موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الخميس 19 رمضان 1446 هجرية الموافق ل20 مارس 2025


الآية [222] من سورة  

وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُوا۟ ٱلنِّسَآءَ فِى ٱلْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ


ركن التفسير

222 - (ويسألونك عن المحيض) أي الحيض أو مكانه ماذا يفعل بالنساء فيه (قل هو أذى) قذر أو محله (فاعتزلوا النساء) اتركوا وطأهن (في المحيض) أي وقته أو مكانه (ولا تقربوهن) بالجماع (حتى يطَّهَّرن) بسكون الطاء وتشديدها والهاء وفيه إدغام التاء في الأصل في الطاء أي يغتسلن بعد انقطاعه (فإذا تطهرن فأتوهن) بالجماع (من حيث أمركم الله) بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تعدوه إلى غيره (إن الله يحب) يثيب ويكرم (التوابين) من الذنوب (ويحب المتطهرين) من الأقذار

قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن" حتى فرغ من الآية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر. فقالا يا رسول الله: إن اليهود قالت كذا وكذا أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما رواه مسلم من حديث حماد بن زيد بن سلمة فقوله "فاعتزلوا النساء في المحيض" يعني الفرج لقوله "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج. قال أبو داود أيضا: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب عن عكرمة عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا. وقال أبو داود أيضا حدثنا الشعبي حدثنا عبدالله يعني ابن عمر بن غانم عن عبدالرحمن يعني ابن زياد عن عمارة بن غراب أن عمة له حدثته أنها سألت عائشة قالت: إحدانا تحيض وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد قالت: أخبرك بما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل فمضى إلى مسجده قال أبو داود: تعني مسجد بيتها فما انصرف حتى غلبتني عيني فأوجعه البرد فقال: "ادني مني" فقلت: إنى حائض فقال: "اكشفي عن فخذيك" فكشفت فخذي فوضع خده وصدره على فخذي وحنيت عليه حتى دفئ ونام - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال: أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا عبدالوهاب حدثنا أيوب عن كتاب أبي قلابة أن مسروقا ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهله فقالت عائشة: مرحبا مرحبا فأذنوا له فدخل فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي فقالت إنما أنا أمك وأنت ابني فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض فقالت له: كل شيء إلا فرجها. ورواه أيضا عن حميد بن مسعدة عن يزيد بن زريع عن عيينة بن عبدالرحمن بن جوشن عن مروان الأصفر عن مسروق. قال قلت لعائشة ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع. وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة وروى ابن جرير أيضا عن أبي كريب عن ابن أبي زائدة عن حجاج عن ميمون بن مهران عن عائشة قالت له: ما فوق الإزار. "قلت" ويحل مضاجعتها ومواكلتها بلا خلاف قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض وكان يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن وفي الصحيح عنها قالت: كنت أتعرق العرق وأنا حائض فأعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه وقال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن جابر بن صبح سمعت خلاسا الهجري قال: سمعت عائشة تقول كنت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبيت في الشعار الواحد وأنا حائض طامث فإن أصابه مني شيء غسل مكانه لم يعده وإن أصابه ـ يعني ثوبه ـ شيء غسل مكانه لم يعده وصلى فيه فأما ما رواه أبو داود حدثنا سعيد بن عبد الجبار حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن أبي اليمان عن أم ذرة عن عائشة أنها قالت: كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير فلم تقرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تدن منه حتى تطهر فهو محمول على التنزه والاحتياط ـ وقال آخرون: إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار كما ثبت في الصحيحين عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض وهذا لفظ البخاري ولهما عن عائشة نحوه. وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث العلاء عن حزام بن حكيم عن عمه عبدالله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: "ما فوق الإزار" ولأبي داود أيضا عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يحل لي من امرأتي وهي حائض قال: "ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل" وهو رواية عن عائشة كما تقدم وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه الله الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم ومأخذهم أنه حريم الفرج فهو حرام لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عز وجل الذي أجمع العلماء على تحريمه وهو المباشرة في الفرج ثم من فعل ذلك فقد أثم فيستغفر الله ويتوب إليه وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا؟ فيه قولان "أحدهما" نعم لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهى حائض يتصدق بدينار أو نصف دينار وفي لفظ الترمذي "إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار" وللإمام أحمد أيضا عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل في الحائض نصاب دينار فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فنصف دينار "والقول الثاني" وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي وقول الجمهور أنه لا شيء في ذلك بل يستغفر الله عز وجل لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث فإنه قد روي مرفوعا كما تقدم وموقوفا وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث فقوله تعالى "ولا تقربوهن حتى يطهرن" تفسير لقوله "فاعتزلوا النساء في المحيض" ونهي عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودا ومفهومه حله إذا انقطع قال الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل فيما أملاه في الطاعة وقوله "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث" الآية. الطهر يدل على أن يقربها فلما قالت ميمونة وعائشة كانت إحدانا إذا حاضت اتزرت ودخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعاره دل ذلك على أنه إنما أراد الجماع. وقوله "فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله" فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة لقوله "فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله" وليس له في ذلك مستند لأن هذا أمر بعد الحظر وفيه أقوال لعلماء الأصول منهم من يقول إنه على الوجوب كالمطلق وهؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم ومنهم من يقول إنه للإباحة ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب وفيه نظر والذي ينهض عليه الدليل أنه يرد عليه الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي فإن كان واجبا فواجب كقوله "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين" أو مباحا فمباح كقوله "وإذا حللتم فاصطادوا" "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض" وعلى هذا القول تجتمع الأدلة وقد حكاه الغزالي وغيره فاختاره بعض أئمة المتأخرين وهو الصحيح وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه إلا أن أبا حنيفة رحمه الله يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عشرة أيام عنده إنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل والله أعلم. وقال ابن عباس "حتى يطهرن" أي من الدم "فإذا تطهرن" أي بالماء وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن ومقاتل بن حيان والليث بن سعد وغيرهم. وقوله "من حيث أمركم الله" قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد يعني الفرج قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "فأتوهن من حيث أمركم الله" يقول في الفرج ولا تعدوه إلى غيره فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة "من حيث أمركم الله" أي أن تعتزلوهن وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر كما سيأتي تقريره قريبا إن شاء الله تعالى وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد "فأتوهن من حيث أمركم الله" يعني طاهرات غير حيض ولهذا قال "إن الله يحب التوابين" أي من الذنب وإن تكرر غشيانه "ويحب المتطهرين" أي المتنزهين عن الأقذار والأذى وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض أو في غير المأتى.

﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هو أذًى فاعْتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُنَّ مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١]، بِمُناسَبَةِ أنَّ تَحْرِيمَ نِكاحِ المُشْرِكاتِ يُؤْذِنُ بِالتَّنَزُّهِ عَنْ أحْوالِ المُشْرِكِينَ وكانَ المُشْرِكُونَ لا يَقْرَبُونَ نِساءَهم إذا كُنَّ حُيَّضًا وكانُوا يُفْرِطُونَ في الِابْتِعادِ مِنهُنَّ مُدَّةَ الحَيْضِ فَناسَبَ تَحْدِيدَ ما يَكْثُرُ وُقُوعُهُ وهو مِنَ الأحْوالِ الَّتِي يُخالِفُ فِيها المُشْرِكُونَ غَيْرَهم، ويَتَساءَلُ المُسْلِمُونَ عَنْ أحَقِّ المَناهِجِ في شَأْنِها، رُوِيَ أنَّ السّائِلَ عَنْ هَذا هو أبُو الدَّحْداحِ ثابِتُ بْنُ الدَّحْداحِ الأنْصارِيُّ، ورُوِيَ أنَّ السّائِلَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، ورُوِيَ أنَّهُ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، فالسُّؤالُ حَصَلَ في مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فَذُكِرَ فِيها مَعَ ما سَيُذْكَرُ مِنَ الأحْكامِ. والباعِثُ عَلى السُّؤالِ أنَّ أهْلَ يَثْرِبَ قَدِ امْتَزَجُوا بِاليَهُودِ واسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِمْ في كَثِيرٍ مِنَ الأشْياءِ، وكانَ اليَهُودُ يَتَباعَدُونَ عَنِ الحائِضِ أشَدَّ التَّباعُدِ بِحُكْمِ التَّوْراةِ فَفي الإصْحاحِ الخامِسَ عَشَرَ مِن سِفْرِ اللّاوِيِّينَ: إذا كانَتِ امْرَأةٌ لَها سَيْلٌ دَمًا في لَحْمِها فَسَبْعَةُ أيّامٍ تَكُونُ في طَمْثِها وكُلُّ مَن مَسَّها يَكُونُ نَجِسًا إلى المَساءِ وكُلُّ ما تَضْطَجِعُ عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِسًا وكُلُّ مَن مَسَّ فِراشَها يَغْسِلُ ثِيابَهُ ويَسْتَحِمُّ بِماءٍ ويَكُونُ نَجِسًا إلى المَساءِ وإنِ اضْطَجَعَ مَعَها رَجُلٌ فَكانَ طَمْثُها عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِسًا سَبْعَةَ أيّامٍ. وذَكَرَ القُرْطُبِيُّ أنَّ النَّصارى لا يَمْتَنِعُونَ عَنْ ذَلِكَ ولا أحْسَبُ ذَلِكَ صَحِيحًا فَلَيْسَ في الإنْجِيلِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ، وإنَّ مِن قَبائِلِ العَرَبِ مَن كانَتِ الحائِضُ عِنْدَهم مَبْغُوضَةً (p-٣٦٥)فَقَدْ كانَ بَنُو سُلَيْحٍ أهْلُ بَلَدِ الحَضْرِ، وهم مِن قُضاعَةَ نَصارى إنْ حاضَتِ المَرْأةُ أخْرَجُوها مِنَ المَدِينَةِ إلى الرَّبْضِ حَتّى تَطْهُرَ وفَعَلُوا ذَلِكَ بِنَصْرَةَ ابْنَةِ الضَّيْزَنِ مَلِكِ الحَضْرِ، فَكانَتِ الحالُ مَظِنَّةَ حِيرَةِ المُسْلِمِينَ في هَذا الأمْرِ تَبْعَثُ عَلى السُّؤالِ عَنْهُ. والمَحِيضُ وهو اسْمٌ لِلدَّمِ الَّذِي يَسِيلُ مِن رَحِمِ المَرْأةِ في أوْقاتٍ مُنْتَظِمَةٍ والمَحِيضُ اسْمٌ عَلى زِنَةِ مَفْعِلٍ مَنقُولٌ مِن أسْماءِ المَصادِرِ شاذًّا عَنْ قِياسِها لِأنَّ قِياسَ المَصْدَرِ في مِثْلِهِ فَتْحُ العَيْنِ قالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ حاضَتْ حَيْضًا ومَحاضًا ومَحِيضًا والمَصْدَرُ في - هَذا البابِ بابُهُ المَفْعَلِ بِفَتْحِ العَيْنِ لَكِنَّ المَفْعِلَ بِكَسْرِ العَيْنِ جَيِّدٌ ووَجْهُ جَوْدَتِهِ مُشابَهَتُهُ مُضارِعَهُ لِأنَّ المُضارِعَ بِكَسْرِ العَيْنِ وهو مِثْلُ المَجِيءِ والمَبِيتِ، وعِنْدِي أنَّهُ لَمّا صارَ المَحِيضُ اسْمًا لِلدَّمِ السّائِلِ مِنَ المَرْأةِ عُدِلَ بِهِ عَنْ قِياسِ أصْلِهِ مِنَ المَصْدَرِ إلى زِنَةِ اسْمِ المَكانِ وجِيءَ بِهِ عَلى زِنَةِ المَكانِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ صارَ اسْمًا فَخالَفُوا فِيهِ أوْزانَ الأحْداثِ إشْعارًا بِالنَّقْلِ فَرْقًا بَيْنَ المَنقُولِ مِنهُ والمَنقُولِ إلَيْهِ، ويُقالُ حَيْضٌ وهو أصْلُ المَصْدَرِ: يُقالُ: حاضَتِ المَرْأةُ إذا سالَ مِنها؛ كَما يُقالُ: حاضَ السَّيْلُ إذا فاضَ ماؤُهُ ومِنهُ سُمِّيَ الحَوْضُ حَوْضًا لِأنَّهُ يَسِيلُ، أبْدَلُوا ياءَهُ واوًا ولَيْسَ مَنقُولًا مِنِ اسْمِ المَكانِ؛ إذْ لا مُناسَبَةَ لِلنَّقْلِ مِنهُ، وإنَّما تَكَلَّفَهُ مَن زَعَمَهُ مَدْفُوعًا بِالمُحافَظَةِ عَلى قِياسِ اسْمِ المَكانِ مُعْرِضًا عَمّا في تَصْيِيرِهِ اسْمًا مِنَ التَّوَسُّعِ في مُخالَطَةِ قاعِدَةِ الِاشْتِقاقِ. والمُرادُ مِنَ السُّؤالِ عَنِ المَحِيضِ السُّؤالُ عَنْ قُرْبانِ النِّساءِ في المَحِيضِ بِدَلالَةِ الِاقْتِضاءِ، وقَدْ عَلِمَ السّائِلُونَ ما سَألُوا عَنْهُ والجَوابُ أدَلُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ. والأذى: الضُّرُّ الَّذِي لَيْسَ بِفاحِشٍ؛ كَما دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَنْ يَضُرُّوكم إلّا أذًى﴾ [آل عمران: ١١١]، ابْتِداءُ جَوابِهِمْ عَمّا يَصْنَعُ الرَّجُلُ بِامْرَأتِهِ الحائِضِ فَبَيَّنَ لَهم أنَّ الحَيْضَ أذًى لِيَكُونَ ما يَأْتِي مِنَ النَّهْيِ عَنْ قُرْبانِ المَرْأةِ مُعَلَّلًا فَتَتَلَقّاهُ النُّفُوسُ عَلى بَصِيرَةٍ وتَتَهَيَّأُ بِهِ الأُمَّةُ لِلتَّشْرِيعِ في أمْثالِهِ، وعَبَّرَ عَنْهُ بِأذًى إشارَةً إلى إبْطالِ ما كانَ مِنَ التَّغْلِيطِ في شَأْنِهِ وشَأْنِ المَرْأةِ الحائِضِ في شَرِيعَةِ التَّوْراةِ، وقَدْ أثْبَتَ أنَّهُ أذًى مُنَكَّرٌ ولَمْ يُبَيِّنْ جِهَتَهُ فَتَعَيَّنَ أنَّ الأذى في مُخالَطَةِ الرَّجُلِ لِلْحائِضِ هو أذًى لِلرَّجُلِ ولِلْمَرْأةِ ولِلْوَلَدِ، فَأمّا أذى الرَّجُلِ فَأوَّلُهُ القَذارَةُ، وأيْضًا فَإنَّ هَذا الدَّمَ السّائِلَ مِن عُضْوِ التَّناسُلِ لِلْمَرْأةِ وهو يَشْتَمِلُ عَلى بَيْضاتٍ دَقِيقَةٍ مِنها تُخْلَقُ الأجِنَّةُ بَعْدَ انْتِهاءِ الحَيْضِ وبَعْدَ أنْ تَخْتَلِطَ تِلْكَ البَيْضاتُ بِماءِ الرَّجُلِ فَإذا انْغَمَسَ في الدَّمِ عُضْوُ التَّناسُلِ في الرَّجُلِ يَتَسَرَّبُ إلى قَضِيبِهِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ الدَّمِ بِما فِيهِ فَرُبَّما احْتُبِسَ مِنهُ جُزْءٌ في (p-٣٦٦)قَناةِ الذَّكَرِ فاسْتَحالَ إلى عُفُونَةٍ تُحْدِثُ أمْراضًا مُعْضِلَةً فَتُحْدِثُ بُثُورًا وقُرُوحًا لِأنَّهُ دَمٌ قَدْ فَسَدَ ويَرِدُ أيْ فِيهِ أجْزاءٌ حَيَّةٌ تُفْسِدُ في القَضِيبِ فَسادًا مِثْلَ مَوْتِ الحَيِّ فَتَئُولُ إلى تَعَفُّنٍ. وأمّا أذى المَرْأةِ فَلِأنَّ عُضْوَ التَّناسُلِ مِنها حِينَئِذٍ بِصَدَدِ التَّهَيُّؤِ إلى إيجادِ القُوَّةِ التَّناسُلِيَّةِ فَإذا أُزْعِجَ كانَ إزْعاجًا في وقْتِ اشْتِغالِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ مَرَضٌ وضَعْفٌ، وأمّا الوَلَدُ فَإنَّ النُّطْفَةَ إذا اخْتَلَطَتْ بِدَمِ الحَيْضِ أخَذَتِ البَيْضاتُ في التَّخَلُّقِ قَبْلَ إبّانِ صَلاحِيَّتِها لِلتَّخَلُّقِ النّافِعِ الَّذِي وقَتُهُ بَعْدَ الجَفافِ، وهَذا قَدْ عَرَفَهُ العَرَبُ بِالتَّجْرِبَةِ قالَ أبُو كَبِيرٍ الهُذَلِيُّ: ؎ومُبَرَّإٍ مِن كُلِّ غُبَّرِ حِيضَةٍ وفَسادِ مُرْضِعَةٍ وداءٍ مُعْضِلِ غُبَّرُ الحَيْضَةِ جَمْعُ غُبْرَةٍ ويُجْمَعُ عَلى ”غُبَّرٍ“ وهي آخِرُ الشَّيْءِ، يُرِيدُ: لَمْ تَحْمِلْ بِهِ أُمُهُ في آخِرِ مُدَّةِ الحَيْضِ. والأطِبّاءُ يَقُولُونَ إنَّ الجَنِينَ المُتَكَوِّنَ في وقْتِ الحَيْضِ يَجِيءُ مَجْذُومًا أوْ يُصابُ بِالجُذامِ مِن بَعْدُ. وقَوْلُهُ ﴿فاعْتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ﴾ تَفْرِيعُ الحُكْمِ عَلى العِلَّةِ، والِاعْتِزالُ التَّباعُدُ بِمَعْزِلٍ وهو هُنا كِنايَةٌ عَنْ تَرْكِ مُجامَعَتِهِنَّ، والمَجْرُورُ بِفي: وقْتٌ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: في زَمَنِ المَحِيضِ وقَدْ كَثُرَتْ إنابَةُ المَصْدَرِ عَنْ ظَرْفِ الزَّمانِ كَما يَقُولُونَ آتِيكَ طُلُوعَ النَّجْمِ ومَقْدِمَ الحاجِّ. والنِّساءُ اسْمُ جَمْعٍ لِلْمَرْأةِ لا واحِدَةَ لَهُ مِن لَفْظِهِ، والمُرادُ بِهِ هُنا الأزْواجُ كَما يَقْتَضِيهِ لَفْظُ اعْتَزِلُوا المُخاطَبِ بِهِ الرِّجالُ، وإنَّما يَعْتَزِلُ مَن كانَ يُخالِطُ. وإطْلاقُ النِّساءِ عَلى الأزْواجِ شائِعٌ بِالإضافَةِ كَثِيرًا نَحْوَ: (يا نِساءَ النَّبِيءِ)، وبِدُونِ إضافَةٍ مَعَ القَرِينَةِ كَما هُنا، فالمُرادُ: اعْتَزِلُوا نِساءَكم أيِ اعْتَزِلُوا ما هو أخَصُّ الأحْوالِ بِهِنَّ وهو المُجامَعَةُ وقَوْلُهُ ﴿ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ﴾ جاءَ النَّهْيُ عَنْ قُرْبانِهِنَّ تَأْكِيدًا لِلْأمْرِ بِاعْتِزالِهِنَّ وتَبْيِينًا لِلْمُرادِ مِنَ الِاعْتِزالِ، وأنَّهُ لَيْسَ التَّباعُدَ عَنِ الأزْواجِ بِالأبْدانِ كَما كانَ عِنْدَ اليَهُودِ بَلْ هو عَدَمُ القِرْبانِ، فَكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ﴿ولا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ مَفْصُولَةً بِدُونِ عَطْفٍ، لِأنَّها مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ ﴿فاعْتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ﴾ ومُبَيِّنَةٌ لِلِاعْتِزالِ وكِلا الأمْرَيْنِ يَقْتَضِي الفَصْلَ، ولَكِنْ خُولِفَ مُقْتَضى الظّاهِرِ اهْتِمامًا بِهَذا الحُكْمِ لِيَكُونَ النَّهْيُ عَنِ القِرْبانِ مَقْصُودًا بِالذّاتِ مَعْطُوفًا عَلى التَّشْرِيعاتِ، ويُكَنّى عَنِ الجِماعِ بِالقِرْبانِ بِكَسْرِ القافِ: مَصْدَرُ قَرِبَ بِكَسْرِ الرّاءِ ولِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ بِالمُضارِعِ المَفْتُوحِ العَيْنِ الَّذِي هو مُضارِعُ قَرِبَ كَسَمِعَ مُتَعَدِّيًا إلى المَفْعُولِ؛ فَإنَّ (p-٣٦٧)الجِماعَ لَمْ يَجِئْ إلّا فِيهِ دُونَ قَرُبَ بِالضَّمِّ القاصِرِ يُقالُ قَرُبَ مِنهُ بِمَعْنى دَنا وقَرِبَهُ كَذَلِكَ واسْتِعْمالُهُ في المُجامَعَةِ، لِأنَّ فِيها قُرْبًا ولَكِنَّهم غَلَّبُوا قَرِبَ المَكْسُورَ العَيْنِ فِيها دُونَ قَرُبَ المَضْمُومِ تَفْرِقَةً في الِاسْتِعْمالِ، كَما قالُوا بَعُدَ إذا تَجافى مَكانُهُ وبَعِدَ كَمَعْنى البُعْدِ المَعْنَوِيِّ ولِذَلِكَ يَدْعُونَ بِلا يَبْعَدْ. وقَوْلُهُ ﴿حَتّى يَطْهُرْنَ﴾ غايَةٌ لِاعْتَزِلُوا، ولا تَقْرَبُوهُنَّ، والطُّهْرُ بِضَمِّ الطّاءِ مَصْدَرٌ مَعْناهُ النَّقاءُ مِنَ الوَسَخِ والقَذَرِ وفِعْلُهُ طَهُرَ بِضَمِّ الهاءِ، وحَقِيقَةُ الطُّهْرِ نَقاءُ الذّاتِ، وأُطْلِقَ في اصْطِلاحِ الشَّرْعِ: عَلى النَّقاءِ المَعْنَوِيِّ وهو طُهْرُ الحَدَثِ الَّذِي يُقَدَّرُ حُصُولُهُ لِلْمُسْلِمِ بِسَبَبٍ، ويُقالُ تَطَهَّرَ إذا اكْتَسَبَ الطَّهارَةَ بِفِعْلِهِ حَقِيقَةً نَحْوَ ﴿يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ [التوبة: ١٠٨] أوْ مَجازًا نَحْوَ ﴿إنَّهم أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٨٢]، ويُقالُ اطَّهَّرَ بِتَشْدِيدِ الطّاءِ وتَشْدِيدِ الهاءِ وهي صِيغَةٌ تَطَهَّرَ وقَعَ فِيها إدْغامُ التّاءِ في الطّاءِ قالَ تَعالى ﴿وإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: ٦] وصِيغَةُ التَّفَعُّلِ في هَذِهِ المادَّةِ لِمُجَرَّدِ المُبالَغَةِ في حُصُولِ مَعْنى الفِعْلِ ولِذَلِكَ كانَ إطْلاقُ بَعْضِها في مَوْضِعِ بَعْضٍ اسْتِعْمالًا فَصِيحًا. قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿حَتّى يَطْهُرْنَ﴾ بِصِيغَةِ الفِعْلِ المُجَرَّدِ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ وخَلَفٍ (يَطَّهَّرْنَ) بِتَشْدِيدِ الطّاءِ والهاءِ مَفْتُوحَتَيْنِ. ولَمّا ذُكِرَ أنَّ المَحِيضَ أذًى عَلِمَ السّامِعُ أنَّ الطُّهْرَ هُنا هو النَّقاءُ مِن ذَلِكَ الأذى فَإنَّ وصْفَ حائِضٍ يُقابَلُ بِطاهِرٍ وقَدْ سُمِّيَتِ الأقْراءُ أطْهارًا، وقَدْ يُرادُ بِالتَّطَهُّرِ الغُسْلُ بِالماءِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ [التوبة: ١٠٨] فَإنَّ تَفْسِيرَهُ الِاسْتِنْجاءُ في الخَلاءِ بِالماءِ فَإنْ كانَ الأوَّلَ أفادَ مَنعَ القِرْبانِ إلى حُصُولِ النَّقاءِ مِن دَمِ الحَيْضِ بِالجُفُوفِ وكانَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَإذا تَطَهَّرْنَ﴾ بَعْدَ ذَلِكَ شَرْطًا ثانِيًا دالًّا عَلى لُزُومِ تَطَهُّرٍ آخَرَ وهو غَسْلُ ذَلِكَ الأذى بِالماءِ، لِأنَّ صِيغَةَ تَطَهَّرَ تَدُلُّ عَلى طَهارَةٍ مُعْمَلَةٍ، وإنْ كانَ الثّانِي كانَ قَوْلُهُ ﴿فَإذا تَطَهَّرْنَ﴾ تَصْرِيحًا بِمَفْهُومِ الغايَةِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ﴿فَأْتُوهُنَّ﴾، وعَلى الِاحْتِمالِ الثّانِي جاءَتْ قِراءَةُ (حَتّى يَطَّهَّرْنَ) بِتَشْدِيدِ الطّاءِ والهاءِ فَيَكُونُ المُرادُ الطُّهْرَ المُكْتَسَبَ وهو الطُّهْرُ بِالغُسْلِ ويَتَعَيَّنُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ أنْ يَكُونَ مُرادًا مِنهُ مَعَ مَعْناهُ لازِمُهُ أيْضًا وهو النَّقاءُ مِنَ الدَّمِ لِيَقَعَ الغَسْلُ مَوْقِعَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ ﴿فاعْتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ﴾ وبِذَلِكَ كانَ مَآلُ القِراءَتَيْنِ واحِدًا، وقَدْ رَجَّحَ المُبَرِّدُ قِراءَةَ (حَتّى يَطَّهَّرْنَ) بِالتَّشْدِيدِ قالَ: لِأنَّ الوَجْهَ أنْ تَكُونَ الكَلِمَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ يُرادُ بِهِما جَمِيعًا الغَسْلُ وهَذا عَجِيبٌ صُدُورُهُ مِنهُ فَإنَّ اخْتِلافَ المَعْنَيَيْنِ إذا لَمْ يَحْصُلْ مِنهُ تَضادٌّ أوَّلِيٌّ لِتَكَوُنَ الكَلِمَةُ الثّانِيَةُ مُفِيدَةً شَيْئًا جَدِيدًا. (p-٣٦٨)ورَجَّحَ الطَّبَرِيُّ قِراءَةَ التَّشْدِيدِ قائِلًا لِإجْماعِ الأُمَّةِ عَلى أنَّهُ حَرامٌ عَلى الرَّجُلِ أنْ يَقْرُبَ امْرَأتَهُ بَعْدَ انْقِطاعِ الدَّمِ عَنْها حَتّى تَطْهُرَ وهو مَرْدُودٌ بِأنْ لا حاجَةَ إلى الِاسْتِدْلالِ بِدَلِيلِ الإجْماعِ ولا إلى تَرْجِيحِ القِراءَةِ بِهِ، لِأنَّ اللَّفْظَ كافٍ في إفادَةِ المَنعِ مِن قِرْبانِ الرَّجُلِ امْرَأتَهُ حَتّى تَطْهُرَ بِدَلِيلِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ في قَوْلِهِ ﴿فَإذا تَطَهَّرْنَ﴾ . وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ غايَةَ اعْتِزالِ النِّساءِ في المَحِيضِ هي حُصُولُ الطُّهْرِ فَإنْ حَمَلْنا الطُّهْرَ عَلى مَعْناهُ اللُّغَوِيِّ فَهو النَّقاءُ مِنَ الدَّمِ ويَتَعَيَّنُ أنْ يُحْمَلَ التَّطَهُّرُ في قَوْلِهِ ﴿فَإذا تَطَهَّرْنَ﴾ عَلى المَعْنى الشَّرْعِيِّ، فَيَحْصُلَ مِنَ الغايَةِ والشَّرْطِ اشْتِراطُ النَّقاءِ والغُسْلِ وإلى هَذا المَعْنى ذَهَبَ، عُلَماءُ المالِكِيَّةِ ونَظَّرُوهُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وابْتَلُوا اليَتامى حَتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمُ أمْوالَهُمْ﴾ [النساء: ٦]، وإنَّ حَمْلَ الطُّهْرِ في المَوْضِعَيْنِ عَلى المَعْنى الشَّرْعِيِّ لا سِيَّما عَلى قِراءَةِ (حَتّى يَطَّهَّرْنَ) حَصَلَ مِن مَفْهُومِ الغايَةِ ومِنَ الشَّرْطِ المُؤَكَّدِ لَهُ اشْتِراطُ الغُسْلِ بِالماءِ وهو يَسْتَلْزِمُ اشْتِراطَ النَّقاءِ عادَةً، إذْ لا فائِدَةَ في الغُسْلِ قَبْلَ ذَلِكَ، وأمّا اشْتِراطُ طَهارَةِ الحَدَثِ فاخْتَلَفَ فُقَهاءُ الإسْلامِ في مُجْمَلِ الطُّهْرِ الشَّرْعِيِّ هُنا فَقالَ قَوْمٌ هو غَسْلُ مَحَلِّ الأذى بِالماءِ فَذَلِكَ يُحِلُّ قِرْبانَها وهَذا الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الآيَةُ، لِأنَّ الطُّهْرَ الشَّرْعِيَّ يُطْلَقُ عَلى إزالَةِ النَّجاسَةِ وعَلى رَفْعُ الحَدَثِ، والحائِضُ اتَّصَفَتْ بِالأمْرَيْنِ، والَّذِي يَمْنَعُ زَوْجَها مِن قِرْبانِها هو الأذى ولا عَلاقَةَ لِلْقِرْبانِ بِالحَدَثِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ غَسْلَ ذَلِكَ الأذى، وإنْ كانَ الطُّهْرانُ مُتَلازِمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأةِ المُسْلِمَةِ فَهُما غَيْرُ مُتَلازِمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلْكِتابِيَّةِ، وقالَ الجُمْهُورُ مِنهم مالِكٌ والشّافِعِيٌّ هو غُسْلُ الجَنابَةِ وكَأنَّهم أخَذُوا بِأكْمَلِ أفْرادِ هَذا الِاسْمِ احْتِياطًا، أوْ رَجَعُوا فِيهِ إلى عَمَلِ المُسْلِماتِ، والمَظْنُونُ بِالمُسْلِماتِ يَوْمَئِذٍ أنَّهُنَّ كُنَّ لا يَتَرَيَّثْنَ في الغُسْلِ الَّذِي يُبِيحُ لَهُنَّ الصَّلاةَ فَلا دَلِيلَ في فِعْلِهِنَّ عَلى عَدَمِ إجْراءِ ما دُونَهُ، وذَهَبَ مُجاهِدٌ وطاوُسٌ وعِكْرِمَةُ إلى أنَّ الطُّهْرَ هو وُضُوءٌ كَوُضُوءِ الصَّلاةِ أيْ مَعَ الِاسْتِنْجاءِ بِالماءِ وهَذا شاذٌّ. وذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ وصاحِباهُ إلى التَّفْصِيلِ فَقالُوا: إنِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأقْصى أمَدِ الحَيْضِ وهو عَشَرَةُ أيّامٍ عِنْدَهم جازَ قِرْبانُها قَبْلَ الِاغْتِسالِ أيْ مَعَ غَسْلِ المَحَلِّ خاصَّةً، وإنِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعادَةِ المَرْأةِ دُونَ أقْصى الحَيْضِ لَمْ يَصِحَّ أنْ يَقْرَبَها زَوْجُها إلّا إذا اغْتَسَلَتْ أوْ مَضى عَلَيْها وقْتُ صَلاةٍ، وإنِ انْقَطَعَ لِأقَلَّ مِن عادَتِها لَمْ يَحِلَّ قُرْبانُها ولَكِنَّها تَغْتَسِلُ وتُصَلِّي احْتِياطًا ولا يَقْرَبُها زَوْجُها (p-٣٦٩)حَتّى تُكْمِلَ مُدَّةَ عِدَّتِها، وعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأنَّ انْقِطاعَهُ لِأكْثَرِ أمَدِهِ انْقِطاعٌ تامٌّ لا يُخْشى بَعْدَهُ رُجُوعُهُ بِخِلافِ انْقِطاعِهِ لِأقَلَّ مِن ذَلِكَ فَلَزِمَ أنْ يُتَقَصّى أثَرُهُ بِالماءِ أوْ بِمُضِيِّ وقْتِ صَلاةٍ، ثُمَّ أرادُوا أنْ يَجْعَلُوا مِن هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلًا لِهَذا التَّفْصِيلِ، فَقالَ عَبْدُ الحَكِيمِ السَّلْكُوتِيُّ: ”حَتّى يَطْهُرْنَ“ قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ والتَّشْدِيدِ فَتَنْزِلُ القِراءَتانِ مَنزِلَةَ آيَتَيْنِ، ولَمّا كانَتْ إحْداهُما مُعارِضَةً الأُخْرى مِن حَيْثُ اقْتِضاءُ قِراءَةِ التَّخْفِيفِ الطُّهْرَ بِمَعْنى النَّقاءِ واقْتِضاءُ الأُخْرى كَوْنَهُ بِمَعْنى الغُسْلِ جُمِعَ بَيْنَ القِراءَتَيْنِ بِإعْمالِ كُلٍّ في حالَةٍ مَخْصُوصَةٍ اهـ.، وهَذا مُدْرَكٌ ضَعِيفٌ، إذْ لَمْ يَعْهَدْ عَدَّ القِراءَتَيْنِ بِمَنزِلَةِ آيَتَيْنِ حَتّى يَثْبُتَ التَّعارُضُ، سَلَّمْنا لَكِنَّهُما ورَدَتا في وقْتٍ واحِدٍ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُهُما عَلى مُقَيِّدِهِما بِأنْ نَحْمِلَ الطُّهْرَ بِمَعْنى النَّقاءِ عَلى أنَّهُ مَشْرُوطٌ بِالغُسْلِ، سَلَّمْنا العُدُولَ عَنْ هَذا التَّقْيِيدِ فَما هو الدَّلِيلُ الَّذِي خَصَّ كُلَّ قِراءَةٍ بِحالَةٍ مِن هاتَيْنِ دُونَ الأُخْرى أوْ دُونَ حالاتٍ أُخَرَ، فَما هَذا إلّا صُنْعٌ بِاليَدِ، فَإنْ قُلْتَ لِمَ بَنَوْا دَلِيلَهم عَلى تَنْزِيلِ القِراءَتَيْنِ مَنزِلَةَ الآيَتَيْنِ ولَمْ يَبْنُوهُ مِثْلَنا عَلى وُجُودِ ”يَطْهُرْنَ“ و”يَطَّهَّرْنَ“ في مَوْضِعَيْنِ مِن هَذِهِ الآيَةِ، قُلْتُ: كَأنَّ سَبَبَهُ أنَّ الواقِعَيْنِ في الآيَةِ هُما جُزْءا آيَةٍ فَلا يُمْكِنُ اعْتِبارُ التَّعارُضِ بَيْنَ جُزْئَيْ آيَةٍ بَلْ يُحْمَلانِ عَلى أنَّ أحَدَهُما مُفَسِّرٌ لِلْآخَرِ أوْ مُقَيِّدٌ لَهُ. وقَوْلُهُ فَأْتُوهُنَّ الأمْرُ هُنا لِلْإباحَةِ لا مَحالَةَ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ النَّهْيِ مِثْلَ ﴿وإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا﴾ [المائدة: ٢] عُبِّرَ بِالإتْيانِ هُنا وهو شَهِيرٌ في التَّكَنِّي بِهِ عَنِ الوَطْءِ لِبَيانِ أنَّ المُرادَ بِالقِرْبانِ المَنهِيِّ عَنْهُ هو ذَلِكَ المَعْنى الكِنائِيُّ فَقَدْ عُبِّرَ بِالِاعْتِزالِ ثُمَّ قُفِّيَ بِالقِرْبانِ ثُمَّ قُفِّيَ بِالإتْيانِ ومَعَ كُلِّ تَعْبِيرٍ فائِدَةٌ جَدِيدَةٌ وحُكْمٌ جَدِيدٌ وهَذا مِن إبْداعِ الإيجازِ في الإطْنابِ. وقَوْلُهُ ﴿مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ ”حَيْثُ“ اسْمُ مَكانٍ مُبْهَمٌ مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِّ مُلازِمُ الإضافَةِ إلى جُمْلَةٍ تُحَدِّدُهُ لِزَوالِ إبْهامِها، وقَدْ أُشْكِلَ المُرادُ مِن هَذا الظَّرْفِ عَلى الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِتَأْوِيلِ القُرْآنِ وما أرى سَبَبَ إشْكالِهِ إلّا أنَّ المَعْنى قَدِ اعْتادَ العَرَبُ في التَّعْبِيرِ عَنْهُ سُلُوكَ طَرِيقِ الكِنايَةِ والإغْماضِ وكانَ فَهْمُهُ مَوْكُولًا إلى فِطَنِهِمْ ومُعْتادِ تَعْبِيرِهِمْ. فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ والرَّبِيعُ: أيْ إلّا مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ بِأنْ تَعْتَزِلُوهُنَّ مِنهُ مُدَّةَ الحَيْضِ يَعْنِي القُبُلَ قالَ القُرْطُبِيُّ (مِن) بِمَعْنى ”في“ ونَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿أرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ﴾ [فاطر: ٤٠] وقَوْلِهِ ﴿إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ﴾ [الجمعة: ٩]، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي رُزَيْنٍ مَسْعُودِ بْنِ مالِكٍ والسُّدِّيِّ وقَتادَةَ (p-٣٧٠)أنَّ المَعْنى: مِنَ الصِّفَةِ الَّتِي أمَرَكُمُ اللَّهُ وهي الطُّهْرُ، فَحَيْثُ مَجازٌ في الحالِ أوِ السَّبَبِ و”مِن“ لِابْتِداءِ الأسْبابِ فَهي بِمَعْنى التَّعْلِيلِ. والَّذِي أراهُ أنَّ قَوْلَهُ ﴿مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ قَدْ عَلِمَ السّامِعُونَ مِنهُ أنَّهُ أمْرٌ مِنَ اللَّهِ كانَ قَدْ حَصَلَ فِيما قَبْلُ، وأمّا (حَيْثُ) فَظَرْفُ مَكانٍ وقَدْ تُسْتَعْمَلُ مَجازًا في التَّعْلِيلِ فَيَجُوزُ أنَّ المُرادَ بِأمْرِ اللَّهِ أمْرُهُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الغايَةُ بِـ (حَتّى) في قَوْلِهِ ﴿ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ﴾ لِأنَّ غايَةَ النَّهْيِ تَنْتَهِي إلى الإباحَةِ فالأمْرُ هو الإذْنُ، و(مِن) لِلِابْتِداءِ المَجازِيِّ، و(حَيْثُ) مُسْتَعْمَلَةٌ في التَّعْلِيلِ مَجازًا تَخْيِيلِيًّا أيْ لِأنَّ اللَّهَ أمَرَكم بِأنْ تَأْتُوهُنَّ عِنْدَ انْتِهاءِ غايَةِ النَّهْيِ بِالتَّطَهُّرِ. أوِ المُرادُ بِأمْرِ اللَّهِ أمْرُهُ الَّذِي بِهِ أباحَ التَّمَتُّعَ بِالنِّساءِ: وهو عَقْدُ النِّكاحِ، فَحَرْفُ (مِن) لِلتَّعْلِيلِ والسَّبَبِيَّةِ، و(حَيْثُ) مُسْتَعارٌ لِلْمَكانِ المَجازِيِّ وهو حالَةُ الإباحَةِ الَّتِي قَبْلَ النَّهْيِ كَأنَّهم كانُوا مَحْجُوزِينَ عَنِ اسْتِعْمالِ الإباحَةِ أوْ حُجِرَ عَلَيْهِمُ الِانْتِفاعُ بِها ثُمَّ أُذِنَ لَهم بِاسْتِعْمالِها فَشُبِّهَتْ حالَتُهم بِحالَةِ مَن حُبِسَ عِنْدَ مَكانٍ ثُمَّ أُطْلِقَ سَراحُهُ فَهو يَأْتِي مِنهُ إلى حَيْثُ يُرِيدُ. وعَلى هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ لا يَكُونُ في الآيَةِ ما يُؤْذِنُ بِقَصْدِ تَحْدِيدِ الإتْيانِ بِأنْ يَكُونَ في مَكانِ النَّسْلِ، ويُعَضِّدُ هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ تَذْيِيلُ الكَلامِ بِجُمْلَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾ وهو ارْتِفاقٌ بِالمُخاطَبِينَ بِأنَّ ذَلِكَ المَنعَ كانَ لِمَنفَعَتِهِمْ لِيَكُونُوا مُتَطَهِّرِينَ، وأمّا ذِكْرُ التَّوّابِينَ فَهو إدْماجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ التَّوْبَةِ عِنْدَ ذِكْرِ ما يَدُلُّ عَلى امْتِثالِ ما أمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ اعْتِزالِ النِّساءِ في المَحِيضِ أيْ إنَّ التَّوْبَةَ أعْظَمُ شَأْنًا مِنَ التَّطَهُّرِ أيْ أنَّ نِيَّةَ الِامْتِثالِ أعْظَمُ مِن تَحَقُّقِ مَصْلَحَةِ التَّطَهُّرِ لَكم، لِأنَّ التَّوْبَةَ تَطَهُّرٌ رُوحانِيٌّ والتَّطَهُّرُ جُثْمانِيٌّ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ عَلى حَقِيقَةِ (مِن) في الِابْتِداءِ وحَقِيقَةِ (حَيْثُ) لِلْمَكانِ والمُرادُ المَكانُ الَّذِي كانَ بِهِ أذى الحَيْضِ. وقَدْ قِيلَ: إنْ جُمْلَةَ ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿فَإذا تَطَهَّرْنَ﴾ وجُمْلَةِ ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] .


ركن الترجمة

They ask you about menstruation. Tell them: "This is a period of stress. So keep away from women in this state till they are relieved of it. When they are free of it, you may go to them as God has enjoined. For God loves those who seek pardon, and those who are clean."

- Et ils t'interrogent sur la menstruation des femmes. - Dis: «C'est un mal. Eloignez-vous donc des femmes pendant les menstrues, et ne les approchez que quand elles sont pures. Quand elles se sont purifiées, alors cohabitez avec elles suivant les prescriptions d'Allah car Allah aime ceux qui se repentent, et Il aime ceux qui se purifient».

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :