ركن التفسير
22 - (الذي جعل) خلق (لكم الأرض فراشا) حال بساطا يفترش لا غاية في الصلابة أو الليونة فلا يمكن الاستقرار عليها (والسماء بناء) سقفا (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من) أنواع (الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أنداداً) شركاء في العبادة (وأنتم تعلمون) أنه الخالق ولا تخلقون ، ولا يكون إلها إلا من يخلق
وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشا أي مهدا كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات والسماء بناء وهو السقف كما قال في الآية الأخرى "وجعلنا السماء سقف محفوظا وهم عن آياتها معرضون" "وأنزل من السماء ماء" والمراد به السحاب هاهنا في وقته عند احتياجهم إليه فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد رزقا لهم ولأنعامهم كما قرر هذا في غير موضع من القرآن ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى "الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين" ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ولهذا قال "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون" وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" الحديث وكذا حديث معاذ "أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" الحديث وفي الحديث الآخر "لا يقول أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان" وقال حماد بن سلمة حدثنا عبدالملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة أم المؤمنين لأمها قال: رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد قال: ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: من أنتم قالوا: نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال "هل أخبرت بها أحدا؟ " قلت: نعم. فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال "أما بعد فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده" هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة به وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر عن عبدالملك بن عمير به بنحوه وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح بن عبدالله الكندي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله وما شئت فقال "أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده". رواه ابن مردويه وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح به وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم وبه عن ابن عباس فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم إن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه. وهكذا قال قتادة وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبي عمرو حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل فلا تجعلوا لله أندادا وقال الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سواء في ظلمة الليل وهوان يقول والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت وقول الرجل لولا الله وفلان لا تجعل فيه فلان هذا كله به شرك. وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت قال "أجعلتني لله ندا" وفي الحديث الآخر "نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون تقولون ما شاء الله وشاء فلان". قال أبو العالية: فلا تجعلوا لله أندادا أي عدلاء شركاء. وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد وقال مجاهد فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل. "ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة" قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن وأنه كاد أن يبطئ بها فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن فقال: يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي. قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله أمرنى بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن أو لهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفوا وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه. وقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه وأمركم بذكر الله كثيرا وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم" قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلى. فقال "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله" هذا حديث حسن والشاهد منه في هذه الآية قوله "وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا" وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى وهي دالة على ذلك بطريق الأولى فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه كما قال بعض الأعراب وقد سئل ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير وإن أثر الأقدام لتدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج. وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟. وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوات والنغمات وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد. فقالوا هذا شيء لا يقوله عاقل. فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع. فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم وتأكله النحل فيخرج منه العسل وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعرا وروثا وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال: هاهنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب الإبريز فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد: تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيـون من لجين شاخصـــات بأحداق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليـس له شـريك وقال ابن المعتز: فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحـد وفي كل شـــــيء له آية تــدل على أنه واحــد وقال آخرون من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال تعالى "ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء" وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه عليه توكلت وإليه أنيب والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدا.
(p-٣٣١)﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا والسَّماءَ بِناءً وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ يَتَعَيَّنُ أنَّ قَوْلَهُ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا﴾ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِلرَّبِّ لِأنَّ مَساقَها مَساقُ قَوْلِهِ ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] والمَقْصُودُ الإيماءُ إلى سَبَبٍ آخَرَ لِاسْتِحْقاقِهِ العِبادَةَ وإفْرادِهِ بِها، فَإنَّهُ لَمّا أوْجَبَ عِبادَتَهُ أنَّهُ خالِقُ النّاسِ كُلِّهِمْ أُتْبِعَ ذَلِكَ بِصِفَةٍ أُخْرى تَقْتَضِي عِبادَتَهم إيّاهُ وحْدَهُ، وهي نِعَمُهُ المُسْتَمِرَّةُ عَلَيْهِمْ مَعَ ما فِيها مِن دَلائِلِ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ فَإنَّهُ مَكَّنَ لَهم سُبُلَ العَيْشِ وأوَّلُها المَكانُ الصّالِحُ لِلِاسْتِقْرارِ عَلَيْهِ بِدُونِ لُغُوبٍ فَجَعَلَهُ كالفِراشِ لَهم، ومِن إحاطَةِ هَذا القَرارِ بِالهَواءِ النّافِعِ لِحَياتِهِمْ والَّذِي هو غِذاءُ الرُّوحِ الحَيَوانِيِّ، وذَلِكَ ما أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ﴿والسَّماءَ بِناءً﴾ وبِكَوْنِ تِلْكَ الكُرَةِ الهَوائِيَّةِ واقِيَةَ النّاسِ مِن إضْرارِ طَبَقاتٍ فَوْقَها مُتَناهِيَةٍ في العُلُوِّ، مِن زَمْهَرِيرٍ أوْ عَناصِرَ غَرِيبَةٍ قاتِلَةٍ خانِقَةٍ، فالكُرَةُ الهَوائِيَّةُ جُعِلَتْ فَوْقَ هَذا العالَمِ فَهي كالبِناءِ لَهُ ونَفْعُها كَنَفْعِ البِناءِ فَشُبِّهَتْ بِهِ عَلى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ وبِأنْ أخْرَجَ لِلنّاسِ ما فِيهِ إقامَةُ أوَدِ حَياتِهِمْ بِاجْتِماعِ ماءِ السَّماءِ مَعَ قُوَّةِ الأرْضِ وهو الثِّمارُ. والمُرادُ بِالسَّماءِ هُنا إطْلاقُها العُرْفِيُّ عِنْدَ العَرَبِ وهو ما يَبْدُو لِلنّاظِرِ كالقُبَّةِ الزَّرْقاءِ وهو كُرَةُ الهَواءِ المُحِيطِ بِالأرْضِ كَما هو المُرادُ في قَوْلِهِ ﴿أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٩] وهَذا هو المُرادُ الغالِبُ إذا أُطْلِقَ السَّماءُ بِالإفْرادِ دُونَ الجَمْعِ. ومَعْنى جَعَلَ الأرْضَ فِراشًا أنَّها كالفِراشِ في التَّمَكُّنِ مِنَ الِاسْتِقْرارِ والِاضْطِجاعِ عَلَيْها، وهو أخَصُّ أحْوالِ الِاسْتِقْرارِ. والمَعْنى أنَّهُ جَعَلَها مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ شِدَّةِ الصُّخُورِ بِحَيْثُ تُؤْلِمُ جِلْدَ الإنْسانِ وبَيْنَ رَخاوَةِ الحَمْأةِ بِحَيْثُ يَتَزَحْزَحُ الكائِنُ فَوْقَها ويَسُوخُ فِيها، وتِلْكَ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ. وأمّا وجْهُ شَبَهِ السَّماءِ بِالبِناءِ فَهو أنَّ الكُرَةَ الهَوائِيَّةَ جَعَلَها اللَّهُ حاجِزَةً بَيْنَ الكُرَةِ الأرْضِيَّةِ وبَيْنَ الكُرَةِ الأثِيرِيَّةِ. فَهي كالبِناءِ فِيما يُرادُ لَهُ البِناءُ وهو الوِقايَةُ مِنَ الأضْرارِ النّازِلَةِ، فَإنَّ لِلْكُرَةِ الهَوائِيَّةِ دَفْعًا لِأضْرارٍ أظْهَرُها دَفْعُ ضَرَرِ طُغْيانِ مِياهِ البِحارِ عَلى الأرْضِ، ودَفْعُ أضْرارِ بُلُوغِ أهْوِيَةٍ تَنْدَفِعُ عَنْ بَعْضِ الكَواكِبِ إلَيْنا وتَلْطِيفُها حَتّى تَخْتَلِطَ بِالهَواءِ أوْ صَدُّ الهَواءِ إيّاها عَنّا مَعَ ما في مُشابَهَةِ الكُرَةِ الهَوائِيَّةِ لِهَيْئَةِ القُبَّةِ، والقُبَّةُ بَيْتٌ مَن أدَمٍ مُقَبَّبٍ وتُسَمّى بِناءً (p-٣٣٢)والبِناءُ في كَلامِ العَرَبِ ما يُرْفَعُ سُمْكُهُ عَلى الأرْضِ لِلْوِقايَةِ سَواءً كانَ مِن حَجَرٍ أوْ مِن أدَمٍ أوْ مِن شَعْرٍ، ومِنهُ قَوْلُهم: بَنى عَلى امْرَأتِهِ، إذا تَزَوَّجَ، لِأنَّ المُتَزَوِّجَ يَجْعَلُ بَيْتًا يَسْكُنُ فِيهِ مَعَ امْرَأتِهِ وقَدِ اشْتَهَرَ إطْلاقُ البِناءِ مَن أدَمٍ ولِذَلِكَ سَمُّوا الأدَمَ الَّذِي تُبْنى مِنهُ القِبابُ مَبْناةً بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِها، وهَذا كَقَوْلِهِ في سُورَةِ الأنْبِياءِ ﴿وجَعَلْنا السَّماءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ [الأنبياء: ٣٢] فَإنْ قُلْتَ يَقْتَضِي كَلامُكَ هَذا أنَّ الِامْتِنانَ بِجَعْلِ السَّماءِ كالبِناءِ لِوِقايَةِ النّاسِ مِن قَبِيلِ المُعْجِزاتِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي أشَرْتَ إلَيْها في المُقَدِّمَةِ العاشِرَةِ وذَلِكَ لا يُدْرِكُهُ إلّا الأجْيالُ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ زَمانِ النُّزُولِ فَماذا يَكُونُ حَظُّ المُسْلِمِينَ وغَيْرِهِمُ الَّذِينَ نَزَلَتْ بَيْنَهُمُ الآيَةُ ﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر: ١٠] في عِدَّةِ أجْيالٍ، فَإنَّ أهْلَ الجاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَشْعُرُونَ بِأنَّ لِلسَّماءِ خاصِّيَّةَ البِناءِ في الوِقايَةِ، وغايَةُ ما كانُوا يَتَخَيَّلُونَهُ أنَّ السَّماءَ تُشْبِهُ سَقْفَ القُبَّةِ كَما قالَتِ الأعْرابِيَّةُ حِينَ سُئِلَتْ عَنْ مَعْرِفَةِ النُّجُومِ: أيَجْهَلُ أحَدٌ خَرَزاتٍ مُعَلَّقَةً في سَقْفِهِ. فَتَتَمَخَّضُ الآيَةُ لِإفادَةِ العِبْرَةِ بِذَلِكَ الخَلْقِ البَدِيعِ؛ إلّا أنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ مِنَ الِامْتِنانِ الَّذِي أفادَهُ قَوْلُهُ: لَكم، فَهَلْ نَخُصُّ تَعَلُّقَهُ بِفِعْلِ ”جَعَلَ“ المُصَرَّحِ بِهِ دُونَ تَعَلُّقِهِ بِالفِعْلِ المَطْوِيِّ تَحْتَ واوِ العَطْفِ، أوْ بِجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فِراشًا فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿والسَّماءَ بِناءً﴾ مَعْطُوفًا عَلى مَعْمُولِ فِعْلِ الجَعْلِ المُجَرَّدِ عَنِ التَّقْيِيدِ بِالمُتَعَلِّقِ. قُلْتُ: هَذا يُفْضِي إلى التَّحَكُّمِ في تَعَلُّقِ قَوْلِهِ: لَكم تَحَكُّمًا لا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ لِلسّامِعِ بَلِ الوَجْهُ أنْ يُجْعَلَ ”لَكم“ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ (جَعَلَ) ويَكْفِي في الِامْتِنانِ بِخَلْقِ السَّماءِ إشْعارُ السّامِعِينَ لِهَذِهِ الآيَةِ بِأنَّ في خَلْقِ السَّماءِ عَلى تِلْكَ الصِّفَةِ ما في إقامَةِ البِناءِ مِنَ الفَوائِدِ عَلى الإجْمالِ لِيَفْرِضَهُ السّامِعُونَ عَلى مِقْدارِ قَرائِحِهِمْ وأفْهامِهِمْ ثُمَّ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ في قابِلِ الأجْيالِ. وحُذِفَ ”لَكم“ عِنْدَ ذِكْرِ السَّماءِ إيجازًا لِأنَّ ذِكْرَهُ في قَوْلِهِ ﴿جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا﴾ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. و(جَعَلَ) إنْ كانَتْ بِمَعْنى أوْجَدَ فَحَمْلُ الِامْتِنانِ هو إنْ كانَتا عَلى هَذِهِ الحالَةِ، وإنْ كانَتْ بِمَعْنى صَيَّرَ فَهي دالَّةٌ عَلى أنَّ الأرْضَ والسَّماءَ قَدِ انْتَقَلَتا مِن حالٍ إلى حالٍ حَتّى صارَتا كَما هُما. وصارَ أظْهَرَ في مَعْنى الِانْتِقالِ مِن صِفَةٍ إلى صِفَةٍ، وقَواعِدُ عِلْمِ طَبَقاتِ الأرْضِ ”الجِيُولُوجْيا“ تُؤْذِنُ بِهَذا الوَجْهِ الثّانِي فَيَكُونُ في الآيَةِ مِنَّتانِ وعِبْرَتانِ في جَعْلِهِما