ركن التفسير
198 - (ليس عليكم جناح) في (أن تبتغوا) تطلبوا (فضلاً) رزقا (من ربكم) بالتجارة في الحج نزل رداً لكراهتهم ذلك (فإذا أفضتم) دفعتم (من عرفات) بعد الوقوف بها (فاذكروا الله) بعد المبيت بمزدلفة بالتلبية والتهليل والدعاء (عند المشعر الحرام) هو جبل في آخر المزدلفة يقال له قُزَح وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم وقف به يذكر الله ويدعو حتى أسفر جدّا. رواه مسلم (واذكروه كما هداكم) لمعالم دينه ومناسك حجه والكاف للتعليل (وإن) مخففة (كنتم من قبله) قبل هداه (لمن الضالين)
قال البخاري: حدثنا محمد أخبرني ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا فى الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فنزلت "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" في مواسم الحج. وهكذا رواه عبدالرزاق وسعيد بن منصور وغير واحد عن سفيان بن عيينة به ولبعضهم فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله هذه الآية وكذا رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ ومجنة وذو المجاز فلما كان الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت هذه الآية وروى أبو داود وغيره من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج يقولون أيام ذكر فأنزل الله "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشام أخبرنا حجاج عن عطاء عن ابن عباس أنه قال "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" في مواسم الحج. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: لا حرج عليكم فى الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده وهكذا روى العوفي عن ابن عباس وقال وكيع: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" في مواسم الحج. وقال عبدالرحمن عن ابن عيينة عن عبدالله بن أبي يزيد: سمعت ابن الزبير يقرأ "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" في مواسم الحج وهكذا فسرها مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ومنصور بن المعتمر وقتادة وإبراهيم النخعي والربيع بن أنس وغيرهم. وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا شبابة بن سوار حدثنا شعبة عن أبي أميمة قال: سمعت ابن عمر سئل عن الرجل يحج ومعه تجارة فقرأ ابن عمر "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" وهذا موقوف وهو قوي جيد وقد روي مرفوعا. قال أحمد: حدثنا أسباط حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر إنا نكري فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعرف وترمون الجمار وتحلقون رءوسكم قال قلنا بلى فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال "أنتم حجاج" وقال عبدالرزاق: أخبرنا الثوري عن العلاء بن المسيب عن رجل من بني تميم قال: جاء رجل إلى عبدالله بن عمر فقال: يا أبا عبدالرحمن إنا قوم نكري ويزعمون أنه ليس لنا حج قال: ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون؟ قال: بلى قال: فأنت حاج ثم قال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عما سألت عنه فنزلت هذه الآية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن عبدالرزاق به وهكذا روى هذا الحديث أبو حذيفة عن الثوري مرفوعا. وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعا فقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عباد بن العوام عن العلاء بن المسيب عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر: إنا أناس نكري في هذا الوجه إلى مكة وإن أناسا يزعمون أنه لا حج لنا فهل ترى لنا حجا؟ قال ألستم تحرمون وتطوفون بالبيت وتقضون المناسك؟ قال: قلت بلى قال "فأنتم حجاج" ثم قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الذي سألت فلم يدر ما يعود عليه أو قال: فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" فدعا الرجل فتلاها عليه وقال "أنتم حجاج" وكذا رواه مسعود بن سعد وعبدالواحد بن زياد وشريك القاضي عن العلاء بن المسيب به مرفوعا. وقال ابن جرير: حدثني طليق بن محمد الواسطي حدثنا أسباط هو ابن محمد أخبرنا الحسن بن عمر وهو الفقيمي عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر إنا قوم نكري فهل لنا من حج؟ فقال: أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعرف وترمون الجمار وتحلقون رءوسكم؟ قلنا بلى قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول له حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" إلى آخر الآية. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنتم حجاج" وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا غندر عن عبدالرحمن بن المهاجر عن أبي صالح مولى عمر قال: قلت يا أمير المومنين كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟ وقوله تعالى "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" إنما صرف عرفات وإن كان علما على مؤنث لأنه في الأصل جمع كمسلمات ومؤمنات سمي به بقعة معينة فروعي فيه الأصل فصرف اختاره ابن جرير وعرفة موضع الوقوف في الحج وهي عمدة أفعال الحج ولهذا روى الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن الثوري عن بكير عن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "الحج عرفات - ثلاثا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك. وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه" ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس وقال: "لتأخذوا عني مناسككم" وقال في هذا الحديث "فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة واحتجوا بحديث الشعبي عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت يا رسول الله إنى جئت من جبلي طيء أكللت راحلتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي. ثم قيل: إنما سميت عرفات لما رواه عبدالرزاق أخبرني ابن جريج قال: قال ابن المسيب قال علي بن أبي طالب بعث الله جبريل عليه السلام إلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فحج به حتى إذا أتى عرفة قال عرفت وكان قد أتاها مرة قبل ذلك فلذلك سميت عرفة. وقال ابن المبارك عن عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: إنما سميت عرفة لأن جبريل كان يري إبراهيم المناسك فيقول: عرفت عرفت فسميت عرفات. وروي نحوه عن ابن عباس وابن عمر وأبي مجلز فالله أعلم وتسمى عرفات المشعر الحرام والمشعر الأقصى وإلال على وزن هلال ويقال للجبل في وسطها جبل الرحمة قال أبو طالب في قصيدته المشهورة: وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له إلال إلى تلك الشراج القوابل وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حماد بن الحسن بن عيينة حدثنا أبو عامر عن زمعة هو ابن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رءوس الجبال كأنها العمائم على رءوس الرجال دفعوا فأخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدفعة عن عرفة حتى غربت الشمس ورواه ابن مردويه من حديث زمعة بن صالح وزاد: ثم وقف بالمزدلفة وصلى الفجر بغلس حتى إذا أسفر كل شيء وكان في الوقت الآخر دفع وهذا أحسن الإسناد وقال ابن جريج عن محمد بن قيس عن المسور بن مخرمة قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال "أما بعد - وكان إذا خطب خطبة قال أما بعد - فإن هذا اليوم الحج الأكبر ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس إذا كانت الشمس في رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس مخالفا هدينا هدي أهل الشرك" هكذا رواه ابن مردويه وهذا لفظه والحاكم في مستدركه كلاهما من حديث عبدالرحمن بن المبارك العيشي عن عبدالوارث بن سعيد عن ابن جريج. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقد صح وثبت بما ذكرناه سماع المسور من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا كما يتوهمه بعض أصحابنا أنه ممن له رؤية بلا سماع وقال وكيع عن شعبة عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي عن المعرور بن سويد قال: رأيت عمر - رضي الله عنه - حين دفع من عرفة كأني أنظر إليه رجل أصلع على بعير له يوضع وهو يقول: إنا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع. وفي حديث جابر بن عبدالله الطويل الذي في صحيح مسلم قال فيه: - فلم يزل واقفا يعني بعرفة حتى غربت الشمس وبدت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى "أيها الناس: السكينة السكينة" كلما أتي جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه سئل كيف كان يسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دفع؟ قال: كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص. والعنق هو انبساط السير والنص فوقه وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو محمد بن بنت الشافعي فيما كتب إلي عن أبيه أو عمه عن سفيان بن عيينة قوله "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" وهي الصلاتين جميعا وقال أبو إسحق السبيعي عن عمرو بن ميمون سألت عبدالله بن عمرو عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام. وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم قال: قال ابن عمر: المشعر الحرام المزدلفة كلها. وقال هشام عن حجاج عن نافع عن ابن عمر أنه سئل عن قوله "فاذكروا الله عند المشعر الحرام" قال فقال: هذا الجبل وما حوله. وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن المغيرة عن إبراهيم قال: رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح فقال: علام يزدحم هؤلاء؟ كل ما ههنا مشعر. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي والربيع بن أنس والحسن وقتادة أنهم قالوا: هو ما بين الجبلين. وقال ابن جريج: قلت لعطاء أين المزدلفة؟ قال: إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسر قال وليس المأزمان مأزمي عرفة من المزدلفة ولكن مفضاهما قال: فقف بينهما إن شئت قال وأحب أن تقف دون قزح هلم إلينا من أجل طريق الناس "قلت" والمشاعر هي المعالم الظاهرة وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام لأنها داخل الحرم وهل الوقوف بها ركن في الحج لا يصح إلا به كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض أصحاب الشافعي منهم القفال وابن خزيمة لحديث عروة بن مضرس؟ أو واجب كما هو أحد قولي الشافعي يجبر بدم؟ أو مستحب لا يجب بتركه شيء كما هو القول الآخر؟ في ذلك ثلاثة أقوال للعلماء لبسطها موضع آخر غير هذا والله أعلم. وقال عبدالله بن المبارك عن سفيان الثوري عن زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عرفة كلها موقف وارفعوا عن عرفة وجمع كلها موقف إلا محسرا" هذا حديث مرسل وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا سعيد بن عبدالعزيز حدثني سليمان بن موسى عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل عرفات موقف وارفعوا عن عرفات وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن محسر وكل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح" وهذا أيضا منقطع فإن سليمان بن موسى هذا وهو الأشدق لم يدرك جبير بن مطعم ولكن رواه الوليد بن مسلم وسويد بن عبدالعزيز عن سعيد بن عبدالعزيز عن سليمان فقال الوليد عن جبير بن مطعم عن أبيه وقال سويد عن نافع بن جبير عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكره والله أعلم. وقوله "واذكروه كما هداكم" تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج على ما كان عليه من الهداية إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال "وإن كنتم من قبله لمن الضالين" قيل من قبل هذا الهدي وقيل القرآن وقيل الرسول والكل متقارب ومتلازم وصحيح.
﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ﴾ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المُتَعاطِفَيْنِ بِمُناسَبَةِ النَّهْيِ عَنْ أعْمالٍ في الحَجِّ تُنافِي المَقْصِدَ مِنهُ، فَنَقَلَ الكَلامَ إلى إباحَةِ ما كانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنهُ في الحَجِّ وهو التِّجارَةُ بِبَيانِ أنَّها لا تُنافِي المَقْصِدَ الشَّرْعِيَّ إبْطالًا لِما كانَ عَلَيْهِ المُشْرِكُونَ؛ إذْ كانُوا يَرَوْنَ التِّجارَةَ لِلْمُحْرِمِ بِالحَجِّ حَرامًا. فالفَضْلُ هُنا هو المالُ، وابْتِغاءُ الفَضْلِ التِّجارَةُ لِأجْلِ الرِّبْحِ كَما هو في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [المزمل: ٢٠] وقَدْ كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ إذا خَرَجُوا مِن سُوقِ ذِي المَجازِ إلى مَكَّةَ حَرُمَ عِنْدَهُمُ البَيْعُ والشِّراءُ قالَ النّابِغَةُ: ؎كادَتْ تُساقِطُنِي رَحْلِي ومِيثَرَتِي بِذِي المَجازِ ولَمْ تُحْسِسْ بِهِ نَغَما ؎مِن صَوْتِ حِرْمِيَّةٍ قالَتْ وقَدْ ظَعَنُوا ∗∗∗ هَلْ في مُخِفِّيكُمُ مَن يَشْتَرِي أدَما ؎قُلْتُ لَها وهي تَسْعى تَحْتَ لَبَّتِها ∗∗∗ لا تَحْطِمَنَّكِ إنَّ البَيْعَ قَدْ زَرِما أيِ: انْقَطَعَ البَيْعُ وحَرُمَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كانَتْ عُكاظُ ومَجَنَّةُ وذُو المَجازِ أسْواقًا في الجاهِلِيَّةِ فَتَأثَّمُوا أنْ يَتَّجِرُوا في المَواسِمِ فَنَزَلَتْ: (لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكم في مَوْسِمِ الحَجِّ) ا هـ. أيْ: قَرَأها ابْنُ عَبّاسٍ بِزِيادَةِ (في مَوْسِمِ الحَجِّ) وقَدْ كانَتْ سُوقُ عُكاظَ تَفْتَحُ مُسْتَهَلَّ ذِي القِعْدَةِ وتَدُومُ عِشْرِينَ يَوْمًا، وفِيها تُباعُ نَفائِسُ السِّلَعِ وتَتَفاخَرُ القَبائِلُ ويَتَبارى الشُّعَراءُ، فَهي أعْظَمُ أسْواقِ العَرَبِ، وكانَ مَوْقِعُها بَيْنَ نَخْلَةَ والطّائِفِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِن عُكاظَ إلى مَجَنَّةَ ثُمَّ إلى ذِي المَجازِ، والمَظْنُونُ أنَّهم يَقْضُونَ بَيْنَ هاتَيْنِ السُّوقَيْنِ بَقِيَّةَ شَهْرِ ذِي القِعْدَةِ؛ لِأنَّ النّابِغَةَ ذَكَرَ أنَّهُ أقامَ بِذِي المَجازِ أرْبَعَ لَيالٍ وأنَّهُ خَرَجَ مِن ذِي المَجازِ إلى مَكَّةَ فَقالَ يَذْكُرُ راحِلَتَهُ:(p-٢٣٨) ؎باتَتْ ثَلاثَ لَيالٍ ثُمَّ واحِدَةً ∗∗∗ بِذِي المَجازِ تُراعِي مَنزِلًا زِيَما ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ خَرَجَ مِن هُنالِكَ حاجًّا فَقالَ: ؎كادَتْ تُساقِطُنِي رَحْلِي ومِيثَرَتِي * * * ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾ الفاءُ عاطِفَةٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ﴾ [البقرة: ١٩٧] الآيَةَ، عُطِفَ الأمْرُ عَلى النَّهْيِ، وقَوْلُهُ: (إذا أفَضْتُمْ) شَرْطٌ لِلْمَقْصُودِ وهو: ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ والإفاضَةُ هُنا: الخُرُوجُ بِسُرْعَةٍ، وأصْلُها مِن فاضَ الماءُ إذا كَثُرَ عَلى ما يَحْوِيهِ، فَبَرَزَ مِنهُ وسالَ؛ ولِذَلِكَ سَمَّوْا إجالَةَ القِداحِ في المَيْسِرِ إفاضَةً والمُجِيلَ مُفِيضًا؛ لِأنَّهُ يُخْرِجُ القِداحَ مِنَ الرَّبابَةِ بِقُوَّةٍ وسُرْعَةٍ؛ أيْ: بِدُونِ تَخَيُّرٍ ولا جَسٍّ لِيَنْظُرَ القَدَحَ الَّذِي يَخْرُجُ، وسَمَّوُا الخُرُوجَ مِن عَرَفَةَ إفاضَةً؛ لِأنَّهم يَخْرُجُونَ في وقْتٍ واحِدٍ وهم عَدَدٌ كَثِيرٌ فَتَكُونُ لِخُرُوجِهِمْ شِدَّةٌ، والإفاضَةُ أُطْلِقَتْ في هاتِهِ الآيَةِ عَلى الخُرُوجِ مِن عَرَفَةَ والخُرُوجِ مِن مُزْدَلِفَةَ. والعَرَبُ كانُوا يُسَمُّونَ الخُرُوجَ مِن عَرَفَةَ الدَّفْعَ، ويُسَمُّونَ الخُرُوجَ مِن مُزْدَلِفَةَ إفاضَةً، وكِلا الإطْلاقَيْنِ مَجازٌ؛ لِأنَّ الدَّفْعَ هو إبْعادُ الجِسْمِ بِقُوَّةٍ، ومِن بَلاغَةِ القُرْآنِ إطْلاقُ الإفاضَةِ عَلى الخَرُوجَيْنِ؛ لِما في ”أفاضَ“ مِن قُرْبِ المُشابَهَةِ مِن حَيْثُ مَعْنى الكَثْرَةِ دُونَ الشِّدَّةِ. ولِأنَّ في تَجَنُّبِ ”دَفَعْتُمْ“ تَجَنُّبًا لِتَوَهُّمِ السّامِعِينَ أنَّ السَّيْرَ مُشْتَمِلٌ عَلى دَفْعِ بَعْضِ النّاسِ بَعْضًا؛ لِأنَّهم كانُوا يَجْعَلُونَ في دَفْعِهِمْ ضَوْضاءَ وجَلَبَةً وسُرْعَةَ سَيْرٍ، فَنَهاهُمُ النَّبِيءُ ﷺ عَنْ ذَلِكَ في حَجَّةِ الوَداعِ، وقالَ: «لَيْسَ البِرُّ بِالإيضاعِ فَإذا أفَضْتُمْ فَعَلَيْكم بِالسَّكِينَةِ والوَقارِ» . و(عَرَفاتٌ) اسْمُ وادٍ، ويُقالُ: بَطْنٌ، وهو مَسِيلٌ مُتَّسَعٌ تَنْحَدِرُ إلَيْهِ مِياهُ جِبالٍ تُحِيطُ بِهِ تُعْرَفُ بِجِبالِ عَرَفَةَ بِالإفْرادِ، وقَدْ جُعِلَ عَرَفاتٌ عَلَمًا عَلى ذَلِكَ الوادِي بِصِيغَةِ الجَمْعِ بِألِفٍ وتاءٍ، ويُقالُ لَهُ: عَرَفَةُ بِصِيغَةِ المُفْرَدِ، وقالَ الفَرّاءُ: قَوْلُ النّاسِ يَوْمُ عَرَفَةَ مُوَلَّدٌ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ مَحْضٍ، وخالَفَهُ أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ فَقالُوا: يُقالُ عَرَفاتٌ وعَرَفَةُ، وقَدْ جاءَ في عِدَّةِ أحادِيثِ: يَوْمَ عَرَفَةَ، وقالَ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ: لا يُقالُ: يَوْمُ عَرَفاتٍ، وفي وسَطِ وادِي عَرَفَةَ جُبَيْلٌ يَقِفُ عَلَيْهِ ناسٌ مِمَّنْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ ويَخْطُبُ عَلَيْهِ الخَطِيبُ بِالنّاسِ يَوْمَ تاسِعِ ذِي الحِجَّةِ عِنْدَ الظُّهْرِ، ووَقَفَ عَلَيْهِ (p-٢٣٩)النَّبِيءُ ﷺ راكِبًا يَوْمَ عَرَفَةَ، وبُنِيَ في أعْلى ذَلِكَ الجُبَيْلِ عَلَمٌ في المَوْضِعِ الَّذِي وقَفَ فِيهِ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَيَقِفُ الأئِمَّةُ يَوْمَ عَرَفَةَ عِنْدَهُ. ولا يُدْرى وجْهُ اشْتِقاقٍ في تَسْمِيَةِ المَكانِ عَرَفاتٍ أوْ عَرَفَةَ، ولا أنَّهُ عَلَمٌ مَنقُولٌ أوْ مُرْتَجَلٌ، والَّذِي اخْتارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ أنَّهُ عَلَمٌ مُرْتَجَلٌ، والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ أحَدَ الِاسْمَيْنِ أصْلٌ، والآخَرَ طارِئٌ عَلَيْهِ، وأنَّ الأصْلَ عَرَفاتٌ مِنَ العَرَبِيَّةِ القَدِيمَةِ، وأنَّ عَرَفَةَ تَخْفِيفٌ جَرى عَلى الألْسِنَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الأصْلُ عَرَفَةَ وأنَّ عَرَفاتٍ إشْباعٌ مِن لُغَةِ بَعْضِ القَبائِلِ. وذِكْرُ (عَرَفاتٍ) بِاسْمِهِ في القُرْآنِ يُشِيرُ إلى أنَّ الوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنُ الحَجِّ، وقالَ النَّبِيءُ ﷺ «الحَجُّ عَرَفَةُ» . سُمِّيَ المَوْضِعُ عَرَفاتٍ؛ الَّذِي هو عَلى زِنَةِ الجَمْعِ بِألِفٍ وتاءٍ، فَعامَلُوهُ مُعامَلَةَ الجَمْعِ بِألِفٍ وتاءٍ، ولَمْ يَمْنَعُوهُ الصَّرْفَ مَعَ وُجُودِ العَلَمِيَّةِ. وجَمْعُ المُؤَنَّثِ لا يُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ؛ لِأنَّ الجَمْعَ يُزِيلُ ما في المُفْرِدِ مِنَ العِلْمِيَّةِ، إذِ الجَمْعُ بِتَقْدِيرِ مُسَمَّياتٍ بِكَذا، فَما جُمِعَ إلّا بَعْدَ قَصْدِ تَنْكِيرِهِ، فالتَّأْنِيثُ الَّذِي يَمْنَعُ الصَّرْفَ مَعَ العِلْمِيَّةِ أوِ الوَصْفِيَّةِ هو التَّأْنِيثُ بِالهاءِ. وذِكْرُ الإفاضَةِ مِن عَرَفاتٍ يَقْتَضِي سَبْقَ الوُقُوفِ بِهِ؛ لِأنَّهُ لا إفاضَةَ إلّا بَعْدَ الحُلُولِ بِها، وذِكْرُ عَرَفاتٍ بِاسْمِهِ تَنْوِيهٌ بِهِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الوُقُوفَ بِهِ رُكْنٌ، فَلَمْ يُذَكَرْ مِنَ المَناسِكِ بِاسْمِهِ غَيْرُ عَرَفَةَ والصَّفا والمَرْوَةِ، وفي ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُما مِنَ الأرْكانِ، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ في الصَّفا والمَرْوَةِ، ويُؤْخَذُ رُكْنُ الإحْرامِ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ﴾ [البقرة: ١٩٧]، وأمّا طَوافُ الإفاضَةِ فَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وإجْماعِ الفُقَهاءِ. و(مِنِ) ابْتِدائِيَّةٌ. والمَعْنى: فَإذا أفَضْتُمْ خارِجِينَ مِن عَرَفاتٍ إلى المُزْدَلِفَةِ. والتَّصْرِيحُ باسِمِ عَرَفاتٍ في هَذِهِ الآيَةِ لِلرَّدِّ عَلى قُرَيْشٍ؛ إذْ كانُوا في الجاهِلِيَّةِ يَقِفُونَ في جَمْعٍ وهو المُزْدَلِفَةُ؛ لِأنَّهم حُمْسٌ، فَيَرَوْنَ أنَّ الوُقُوفَ لا يَكُونُ خارِجَ الحَرَمِ، ولَمّا كانَتْ مُزْدَلِفَةُ مِنَ الحَرَمِ كانُوا يَقِفُونَ بِها ولا يَرْضَوْنَ بِالوُقُوفِ بِعَرَفَةَ؛ لِأنَّ عَرَفَةَ مِنَ الحِلِّ كَما سَيَأْتِي، ولِهَذا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعالى المُزْدَلِفَةَ في الإفاضَةِ الثّانِيَةِ بِاسْمِها وقالَ: ﴿مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ [البقرة: ١٩٩] (p-٢٤٠)لِأنَّ المُزْدَلِفَةَ هو المَكانُ الَّذِي يُفِيضُ مِنهُ النّاسُ بَعْدَ إفاضَةِ عَرَفاتٍ، فَذَلِكَ حِوالَةٌ عَلى ما يَعْلَمُونَهُ. و(المَشْعَرُ) اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الشُّعُورِ أيِ: العِلْمِ، أوْ مِنَ الشِّعارِ أيِ: العَلامَةِ؛ لِأنَّهُ أُقِيمَتْ فِيهِ عَلامَةٌ كالمَنارِ مِن عَهْدِ الجاهِلِيَّةِ، ولَعَلَّهم فَعَلُوا ذَلِكَ لِأنَّهم يَدْفَعُونَ مِن عَرَفاتٍ آخِرَ المَساءِ فَيُدْرِكُهم غُبْسُ ما بَعْدَ الغُرُوبِ وهم جَماعاتٌ كَثِيرَةٌ، فَخَشُوا أنْ يَضِلُّوا الطَّرِيقَ فَيَضِيقُ عَلَيْهِمُ الوَقْتُ. ووَصَفَ المَشْعَرَ بِوَصْفِ (الحَرامِ) لِأنَّهُ مِن أرْضِ الحَرَمِ بِخِلافِ عَرَفاتٍ. والمَشْعَرُ الحَرامُ هو المُزْدَلِفَةُ، سُمِّيَتْ مُزْدَلِفَةَ؛ لِأنَّها ازْدَلَفَتْ مِن مِنًى؛ أيِ: اقْتَرَبَتْ؛ لِأنَّهم يَبِيتُونَ بِها قاصِدِينَ التَّصْبِيحَ في مِنًى. ويُقالُ لِلْمُزْدَلِفَةِ أيْضًا جَمْعٌ لِأنَّ جَمِيعَ الحَجِيجِ يَجْتَمِعُونَ في الوُقُوفِ بِها، الحُمْسُ وغَيْرُهم مِن عَهْدِ الجاهِلِيَّةِ، قالَ أبُو ذُؤَيْبٍ: ؎فَباتَ بِجَمْعٍ ثُمَّ راحَ إلى مِنًى فَأصْبَحَ رادًّا يَبْتَغِي المَزْجَ بِالسَّحْلِ فَمَن قالَ: إنَّ تَسْمِيَتَها جَمْعًا؛ لِأنَّها يُجْمَعُ فِيها بَيْنَ المَغْرِبِ والعَشاءِ فَقَدْ غَفَلَ عَنْ كَوْنِهِ اسْمًا مِن عَهْدِ ما قَبْلَ الإسْلامِ. وتُسَمّى المُزْدَلِفَةُ أيْضًا قُزَحَ - بِقافٍ مَضْمُومَةٍ، وزايٍ مَفْتُوحَةٍ، مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ - بِاسْمِ قَرْنِ جَبَلٍ بَيْنَ جِبالٍ مِن طَرَفِ مُزْدَلِفَةَ ويُقالُ لَهُ: المِيقَدَةُ؛ لِأنَّ العَرَبَ في الجاهِلِيَّةِ كانُوا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ النِّيرانَ، وهو مَوْقِفُ قُرَيْشٍ في الجاهِلِيَّةِ، ومَوْقِفُ الإمامِ في المُزْدَلِفَةِ عَلى قُزَحَ. رَوى أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ لَمّا أصْبَحَ بِجَمْعٍ أتى قُزَحَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وقالَ: هَذا قُزَحُ وهو المَوْقِفُ وجَمْعٌ كُلُّها مَوْقِفٌ»، ومَذْهَبُ مالِكٍ أنَّ المَبِيتَ سُنَّةٌ، وأمّا النُّزُولُ حِصَّةً فَواجِبٌ. وذَهَبَ عَلْقَمَةُ وجَماعَةٌ مِنَ التّابِعِينَ والأوْزاعِيُّ إلى أنَّ الوُقُوفَ بِمُزْدَلِفَةَ رُكْنٌ مِنَ الحَجِّ فَمَن فاتَهُ بَطَلَ حَجُّهُ تَمَسُّكًا بِظاهِرِ الأمْرِ في قَوْلِهِ: ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ . (p-٢٤١)وقَدْ كانَتِ العَرَبُ في الجاهِلِيَّةِ لا يُفِيضُونَ مِن عَرَفَةَ إلى المُزْدَلِفَةِ حَتّى يُجِيزَهم أحَدُ (بَنِي صُوفَةَ) وهم بَنُو الغَوْثِ بْنِ مُرِّ بْنِ أدِّ بْنِ طابِخَةَ بْنِ إلْياسَ بْنِ مُضَرٍ وكانَتْ أُمُّهُ جُرْهُمِيَّةً، لُقِّبَ الغَوْثُ بِصُوفَةَ؛ لِأنَّ أُمَّهُ كانَتْ لا تَلِدُ فَنَذَرَتْ إنْ هي ولَدَتْ ذَكَرًا أنْ تَجْعَلَهُ لِخِدْمَةِ الكَعْبَةِ فَوَلَدَتِ الغَوْثَ، وكانُوا يَجْعَلُونَ صُوفَةً يَرْبُطُونَ بِها شَعْرَ رَأْسِ الصَّبِيِّ الَّذِي يَنْذُرُونَهُ لِخِدْمَةِ الكَعْبَةِ وتُسَمّى الرَّبِيطَ، فَكانَ الغَوْثُ يَلِي أمْرَ الكَعْبَةِ مَعَ أخْوالِهِ مِن جُرْهُمَ فَلَمّا غَلَبَ قُصَيُّ بْنُ كِلابٍ عَلى الكَعْبَةِ جَعَلَ الإجازَةَ لِلْغَوْثِ ثُمَّ بَقِيَتْ في بَنِيهِ حَتّى انْقَرَضُوا، وقِيلَ: إنَّ الَّذِي جَعَلَ أبْناءَ الغَوْثِ لِإجازَةِ الحاجِّ هم مُلُوكُ كِنْدَةَ، فَكانَ الَّذِي يُجِيزُ بِهِمْ مِن عَرَفَةَ يَقُولُ: ؎لاهُمَّ إنِّي تابِعٌ تِباعَهْ ∗∗∗ إنْ كانَ إثْمٌ فَعَلى قُضاعَهْ لِأنَّ قُضاعَةَ كانَتْ تُحِلُّ الأشْهُرَ الحُرُمَ، ولَمّا انْقَرَضَ أبْناءُ صُوفَةَ صارَتِ الإجازَةُ لِبَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَناءَةَ بْنِ تَمِيمٍ، ورِثُوها بِالقُعْدُدِ فَكانَتْ في آلِ صَفْوانَ مِنهم، وجاءَ الإسْلامُ وهي بَيْدِ كِرِبِ بْنِ صَفْوانَ قالَ أوْسُ بْنُ مَغْراءَ: ؎لا يَبْرَحُ النّاسُ ما حَجُّوا مُعَرَّفَهم ∗∗∗ حَتّى يُقالَ أجِيزُوا آلَ صَفْوانا * * * ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكم وإنْ كُنْتُمْ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ﴾ الواوُ عاطِفَةٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾ والعَطْفُ يَقْتَضِي أنَّ الذِّكْرَ المَأْمُورَ بِهِ هُنا غَيْرُ الذِّكْرِ المَأْمُورِ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾ فَيَكُونُ هَذا أمْرًا بِالذِّكْرِ عَلى العُمُومِ بَعْدَ الأمْرِ بِذِكْرٍ خاصٍّ، فَهو في مَعْنى التَّذْيِيلِ بَعْدَ الأمْرِ بِالذِّكْرِ الخاصِّ في المَشْعَرِ الحَرامِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن هَذِهِ الجُمْلَةِ هو قَوْلَهُ: ﴿كَما هَداكُمْ﴾ فَمَوْقِعُها مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ. وكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ ألّا تُعْطَفَ بَلْ تُفْصَلُ وعُدِلَ عَنْ مُقْتَضى الظّاهِرِ، فَعُطِفَتْ بِالواوِ بِاعْتِبارِ مُغايَرَتِها لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها بِما فِيها مِن تَعْلِيلِ الذِّكْرِ وبَيانِ سَبَبِهِ، وهي مُغايَرَةٌ ضَعِيفَةٌ لَكِنَّها تُصَحِّحُ العَطْفَ كَما في قَوْلِ الحارِثِ بْنِ هَمّامٍ الشَّيْبانِيِّ: ؎أيا ابْنَ زَيّابَةَ إنْ تَلْقَنِي لا تَلْقَنِي في النِّعَمِ العازِبِ ؎وتَلْقَنِي يَشْتَدُّ بِي أجْرَدٌ ∗∗∗ مُسْتَقْدِمُ البَرَكَةِ كالرّاكِبِ (p-٢٤٢)فَإنَّ جُمْلَةَ ”تَلْقَنِي“ الثّانِيَةَ هي بِمَنزِلَةِ بَدَلِ الِاشْتِمالِ مِن ”لا تَلْقَنِي في النِّعَمِ العازِبِ“ لِأنَّ مَعْناهُ لا تَلْقَنِي راعِيَ إبِلٍ، وذَلِكَ النَّفْيُ يَقْتَضِي كَوْنَهُ فارِسًا؛ إذْ لا يَخْلُو الرَّجُلُ عَنْ إحْدى الحالَتَيْنِ، فَكانَ الظّاهِرُ فَصْلَ جُمْلَةِ ”تَلْقَنِي يَشْتَدُّ بِي أجْرَدُ“ لَكِنَّهُ وصَلَها لِمُغايِرَةٍ ما. وقَوْلُهُ: ﴿كَما هَداكُمْ﴾ تَشْبِيهٌ لِلذِّكْرِ بِالهُدى و”ما“ مَصْدَرِيَّةٌ. ومَعْنى التَّشْبِيهِ في مِثْلِ هَذا المُشابِهَةُ في التَّساوِي؛ أيِ: اذْكُرُوهُ ذِكْرًا مُساوِيًا لِهِدايَتِهِ إيّاكم فَيُفِيدُ مَعْنى المُجازاةِ والمُكافَأةِ، فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: إنَّ الكافَ في مِثْلِهِ لِلتَّعْلِيلِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الفَرْقُ بَيْنَها وبَيْنَ كافِ المُجازاةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَنَتَبَرَّأ مِنهم كَما تَبَرَّءُوا مِنّا﴾ [البقرة: ١٦٧] وكَثُرَ ذَلِكَ في الكافِ الَّتِي اقْتَرَنَتْ بِها (ما) كَيْفَ كانَتْ، وقِيلَ: ذَلِكَ خاصٌّ بِـ ”ما“ الكافَّةِ، والحَقُّ أنَّهُ وارِدٌ في الكافِ المُقْتَرِنَةِ بِـ ”ما“ وفي غَيْرِها. وضَمِيرُ (مِن قَبْلِهِ) يَرْجِعُ إلى الهُدى المَأْخُوذِ مِن ”ما“ المَصْدَرِيَّةِ و(إنْ) مُخَفَّفَةٌ مِن ”إنَّ“ الثَّقِيلَةِ. والمُرادُ ضَلالُهم في الجاهِلِيَّةِ بِعِبادَةِ الأصْنامِ وتَغْيِيرِ المَناسِكِ وغَيْرِ ذَلِكَ.