدْيِ، ولا يَجِبُ عَلَيْهِ طَوافٌ، ولا سَعْيٌ بَعْدَ زَوالِ عُذْرِهِ بَلْ إنْ نَحَرَ هَدْيَهُ حَلَّ، والقَضاءُ عَلَيْهِ. ولا يَلْزَمُهُ ما يَقْتَضِيهِ حَدِيثُ الحُدَيْبِيَةِ؛ لِأنَّ الآيَةَ إنْ كانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَهُ فَعُمُومُها نَسَخَ خُصُوصَ الحَدِيثِ، وإنْ نَزَلَتْ قَبْلَهُ فَهو آحادٌ لا يُخَصِّصُ القُرْآنَ عِنْدَهُ، عَلى أنَّ حَدِيثَ الحُدَيْبِيَةِ مُتَواتِرٌ؛ لِأنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا النَّبِيءَ ﷺ يَوْمَئِذٍ يَزِيدُونَ عَلى عَدَدِ التَّواتُرِ، ولَمْ يُنْقَلْ عَنْهم ذَلِكَ مَعَ أنَّهُ مِمّا تَتَوافَرُ الدَّواعِي عَلى نَقْلِهِ. وقالَ الشّافِعِيُّ: المُرادُ هُنا مَنعُ العَدُوِّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾ ولِأنَّها نَزَلَتْ في عامِ الحُدَيْبِيَةِ وهو إحْصارُ عَدُوٍّ؛ ولِذَلِكَ أوْجَبَ الهَدْيَ عَلى المُحْصِرِ، أمّا مُحْصَرُ العَدُوِّ فَبِنَصِّ الآيَةِ، وأمّا غَيْرُهُ فَبِالقِياسِ عَلَيْهِ. وعَلَيْهِ: إنْ زالَ عُذْرُهُ فَعَلَيْهِ الطَّوافُ بِالبَيْتِ والسَّعْيُ. ولَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِ القَضاءِ عَلَيْهِ؛ إذْ لَيْسَ في الآيَةِ ولا في الحَدِيثِ. وقَوْلُهُ: ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ جَوابُ الشَّرْطِ وهو مُشْتَمِلٌ عَلى أحَدِ رُكْنَيِ الإسْنادِ (p-٢٢٤)وهُوَ المُسْنَدُ إلَيْهِ دُونَ المُسْنَدِ، فَلا بُدَّ مِن تَقْدِيرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿مِنَ الهَدْيِ﴾ وقَدَّرَهُ في الكَشّافِ: فَعَلَيْكم، والأظْهَرُ أنْ يُقَدِّرَ فِعْلَ أمْرٍ؛ أيْ: فاهْدُوا ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ، وكِلا التَّقْدِيرَيْنِ دالٌّ عَلى وُجُوبِ الهَدْيِ. ووُجُوبُهُ في الحَجِّ ظاهِرٌ وفي العُمْرَةِ كَذَلِكَ؛ بِأنَّها مِمّا يَجِبُ إتْمامُهُ بَعْدَ الإحْرامِ بِاتِّفاقِ الجُمْهُورِ. و(اسْتَيْسَرَ) هُنا بِمَعْنى يَسُرَ، فالسِّينُ والتّاءُ لِلتَّأْكِيدِ كاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ بِمَعْنى صَعُبَ؛ أيْ: ما أمْكَنَ مِنَ الهَدْيِ بِإمْكانِ تَحْصِيلِهِ وإمْكانِ تَوْجِيهِهِ، فاسْتَيْسَرَ هَنا مُرادٌ بِهِ جَمِيعُ وُجُوهِ التَّيَسُّرِ. والهَدْيُ اسْمُ الحَيَوانِ المُتَقَرَّبِ بِهِ لِلَّهِ في الحَجِّ، فَهو فِعْلٌ مِن أهْدى، وقِيلَ: هو جَمْعُ هَدِيَّةٍ كَما جُمِعَتْ جَدِيَّةِ السَّرْجِ عَلى جَدْيٍ، فَإنْ كانَ اسْمًا فَـ ”مِن“ بَيانِيَّةٌ، وإنْ كانَ جَمْعًا فَـ ”مِن“ تَبْعِيضِيَّةٌ، وأقَلُّ ما هو مَعْرُوفٌ عِنْدَهم مِنَ الهَدْيِ الغَنَمُ، ولِذَلِكَ لَمْ يُبَيِّنْهُ اللَّهُ تَعالى هُنا، وهَذا الهَدْيُ إنْ كانَ قَدْ ساقَهُ قاصِدُ الحَجِّ والعُمْرَةِ مَعَهُ ثُمَّ أُحْصِرَ فالبَعْثُ بِهِ إنْ أمْكَنَ واجِبٌ، وإنْ لَمْ يَكُنْ ساقَهُ مَعَهُ فَعَلَيْهِ تَوْجِيهُهُ عَلى الخِلافِ في حُكْمِهِ مِن وُجُوبِهِ وعَدَمِهِ، والمَقْصُودُ مِن هَذا تَحْصِيلُ بَعْضِ مَصالِحِ الحَجِّ بِقَدْرِ الإمْكانِ، فَإذا فاتَتِ المَناسِكُ لا يَفُوتُ ما يَنْفَعُ فَقُراءَ مَكَّةَ ومَن