عَلى ما رَأيْنا، وفي الأطْوارِ الَّتِي انْتَقَلَتا فِيهِما بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وإذْنِهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّ السَّماواتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما﴾ [الأنبياء: ٣٠] إلى قَوْلِهِ ﴿وجَعَلْنا السَّماءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وهم عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٢] (p-٣٣٣)وقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ وضَرَبَ العِبْرَةَ بِأقْرَبِ الأشْياءِ وأظْهَرِها لِسائِرِ النّاسِ حاضِرِهِمْ وبادِيهِمْ وبِأوَّلِ الأشْياءِ في شُرُوطِ هَذِهِ الحَياةِ. وفِيهِما أنْفَعُ الأشْياءِ وهُما الهَواءُ والماءُ النّابِعُ مِنَ الأرْضِ، وفِيهِما كانَتْ أوَّلُ مَنافِعِ البَشَرِ، وفي تَخْصِيصِ الأرْضِ والسَّماءِ بِالذِّكْرِ نُكْتَةٌ أُخْرى وهي التَّمْهِيدُ لِما سَيَأْتِي مِن قَوْلِهِ ﴿وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ إلَخْ. وابْتَدَأ بِالأرْضِ لِأنَّها أوَّلُ ما يَخْطُرُ بِبالِ المُعْتَبِرِ ثُمَّ بِالسَّماءِ لِأنَّهُ بَعْدَ أنْ يَنْظُرَ لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَنْظُرُ إلى ما يُحِيطُ بِهِ. وقَوْلُهُ ﴿وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ﴾ إلَخْ هَذا امْتِنانٌ بِما يَلْحَقُ الإيجادَ مِمّا يَحْفَظُهُ مِنَ الِاخْتِلالِ وهو خِلْفَةٌ لِما تُتْلِفُهُ الحَرارَةُ الغَرِيزِيَّةُ والعَمَلُ العَصَبِيُّ والدِّماغِيُّ مِنَ القُوَّةِ البَدَنِيَّةِ لِيَدُومَ قِوامُ البَدَنِ بِالغِذاءِ، وأصْلُ الغِذاءِ هو ما يَخْرُجُ مِنَ الأرْضِ، وإنَّما تُخْرِجُ الأرْضُ النَّباتَ بِنُزُولِ الماءِ عَلَيْها مِنَ السَّماءِ أيْ مِنَ السَّحابِ والطَّبَقاتِ العُلْيا. واعْلَمْ أنَّ كَوْنَ الماءِ نازِلًا مِنَ السَّماءِ هو أنَّ تَكَوُّنَهُ يَكُونُ في طَبَقاتِ الجَوِّ مِن آثارِ البُخارِ الَّذِي في الجَوِّ، فَإنَّ الجَوَّ مُمْتَلِئٌ دائِمًا بِالأبْخِرَةِ الصّاعِدَةِ إلَيْهِ بِواسِطَةِ حَرارَةِ الشَّمْسِ مِن مِياهِ البِحارِ والأنْهارِ ومِن نَداوَةِ الأرْضِ ومِنَ النَّباتِ، ولِهَذا نَجِدُ الإناءَ المَمْلُوءَ ماءً فارِغًا بَعْدَ أيّامٍ إذا تُرِكَ مَكْشُوفًا لِلْهَواءِ فَإذا بَلَغَ البُخارُ أقْطارَ الجَوِّ العالِيَةَ بَرَدَ بِبُرُودَتِها وخاصَّةً في فَصْلِ الشِّتاءِ، فَإذا بَرَدَ مالَ إلى التَّمَيُّعِ، فَيَصِيرُ سَحابًا ثُمَّ يَمْكُثُ قَلِيلًا أوْ كَثِيرًا بِحَسَبِ التَّناسُبِ بَيْنَ بُرُودَةِ الطَّبَقاتِ الجَوِّيَّةِ والحَرارَةِ البُخارِيَّةِ فَإذا زادَتِ البُرُودَةُ عَلَيْهِ انْقَبَضَ السَّحابُ وثَقُلَ وتَمَيَّعَ فَتَجْتَمِعُ فِيهِ الفَقاقِيعُ المائِيَّةُ وتَثْقُلُ عَلَيْهِ فَتُنْزِلُ مَطَرًا وهو ما أشارَ لَهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ويُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ﴾ [الرعد: ١٢] وكَذَلِكَ إذا تَعَرَّضَ السَّحابُ لِلرِّيحِ الآتِيَةِ مِن جِهَةِ البَحْرِ وهي رِيحٌ نَدِيَّةٌ ارْتَفَعَ الهَواءُ إلى أعْلى الجَوِّ فَبَرَدَ فَصارَ مائِعًا، ورُبَّما كانَ السَّحابُ قَلِيلًا فَساقَتْ إلَيْهِ الرِّيحُ سَحابًا آخَرَ فانْضَمَّ أحَدُهُما لِلْآخَرِ ونَزَّلا مَطَرًا، ولِهَذا