ركن التفسير
213 - (كان الناس أمة واحدة) على الإيمان فاختلفوا بأن آمن بعض وكفر بعض (فبعث الله النبيين) إليهم (مبشرين) من آمن بالجنة (ومنذرين) من كفر بالنار (وأنزل معهم الكتاب) بمعنى الكتب (بالحق) متعلق بأنزل (ليحكم) به (بين الناس فيما اختلفوا فيه) من الدين (وما اختلف فيه) أي الدين (إلا الذين أوتوه) أي الكتاب فآمن بعض وكفر بعض (من بعد ما جاءتهم البينات) الحجج الظاهرة على التوحيد ، ومِن متعلقة بـ اختلف وهي وما بعدها مقدم على الاستثناء في المعنى (بغياً) من الكافرين (بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من) للبيان (الحق بإذنه) بإرادته (والله يهدي من يشاء) هدايته (إلى صراط مستقيم) طريق الحق
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو داود أخبرنا همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين قال: وكذلك هي في قراءة عبدالله "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا" ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار عن محمد بن بشار ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وكذا روى أبو جعفر الرازي عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "كان الناس أمة واحدة" قال: كانوا على الهدى جميعا "فاختلفوا فبعث الله النبيين" فكان أول من بعث نوحا. وهكذا قال مجاهد كما قال ابن عباس أولا. وقال العوفي عن ابن عباس "كان الناس أمة واحدة" يقول: كانوا كفارا فبعث الله النبين مبشرين ومنذرين والقول الأول عن ابن عباس أصح سندا ومعنى لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحا عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. ولهذا قال تعالى "وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم" أي من بعد ما قامت الحجج عليهم وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" وقال عبدالرزاق: حدثنا معمر عن سليمان الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في قوله "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه" الآية قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة نحن أول الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع فغدا لليهود وبعد غد للنصارى" ثم رواه عبدالرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة. وقال ابن وهب عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه في قوله "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه" فاختلفوا في يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد فهدى الله أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليوم الجمعة واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق واليهود بيت المقدس فهدى الله أمة محمد للقبلة واختلقوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ومنهم من يسجد ولا يركع ومنهم من يصلي وهو يتكلم ومنهم من يصلي وهو يمشي فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في الصيام فمنهم من يصوم بعض النهار ومنهم من يصوم عن بعض الطعام فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود: كان يهوديا. وقالت النصارى: كان نصرانيا وجعله الله حنيفا مسلما فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلقوا في عيسى عليه السلام: فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتانا عظيما وجعلته النصارى إلها وولدا وجعله الله روحه وكلمته فهدى الله أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - للحق من ذلك وقال الربيع بن أنس في قوله "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه" أي عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف أقاموا على الإخلاص للّه عز وجل وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف واعتزلوا الاختلاف وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون أن رسلهم قد بلغوهم وأنهم قد كذبوا رسلهم وفي قراءة أبي بن كعب وليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن. وقوله "بإذنه" أي بعلمه بهم وبما هداهم له قاله ابن جرير "والله يهدي من يشاء" أي من خلقه "إلى صراط مستقيم" أي وله الحكمة والحجة البالغة. وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وفي الدعاء المأثور "اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولا تجعله متلبسا علينا فنضل واجعلنا للمتقين إماما".
﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيئِينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ اسْتِئْنافٌ لِبَيانِ أنَّ اخْتِلافَ الأدْيانِ أمْرٌ كانَ مِنَ البَشَرِ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْهُ وأنَّهُ ارْتَفَعَ ذَلِكَ ورَجَعَ اللَّهُ بِالنّاسِ إلى وحْدَةِ الدِّينِ بِالإسْلامِ. والمُناسَبَةُ بَيْنَها وبَيْنَ ما تَقَدَّمَها تَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الأوَّلُ: قالَ فَخْرُ الدِّينِ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في قَوْلِهِ ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَياةُ الدُّنْيا﴾ [البقرة: ٢١٢] أنَّ سَبَبَ إصْرارِ الكُفّارِ عَلى كُفْرِهِمْ هو اسْتِبْدالُهُمُ الدُّنْيا بِالآخِرَةِ بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ هَذِهِ الحالَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ بَلْ كانَتْ حاصِلَةً في الأزْمِنَةِ المُتَقادِمَةِ (p-٢٩٩)لِأنَّ النّاسَ كانُوا أُمَّةً واحِدَةً قائِمَةً عَلى الحَقِّ وما كانَ اخْتِلافُهم لِسَبَبِ البَغْيِ والتَّحاسُدِ في طَلَبِ الدُّنْيا اهـ.، فَتَكُونُ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِتَنْظِيرِ ما لَقِيَهُ المُسْلِمُونَ بِما كانَ في الأُمَمِ الغابِرَةِ. الثّانِي: يُؤْخَذُ مِن كَلامِ الطِّيبِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ﴾ [البقرة: ٢١٤] أخَذَ مِن كَلامِ الكَشّافِ أنَّ المَقْصُودَ مِن قَوْلِهِ ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً﴾ تَشْجِيعُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ والمُؤْمِنِينَ عَلى الثَّباتِ والصَّبْرِ عَلى أذى المُشْرِكِينَ بِذِكْرِ ما قابَلَتْ بِهِ الأُمَمُ السّالِفَةُ أنْبِياءَها وما لَقُوا فِيها مِنَ الشَّدائِدِ اهـ.، فالمُناسَبَةُ عَلى هَذا في مَدْلُولِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَياةُ الدُّنْيا ويَسْخَرُونَ﴾ [البقرة: ٢١٢] إلَخْ، وتَكُونُ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا لِلْمُناسَبَةِ. والظّاهِرُ عِنْدِي أنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الآيَةِ هُنا جامِعٌ لِمَوْقِعِ تَذْيِيلٍ لِما قَبْلَها ومُقَدِّمَةٌ لِما بَعْدَها: فَأمّا الأوَّلُ فَلِأنَّها أفادَتْ بَيانَ حالَةِ الأُمَمِ الماضِيَةِ كَيْفَ نَشَأ الخِلافُ بَيْنَهم في الحَقِّ مِمّا لِأَجْلِهِ تَدارَكَهُمُ اللَّهُ بِبِعْثاتِ الرُّسُلِ في العُصُورِ والأجْيالِ الَّتِي اقْتَضَتْها حِكْمَةُ اللَّهِ ولُطْفُهُ مِمّا يُماثِلُ الحالَةَ الَّتِي نَشَأتْ فِيها البَعْثَةُ المُحَمَّدِيَّةُ وما لَقِيَهُ الرَّسُولُ والمُسْلِمُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ. وأمّا الثّانِي فَلِأنَّها مُقَدِّمَةٌ لِما يَرِدُ بَعْدَها مِن ذِكْرِ اخْتِصاصِ الإسْلامِ بِالهِدايَةِ إلى الحَقِّ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ الأُمَمُ وهو مَضْمُونُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَهَدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِما اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وذَلِكَ مِن خَصائِصِ كَوْنِ الإسْلامِ مُهَيْمِنًا عَلى ما سَبَقَهُ مِنَ الشَّرائِعِ الإلَهِيَّةِ وتَفْضِيلِهِ عَلى جَمِيعِ الأدْيانِ وأنَّ هَذِهِ المَزِيَّةَ العُظْمى يَجِبُ الِاعْتِرافُ بِها وألّا تَكُونَ مَثارَ حَسَدٍ لِلنَّبِيءِ وأُمَّتِهِ، رَدًّا عَلى حَسَدِ المُشْرِكِينَ، إذْ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى حَسَدِ أهْلِ الكِتابِ الَّذِي سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ تَعالى ) ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما ولّاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ [البقرة: ١٤٢] إلى قَوْلِهِ ﴿يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ١٤٢] . وحَصَلَ مِن عُمُومِ ذَلِكَ تَعْلِيمُ المُسْلِمِينَ تارِيخَ أطْوارِ الدِّينِ بَيْنَ عُصُورِ البَشَرِ بِكَلِماتٍ جامِعَةٍ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ ﴿فَهَدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإذْنِهِ﴾ فَإنْ كانَ المُرادُ مِن كَوْنِهِمْ أُمَّةً واحِدَةً الوَحْدَةَ في الخَيْرِ والحَقِّ وهو المُخْتارُ كَما سَيَأْتِي فَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ أنَّ النّاسَ اخْتَلَفُوا فَبَعَثَ لَهم أنْبِياءَ مُتَفَرِّقِينَ لِقَصْدِ تَهْيِئَةِ النّاسِ لِلدُّخُولِ في دِينٍ واحِدٍ عامٍّ، فالمُناسَبَةُ حاصِلَةٌ مَعَ جُمْلَةِ ﴿ادْخُلُوا في السَّلْمِ كافَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨] بِناءً عَلى أنَّها خِطابٌ لِأهْلِ الكِتابِ أيِ ادْخُلُوا في دِينِ الإسْلامِ الَّذِي هَدى اللَّهُ بِهِ المُسْلِمِينَ. (p-٣٠٠)وإنْ كانَ المُرادُ مِن كَوْنِ النّاسِ أُمَّةً واحِدَةً: الوَحْدَةَ في الضَّلالِ والكُفْرِ يَكُنِ اللَّهُ قَدْ نَبَّهَهم أنَّ بَعْثَةَ الرُّسُلِ تَقَعُ لِأجْلِ إزالَةِ الكُفْرِ والضَّلالِ الَّذِي يَحْدُثُ في قُرُونِ الجَهالَةِ، فَكَذَلِكَ انْتَهَتْ تِلْكَ القُرُونُ إلى القَرْنِ الَّذِي أعْقَبَتْهُ بَعْثَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَتَكُونُ الآيَةُ تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ فالمُناسَبَةُ حاصِلَةٌ مَعَ قَوْلِهِ ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَياةُ الدُّنْيا﴾ [البقرة: ٢١٢] . فالمَعْنى أنَّ الإسْلامَ هَدى إلى شَرِيعَةٍ تَجْمَعُ النّاسَ كُلَّهم تَبْيِينًا لِفَضِيلَةِ هَذا الدِّينِ واهْتِداءِ أهْلِهِ إلى ما لَمْ يَهْتَدِ إلَيْهِ غَيْرُهم، مَعَ الإشارَةِ إلى أنَّ ما تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّرائِعِ تَمْهِيدٌ لَهُ وتَأْنِيسٌ بِهِ كَما سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ﴿فَهَدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ . والنّاسُ اسْمُ جَمْعٍ لَيْسَ لَهُ مُفْرَدٌ مِن لَفْظِهِ، و”ال“ فِيهِ لِلِاسْتِغْراقِ لا مَحالَةَ وهو هُنا لِلْعُمُومِ أيِ البَشَرِ كُلِّهِمْ، إذْ لَيْسَ ثَمَّةَ فَرِيقٌ مَعْهُودٌ ولَكِنَّهُ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلى مُراعاةِ الغالِبِ الأغْلَبِ وعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِالنّادِرِ لِظُهُورِ أنَّهُ لا يَخْلُو زَمَنٌ غَلَبَ فِيهِ الخَيْرُ عَنْ أنْ يَكُونَ بَعْضُ النّاسِ فِيهِ شِرِّيرًا مِثْلَ عَصْرِ النُّبُوَّةِ ولا يَخْلُو زَمَنٌ غَلَبَ فِيهِ الشَّرُّ مِن أنْ يَكُونَ بَعْضُ النّاسِ فِيهِ خَيِّرًا مِثْلَ نُوحٍ ﴿وما آمَنَ مَعَهُ إلّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠] . والأُمَّةُ بِضَمِّ الهَمْزَةِ: اسْمٌ لِلْجَماعَةِ الَّذِينَ أمْرُهم واحِدٌ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الأمِّ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وهو القَصْدُ أيْ يَؤُمُّونَ غايَةً واحِدَةً، وإنَّما تَكُونُ الجَماعَةُ أُمَّةً إذا اتَّفَقُوا في المَوْطِنِ أوِ الدِّينِ أوِ اللُّغَةِ أوْ في جَمِيعِها. والوَصْفُ: واحِدَةٌ في الآيَةِ لِتَأْكِيدِ الإفْرادِ في قَوْلِهِ ”أُمَّةً“ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأُمَّةِ القَبِيلَةَ، فَيُظَنَّ أنَّ المُرادَ كانَ النّاسُ أهْلَ نَسَبٍ واحِدٍ، لِأنَّ الأُمَّةَ قَدْ تُطْلَقُ عَلى مَن يَجْمَعُهم نَسَبٌ مُتَّحِدٌ. والوَحْدَةُ هُنا: مُرادٌ بِها الِاتِّحادُ والتَّماثُلُ في الدِّينِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعٍ (﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيئِينَ﴾) إلَخْ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: كانُوا أُمَّةً واحِدَةً في الحَقِّ والهُدى أيْ كانَ النّاسُ عَلى مِلَّةٍ واحِدَةٍ مِنَ الحَقِّ والتَّوْحِيدِ، وبِهَذا المَعْنى رَوى الطَّبَرِيُّ تَفْسِيرَها عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ وهو مُخْتارُ الزَّمَخْشَرِيِّ قالَ الفَخْرُ: وهو مُخْتارُ أكْثَرِ المُحَقِّقِينَ قالَ القَفّالُ: بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى بَعْدَهُ ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ لِأنَّ تَفْرِيعَ الخَبَرِ بِبِعْثَةِ النَّبِيِّينَ عَلى الجُمْلَةِ السّابِقَةِ، وتَعْلِيلَ البَعْثِ بِقَوْلِهِ ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ انْتَظَمَ مِن ذَلِكَ كَلامٌ مِن بَلِيغِ الإيجازِ وهو أنَّ النّاسَ كانُوا أُمَّةً واحِدَةً فَجاءَتْهُمُ الرُّسُلُ (p-٣٠١)بِالتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ والوَعْدِ والوَعِيدِ لِيَدُومُوا عَلى الحَقِّ خَشْيَةَ انْصِرافِهِمْ عَنْهُ إذا ابْتَدَأ الِاخْتِلافُ يَظْهَرُ وأيَّدَهُمُ اللَّهُ بِالكُتُبِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَلا جَرَمَ أنْ يَكُونَ مَجِيءُ الرُّسُلِ لِأجْلِ إبْطالِ اخْتِلافٍ حَدَثَ، وأنَّ الِاخْتِلافَ الَّذِي يَحْتاجُ إلى بَعْثَةِ الرُّسُلِ هو الِاخْتِلافُ النّاشِئُ بَعْدَ الِاتِّفاقِ عَلى الحَقِّ كَما يَقْتَضِيهِ التَّفْرِيعُ عَلى جُمْلَةِ ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً﴾ بِالفاءِ في قَوْلِهِ ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ وعَلى صَرِيحِ قَوْلِهِ ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ . ولِأجْلِ هَذِهِ القَرِينَةِ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ: فاخْتَلَفُوا بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿أُمَّةً واحِدَةً﴾، لِأنَّ البَعْثَةَ تَرَتَّبَتْ عَلى الِاخْتِلافِ لا عَلى الكَوْنِ أُمَّةً واحِدَةً، وعَلى هَذا الفَهْمِ قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ إلَخْ، ولَوْ كانَ المُرادُ أنَّهم كانُوا أُمَّةً واحِدَةً في الضَّلالِ لَصَحَّ تَفْرِيعُ البَعْثَةِ عَلى نَفْسِ هَذا الكَوْنِ بِلا تَقْدِيرٍ، ولَوْلا أنَّ القَرِينَةَ صَرَفَتْ عَنْ هَذا لَكانَ هو المُتَبادِرَ، ولِهَذا قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كُلُّ مَن قَدَّرَ النّاسَ في الآيَةِ كانُوا مُؤْمِنِينَ قَدَّرَ في الكَلامِ فاخْتَلَفُوا، وكُلُّ مَن قَدَّرَهم كُفّارًا كانَتْ بَعْثَةُ الرُّسُلِ إلَيْهِمُ اهـ. ويُؤَيِّدُ هَذا التَقْدِيرَ قَوْلُهُ في آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ ﴿وما كانَ النّاسُ إلّا أُمَّةً واحِدَةً فاخْتَلَفُوا﴾ [يونس: ١٩] لِأنَّ الظّاهِرَ اتِّحادُ غَرَضِ الآيَتَيْنِ، ولِأنَّهُ لَمّا أخْبَرَ هُنا عَنِ النّاسِ بِأنَّهم كانُوا أُمَّةً واحِدَةً ونَحْنُ نَرى اخْتِلافَهم عَلِمْنا أنَّهم لَمْ يَدُومُوا عَلى تِلْكَ الحالَةِ. والمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ عَلى هَذا الوَجْهِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ التَّوْحِيدَ والهُدى والصَّلاحَ هي الفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النّاسَ عَلَيْها حِينَ خَلَقَهم كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢]، وأنَّها ما غَشّاها إلّا تَلْقِينُ الضَّلالِ وتَرْوِيجُ الباطِلِ وأنَّ اللَّهَ بَعَثَ النَّبِيئِينَ لِإصْلاحِ الفِطْرَةِ إصْلاحًا جُزْئِيًّا فَكانَ هَدْيُهم مُخْتَلِفَ الأسالِيبِ عَلى حَسَبِ اخْتِلافِ المَصالِحِ والأهْلِيَّةِ وشِدَّةِ الشَّكائِمِ، فَكانَ مِنَ الأنْبِياءِ المُيَسِّرُ ومِنهُمُ المُغَلِّظُ وأنَّهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا لِإكْمالِ ذَلِكَ الإصْلاحِ، وإعادَةِ النّاسِ إلى الوَحْدَةِ عَلى الخَيْرِ والهُدى وذَلِكَ مَعْنى قَوْلِهِ ﴿فَهَدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلَخْ وعَنْ عَطاءٍ والحَسَنِ، أنَّ المَعْنى: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً مُتَّفِقِينَ عَلى الضَّلالِ والشَّرِّ وهو يُرْوى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا وعَلَيْهِ فَعَطْفُ قَوْلِهِ (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيئِينَ) عَطْفٌ عَلى اللَّفْظِ الظّاهِرِ لا تَقْدِيرَ مَعَهُ أيْ كانُوا كَذَلِكَ فَبَعَثَ اللَّهِ النَّبِيئِينَ فَيُعْلَمُ أنَّ المُرادَ لِيُرْشِدُوا النّاسَ إلى الحَقِّ بِالتَّبْشِيرِ والنِّذارَةِ. فالمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ إظْهارُ أنَّ ما بَعَثَ اللَّهُ بِهِ النَّبِيئِينَ قَدْ وقَعَ فِيهِ التَّغْيِيرُ والِاخْتِلافُ فِيما بُعِثُوا بِهِ وأنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالقُرْآنِ لِإرْشادِهِمْ إلى ما اخْتَلَفُوا فِيهِ فَيَكُونُ (p-٣٠٢)المَقْصُودُ بَيانَ مَزِيَّةِ دِينِ الإسْلامِ وفَضْلِهِ عَلى سائِرِ الأدْيانِ بِما كانَ مَعَهُ مِنَ البَيانِ والبُرْهانِ. وأيًّا ما كانَ المُرادُ فَإنَّ فِعْلَ ”كانَ“ هُنا مُسْتَعْمَلٌ في أصْلِ مَعْناهُ وهو اتِّصافُ اسْمِها المُخْبَرِ عَنْهُ بِمَضْمُونِ خَبَرِها في الزَّمَنِ الماضِي وأنَّ ذَلِكَ قَدِ انْقَطَعَ، إذْ صارَ النّاسُ مُنْقَسِمِينَ إلى فِئَتَيْنِ فِئَةٍ عَلى الحَقِّ وفِئَةٍ عَلى الباطِلِ. فَإنْ كانَ المُرادُ الوَحْدَةَ في الحَقِّ فَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ في زَمَنٍ كانَ الغالِبُ فِيهِ عَلى النّاسِ الرُّشْدَ والِاسْتِقامَةَ والصَّلاحَ والإصْلاحَ فَلَمْ يَكُونُوا بِحاجَةٍ إلى بِعْثَةِ الرُّسُلِ إلى أنِ اخْتَلَفَتْ أحْوالُهم فَظَهَرَ فِيهِمُ الفَسادُ، فَقِيلَ كانَ ذَلِكَ فِيما بَيْنَ آدَمَ ونُوحٍ ونُقِلَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ ومُجاهِدٍ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قالَ قَوْمٌ: كانَ ذَلِكَ زَمَنَ نُوحٍ كَفَرَ جُلُّ قَوْمِهِ فَهَلَكُوا بِالطُّوفانِ إلّا مَن نَجّاهُ اللَّهُ مَعَ نُوحٍ فَكانَ أُولَئِكَ النَّفَرُ النّاجُونَ أُمَّةً واحِدَةً قائِمَةً عَلى الحَقِّ، وقِيلَ إنَّما كانَ النّاسُ عَلى الحَقِّ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ الأرْواحَ الَّتِي سَتُودَعُ في بَنِي آدَمَ فَفَطَرَها عَلى الإسْلامِ فَأقَرُّوا لَهُ بِالوَحْدانِيَّةِ والعُبُودِيَّةِ وهو ما في قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ الأعْرافِ ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهم وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمُ ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٧٢] ﴿أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧٣] عَلى أحَدِ تَفاسِيرِ تِلْكَ الآيَةِ، ورُوِيَ هَذا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ والرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمانَ، وفي تَفْسِيرِ الفَخْرِ عَنِ القاضِي عَبْدِ الجَبّارِ وأبِي مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيِّ أنَّ مَعْنى الآيَةِ ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً﴾ في التَّمَسُّكِ بِالشَّرائِعِ العَقْلِيَّةِ عَلى وُجُودِ الخالِقِ وصِفاتِهِ واجْتِنابِ الظُّلْمِ والكَذِبِ وحُجَّتُهُما عَلى ذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ (النَّبِيئِينَ) جَمْعٌ يُفِيدُ العُمُومَ أيْ لِأنَّهُ مُعَرَّفٌ بِاللّامِ فَيَقْتَضِي أنَّ بَعْثَةَ كُلِّ النَّبِيئِينَ كانَتْ بَعْدَ أنْ كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً بِدَلِيلِ الفاءِ، والشَّرائِعُ إنَّما تُلُقِّيَتْ مِنَ الأنْبِياءِ، فَتَعَيَّنَ أنَّ كَوْنَ النّاسِ أُمَّةً واحِدَةً شَيْءٌ سابِقٌ عَلى شَرائِعِ الأنْبِياءِ ولا يَكُونُ إلّا مُسْتَفادًا مِنَ العَقْلِ، وهُما يَعْنِيانِ أنَّ اللَّهَ فَطَرَ الإنْسانَ في أوَّلِ نَشْأتِهِ عَلى سَلامَةِ الفِطْرَةِ مِنَ الخَطَأِ والضَّلالِ، قالَ تَعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤] وقِيلَ: أُرِيدَ بِالنّاسِ آدَمُ وحَوّاءُ. نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مُجاهِدٍ وقَوْمٍ، والَّذِي نَجْزِمُ بِهِ أنَّ هَذا كانَ في زَمَنٍ مِن أزْمانِ وُجُودِ النّاسِ عَلى الأرْضِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعالى لِقَوْلِهِ ﴿وقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٨] والأظْهَرُ أنَّهُ مِن زَمَنِ وُجُودِ آدَمَ إلى أنْ أشَرَكَ قَوْمُ نُوحٍ، وإنْ كانَ المُرادُ الوَحْدَةَ عَلى الباطِلِ فَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ في زَمَنِ نُوحٍ في أوَّلِ ما قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنا مَعَ ما ورَدَ في الصَّحِيحِ أنَّ نُوحًا أوَّلُ الرُّسُلِ إلى أهْلِ الأرْضِ، فَيَظْهَرُ أنَّ الضَّلالَ (p-٣٠٣)حَدَثَ في أهْلِ الأرْضِ وعَمَّهم عاجِلًا فَبَعَثَ اللَّهُ نُوحًا إلَيْهِمْ ثُمَّ أهْلَكَ الكافِرِينَ مِنهم بِالطُّوفانِ ونَجّى نُوحًا ونَفَرًا مَعَهُ فَأصْبَحَ جَمِيعُ النّاسِ صالِحِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ. فَيَجْدُرُ بِنا أنْ نَنْظُرَ الآنَ فِيما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ مِنَ المَعْنى في تارِيخِ ظُهُورِ الشَّرائِعِ وفي أسْبابِ ذَلِكَ. النّاسُ أبْناءُ أبٍ واحِدٍ وأُمٍّ واحِدَةٍ فَلا جَرَمَ أنْ كانُوا في أوَّلِ أمْرِهِمْ أُمَّةً واحِدَةً لِأنَّ أبَوَيْهِمْ لَمّا ولَدا الأبْناءَ الكَثِيرِينَ وتَوالَدَ أبْناؤُهُما تَألَّفَتْ مِنهم في أمَدٍ قَصِيرٍ عائِلَةٌ واحِدَةٌ خُلِقَتْ مِن مِزاجٍ نَقِيٍّ فَكانَتْ لَها أمْزِجَةٌ مُتَماثِلَةٌ ونَشَئُوا عَلى سِيرَةٍ واحِدَةٍ في أحْوالِ الحَياةِ كُلِّها وما كانَتْ لِتَخْتَلِفَ إلّا اخْتِلافًا قَلِيلًا لَيْسَ لَهُ أثَرٌ يُؤْبَهُ بِهِ ولا يُحْدِثُ في العائِلَةِ تَنافُرًا ولا تُغالُبا. ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا خَلَقَ نَوْعَ الإنْسانِ أرادَهُ لِيَكُونَ أفْضَلَ المَوْجُوداتِ في هَذا العالَمِ الأرْضِيِّ فَلا جَرَمَ أنْ يَكُونَ خَلَقَهُ عَلى حالَةٍ صالِحَةٍ لِلْكَمالِ والخَيْرِ قالَ تَعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤] . فَآدَمُ خُلِقَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ يَلِيقُ بِالذَّكَرِ جِسْمًا وعَقْلًا وألْهَمَهُ مَعْرِفَةَ الخَيْرِ واتِّباعَهُ ومَعْرِفَةَ الشَّرِّ وتَجَنُّبَهُ فَكانَتْ آراؤُهُ مُسْتَقِيمَةً تَتَوَجَّهُ ابْتِداءً لِما فِيهِ النَّفْعُ وتَهْتَدِي إلى ما يَحْتاجُ لِلِاهْتِداءِ إلَيْهِ، وتَتَعَقَّلُ ما يُشارُ بِهِ عَلَيْهِ فَتَمَيَّزَ النّافِعُ مِن غَيْرِهِ ويُساعِدُهُ عَلى العَمَلِ بِما يَهْتَدِي إلَيْهِ فِكْرُهُ جَسَدٌ سَلِيمٌ قَوِيٌّ مَتِينٌ، وحَوّاءُ خُلِقَتْ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ يَلِيقُ بِالأُنْثى خَلْقًا مُشابِهًا لِخَلْقِ آدَمَ، إذْ أنَّها خُلِقَتْ كَما خُلِقَ آدَمُ، قالَ تَعالى ﴿خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ [النساء: ١] فَكانَتْ في انْسِياقِ عَقْلِها واهْتِدائِها وتَعَقُّلِها ومُساعَدَةِ جَسَدِها عَلى ذَلِكَ عَلى نَحْوِ ما كانَ عَلَيْهِ آدَمُ. ولا شَكَّ أنَّ أقْوى عُنْصُرٍ في تَقْوِيمِ البَشَرِ عِنْدَ الخِلْقَةِ هو العَقْلُ المُسْتَقِيمُ فَبِالعَقْلِ تَأتّى لِلْبَشَرِ أنْ يَتَصَرَّفَ في خَصائِصِهِ، وأنْ يَضَعَها في مَواضِعِ الحاجَةِ إلَيْها. هَكَذا كانَ شَأْنُ الذَّكَرِ والأُنْثى فَما ولَدا مِنَ الأوْلادِ نَشَأ مِثْلَ نَشْأتِهِما في الأحْوالِ كُلِّها، ألَمْ تَرَ كَيْفَ اهْتَدى أحَدُ بَنِي آدَمَ إلى دَفْنِ أخِيهِ مِن مُشاهَدَةِ فِعْلِ الغُرابِ الباحِثِ في الأرْضِ فَكانَ الِاسْتِنْباطُ الفِكْرِيُّ والتَّقْلِيدُ بِهِ أُسَّ الحَضارَةِ البَشَرِيَّةِ. فالصَّلاحُ هو الأصْلُ الَّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ البَشَرُ ودامَ عَلَيْهِ دَهْرًا لَيْسَ بِالقَصِيرِ، ثُمَّ أخَذَ يَرْتَدُّ إلى أسْفَلِ سافِلِينَ، ذَلِكَ أنَّ ارْتِدادَ الإنْسانِ إلى أسْفَلِ سافِلِينَ إنَّما عَرَضَ لَهُ بِعَوارِضَ كانَتْ في مَبْدَأِ الخَلِيقَةِ قَلِيلَةَ الطُرُوِّ أوْ مَعْدُومَتَهُ، لِأنَّ أسْبابَ الِانْحِرافِ عَنِ الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ لا تَعْدُو أرْبَعَةَ أسْبابٍ: (p-٣٠٤)الأُولى: خَلَلٌ يَعْرِضُ عِنْدَ تَكْوِينِ الفَرْدِ في عَقْلِهِ أوْ في جَسَدِهِ فَيَنْشَأُ مُنْحَرِفًا عَنِ الفَضِيلَةِ لِتِلْكَ العاهَةِ. الثّانِي: اكْتِسابُ رَذائِلَ مِنَ الأخْلاقِ مِن مُخْتَرَعاتِ قُواهُ الشَّهْوِيَّةِ والغَضَبِيَّةِ ومِن تَقْلِيدِ غَيْرِهِ بِداعِيَةِ اسْتِحْسانِ ما في غَيْرِهِ مِن مَفاسِدَ يَخْتَرِعُها ويَدْعُو إلَيْها. الثّالِثُ: خَواطِرُ خَيالِيَّةٌ تَحْدُثُ في النَّفْسِ مُخالِفَةٌ لِما عَلَيْهِ النّاسُ كالشَّهَواتِ والإفْراطِ في حُبِّ الذّاتِ أوْ في كَراهِيَةِ الغَيْرِ مِمّا تُوَسْوِسُ بِهِ النَّفْسُ فَيُفَكِّرُ صاحِبُها في تَحْقِيقِها. الرّابِعُ: صُدُورُ أفْعالٍ تَصْدُرُ مِنَ الفَرْدِ بِدَواعٍ حاجِيَّةٍ أوْ تَكْمِيلِيَّةٍ ويَجِدُها مُلائِمَةً لَهُ أوْ لَذِيذَةً عِنْدَهُ فَيُلازِمُها حَتّى تَصِيرَ لَهُ عادَةً وتَشْتَبِهَ عِنْدَهُ بَعْدَ طُولِ المُدَّةِ بِالطَّبِيعَةِ، لِأنَّ العادَةَ إذا صادَفَتْ سَذاجَةً مِنَ العَقْلِ غَيْرَ بَصِيرَةٍ بِالنَّواهِي رَسَخَتْ فَصارَتْ طَبْعًا. فَهَذِهِ أرْبَعَةُ أسْبابٍ لِلِانْحِطاطِ عَنِ الفِطْرَةِ الطَّيِّبَةِ، والأوَّلُ كانَ نادِرَ الحُدُوثِ في البَشَرِ، لِأنَّ سَلامَةَ الأبْدانِ وشَبابَ واعْتِدالَ الطَّبِيعَةِ وبَساطَةَ العَيْشِ ونِظامَ البِيئَةِ كُلُّ تِلْكَ كانَتْ مَوانِعَ مِن طُرُوِّ الخَلَلِ التَّكْوِينِيِّ، ألا تَرى أنَّ نَوْعَ كُلِّ حَيَوانٍ يُلازِمُ حالَ فِطْرَتِهِ فَلا يَنْحَرِفُ عَنْها بِاتِّباعِ غَيْرِهِ. والثّانِي كانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ، لِأنَّ البَشَرَ يَوْمَئِذٍ كانُوا عائِلَةً واحِدَةً في مَوْطِنٍ واحِدٍ يَسِيرُ عَلى نِظامٍ واحِدٍ وتَرْبِيَةٍ واحِدَةٍ وإحْساسٍ واحِدٍ فَمِن أيْنَ يَجِيئُهُ الِاخْتِلافُ. والثّالِثُ مُمْكِنُ الوُجُودِ لَكِنَّ المَحَبَّةَ النّاشِئَةَ عَنْ حُسْنِ المُعاشَرَةِ وعَنِ الإلْفِ، والشَّفَقَةَ النّاشِئَةَ عَنِ الأُخُوَّةِ، والمَواعِظَ الصّادِرَةَ عَنِ الأبَوَيْنِ كانَتْ حَجْبًا لِما يَهْجِسُ مِن هَذا الإحْساسِ. والرّابِعُ لَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يَكْثُرُ في الوَقْتِ الأوَّلِ مِن وُجُودِ البَشَرِ، لِأنَّ الحاجاتِ كانَتْ جارِيَةً عَلى وفْقِ الطِّباعِ الأصْلِيَّةِ ولِأنَّ التَّحْسِيناتِ كانَتْ مَفْقُودَةً، وإنَّما هَذا السَّبَبُ الرّابِعُ مِن مُوجِباتِ الرُّقِيِّ والِانْحِطاطِ في أحْوالِ الجَمْعِيّاتِ البَشَرِيَّةِ الطّارِئَةِ. أمّا حادِثَةُ قَتْلِ ابْنِ آدَمَ أخاهُ فَما هي إلّا فَلْتَةٌ نَشَأتْ عَنِ السَّبَبِ الثّالِثِ عَنْ إحْساسٍ وِجْدانِيٍّ هو الحَسَدُ مَعَ الجَهْلِ بِمَغَبَّةِ ما يَنْشَأُ عَنِ القَتْلِ؛ لِأنَّ البَشَرَ لَمْ يَعْرِفِ المَوْتَ إلّا يَوْمَئِذٍ ولِذَلِكَ أسْرَعَتْ إلَيْهِ النَّدامَةُ، فَتَبَيَّنَ أنَّ الصَّلاحَ هو حالُ الأُمَّةِ يَوْمَئِذٍ أوْ هو الغالِبُ عَلَيْها. (p-٣٠٥)ويَنْشَأُ عَنْ هَذا الصَّلاحِ والِاسْتِقامَةِ في الآباءِ دَوامُ الِاسْتِقامَةِ في النَّسْلِ، لِأنَّ النَّسْلَ مُنْسَلٌّ مِن ذَواتِ الأُصُولِ فَهو يَنْقُلُ ما فِيها مِنَ الأحْوالِ الخُلُقِيَّةِ والخَلْقِيَّةِ، ولَمّا كانَ النَّسْلُ مُنْسَلًّا مِنَ الذَّكَرِ والأُنْثى كانَ بِحُكْمِ الطَّبْعِ مُحَصِّلًا عَلى مَجْمُوعٍ مِنَ الحالَتَيْنِ فَإنِ اسْتَوَتِ الحالَتانِ أوْ تَقارَبَتا جاءَ النَّسْلُ عَلى أحْوالٍ مُساوِيَةِ المَظاهِرِ لِأحْوالِ سَلَفِهِ، قالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ في عَكْسِهِ ﴿ولا يَلِدُوا إلّا فاجِرًا كَفّارًا﴾ [نوح: ٢٧]، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ حالَ البَشَرِ في أوَّلِ أمْرِهِ صَلاحٌ ما نَقَلَهُ في الكَشّافِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُ كانَ بَيْنَ آدَمَ ونُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الحَقِّ. ثُمَّ كَثُرَتِ العائِلَةُ البَشَرِيَّةُ وتَكَوَّنَتْ مِنها القَبِيلَةُ فَتَكاثَرَتْ ونَشَأ فِيها مَعَ الزَّمانِ قَلِيلًا قَلِيلًا خَواطِرُ مُخْتَلِفَةٌ ودَبَّتْ فِيها أسْبابُ الِاخْتِلافِ في الأحْوالِ تَبَعًا لِاخْتِلافٍ بَيْنَ حالَيِ الأبِ والأُمِّ، فَجاءَ النَّسْلُ عَلى أحْوالٍ مُرَكَّبَةٍ مُخالِفَةٍ لِكُلٍّ مِن مُفْرَدِ حالَتَيِ الأبِ والأُمِّ، وبِذَلِكَ حَدَثَتْ أمْزِجَةٌ جَدِيدَةٌ وطَرَأتْ عَلَيْها حِينَئِذٍ أسْبابُ الِانْحِطاطِ الأرْبَعَةُ، وصارَتْ مُلازِمَةً لِطَوائِفَ مِنَ البَشَرِ بِحُكْمِ التَّناسُلِ والتَّلَقِّي، هُنالِكَ جاءَتِ الحاجَةُ إلى هَدْيِ البَشَرِ بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ، والتّارِيخُ الدِّينِيُّ دَلَّنا عَلى أنَّ نُوحًا أوَّلُ الرُّسُلِ الَّذِينَ دَعَوْا إلى اللَّهِ تَعالى قالَ تَعالى ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا﴾ [الشورى: ١٣] الآيَةَ، ولَمّا ذَكَرَ الرُّسُلَ في آياتِ القُرْآنِ ابْتَدَأهم في جَمِيعِ تِلْكَ الآياتِ بِنُوحٍ ولَمْ يَذْكُرْ آدَمَ وفي حَدِيثِ الشَّفاعَةِ في الصَّحِيحِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ أنَّ آدَمَ يَقُولُ لِلَّذِينَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ إنِّي لَسْتُ هُناكم، ويَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ايتُوا نُوحًا أوَّلَ رَسُولٍ أرْسَلَهُ اللَّهُ إلى أهْلِ الأرْضِ، وبِهَذا يَتَعَيَّنُ أنَّ خَطِيئَةَ قابِيلَ لَيْسَتْ مُخالَفَةَ شَرْعٍ مَشْرُوعٍ، وأنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا وأنَّهُ نَبِيءٌ صالِحٌ أُوحِيَ إلَيْهِ بِما يُهَذِّبُ أبْناءَهُ ويُعَلِّمُهم بِالجَزاءِ. فَقَوْلُهُ تَعالى (﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيئِينَ﴾) هو عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ مُفَرَّعٌ عَلى ما يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً﴾ مَعَ تَحَقُّقِ وُجُودِ الخِلافِ بَيْنَهم بِالمُشاهَدَةِ مِن إرادَةِ أنَّ كَوْنَهم ) أُمَّةً واحِدَةً دامَ مُدَّةً ثُمَّ انْقَضى، فَيَكُونُ مُفَرَّعًا عَلى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ تَقْدِيرُها: فاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيئِينَ، وعَلى الوَجْهِ الآخَرِ مُفَرَّعًا عَلى الكَوْنِ أُمَّةً واحِدَةً في الباطِلِ فَعَلى الأوَّلِ يَكُونُ أوَّلُ النَّبِيِّينَ المَبْعُوثِينَ نُوحًا، لِأنَّهُ أوَّلُ الرُّسُلِ لِإصْلاحِ الخَلْقِ وعَلى الثّانِي: يَكُونُ أوَّلُهم آدَمَ بُعِثَ لِبَنِيهِ لَمّا قَتَلَ أحَدُهم أخاهُ؛ فَإنَّ الظّاهِرَ أنَّ آدَمَ لَمْ يُبْعَثْ بِشَرِيعَةٍ لِعَدَمِ الدَّواعِي إلى ذَلِكَ، وإنَّما كانَ مُرْشِدًا كَما يُرْشِدُ المُرَبِّي عائِلَتَهُ. والمُرادُ بِالنَّبِيِّينَ هُنا الرُّسُلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ﴿وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ﴾ والإرْسالُ بِالشَّرائِعِ مُتَوَغِّلٌ في القِدَمِ وقَبْلَهُ ظُهُورُ الشَّرْطِ وهو أصْلُ ظُهُورِ الفَواحِشِ لِأنَّ الِاعْتِقادَ الفاسِدَ أصْلُ (p-٣٠٦)ذَمِيمِ الفِعالِ، وقَدْ عَبَدَ قَوْمُ نُوحٍ الأصْنامَ، عَبَدُوا ودًّا وسُواعًا ويَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا وهم يَوْمَئِذٍ لَمْ يَزالُوا في مَواطِنِ آدَمَ وبَنِيهِ في جِبالِ نُوذٍ مِن بِلادِ الهِنْدِ كَما قِيلَ، وفي البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ ودًّا وسُواعًا ويَغُوثَ ويَعُوقُ ونَسْرًا كانُوا مِن صالِحِي قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمّا هَلَكُوا أوْحى الشَّيْطانُ إلى قَوْمِهِمْ أنِ انْصِبُوا إلى مَجالِسِهِمُ الَّتِي كانُوا يَجْلِسُونَ أنْصابًا وسَمُّوها بِأسْمائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتّى إذا هَلَكَ أُولَئِكَ وتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ اهـ.، وقِيلَ كانُوا مِن صالِحِي قَوْمِ آدَمَ، وقِيلَ إنَّ سُواعًا هو ابْنُ شِيثَ وأنَّ يَغُوثَ ابْنُ سُواعٍ ويَعُوقَ ابْنُ يَغُوثَ ونَسْرَ ابْنُ يَعُوقَ، وقِيلَ إنَّهم مِن صالِحِي عَصْرِ آدَمَ ماتُوا فَنَحَتَ قابِيلُ بْنُ آدَمَ لَهم صُوَرًا ثُمَّ عَبَدُوهم بَعْدَ ثَلاثَةِ أجْيالٍ، وهَذا كُلُّهُ زَمَنٌ مُتَوَغِّلٌ في القِدَمِ قَبْلَ التّارِيخِ فَلا يُؤْخَذُ إلّا بِمَزِيدِ الِاحْتِرازِ، وأقْدَمُ شَرِيعَةٍ أثْبَتَها التّارِيخُ شَرِيعَةُ بِرَهَمانَ في الهِنْدِ فَإنَّها تَبْتَدِئُ مِن قَبْلِ القَرْنِ الثَّلاثِينَ قَبْلَ الهِجْرَةِ. وفِي هَذا العَهْدِ كانَتْ في العِراقِ شَرِيعَةٌ عَظِيمَةٌ بِبابِلَ وضَعَها مَلِكُ بابِلَ المَدْعُوُّ حَمُورابِي ويَظُنُّ المُؤَرِّخُونَ أنَّهُ كانَ مُعاصِرًا لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وأنَّهُ المَذْكُورُ في سِفْرِ التَّكْوِينِ بِاسْمِ ”مَلِكِي صادِقْ“ الَّذِي لَقِيَ إبْراهِيمَ في شالِيمَ وبارَكَ إبْراهِيمَ ودَعا لَهُ. والبَعْثُ: الإرْسالُ والإنْهاضُ لِلْمَشْيِ ومِنهُ بَعَثَ البَعِيرَ إذا أنْهَضَهُ بَعْدَ أنْ بَرَكَ والبَعْثُ هُنا مَجازٌ مُسْتَعْمَلٌ في أمْرِ اللَّهِ النَّبِيءَ بِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ لِلْأُمَّةِ. و(النَّبِيئِينَ) جَمْعُ نَبِيءٍ وهو فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّبَأِ وهو الخَبَرُ المُهِمُّ، لِأنَّ اللَّهَ أخْبَرَهُ بِالوَحْيِ وعَلِمَ ما فِيهِ صَلاحُ نَفْسِهِ وصَلاحُ مَن يَنْتَسِبُ إلَيْهِ، فَإنْ أمَرَهُ بِتَبْلِيغِ شَرِيعَةِ الأُمَّةِ فَهو رَسُولٌ فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيءٌ، والقُرْآنُ يَذْكُرُ في الغالِبِ النَّبِيءَ مُرادًا بِهِ الرَّسُولُ، وقَدْ ورَدَ أنَّ عَدَدَ الأنْبِياءِ مِائَةُ ألْفٍ وأرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ ألْفًا لا يَعْلَمُ تَفْصِيلَهم وأزْمانَهم إلّا اللَّهُ تَعالى قالَ تَعالى ﴿وقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٨] وقالَ ﴿وكَمْ أهْلَكْنا مِنَ القُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ﴾ [الإسراء: ١٧] . وعَدَدُ الرُّسُلِ ثَلاثُمِائَةٍ وثَلاثَةَ عَشَرَ. والمُرادُ بِالنَّبِيِّينَ هُنا خُصُوصُ الرُّسُلِ مِنهم بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ”بَعَثَ“ وبِقَرِينَةِ الحالِ في قَوْلِهِ: ﴿مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ﴾، لِأنَّ البِشارَةَ والإنْذارَ مِن خَصائِصِ الرِّسالَةِ والدَّعْوَةِ وبِقَرِينَةِ ما يَأْتِي مِن قَوْلِهِ ﴿وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ﴾ الآيَةَ. (p-٣٠٧)فالتَّعْرِيفُ في النَّبِيِّينَ لِلِاسْتِغْراقِ وهو الِاسْتِغْراقُ المُلَقَّبُ بِالعُرْفِيِّ في اصْطِلاحِ أهْلِ المَعانِي. والبِشارَةُ: الإعْلامُ بِخَيْرٍ حَصَلَ أوْ سَيَحْصُلُ، والنِّذارَةُ بِكَسْرِ النُّونِ الإعْلامُ بِشَرٍّ وضُرٍّ حَصَلَ أوْ سَيَحْصُلُ، وذَلِكَ هو الوَعْدُ والوَعِيدُ الَّذِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الشَّرائِعُ. فالرُّسُلُ هُمُ الَّذِينَ جاءُوا بِالوَعْدِ والوَعِيدِ، وأمّا الأنْبِياءُ غَيْرُ الرُّسُلِ فَإنَّ وظِيفَتَهم هي ظُهُورُ صَلاحِهِمْ بَيْنَ قَوْمِهِمْ حَتّى يَكُونُوا قُدْوَةً لَهم، وإرْشادُ أهْلِهِمْ وذَوِيِهِمْ ومُرِيدِيهِمْ لِلِاسْتِقامَةِ مَن دُونِ دَعْوَةٍ حَتّى يَكُونَ بَيْنَ قَوْمِهِمْ رِجالٌ صالِحُونَ، وإرْشادُ مَن يَسْتَرْشِدُهم مِن قَوْمِهِمْ، وتَعْلِيمُ مَن يَرَوْنَهُ أهْلًا لِعِلْمِ الخَيْرِ مِنَ الأُمَّةِ. ثُمَّ هم قَدْ يَجِيئُونَ مُؤَيِّدِينَ لِشَرِيعَةٍ مَضَتْ كَمَجِيءِ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطِ لِتَأْيِيدِ شَرِيعَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ومَجِيءِ أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ بَعْدَ مُوسى لِتَأْيِيدِ التَّوْراةِ، وقَدْ لا يَكُونُ لَهم تَعُلُّقٌ بِشَرْعِ مَن قَبْلَهم كَمَجِيءِ خالِدِ بْنِ سِنانٍ العَبْسِيِّ نَبِيًّا في عَبْسٍ مِنَ العَرَبِ. وقَوْلُهُ: ﴿وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ﴾، الإنْزالُ: حَقِيقَتُهُ تَدْلِيَةُ الجِسْمِ مِن عُلُوٍّ إلى سُفْلٍ، وهو هُنا مَجازٌ في وُصُولِ الشَّيْءِ مِنَ الأعْلى مَرْتَبَةً إلى مَن هو دُونَهُ، وذَلِكَ أنَّ الوَحْيَ جاءَ مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى ودالٌّ عَلى مُرادِهِ مِنَ الخَلْقِ فَهو وارِدٌ لِلرُّسُلِ في جانِبٍ لَهُ عُلُوُّ مَنزِلَةٍ. وأضافَ ”مَعَ“ إلى ضَمِيرِ ”النَّبِيئِينَ“ إضافَةً مُجْمَلَةً واخْتِيرَ لَفْظُ ”مَعَ“ دُونَ عَلَيْهِمْ لِيَصْلُحَ لِمَن أُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتابٌ مِنهم مِثْلِ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى ومُحَمَّدٍ، ولِمَن جاءَ مُؤَيِّدًا لِمَن قَبْلَهُ مِثْلِ أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ بَيْنَ مُوسى وعِيسى. والكِتابُ هو المَكْتُوبُ، وأُطْلِقَ في اصْطِلاحِ الشَّرْعِ عَلى الشَّرِيعَةِ لِأنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ النّاسَ بِكِتابَتِها لِدَوامِ حِفْظِها والتَّمَكُّنِ مِن مُدارَسَتِها، وإطْلاقُ الكِتابِ عَلَيْها قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً إنْ كانَتِ الشَّرِيعَةُ في وقْتِ الإطْلاقِ قَدْ كُتِبَتْ أوْ كُتِبَ بَعْضُها كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿الم ذَلِكَ الكِتابُ﴾ [البقرة: ١] عَلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ هُنالِكَ، وقَدْ يَكُونُ مَجازًا عَلى الوَجْهِ الآخَرِ، وما هُنا يُحْمَلُ عَلى الحَقِيقَةِ لِأنَّ الشَّرائِعَ قَدْ نَزَلَتْ وكُتِبَتْ وكُتِبَ بَعْضُ الشَّرِيعَةِ المُحَمَّدِيَّةِ والمَعِيَّةُ مَعِيَّةٌ اعْتِبارِيَّةٌ مَجازِيَّةٌ أُرِيدَ بِها مُقارَنَةُ الزَّمانِ، لِأنَّ حَقِيقَةَ المَعِيَّةِ هي المُقارَنَةُ في المَكانِ وهي المُصاحَبَةُ، ولَعَلَّ اخْتِيارَ المَعِيَّةِ هُنا لِما تُؤْذِنُ بِهِ مِنَ التَّأْيِيدِ والنَّصْرِ قالَ تَعالى ﴿إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى﴾ [طه: ٤٦] وفي الحَدِيثِ: ومَعَكَ رُوحُ القُدُسِ. والتَّعْرِيفُ في الكِتابِ لِلِاسْتِغْراقِ: أيْ وأنْزَلَ مَعَ النَّبِيئِينَ الكُتُبَ الَّتِي نَزَلَتْ كُلَّها (p-٣٠٨)وهُوَ مِن مُقابَلَةِ الجَمْعِ بِالجَمْعِ عَلى مَعْنى التَّوْزِيعِ، فالمَعْنى أنْزَلَ مَعَ كُلِّ نَبِيءٍ كِتابَهُ، وقَرِينَةُ التَّوْزِيعِ مَوْكُولَةٌ لِعِلْمِ السّامِعِينَ لِاشْتِهارِ ذَلِكَ. وإنَّما أفْرَدَ الكِتابَ ولَمْ يَقُلِ الكُتُبَ، لِأنَّ المُفْرَدَ والجَمْعَ في مَقامِ الِاسْتِغْراقِ سَواءٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ مَعَ ما في الإفْرادِ مِنِ الإيجازِ ودَفْعِ احْتِمالِ العَهْدِ إذْ لا يَجُوزُ أنْ يَنْزِلَ كِتابٌ واحِدٌ مَعَ جَمِيعِ النَّبِيئِينَ؛ فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ المُرادُ الِاسْتِغْراقَ لا العَهْدَ، وجَوَّزَ صاحِبُ الكَشّافِ كَوْنَ اللّامِ لِلْعَهْدِ والمَعْنى أنَزَلَ مَعَ كُلِّ واحِدٍ كِتابَهُ. والضَّمِيرُ في لِيَحْكُمَ راجِعٌ إلى الكِتابِ فَإسْنادُ الحُكْمِ إلى الكِتابِ مَجازٌ عَقْلِيٌّ، لِأنَّهُ مُبَيِّنُ ما بِهِ الحُكْمُ، أوْ فِعْلُ ”يَحْكُمُ“ مَجازٌ في البَيانِ. ويَجُوزُ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إلى اسْمِ الجَلالَةِ؛ أيْ أنْزَلَ اللَّهُ الكِتابَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم، وإسْنادُ الحُكْمِ مَجازٌ عَقْلِيٌّ، لِأنَّهُ المُسَبِّبُ لَهُ والآمِرُ بِالقَضاءِ بِهِ، وتَعْدِيَةُ يَحْكُمُ بِبَيْنَ لِأنَّهُ لَمْ يُعَيَّنْ فِيهِ مَحْكُومٌ لَهُ أوْ عَلَيْهِ. وحُكْمُ الكِتابِ بَيْنَ النّاسِ بَيانُ الحَقِّ والرُّشْدِ والِاسْتِدْلالِ عَلَيْهِ، وكَوْنُهُ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ كِنايَةٌ عَنْ إظْهارِ الحَقِّ، لِأنَّ الحَقَّ واحِدٌ لا يُخْتَلَفُ فِيهِ إلّا عَنْ ضَلالٍ أوْ خَطَأٍ، ولِهَذا قالَ جُمْهُورُ عُلَمائِنا إنَّ المُصِيبَ في الِاجْتِهادِيّاتِ واحِدٌ. * * * ﴿وما اخْتَلَفَ فِيهِ إلّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ بَغْيًا بَيْنَهم فَهَدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإذْنِهِ واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ﴾ لِبَيانِ حَقِيقَةٍ أُخْرى مِن أحْوالِ اخْتِلافِ الأُمَمِ وهو الِاخْتِلافُ بَيْنَ أهْلِ الكِتابِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وبَيْنَ أهْلِ الكِتابِ الواحِدِ مَعَ تَلَقِّيهِمْ دِينًا واحِدًا، والمَعْنى: وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ فاخْتُلِفَ فِيهِ، كَما قالَ تَعالى ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ فاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ [هود: ١١٠] . والمَعْنى وما اخْتَلَفَ فِيهِ إلّا أقْوامُهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا كُتُبَهم فاسْتَغْنى بِجُمْلَةِ القَصْرِ عَنِ الجُمْلَةِ الأُخْرى لِتَضَمُّنِ جُمْلَةِ القَصْرِ إثْباتًا ونَفْيًا. (p-٣٠٩)فاللَّهُ بَعَثَ الرُّسُلَ لِإبْطالِ الضَّلالِ الحاصِلِ مِن جَهْلِ البَشَرِ بِصَلاحِهِمْ فَجاءَتِ الرُّسُلُ بِالهُدى، اتَّبَعَهم مَنِ اتَّبَعَهم فاهْتَدى وأعْرَضَ عَنْهم مَن أعْرَضَ فَبَقِيَ في ضَلالَةٍ، فَإرْسالُ الرُّسُلِ لِإبْطالِ الِاخْتِلافِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، ثُمَّ أحْدَثَ اتِّباعُ الرُّسُلِ بِعْدَهُمُ اخْتِلافًا آخَرَ وهو اخْتِلافُ كُلِّ قَوْمٍ في نَفْسِ شَرِيعَتِهِمْ. والمَقْصُودُ مِن هَذا بَيانُ عَجِيبِ حالِ البَشَرِ في تَسَرُّعِهِمْ إلى الضَّلالِ، وهي حَقِيقَةٌ تارِيخِيَّةٌ مِن تارِيخِ الشَّرائِعِ، وتَحْذِيرُ المُسْلِمِينَ مِنَ الوُقُوعِ في مِثْلِ ذَلِكَ. والتَّعْرِيضُ بِأهْلِ الكِتابِ وهم أشْهَرُ أهْلِ الشَّرائِعِ يَوْمَئِذٍ فِيما صَنَعُوا بِكُتُبِهِمْ مِنَ الِاخْتِلافِ فِيها، وهَذا مِن بَدِيعِ اسْتِطْرادِ القُرْآنِ في تَوْبِيخِ أهْلِ الكِتابِ وخاصَّةً اليَهُودَ وهي طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ بَلِيغَةٌ قالَ زُهَيْرٌ: ؎إنَّ البَخِيلَ مَلُومٌ حِينَ كانَ ولَكِنَّ الجَوادَ عَلى عِلّاتِهِ هَرَمُ وقالَ الفَرَزْدَقُ يَمْدَحُ الخَلِيفَةَ ويَسْتَطْرِدُ بِهِجاءِ جَرِيرٍ: ؎إلى مَلِكٍ ما أُمُّهُ مِن مُحارِبٍ ∗∗∗ أبُوهُ ولا كانَتْ كُلَيْبٌ تُصاهِرُهُ والضَّمِيرُ مِن قَوْلِهِ فِيهِ يَجُوزُ أنْ يَعُودَ إلى الكِتابِ وأنْ يَعُودَ إلى الحَقِّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الكِتابُ، والمَعْنى عَلى التَّقْدِيرَيْنِ واحِدٌ، لِأنَّ الكِتابَ أُنْزِلَ مُلابِسًا لِلْحَقِّ ومُصاحِبًا لَهُ فَإذا اخْتُلِفَ في الكِتابِ اخْتُلِفَ في الحَقِّ الَّذِي فِيهِ وبِالعَكْسِ عَلى طَرِيقَةِ قِياسِ المُساواةِ في المَنطِقِ. والِاخْتِلافُ في الكِتابِ ذَهابُ كُلِّ فَرِيقٍ في تَحْرِيفِ المُرادِ مِنهُ مَذْهَبًا يُخالِفُ مَذْهَبَ الآخَرِ في أُصُولِ الشَّرْعِ لا في الفُرُوعِ، فَإنَّ الِاخْتِلافَ في أُصُولِهِ يُعَطِّلُ المَقْصُودَ مِنهُ. وجِيءَ بِالمَوْصُولِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ المُعَرِّفاتِ لِما في الصِّلَةِ مِنَ الأمْرِ العَجِيبِ وهو أنْ يَكُونَ المُخْتَلِفُونَ في مَقْصِدِ الكِتابِ هُمُ الَّذِينَ أُعْطُوا الكِتابَ لِيُزِيلُوا بِهِ الخِلافَ بَيْنَ النّاسِ فَأصْبَحُوا هم سَبَبَ خِلافٍ فِيهِ، ولا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ المُرادَ مِنهُ. والمَعْنى تَشْنِيعُ حالِ الَّذِينَ أُوتُوهُ بِأنْ كانُوا أسْوَأ حالًا مِنَ المُخْتَلِفِينَ في الحَقِّ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرائِعِ، لِأنَّ أُولَئِكَ لَهم بَعْضُ العُذْرِ بِخِلافِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا بَعْدَ كَوْنِ الكِتابِ بِأيْدِيهِمْ. وقَوْلُهُ ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتَلَفَ، والبَيِّناتُ جَمْعُ بَيِّنَةٍ وهي الحُجَّةُ والدَّلِيلُ. (p-٣١٠)والمُرادُ بِالبَيِّناتِ هُنا الدَّلائِلُ الَّتِي مِن شَأْنِها الصَّدُّ عَنِ الِاخْتِلافِ في مَقاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وهي النُّصُوصُ الَّتِي لا تَحْتَمِلُ غَيْرَ مَدْلُولاتِها أعْنِي قَواطِعَ الشَّرِيعَةِ، والظَّواهِرَ المُتَعاضِدَةَ الَّتِي التَحَقَتْ بِالقَواطِعِ، والظَّواهِرَ الَّتِي لَمْ يَدْعُ داعٍ إلى تَأْوِيلِها ولا عارَضَها مُعارِضٌ. والظَّواهِرُ المُتَعارِضَةُ الَّتِي دَلَّ تَعارُضُها عَلى أنَّ مَحْمَلَ كُلٍّ مِنها عَلى حالَةٍ لا تُعارِضُ حالَةَ مَحْمَلِ الآخَرِ وهو المُعَبَّرُ عَنْهُ في الأُصُولِ بِالجَمْعِ بَيْنَ الأدِلَّةِ وتَوارِيخِ التَّشْرِيعِ الدّالَّةِ عَلى نَسْخِ حُكْمٍ حُكْمًا آخَرَ، أوْ ما يَقُومُ مَقامَ التّارِيخِ مِن نَحْوِ: هَذا ناسِخٌ، أوْ كانَ الحُكْمُ كَذا فَصارَ كَذا، فَهَذِهِ بَيِّناتٌ مانِعَةٌ مِنَ الِاخْتِلافِ لَوْ كانَ غَرَضُ الأُمَمِ اتِّباعَ الحَقِّ. ومَجِيءُ البَيِّناتِ بُلُوغُ ما يَدُلُّ عَلَيْها وظُهُورُ المُرادِ مِنها. والبَعْدِيَّةُ هُنا: بَعْدِيَّةُ اعْتِبارٍ لَمْ يُقْصَدْ مِنها تَأخُّرُ زَمانِ الِاخْتِلافِ عَنْ مَجِيءِ البَيِّناتِ، وإنْ كانَ هو كَذَلِكَ في نَفْسِ الأمْرِ، أيْ أنَّ الخِلافَ كانَ في حالَةٍ تَقَرَّرَتْ فِيها دَلائِلُ الحَقِّ في نُفُوسِ المُخْتَلِفِينَ. وقَوْلُهُ ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ لِاخْتَلَفُوا، والبَغْيُ: الظُّلْمُ وأصْلُ البَغْيِ في كَلامِ العَرَبِ الطَّلَبُ، ثُمَّ شاعَ في طَلَبِ ما لِلْغَيْرِ بِدُونِ حَقٍّ فَصارَ بِمَعْنى الظُّلْمِ مَعْنًى ثانِيًا وأُطْلِقَ هُنا عَلى الحَسَدِ لِأنَّ الحَسَدَ ظُلْمٌ. والمَعْنى أنَّ داعِيَ الِاخْتِلافِ هو التَّحاسُدُ وقَصْدُ كُلِّ فَرِيقٍ تَغْلِيطَ الآخَرِ فَيُحَمِّلُ الشَّرِيعَةَ غَيْرَ مَحامِلِها لِيُفْسِدَ ما حَمَلَها عَلَيْهِ الآخَرُ فَيُفْسِدُ كُلُّ فَرِيقٍ صَوابَ غَيْرِهِ، وأمّا خَطَؤُهُ فَأمْرُهُ أظْهَرُ. وقَوْلُهُ بَيْنَهم مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ بَغْيًا لِلتَّنْصِيصِ عَلى أنَّ البَغْيَ بِمَعْنى الحَسَدِ، وأنَّهُ ظُلْمٌ في نَفْسِ الأُمَّةِ ولَيْسَ ظُلْمًا عَلى عَدُوِّها. واعْلَمْ أنَّ تَعَلُّقَ كُلٍّ مِنَ المَجْرُورِ وهو مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ وتَعَلُّقَ المَفْعُولِ لِأجْلِهِ وهو ”بَغْيًا“ بِقَوْلِهِ اخْتَلَفَ الَّذِي هو مَحْصُورٌ بِالِاسْتِثْناءِ المُفَرَّغِ، ويَسْتَلْزِمُ أنْ يَكُونَ كِلاهُما مَحْصُورًا في فاعِلِ الفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقا بِهِ، فَلا يَتَأتّى فِيهِ الخِلافُ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّضِيُّ بَيْنَ النُّحاةِ في جَوازِ اسْتِثْناءِ شَيْئَيْنِ بَعْدَ أداةِ اسْتِثْناءٍ واحِدَةٍ، لِأنَّ التَّحْقِيقَ أنَّ ما هُنا لَيْسَ اسْتِثْناءَ أشْياءَ بَلِ اسْتِثْناءُ شَيْءٍ واحِدٍ وهُمُ الَّذِينَ أُوتُوهُ، لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَيْدَيْنِ هُما ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ﴾ و(بَغْيًا) (p-٣١١)إذِ المَقْصُودُ أنَّ الخِلافَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ أهْلِ الدِّينِ ومُعانِدِيهِ، ولا كانَ بَيْنَ أهْلِ الدِّينِ قَبْلَ ظُهُورِ الدَّلائِلِ الصّارِفَةِ عَنِ الخِلافِ، ولا كانَ ذَلِكَ الخِلافُ عَنْ مَقْصِدٍ حَسَنٍ بَلْ كانَ بَيْنَ أهْلِ الدِّينِ الواحِدِ، مَعَ قِيامِ الدَّلائِلِ وبِدافِعِ البَغْيِ والحَسَدِ. والآيَةُ تَقْتَضِي تَحْذِيرَ المُسْلِمِينَ مِنَ الوُقُوعِ فِيما وقَعَتْ فِيهِ الأُمَمُ السّابِقَةُ مِنَ الِاخْتِلافِ في الدِّينِ أيْ في أُصُولِ الإسْلامِ، فالخِلافُ الحاصِلُ بَيْنَ عُلَماءِ الإسْلامِ لَيْسَ اخْتِلافًا في أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، فَإنَّها إجْماعِيَّةٌ، وقَدْ أجْمَعُوا عَلى أنَّهم يُرِيدُونَ تَحْقِيقَها، ولِذَلِكَ اتَّفَقَتْ أُصُولُهم في البَحْثِ عَنْ مُرادِ اللَّهِ تَعالى وعَنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ لِلِاسْتِدْلالِ عَنْ مَقْصِدِ الشّارِعِ وتَصَرُّفاتِهِ، واتَّفَقُوا في أكْثَرِ الفُرُوعِ، وإنَّما اخْتَلَفُوا في تَعْيِينِ كَيْفِيَّةِ الوُصُولِ إلى مَقْصِدِ الشّارِعِ، وقَدِ اسْتَبْرَءُوا لِلدِّينِ فَأعْلَنُوا جَمِيعًا: أنَّ لِلَّهِ تَعالى حُكْمًا في كُلِّ مَسْألَةٍ، وأنَّهُ حُكْمٌ واحِدٌ، وأنَّهُ كَلَّفَ المُجْتَهِدِينَ بِإصابَتِهِ وأنَّ المُصِيبَ واحِدٌ، وأنَّ مُخْطِئَهُ أقَلُّ ثَوابًا مِن مُصِيبِهِ، وأنَّ التَّقْصِيرَ في طَلَبِهِ إثْمٌ. فالِاخْتِلافُ الحاصِلُ بَيْنَ عُلَمائِنا اخْتِلافٌ جَلِيلُ المِقْدارِ مُوَسِّعٌ لِلْأنْظارِ. أمّا لَوْ جاءَ أتْباعُهم فانْتَصَرُوا لِآرائِهِمْ مَعَ تَحَقُّقِ ضَعْفِ المُدْرِكِ أوْ خَطَئِهِ لَقَصْدِ تَرْوِيجِ المَذْهَبِ وإسْقاطِ رَأْيِ الغَيْرِ فَذَلِكَ يُشْبِهُ الِاخْتِلافَ الَّذِي شَنَّعَهُ اللَّهُ تَعالى وحَذَّرَنا مِنهُ فَكُونُوا مِن مِثْلِهِ عَلى حَذَرٍ ولا تَكُونُوا كَمَثَلِ قَوْلِ المُعَرِّيِّ: ؎فَمُجادِلٌ وصَلَ الجِدالَ وقَدْ دَرى ∗∗∗ أنَّ الحَقِيقَةَ فِيهِ لَيْسَ كَما زَعَمْ ؎عَلِمَ الفَتى النَّظّارُ أنَّ بَصائِرًا ∗∗∗ عَمِيَتْ فَكَمْ يُخْفى اليَقِينُ وكَما يُعَمْ وقَوْلُهُ ﴿فَهَدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هَذا العَطْفُ يَحْتَمِلُ أنَّ الفاءَ عاطِفَةٌ عَلى ﴿اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ القَصْرِ، قالَ ابْنُ عَرَفَةَ: عَطْفٌ بِالفاءِ إشارَةً إلى سُرْعَةِ هِدايَتِهِ المُؤْمِنِينَ بِعَقِبِ الِاخْتِلافِ اهـ.