حَوْلَها. وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾ الآيَةَ، بَيانٌ لِمُلازَمَةِ حالَةِ الإحْرامِ حَتّى يَنْحَرَ الهَدْيَ، وإنَّما خَصَّ النَّهْيَ عَنِ الحَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ مِن مُنافَياتِ الإحْرامِ كالطِّيبِ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ﴾ ويُعْلَمُ اسْتِمْرارُ حُكْمِ الإحْرامِ في البَقِيَّةِ بِدَلالَةِ القِياسِ والسِّياقِ، وهَذا مِن مُسْتَتْبَعاتِ التَّراكِيبِ، ولَيْسَ بِكِنايَةٍ عَنِ الإحْلالِ؛ لِعَدَمِ وُضُوحِ المُلازَمَةِ. والمَقْصُودُ مِن هَذا تَحْصِيلُ بَعْضِ ما أمْكَنَ مِن أحْوالِ المَناسِكِ، وهو اسْتِبْقاءُ الشَّعَثِ المَقْصُودِ في المَناسِكِ. والمَحِلُّ بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ الحاءِ مَكانُ الحُلُولِ أوْ زَمانِهِ، يُقالُ: حَلَّ بِالمَكانِ يَحِلُّ بِكَسْرِ الحاءِ وهو مَقامُ الشَّيْءِ، والمُرادُ بِهِ هُنا مَبْلَغُهُ وهو ذَبْحُهُ لِلْفُقَراءِ، وقِيلَ: (مَحِلُّهُ) هو مَحِلُّ ذَبْحِ الهَدايا؛ وهو مِنًى، والأوَّلُ قَوْلُ مالِكٍ. وقَوْلُهُ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ﴾ الآيَةَ، المُرادُ مَرَضٌ يَقْتَضِي الحَلْقَ، سَواءٌ كانَ المَرَضُ بِالجَسَدِ أمْ بِالرَّأْسِ، وقَوْلُهُ: ﴿أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ﴾ كِنايَةٌ عَنِ الوَسَخِ الشَّدِيدِ والقَمْلِ، لِكَراهِيَةِ التَّصْرِيحِ بِالقَمْلِ، وكَلِمَةُ ”مِن“ لِلِابْتِداءِ؛ أيْ: أذًى ناشِئٌ عَنْ رَأْسِهِ. (p-٢٢٥)وفِي البُخارِيِّ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قالَ «حُمِلْتُ إلى النَّبِيءِ والقَمْلُ يَتَناثَرُ عَلى وجْهِي، فَقالَ: ما كُنْتُ أرى الجُهْدَ قَدْ بَلَغَ بِكَ هَذا، أما تَجِدُ شاةً ؟ قُلْتُ: لا، قالَ: صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَساكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صاعٍ مِن طَعامٍ واحْلِقْ رَأْسَكَ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيَّ خاصَّةً وهي لَكم عامَّةً. ا هـ ومِن لَطائِفِ القُرْآنِ تَرْكُ التَّصْرِيحِ بِما هو مَرْذُولٌ مِنَ الألْفاظِ. وقَوْلُهُ: ﴿فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ﴾ مَحْذُوفُ المُسْنَدِ إلَيْهِ لِظُهُورِهِ، أيْ: عَلَيْهِ، والمَعْنى: فَلْيَحْلِقْ رَأْسَهُ وعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وقَرِينَةُ المَحْذُوفِ قَوْلُهُ: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾ وقَدْ أجْمَلَ اللَّهُ الفِدْيَةَ ومِقْدارَها، وبَيَّنَهُ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، والنُّسُكُ - بِضَمَّتَيْنِ وبِسُكُونِ السِّينِ مَعَ تَثْلِيثِ النُّونِ - العِبادَةُ ويُطْلَقُ عَلى الذَّبِيحَةِ المَقْصُودِ مِنها التَّعَبُّدُ، وهو المُرادُ هُنا، مُشْتَقٌّ مِن نَسَكَ كَنَصَرَ وكَرُمَ، إذا عَبَدَ وذَبَحَ لِلَّهِ، وسُمِّيَ العابِدُ ناسِكًا، وأغْلَبُ إطْلاقِهِ عَلى الذَّبِيحَةِ المُتَقَرَّبِ بِها إلى مَعْبُودٍ، وفي الحَدِيثِ «والآخَرُ يَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِن نُسُكِكم» يَعْنِي الضَّحِيَّةَ. * * * ﴿فَإذا أمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ الفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى (أُحْصِرْتُمْ) إنْ كانَ المُرادُ مِنَ الأمْنِ زَوالَ الإحْصارِ المُتَقَدِّمِ، ولَعَلَّها نَزَلَتْ بَعْدَ أنْ فُرِضَ الحَجُّ؛ لِأنَّ فِيها ذِكْرَ التَّمَتُّعِ وذِكْرَ صِيامِ المُتَمَتِّعِ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا ثَلاثَةَ أيّامٍ في مُدَّةِ الحَجِّ وسَبْعَةً إذا رَجَعَ إلى أُفُقِهِ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ تَمَكُّنِهِمْ مِن فِعْلِ الحَجِّ، والفاءُ لِمُجَرَّدِ التَّعْقِيبِ الذِّكْرِيِّ. وجِيءَ بِـ (إذا) لِأنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ مَرْغُوبٌ فِيهِ، والأمْنُ ضِدُّ الخَوْفِ، وهو أيْضًا السَّلامَةُ مِن كُلِّ ما يُخافُ مِنهُ. أمِنَ كَفَرِحَ أمْنًا، أمانًا، وأمْنًا، وأمَنَةً، وإمْنًا بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وهو قاصِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلى المَأْمُونِ مِنهُ، فَيَتَعَدّى بِـ ”مَن“، تَقُولُ: أمِنتُ مِنَ العَدُوِّ، ويَتَعَدّى إلى المَأْمُونِ، تَقُولُ: أمِنتُ فُلانًا إذا جَعَلْتَهُ آمِنًا مِنكَ، والأظْهَرُ أنَّ الأمْنَ ضِدُّ الخَوْفِ مِنَ العَدُوِّ ما لَمْ يُصَرِّحْ بِمُتَعَلِّقِهِ، وفي القُرْآنِ ﴿ثُمَّ أبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ [التوبة: ٦] فَإنْ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ نُزِّلَ مَنزِلَةَ اللّازِمِ، فَدَلَّ عَلى عَدَمِ الخَوْفِ مِنَ القِتالِ، وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذا بَلَدًا آمِنًا﴾ [البقرة: ١٢٦] . (p-٢٢٦)وهَذا دَلِيلٌ عَلى المُرادِ بِالإحْصارِ فِيما تَقَدَّمَ ما يَشْمَلُ مَنعَ العَدُوِّ، ولِذَلِكَ قِيلَ: ”إذا أمِنتُمْ“ ويُؤَيِّدُهُ أنَّ الآياتِ نَزَلَتْ في شَأْنِ عُمْرَةِ الحُدَيْبِيَةِ كَما تَقَدَّمَ، فَلا مَفْهُومَ لِلشَّرْطِ هُنا؛ لِأنَّهُ خَرَجَ لِأجْلِ حادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فالآيَةُ دَلَّتْ عَلى حُكْمِ العُمْرَةِ؛ لِأنَّها لا تَكُونُ إلّا مَعَ الأمْنِ، وذَلِكَ أنَّ المُسْلِمِينَ جاءُوا في عامِ عُمْرَةِ القَضاءِ مُعْتَمِرِينَ وناوِينَ إنْ مُكِّنُوا مِنَ الحَجِّ أنْ يَحُجُّوا، ويُعْلَمُ حُكْمُ المَرِيضِ ونَحْوِهِ إذا زالَ عَنْهُ المانِعُ بِالقِياسِ عَلى حُكْمِ الخائِفِ. وقَوْلُهُ: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ﴾ جَوابُ ”إذا“ والتَّقْدِيرُ: فَإذا أمِنتُمْ بَعْدَ الإحْصارِ وفاتَكم وقْتُ الحَجِّ وأمْكَنَكم أنْ تَعْتَمِرُوا فاعْتَمِرُوا وانْتَظِرُوا إلى عامِ قابِلٍ، واغْتَنِمُوا خَيْرَ العُمْرَةِ، فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ عِوَضًا عَنْ هَدْيِ الحَجِّ، فالظّاهِرُ أنَّ صَدْرَ الآيَةِ أُرِيدَ بِهِ الإحْصارُ الَّذِي لا يَتَمَكَّنُ مَعَهُ المُحْصَرُ مِن حَجٍّ ولا عُمْرَةٍ، وأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾ أُرِيدَ بِهِ حُصُولُ الأمْنِ مَعَ إمْكانِ الإتْيانِ بِعُمْرَةٍ، وقَدْ فاتَ وقْتُ الحَجِّ، أيْ: أنَّهُ فاتَهُ الوَقْتُ ولَمْ يَفُتْهُ مَكانُ الحَجِّ، ويُعْلَمُ أنَّ مَن أمِنَ وقَدْ بَقِيَ ما يَسَعُهُ بِأنْ يَحُجَّ؛ عَلَيْهِ أنْ يَحُجَّ. ومَعْنى ﴿تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ﴾ انْتَفَعَ بِالعُمْرَةِ عاجِلًا، والِانْتِفاعُ بِها إمّا بِمَعْنى الِانْتِفاعِ بِثَوابِها، أوْ بِسُقُوطِ وُجُوبِها إنْ قِيلَ: إنَّها واجِبَةٌ مَعَ إسْقاطِ السَّفَرِ لَها، إذْ هو قَدْ أدّاها في سَفَرِ الحَجِّ، وإمّا بِمَعْنى الِانْتِفاعِ بِالحِلِّ مِنها ثُمَّ إعادَةُ الإحْرامِ بِالحَجِّ، فانْتَفَعَ بِألّا يَبْقى في كُلْفَةِ الإحْرامِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وهَذا رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى؛ إذْ أباحَ العُمْرَةَ في مُدَّةِ الحَجِّ بَعْدَ أنْ كانَ ذَلِكَ مَحْظُورًا في عَهْدِ الجاهِلِيَّةِ؛ إذْ كانُوا يَرَوْنَ العُمْرَةَ في أشْهُرِ الحَجِّ مِن أعْظَمِ الفُجُورِ. فالباءُ في قَوْلِهِ: (بِالعُمْرَةِ) صِلَةُ فِعْلِ (تَمَتَّعَ)، وقَوْلُهُ: ﴿إلى الحَجِّ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنى (إلى) مُتَرَبِّصًا إلى وقْتِ الحَجِّ أوْ بالِغًا إلى وقْتِ الحَجِّ؛ أيْ: أيّامِهِ؛ وهي عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ، وقَدْ فُهِمْ مِن كَلِمَةِ ”إلى“ أنَّ بَيْنَ العُمْرَةِ والحَجِّ زَمَنًا لا يَكُونُ فِيهِ المُعْتَمِرُ مُحْرِمًا، وهو الإحْلالُ الَّذِي بَيْنَ العُمْرَةِ والحَجِّ في التَّمَتُّعِ والقِرانِ، فَعَلَيْهِ ما اسْتَيْسَرَهُ مِنَ الهَدْيِ لِأجْلِ الإحْلالِ الَّذِي بَيْنَ الإحْرامَيْنِ، وهَذا حَيْثُ لَمْ يَهْدِ وقْتَ الإحْصارِ فِيما أراهُ واللَّهُ أعْلَمُ، والآيَةُ جاءَتْ بِلَفْظِ التَّمَتُّعِ عَلى المَعْنى اللُّغَوِيِّ؛ أيْ: الِانْتِفاعِ وأشارَتْ إلى ما سَمّاهُ المُسْلِمُونَ بِالتَّمَتُّعِ وبِالقِرانِ وهو مِن شَرائِعِ الإسْلامِ الَّتِي أبْطَلَ بِها شَرِيعَةَ الجاهِلِيَّةِ، واسْمُ التَّمَتُّعِ يَشْمَلُها لَكِنَّهُ خَصَّ التَّمَتُّعَ بِأنْ يُحْرِمَ الحاجُّ بِعُمْرَةٍ في أشْهُرِ الحَجِّ ثُمَّ يَحِلُّ مِنها ثُمَّ يَحُجُّ مِن عامِهِ ذَلِكَ قَبْلَ الرُّجُوعِ إلى أُفُقِهِ، وخَصَّ القِرانَ بِأنْ يَقْتَرِنَ الحَجُّ والعُمْرَةُ في إهْلالٍ واحِدٍ ويَبْدَأ في فِعْلِهِ بِالعُمْرَةِ ثُمَّ يَحِلَّ مِنها ويَجُوزُ لَهُ أنْ يُرْدِفَ الحَجَّ (p-٢٢٧)عَلى العُمْرَةِ، كُلُّ ذَلِكَ شَرَعَهُ اللَّهُ رُخْصَةً لِلنّاسِ، وإبْطالًا لِما كانَتْ عَلَيْهِ الجاهِلِيَّةُ مِن مَنعِ العُمْرَةِ في أشْهُرِ الحَجِّ، وفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ الهَدْيَ جَبْرًا لِما كانَ يَتَجَشَّمُهُ مِن مَشَقَّةِ الرُّجُوعِ إلى مَكَّةَ لِأداءِ العُمْرَةِ كَما كانُوا في الجاهِلِيَّةِ، ولِذَلِكَ سَمّاهُ تَمَتُّعًا. وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في التَّمَتُّعِ وفي صِفَتِهِ، فالجُمْهُورُ عَلى جَوازِهِ، وأنَّهُ يَحِلُّ مِن عُمْرَتِهِ الَّتِي أحْرَمَ بِها في أشْهُرِ الحَجِّ ثُمَّ يُحْرِمُ بَعْدَ ذَلِكَ في حَجَّةٍ في عامِهِ ذَلِكَ، وكانَ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ لا يَرى التَّمَتُّعَ ويَنْهى عَنْهُ في خِلافَتِهِ، ولَعَلَّهُ كانَ يَتَأوَّلُ هَذِهِ الآيَةَ بِمِثْلِ ما تَأوَّلَها ابْنُ الزُّبَيْرِ كَما يَأْتِي قَرِيبًا، وخالَفَهُ عَلِيٌّ وعِمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وفي البُخارِيِّ عَنْ عِمْرانِ بْنِ حُصَيْنٍ: تَمَتَّعْنا عَلى عَهْدِ النَّبِيءِ ونَزَلَ القُرْآنُ ثُمَّ قالَ رَجُلٌ مِنّا بِرَأْيِهِ ما شاءَ؛ يُرِيدُ عُثْمانَ وكانَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ لا يَرى لِلْقارِنِ إذا أحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وبِحَجَّةٍ مَعًا وتَمَّمَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ أنْ يَحِلَّ مِن إحْرامِهِ حَتّى يَحِلَّ مِن إحْرامِ حَجِّهِ، فَقالَ لَهُ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ إنِّي جِئْتُ مِنَ اليَمَنِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ بِمَكَّةَ مُحْرِمًا؛ أيْ: عامَ الوَداعِ، فَقالَ لِي: بِمَ أهَلَلْتَ ؟ قُلْتُ: أهْلَلْتُ بِإهْلالٍ كَإهْلالِ النَّبِيءِ، فَقالَ لِي: هَلْ مَعَكَ هَدْيٌ. قُلْتُ: لا. فَأمَرَنِي فَطُفْتُ وسَعَيْتُ فَأحْلَلْتُ وغَسَلْتُ رَأْسِي ومَشَّطَتْنِي امْرَأةٌ مِن عَبْدِ القَيْسِ، فَلَمّا حَدَّثَ أبُو مُوسى عُمَرَ بِهَذا قالَ عُمَرُ: إنْ نَأْخُذْ بِكِتابِ اللَّهِ فَهو يَأْمُرُنا بِالإتْمامِ، وإنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِهِ فَإنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتّى بَلَغَ الهَدْيَ مَحِلَّهُ، وجُمْهُورُ الصَّحابَةِ والفُقَهاءِ يُخالِفُونَ رَأْيَ عُمَرَ ويَأْخُذُونَ بِخَبَرِ أبِي مُوسى، وبِحَدِيثِ عَلِيٍّ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: لَوْلا أنَّ مَعِيَ الهَدْيَ لَأحْلَلْتُ»، وقَدْ يَنْسِبُ بَعْضُ النّاسِ إلى عُمَرَ أنَّهُ لا يَرى جَوازَ التَّمَتُّعِ، وهو وهْمٌ، وإنَّما رَأْيُ عُمَرَ لا يَجُوزُ الإحْلالُ مِنَ العُمْرَةِ في التَّمَتُّعِ إلى أنْ يَحِلَّ مِنَ الحَجِّ، وذَلِكَ مَعْنى قَوْلِهِ: فَإنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتّى بَلَغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ، فَلَعَلَّهُ رَأى الإحْلالَ لِلْمُتَلَبِّسِ بِنِيَّةِ الحَجِّ مُنافِيًا لِنِيَّتِهِ، وهو ما عَبَّرَ عَنْهُ بِالإتْمامِ، ولَعَلَّهُ كانَ لا يَرى الآحادَ مُخَصِّصًا لِلْمُتَواتِرِ مِن كِتابٍ أوْ سُنَّةٍ؛ لِأنَّ فِعْلَ النَّبِيءِ ﷺ هُنا مُتَواتِرٌ، إذْ قَدْ شَهِدَهُ كَثِيرٌ مِن أصْحابِهِ ونَقَلُوا حَجَّهُ وأنَّهُ أهَّلَ بِها جَمِيعًا. نَعَمْ كانَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ يَرَيانِ إفْرادَ الحَجِّ أفْضَلَ مِنَ التَّمَتُّعِ والقِرانِ، وبِهِ أخَذَ مالِكٌ، رَوى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ أنَّهُ يُرَجِّحُ أحَدَ الحَدِيثَيْنِ المُتَعارِضَيْنِ بِعَمَلِ الشَّيْخَيْنِ، وكانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرى التَّمَتُّعَ خاصًّا بِالمُحْصَرِ إذا تَمَكَّنَ مِنَ الوُصُولِ إلى البَيْتِ بَعْدَ أنْ فاتَهُ وُقُوفُ (p-٢٢٨)عَرَفَةَ، فَيَجْعَلُ حَجَّتَهُ عُمْرَةً، ويَحُجُّ في العامِ القابِلِ، وتَأوَّلَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إلى الحَجِّ﴾ أيْ: إلى وقْتِ الحَجِّ القابِلِ، والجُمْهُورُ يَقُولُونَ: ﴿إلى الحَجِّ﴾ أيْ: إلى أيّامِ الحَجِّ. وقَوْلُهُ: ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ﴾ الآيَةَ، عُطِفَتْ عَلى ﴿فَمَن تَمَتَّعَ﴾ لِأنَّ ﴿فَمَن تَمَتَّعَ﴾ مَعَ جَوابِهِ وهو ﴿فَما اسْتَيْسَرَ﴾ مُقَدَّرٌ فِيهِ مَعْنى ”فَمَن تَمَتَّعَ واجِدًا الهَدْيَ“ فَعُطِفَتْ عَلَيْهِ ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ﴾ وجَعَلَ اللَّهُ الصِّيامَ بَدَلًا عَنِ الهَدْيِ زِيادَةً في الرُّخْصَةِ والرَّحْمَةِ، ولِذَلِكَ شَرَعَ الصَّوْمَ مُفَرَّقًا فَجَعَلَهُ عَشَرَةَ أيّامٍ؛ ثَلاثَةً مِنها في أيّامِ الحَجِّ وسَبْعَةً بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الحَجِّ. فَقَوْلُهُ: ﴿فِي الحَجِّ﴾ أيْ: في أشْهُرِهِ إنْ كانَ أمْكَنَهُ الِاعْتِمارُ قَبْلَ انْقِضاءِ مُدَّةِ الحَجِّ، فَإنْ لَمْ يُدْرِكِ الحَجَّ واعْتَمَرَ فَتِلْكَ صِفَةٌ أُخْرى لا تَعَرُّضَ إلَيْها في الآيَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ﴾ فَذْلَكَةُ الحِسابِ؛ أيْ: جامِعَتُهُ، فالحاسِبُ إذا ذَكَرَ عَدَدَيْنِ فَصاعِدًا قالَ عِنْدَ إرادَةِ جَمْعِ الأعْدادِ: فَذَلِكَ - أيِ: المَعْدُودُ - كَذا، فَصِيغَتْ لِهَذا القَوْلِ صِيغَةَ نَحْتٍ، مِثْلَ: بَسْمَلَ؛ إذا قالَ بِاسْمِ اللَّهِ، وحَوْقَلَ؛ إذا قالَ لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ، فَحُرُوفُ فَذْلَكَةَ مُتَجَمِّعَةٌ مِن حُرُوفِ فَذَلِكَ، كَما قالَ الأعْشى: ؎ثَلاثٌ بِالغَداةِ فَهُنَّ حَسْبِي وسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي العِشاءُ ؎فَذَلِكَ تِسْعَةٌ في اليَوْمِ رَيِّي ∗∗∗ وشُرْبُ المَرْءِ فَوْقَ الرَّيِّ داءُ فَلَفْظُ فَذْلَكَةَ كَلِمَةٌ مُوَلَّدَةٌ لَمْ تُسْمَعْ مِن كَلامِ العَرَبِ، غَلَبَ إطْلاقُ اسْمِ الفَذْلَكَةِ عَلى خُلاصَةِ جَمْعِ الأعْدادِ، وإنْ كانَ اللَّفْظُ المَحْكِيُّ جَرى بِغَيْرِ كَلِمَةِ (ذَلِكَ) كَما نَقُولُ في قَوْلِهِ ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ﴾: إنَّها فَذْلَكَةٌ مَعَ كَوْنِ الواقِعِ في المَحْكِيِّ لَفْظُ تِلْكَ لا لَفْظُ ذَلِكَ، ومِثْلُهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقَ: ؎ثَلاثٌ واثْنَتانِ فَتِلْكَ خَمْسٌ ∗∗∗ وسادِسَةٌ تَمِيلُ إلى الشِّمامِ أيْ: إلى الشَّمِّ والتَّقْبِيلِ وفِي وجْهِ الحاجَةِ إلى الفَذْلَكَةِ في الآيَةِ وُجُوهٌ، فَقِيلَ هو مُجَرَّدُ تَوْكِيدٍ، كَما تَقُولُ: كَتَبْتُ بِيَدِي يَعْنِي أنَّهُ جاءَ عَلى طَرِيقَةِ ما وقَعَ في شِعْرِ الأعْشى أيْ أنَّهُ جاءَ عَلى أُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ، ولا يُفِيدُ إلّا تَقْرِيرَ الحُكْمِ في الذِّهْنِ مَرَّتَيْنِ، ولِذَلِكَ قالَ صاحِبُ الكَشّافِ لَمّا ذَكَرَ مِثْلَهُ: كَقَوْلِ العَرَبِ: عِلْمانِ خَيْرٌ مِن عِلْمٍ. وعَنِ المُبَرِّدِ: أنَّهُ تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أنْ يَكُونَ بَقِيَ شَيْءٌ مِمّا يَجِبُ صَوْمُهُ، وقالَ الزَّجّاجُ: قَدْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أنَّ المُرادَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ صَوْمِ ثَلاثَةِ أيّامٍ في الحَجِّ أوْ سَبْعَةِ أيّامٍ إذا رَجَعَ إلى بَلَدِهِ بَدَلًا (p-٢٢٩)مِنَ الثَّلاثَةِ، أُزِيلُ ذَلِكَ بِجَلِيَّةِ المُرادِ بِقَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ﴾ وتَبِعَهُ صاحِبُ الكَشّافِ فَقالَ: الواوُ قَدْ تَجِيءُ لِلْإباحَةِ في نَحْوِ قَوْلِكَ: جالَسَ الحَسَنَ وابْنَ سِيرِينَ فَفَذْلَكْتُ نَفْيًا لِتَوَهُّمِ الإباحَةِ ا هـ. وهو يُرِيدُ مِنَ الإباحَةِ أنَّها لِلتَّخْيِيرِ الَّذِي يَجُوزُ مَعَهُ الجَمْعُ ولا يَتَعَيَّنُ. وفِي كِلا الكَلامَيْنِ حاجَةٌ إلى بَيانِ مَنشَأِ تَوَهُّمِ مَعْنى التَّخْيِيرِ فَأقُولُ: إنَّ هَذا المَعْنى وإنْ كانَ خِلافَ الأصْلِ في الواوِ حَتّى زَعَمَ ابْنُ هِشامٍ أنَّ الواوَ لا تَرِدُ لَهُ، وأنَّ التَّخْيِيرَ يُسْتَفادُ مِن صِيغَةِ الأمْرِ، لا أنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ مِن حَيْثُ إنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ في حالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وجَعَلَ أقَلَّ العَدَدَيْنِ لِأشَقِّ الحالَتَيْنِ وأكْثَرَهُما لِأخَفِّهِما، فَلا جَرَمَ طَرَأ تَوَهُّمُ أنَّ اللَّهَ أوْجَبَ صَوْمَ ثَلاثَةِ أيّامٍ فَقَطْ وأنَّ السَّبْعَةَ رُخْصَةٌ لِمَن أرادَ التَّخْيِيرَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ ما يَدْفَعُ هَذا التَّوَهُّمَ، بَلِ الإشارَةُ إلى أنَّ مُرادَ اللَّهِ تَعالى إيجابُ صَوْمِ عَشَرَةِ أيّامٍ، وإنَّما تَفْرِيقُها رُخْصَةٌ ورَحْمَةٌ مِنهُ سُبْحانَهُ، فَحَصَلَتْ فائِدَةُ التَّنْبِيهِ عَلى الرَّحْمَةِ الإلَهِيَّةِ. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [الأعراف: ١٤٢] إذْ دَلَّ عَلى أنَّهُ أرادَ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مُناجاةَ أرْبَعِينَ لَيْلَةً، ولَكِنَّهُ أبْلَغَها إلَيْهِ مُوَزَّعَةً تَيْسِيرًا. وقَدْ سُئِلْتُ عَنْ حِكْمَةِ كَوْنِ الأيّامِ عَشَرَةً، فَأجَبْتُ بِأنَّهُ لَعَلَّهُ نَشَأ مِن جَمْعِ سَبْعَةٍ وثَلاثَةٍ؛ لِأنَّهُما عَدَدانِ مُبارَكانِ، ولَكِنْ فائِدَةُ التَّوْزِيعِ ظاهِرَةٌ، وحِكْمَةُ كَوْنِ التَّوْزِيعِ كانَ إلى عَدَدَيْنِ مُتَفاوِتَيْنِ لا مُتَساوِيَيْنِ ظاهِرَةٌ؛ لِاخْتِلافِ حالَةِ الِاشْتِغالِ بِالحَجِّ فَفِيها مَشَقَّةٌ، وحالَةُ الِاسْتِقْرارِ بِالمَنزِلِ. وفائِدَةُ جَعْلِ بَعْضِ الصَّوْمِ في مُدَّةِ الحَجِّ جَعْلُ بَعْضِ العِبادَةِ عِنْدَ سَبَبِها، وفائِدَةُ التَّوْزِيعِ إلى ثَلاثَةٍ وسَبْعَةٍ أنَّ كِلَيْهِما عَدَدٌ مُبارَكٌ ضُبِطَتْ بِمِثْلِهِ الأعْمالُ دِينِيَّةً وقَضائِيَّةً. وأمّا قَوْلُ (كامِلَةٌ) فَيُفِيدُ التَّحْرِيضَ عَلى الإتْيانِ بِصِيامِ الأيّامِ كُلِّها لا يَنْقُصُ مِنها شَيْءٌ، مَعَ التَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الصَّوْمِ، وأنَّهُ طَرِيقُ كَمالٍ لِصائِمِهِ، فالكَمالُ مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ إشارَةٌ إلى أقْرَبِ شَيْءٍ في الكَلامِ، وهو هَدْيُ التَّمَتُّعِ أوْ بَدَلُهُ وهو الصِّيامُ، والمَعْنى أنَّ الهَدْيَ عَلى الغَرِيبِ مِنمَكَّةَ كَيْ لا يُعِيدَ السَّفَرَ لِلْعُمْرَةِ، فَأمّا المَكِّيُّ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِالِاسْتِغْناءِ عَنْ إعادَةِ السَّفَرِ فَلِذا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ هَدْيٌ، وهَذا (p-٢٣٠)قَوْلُ مالِكٍ والشّافِعِيِّ والجُمْهُورِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُما عَلى أهْلِ مَكَّةَ هَدْيٌ في التَّمَتُّعِ والقِرانِ؛ لِأنَّهم لا مَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ في إعادَةِ العُمْرَةِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: الإشارَةُ إلى جَمِيعِ ما يَتَضَمَّنُهُ الكَلامُ السّابِقُ عَلى اسْمِ الإشارَةِ وهو التَّمَتُّعُ بِالعُمْرَةِ مَعَ الحَجِّ ووُجُوبُ الهَدْيِ، فَهو لا يَرى التَّمَتُّعَ والقِرانَ لِأهْلِ مَكَّةَ وهو وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. وحاضِرُو المَسْجِدِ الحَرامِ هم أهْلُ بَلْدَةِ مَكَّةَ وما جاوَرَها، واخْتُلِفَ في تَحْدِيدِ ما جاوَرَها، فَقالَ مالِكٌ: ما اتَّصَلَ بِمَكَّةَ وذَلِكَ مِن ذِي طُوًى عَلى أمْيالٍ قَلِيلَةٍ مِن مَكَّةَ. وقالَ الشّافِعِيُّ: مَن كانَ مِن مَكَّةَ عَلى مَسافَةِ القَصْرِ ونَسَبَهُ ابْنُ حَبِيبٍ إلى مالِكٍ وغَلَّطَهُ شُيُوخُ المَذْهَبِ. وقالَ عَطاءٌ: حاضِرُو المَسْجِدِ الحَرامِ أهْلُ مَكَّةَ وأهْلُ عَرَفَةَ، ومَرٍّ، وعُرَنَةَ، وضَجْنانَ، والرَّجِيعِ، وقالَ الزُّهْرِيُّ: أهْلُ مَكَّةَ ومَن كانَ عَلى مَسافَةِ يَوْمٍ أوْ نَحْوِهِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: أهْلُ مَكَّةَ وذِي طُوًى، وفَجٍّ، وما يَلِي ذَلِكَ. وقالَ طاوُسٌ: حاضِرُو المَسْجِدِ الحَرامِ كُلُّ مَن كانَ داخِلَ الحَرَمِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: هم مَن كانُوا داخِلَ المَواقِيتِ، سَواءٌ كانُوا مَكِّيِّينَ أوْ غَيْرَهم، ساكِنِي الحَرَمِ أوِ الحِلِّ. * * * ﴿واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ وِصايَةٌ بِالتَّقْوى بَعْدَ بَيانِ الأحْكامِ الَّتِي لا تَخْلُو مِن مَشَقَّةٍ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ التَّهاوُنِ بِها، فالأمْرُ بِالتَّقْوى عامٌّ، وكَوْنُ الحَجِّ مِن جُمْلَةِ ذَلِكَ هو مِن جُمْلَةِ العُمُومِ وهو أجْدَرُ أفْرادِ العُمُومِ، لِأنَّ الكَلامَ فِيهِ. وقَوْلُهُ: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ افْتُتِحَ بِقَوْلِهِ: ﴿واعْلَمُوا﴾ اهْتِمامًا بِالخَبَرِ فَلَمْ يَقْتَصِرْ بِأنْ يُقالَ (﴿واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ [المائدة: ٢]) فَإنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَحَصَلَ العِلْمُ المَطْلُوبُ؛ لِأنَّ العِلْمَ يَحْصُلُ مِنَ الخَبَرِ، ولَكِنْ لَمّا أُرِيدَ تَحْقِيقُ الخَبَرِ افْتُتِحَ بِالأمْرِ بِالعِلْمِ؛ لِأنَّهُ في مَعْنى تَحْقِيقِ الخَبَرِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: لا تَشُكُّوا في ذَلِكَ، فَأفادَ مُفادَ ”إنَّ“، وتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١٩٤]