غَلَبَ المَطَرُ بَعْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ البَحْرِيَّةِ، وفي الحَدِيثِ «إذا أنْشَأتْ بِحْرِيَّةً ثُمَّ تَشاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ» . ومِنَ القَواعِدِ أنَّ الحَرارَةَ وقِلَّةَ الضَّغْطِ يَزِيدانِ في صُعُودِ البُخارِ وفي انْبِساطِهِ، والبُرُودَةَ وكَثْرَةَ الضَّغْطِ يُصَيِّرانِ البُخارَ مائِعًا وقَدْ جُرِّبَ أنَّ صُعُودَ البُخارِ يَزْدادُ بِقَدْرِ قُرْبِ الجِهَةِ مِن خَطِّ الِاسْتِواءِ ويَنْقُصُ بِقَدْرِ بُعْدِهِ عَنْهُ، وإلى بَعْضِ هَذا يُشِيرُ ما ورَدَ في الحَدِيثِ «أنَّ المَطَرَ يَنْزِلُ مِن صَخْرَةٍ تَحْتَ العَرْشِ» فَإنَّ العَرْشَ هو اسْمٌ لِسَماءٍ مِنَ السَّماواتِ، والصَّخْرَةُ تَقْرِيبٌ لِمَكانٍ ذِي بُرُودَةٍ، وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ المَطَرَ تُنْشِئُهُ البُرُودَةُ فَيَتَمَيَّعُ السَّحابُ فَكانَتِ البُرُودَةُ هي لِقاحُ المَطَرِ. (p-٣٣٤)و(مِنَ) الَّتِي في قَوْلِهِ ﴿مِنَ الثَّمَراتِ﴾ لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ إذْ لَيْسَ التَّبْعِيضُ مُناسِبًا لِمَقامِ الِامْتِنانِ، بَلْ إمّا لِبَيانِ الرِّزْقِ المُخْرَجِ - وتَقْدِيمُ البَيانِ عَلى المُبَيَّنِ شائِعٌ في كَلامِ العَرَبِ - وإمّا زائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ الإخْراجِ بِالثَّمَراتِ. * * * ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أتَتِ الفاءُ لِتَرْتِيبِ هاتِهِ الجُمْلَةِ عَلى الكَلامِ السّابِقِ وهو مُتَرَتِّبٌ عَلى الأمْرِ بِالعِبادَةِ، و”لا“ ناهِيَةٌ، والفِعْلُ مَجْزُومٌ، ولَيْسَتْ نافِيَةً حَتّى يَكُونَ الفِعْلُ مَنصُوبًا في جَوابِ الأمْرِ مِن قَوْلِهِ ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] والمُرادُ هُنا تَسَبُّبُهُ الخاصُّ وهو حُصُولُهُ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُهُ وهو أنَّ الَّذِي أمَرَكم بِعِبادَتِهِ هو المُسْتَحِقُّ لِلْإفْرادِ بِها فَهو أخَصُّ مِن مُطْلَقِ ضِدِّ العِبادَةِ؛ لِأنَّ ضِدَّ العِبادَةَ عَدَمُ العِبادَةِ. ولَكِنْ لَمّا كانَ الإشْراكُ لِلْمَعْبُودِ في العِبادَةِ يُشْبِهُ تَرْكَ العِبادَةِ جُعِلَ تَرْكُ الإشْراكِ مُساوِيًا لِنَقِيضِ العِبادَةِ لِأنَّ الإشْراكَ ما هو إلّا تَرْكٌ لِعِبادَةِ اللَّهِ في أوْقاتِ تَعْظِيمِ شُرَكائِهِمْ. والنِّدُّ بِكَسْرِ النُّونِ المُساوِي والمُماثِلُ في أمْرٍ مِن مَجْدٍ أوْ حَرْبٍ، وزادَ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ أنْ يَكُونَ مُناوِئًا أيْ مُعادِيًا، وكَأنَّهم نَظَرُوا إلى اشْتِقاقِهِ مِن نَدَّ إذا نَفَرَ وعانَدَ. ولَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ لِجَوازِ كَوْنِهِ اسْمًا جامِدًا، وأظُنُّ أنَّ وجْهَ دَلالَةِ النِّدِّ عَلى المُناوَأةِ والمُضادَّةِ أنَّها مِن لَوازِمِ المُماثَلَةِ عُرْفًا عِنْدَ العَرَبِ، شَأْنُ المِثْلِ عِنْدَهم أنْ يُنافِسَ مُماثِلَهُ ويُزاحِمَهُ في مُرادِهِ فَتَحْصُلُ المُضادَّةُ. ونَظِيرُهُ في عَكْسِهِ تَسْمِيَتُهُمُ المُماثِلَ قَرِيعًا، فَإنَّ القَرِيعَ هو الَّذِي يُقارِعُ ويُضارِبُ. ولَمّا كانَ أحَدٌ لا يَتَصَدّى لِمُقارَعَةِ مَن هو فَوْقَهُ لِخَشْيَتِهِ ولا مَن هو دُونَهُ لِاحْتِقارِهِ كانَتِ المُقارَعَةُ مُسْتَلْزِمَةً لِلْمُماثِلَةِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهم قِرْنٌ لِلْمُحارِبِ المُكافِئِ في الشَّجاعَةِ. ويُقالُ جَعَلَ لَهُ نِدًّا، إذا سَوّى غَيْرَهُ بِهِ. والمَعْنى: لا تُثْبِتُوا لِلَّهِ أنْدادًا تَجْعَلُونَها جَعْلًا وهي لَيْسَتْ أنْدادًا؛ وسَمّاها أنْدادًا تَعْرِيضًا بِزَعْمِهِمْ لِأنَّ حالَ العَرَبِ في عِبادَتِهِمْ لَها كَحالِ مَن يُسَوِّي بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَها وإنْ كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إنَّ الآلِهَةَ شُفَعاءُ، ويَقُولُونَ: ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ، وجَعَلُوا اللَّهَ خالِقَ الآلِهَةِ فَقالُوا في التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ إلّا شَرِيكًا هو لَكَ تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ، لَكِنَّهم لَمّا عَبَدُوها، ونَسُوا بِعِبادَتِها والسَّعْيِ إلَيْها والنُّذُورِ عِنْدَها وإقامَةِ المَواسِمِ حَوْلَها عِبادَةَ اللَّهِ، أصْبَحَ عَمَلُهم (p-٣٣٥)عَمَلَ مَن يَعْتَقِدُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَها وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى لِأنَّ العِبْرَةَ بِالفِعْلِ لا بِالقَوْلِ. وفي ذَلِكَ مَعْنًى مِنَ التَّعْرِيضِ بِهِمْ ورَمْيِهِمْ بِاضْطِرابِ الحالِ ومُناقِضَةِ الأقْوالِ لِلْأفْعالِ. وقَوْلُهُ ﴿وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، ومَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَتْرُوكٌ لِأنَّ الفِعْلَ لَمْ يُقْصَدْ تَعْلِيقُهُ بِمَفْعُولٍ، بَلْ قُصِدَ إثْباتُهُ لِفاعِلِهِ فَقَطْ فَنُزِّلَ الفِعْلُ مَنزِلَةَ اللّازِمِ، والمَعْنى: وأنْتُمْ ذَوُوا عِلْمٍ. والمُرادُ بِالعِلْمِ هُنا العَقْلُ التّامُّ، وهو رُجْحانُ الرَّأْيِ المُقابَلُ عِنْدَهم بِالجَهْلِ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩] وقَدْ جَعَلَتْ هاتِهِ الحالُ مَحَطَّ النَّهْيِ والنَّفْيِ تَمْلِيحًا في الكَلامِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ التَّوْبِيخِ وإثارَةِ الهِمَّةِ، فَإنَّهُ أثْبَتَ لَهم عِلْمًا ورَجاحَةَ الرَّأْيِ لِيُثِيرَ هِمَّتَهم ويَلْفِتَ بَصائِرَهم إلى دَلائِلِ الوَحْدانِيَّةِ، ونَهاهم عَنِ اتِّخاذِ الآلِهَةِ أوْ نَفى ذَلِكَ مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِهِ وجَعَلَهُ لا يَجْتَمِعُ مَعَ العِلْمِ تَوْبِيخًا لَهم عَلى ما أهْمَلُوا مِن مَواهِبِ عُقُولِهِمْ وأضاعُوا مِن سَلامَةِ مَدارِكِهِمْ. وهَذا مَنزَعٌ تَهْذِيبِيٌّ عَظِيمٌ: أنْ يَعْمِدَ المُرَبِّي فَيَجْمَعَ لِمَن يُرَبِّيهِ بَيْنَ ما يَدُلُّ عَلى بَقِيَّةِ كَمالٍ فِيهِ حَتّى لا يَقْتُلَ هِمَّتَهُ بِاليَأْسِ مِن كَمالِهِ فَإنَّهُ إذا ساءَتْ ظُنُونُهُ في نَفْسِهِ خارَتْ عَزِيمَتُهُ وذَهَبَتْ مَواهِبُهُ، ويَأْتِي بِما يَدُلُّ عَلى نَقائِضَ فِيهِ لِيَطْلُبَ الكَمالَ فَلا يَسْتَرِيحُ مِنَ الكَدِّ في طَلَبِ العُلا والكَمالِ. وقَدْ أوْمَأ قَوْلُهُ ﴿وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إلى أنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ لا نِدَّ لَهُ ولَكِنَّهم تَعامَوْا وتَناسَوْا فَقالُوا: ؎إلّا شَرِيكًا هو لَكَ .