، يُرِيدُ أنَّهُ تَعْقِيبٌ بِحَسَبِ ما يُناسِبُ سُرْعَةَ مِثْلِهِ، وإلّا فَهُدى المُسْلِمِينَ وقَعَ بَعْدَ أزْمانٍ مَضَتْ، حَتّى تَفاقَمَ اخْتِلافُ اليَهُودِ واخْتِلافُ النَّصارى، وفِيهِ بُعْدٌ لا يَخْفى، فالظّاهِرُ عِنْدِي: أنَّ الفاءَ فَصِيحَةٌ لِما عُلِمَ مِن أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الكَلامِ السّابِقِ التَّحْذِيرُ مِنَ الوُقُوعِ في الِاخْتِلافِ ضَرُورَةَ أنَّ القُرْآنَ إنَّما نَزَلَ لِهُدى المُسْلِمِينَ لِلْحَقِّ في كُلِّ ما اخْتَلَفَ فِيهِ أهْلُ الكُتُبِ السّالِفَةِ فَكَأنَّ السّامِعَ تَرَقَّبَ العِلْمَ بِعاقِبَةِ هَذا الِاخْتِلافِ فَقِيلَ: دامَ هَذا الِاخْتِلافُ إلى مَجِيءِ الإسْلامِ فَهَدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا إلَخْ، فَقَدْ أفْصَحَتْ عَنْ كَلامٍ مُقَدَّرٍ وهو المَعْطُوفُ عَلَيْهِ المَحْذُوفُ كَقَوْلِهِ تَعالى أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الحَجَرَ فانْفَجَرَتْ. (p-٣١٢)والمُرادُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا المُسْلِمُونَ لا مَحالَةَ، والضَّمِيرُ في اخْتَلَفُوا عائِدٌ لِلْمُخْتَلِفِينَ كُلِّهِمْ، سَواءٌ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا في الحَقِّ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ والَّذِينَ اخْتَلَفُوا في الشَّرائِعِ بَعْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ والبَيِّناتِ؛ ولِذَلِكَ بَيَّنَهُ مِنَ الحَقِّ وهو الحَقُّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في قَوْلِهِ ﴿وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ﴾ فَإنَّ اخْتِلافَ الفَرِيقَيْنِ راجِعٌ إلى الِاخْتِلافِ في تَعْيِينِ الحَقِّ إمّا عَنْ جَهْلٍ أوْ عَنْ حَسَدٍ وبَغْيٍ. والإذْنُ: الخِطابُ بِإباحَةِ فِعْلٍ وأصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِن فِعْلِ أذِنَ إذا أصْغى أُذُنَهُ إلى كَلامِ مَن يُكَلِّمُهُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى الخِطابِ بِإباحَةِ فِعْلٍ عَلى طَرِيقَةِ المَجازِ بِعَلاقَةِ اللُّزُومِ لِأنَّ الإصْغاءَ إلى كَلامِ المُتَكَلِّمِ يَسْتَلْزِمُ الإقْبالَ عَلَيْهِ وإجابَةَ مَطْلَبِهِ، وشاعَ ذَلِكَ حَتّى صارَ الإذْنُ أشْيَعَ في مَعْنى الخِطابِ بِإباحَةِ الفِعْلِ، وبِذَلِكَ صارَ لَفْظُ الإذْنِ قابِلًا لِأنْ يُسْتَعْمَلَ مَجازًا في مَعانٍ مِن مُشابِهاتِ الخِطابِ بِالإباحَةِ، فَأُطْلِقَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى التَّمْكِينِ مِنَ الِاهْتِداءِ وتَيْسِيرِهِ بِما في الشَّرائِعِ مِن بَيانِ الهُدى والإرْشادِ إلى وسائِلِ الِاهْتِداءِ عَلى وجْهِ الِاسْتِعارَةِ، لِأنَّ مَن يُيَسِّرُ لَكَ شَيْئًا فَكَأنَّهُ أباحَ لَكَ تَناوُلَهُ. وفِي هَذا إيماءٌ إلى أنَّ اللَّهَ بَعَثَ بِالإسْلامِ لِإرْجاعِ النّاسِ إلى الحَقِّ وإلى التَّوْحِيدِ الَّذِي كانُوا عَلَيْهِ، أوْ لِإرْجاعِهِمْ إلى الحَقِّ الَّذِي جاءَتِ الرُّسُلُ لِتَحْصِيلِهِ، فاخْتَلَفَ أتْباعُهم فِيهِ بَدَلًا مِن أنْ يُحَقِّقُوا بِأفْهامِهِمْ مَقاصِدَ ما جاءَتْ بِهِ رُسُلُهم، فَحَصَلَ بِما في الإسْلامِ مِن بَيانِ القُرْآنِ الَّذِي لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ وُضُوحُ الحَقِّ والإرْشادُ إلى كَيْفِيَّةِ أخْذِهِ، فَحَصَلَ بِمَجِيءِ الإسْلامِ إتْمامُ مُرادٍ مِمّا أُنْزِلَ مِنَ الشَّرائِعِ السّالِفَةِ. وقَوْلُهُ ﴿واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ تَذْيِيلٌ لِبَيانِ أنَّ فَضْلَ اللَّهِ يُعْطِيهِ مَن يَشاءُ، وهَذا إجْمالٌ، وتَفْصِيلُهُ أنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ اقْتَضَتْ أنْ يَتَأخَّرَ تَمامُ الهُدى إلى وقْتِ مَجِيءِ شَرِيعَةِ الإسْلامِ لِما تَهَيَّأ البَشَرُ بِمَجِيءِ الشَّرائِعِ السّابِقَةِ لِقَبُولِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، كانَتِ الشَّرائِعُ السّابِقَةُ تَمْهِيدًا وتَهْيِئَةً لِقَبُولِ دِينِ الإسْلامِ، ولِذَلِكَ صُدِّرَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِقَوْلِهِ ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً﴾، فَكَما كانَ البَشَرُ في أوَّلِ أمْرِهِ أُمَّةً واحِدَةً عَلى هُدًى بَسِيطٍ ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ الضَّلالاتُ عِنْدَ تَحَرُّكِ الأفْكارِ البَشَرِيَّةِ، رَجَعَ البَشَرُ إلى دِينٍ واحِدٍ في حالَةِ ارْتِقاءِ الأفْكارِ، وهَذا اتِّحادٌ عَجِيبٌ، لِأنَّهُ جاءَ بَعْدَ تَشَتُّتِ الآراءِ والمَذاهِبِ، ولِذا قالَ تَعالى ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ وما اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩]، (p-٣١٣)وفِي الحَدِيثِ «مَثَلُ المُسْلِمِينَ واليَهُودِ والنَّصارى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا يَوْمًا إلى اللَّيْلِ عَلى أجْرٍ مَعْلُومٍ فَعَمِلُوا لَهُ نِصْفَ النَّهارِ، فَقالُوا لا حاجَةَ لَنا إلى أجْرِكَ الَّذِي شَرَطْتَ لَنا وما عَمِلْنا باطِلٌ، فَقالَ لَهم لا تَفْعَلُوا أكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكم وخُذُوا أجْرَكم كامِلًا فَأبَوْا وتَرَكُوا، واسْتَأْجَرَ آخَرِينَ بَعْدَهم فَقالَ لَهم: أكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكم هَذا ولَكُمُ الَّذِي شَرَطْتُ لَهم مِنَ الأجْرِ فَعَمِلُوا حَتّى إذا كانَ حِينَ صَلاةِ العَصْرِ قالُوا: تِلْكَ ما عَمِلْنا باطِلٌ ولَكَ الأجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنا فِيهِ، فَقالَ لَهم أكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكم فَإنَّما بَقِيَ مِنَ النَّهارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ فَأبَوْا، واسْتَأْجَرَ قَوْمًا أنْ يَعْمَلُوا لَهُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتّى غابَتِ الشَّمْسُ واسْتَكْمَلُوا أجْرَ الفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِما، فَذَلِكَ مَثَلُهم ومَثَلُ ما قَبِلُوا مِن هَذا النُّورِ، فَقالَتِ اليَهُودُ والنَّصارى ما لَنا أكْثَرُ عَمَلًا وأقَلُّ عَطاءً، قالَ هَلْ ظَلَمْتُكم مِن حَقِّكم شَيْئًا ؟ قالُوا: لا، قالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَن أشاءُ» .