موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الخميس 19 رمضان 1446 هجرية الموافق ل20 مارس 2025


الآية [224] من سورة  

وَلَا تَجْعَلُوا۟ ٱللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَٰنِكُمْ أَن تَبَرُّوا۟ وَتَتَّقُوا۟ وَتُصْلِحُوا۟ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ


ركن التفسير

224 - (ولا تجعلوا الله) أي الحلف به (عرضة) علة مانعة (لأيمانكم) أي نصباً لها بأن تكثروا الحلف به (أن) لا (تبروا وتتقوا) فتكره اليمين على ذلك ويسن فيه الحنث ويكفِّر بخلافها على فعل البر ونحوه فهي طاعة (وتصلحوا بين الناس) المعنى لا تمتنعوا من فعل ما ذكر من البر ونحوه إذا حلفتم عليه بل ائتوه وكفروا لأن سبب نزولها الامتناع من ذلك (والله سميع) لأقوالكم (عليم) بأحوالكم

يقول تعالى لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها كقوله تعالى "ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم" فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما قال البخاري: حدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه" وهكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبدالرزاق به. ورواه أحمد عنه به ثم قال البخاري: حدثنا إسحق بن منصور حدثنا يحيى بن صالح حدثنا معاوية هو ابن سلام عن يحيى وهو ابن أبي كثير عن عكرمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليس تغني الكفارة" وقال علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" قال: لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير. وكذا قال: مسروق والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومكحول والزهري والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي رحمهم الله ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" وثبت فيهما أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لعبدالرحمن بن سمرة "يا عبدالرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك". وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير". وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا خليفة بن خياط حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فتركها كفارتها" ورواه أبو داود من طريق أبي عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله ولا في قطيعة رحم ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارتها" ثم قال أبو داود والأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها "فليكفر عن يمينه" وهي الصحاح. وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سعيد الكندي حدثنا علي بن مسهر عن حارثة بن محمد عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من حلف على يمين قطيعة رحم ومعصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه" وهذا حديث ضعيف لأن حارثة هذا هو ابن أبي الرجال محمد بن عبدالرحمن متروك الحديث ضعيف عند الجميع ثم روى ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب ومسروق والشعبي أنهم قالوا: لا يمين في معصية ولا كفارة عليها.

﴿ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأيْمانِكم أنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] عَطْفَ تَشْرِيعٍ عَلى تَشْرِيعٍ فالمُناسَبَةُ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ تَعَلُّقُ مَضْمُونَيْهِما بِأحْكامِ مُعاشَرَةِ الأزْواجِ مَعَ كَوْنِ مَضْمُونِ الجُمْلَةِ الأُولى مَنعًا مِن (p-٣٧٦)قِرْبانِ الأزْواجِ في حالَةِ الحَيْضِ، وكَوْنِ مَضْمُونِ هَذِهِ الجُمْلَةِ ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسائِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٢٦]، فَوَقَعَ هَذا التَّمْهِيدُ مَوْقِعَ الِاعْتِراضِ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] وجُمْلَةِ ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسائِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٢٦]، وسُلِكَ فِيهِ طَرِيقُ العَطْفِ؛ لِأنَّهُ نَهْيٌ عُطِفَ عَلى نَهْيٍ في قَوْلِهِ ﴿ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٢] وقالَ التَّفْتازانِيُّ: الأظْهَرُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى مُقَدَّرٍ؛ أيِ امْتَثِلُوا ما أمَرْتُ بِهِ ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً اهـ. وفِيهِ تَكَلُّفٌ وخُلُوٌّ عَنْ إبْداءِ المُناسَبَةِ، وجَوَّزَ التَّفْتازانِيُّ: أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى الأوامِرِ السّابِقَةِ وهي وقَدِّمُوا وواتَّقُوا و﴿واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ﴾ [البقرة: ٢٢٣] اهـ. أيْ فالمُناسَبَةُ أنَّهُ لَمّا أمَرَهم بِاسْتِحْضارِ يَوْمِ لِقائِهِ بَيَّنَ لَهم شَيْئًا مِنَ التَّقْوى دَقِيقِ المَسْلَكِ شَدِيدِ الخَفاءِ وهو التَّقْوى بِاحْتِرامِ الِاسْمِ المُعَظَّمِ؛ فَإنَّ التَّقْوى مِنَ الأحْداثِ الَّتِي إذا تَعَلَّقَتْ بِالأسْماءِ كانَ مُفادُها التَّعَلُّقَ بِمُسَمّى الِاسْمِ لا بِلَفْظِهِ، لِأنَّ الأحْكامَ اللَّفْظِيَّةَ إنَّما تَجْرِي عَلى المَدْلُولاتِ إلّا إذا قامَ دَلِيلٌ عَلى تَعَلُّقِها بِالأسْماءِ مِثْلُ سَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا، فَجِيءَ بِهَذِهِ الآيَةِ لِبَيانِ ما يَتَرَتَّبُ عَلى تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ واتِّقائِهِ في حُرْمَةِ أسْمائِهِ عِنْدَ الحِنْثِ مَعَ بَيانِ ما رُخِّصَ فِيهِ مِنِ الحِنْثِ، أوْ لِبَيانِ التَّحْذِيرِ مِن تَعْرِيضِ اسْمِهِ تَعالى لِلِاسْتِخْفافِ بِكَثْرَةِ الحَلِفِ حَتّى لا يُضْطَرَّ إلى الحِنْثِ عَلى الوَجْهَيْنِ الآتِيَيْنِ، وبَعْدَ هَذا التَّوْجِيهِ كُلِّهِ فَهو يَمْنَعُ مِنهُ أنَّ مَجِيءَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ﴾ [البقرة: ٢٢٣] مَجِيءَ التَّذْيِيلِ لِلْأحْكامِ السّابِقَةِ مانِعٌ مِنِ اعْتِبارِ أنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ حُكْمٌ مُعْتَدٌّ بِهِ، لِأنَّهُ يَطُولُ بِهِ التَّذْيِيلُ وشَأْنُ التَّذْيِيلِ الإيجازُ، وقالَ عَبْدُ الحَكِيمِ: مَعْطُوفٌ عَلى جُمْلَةِ قُلْ بِتَقْدِيرِ قُلْ أيْ: وقُلْ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً أوْ عَلى قَوْلِهِ: وقَدِّمُوا إنْ جَعَلَ قَوْلَهُ وقَدِّمُوا مِن جُمْلَةِ مَقُولِ قُلْ، وذَكَرَ جَمْعٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، إنَّها نَزَلَتْ حِينَ حَلَفَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ألّا يُنْفِقَ عَلى قَرِيبِهِ مِسْطَحِ بْنِ أُثاثَةَ لِمُشارَكَتِهِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِخَبَرِ الإفْكِ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وقالَ الواحِدِيُّ عَنِ الكَلْبِيِّ: نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَواحَةَ: حَلَفَ ألّا يُكَلِّمَ خَتَنَهُ عَلى أُخْتِهِ بَشِيرَ بْنَ النُّعْمانِ ولا يَدْخُلَ بَيْتَهُ ولا يُصْلِحَ بَيْنَهُ وبَيْنَ امْرَأتِهِ، وأيًّا ما كانَ فَواوُ العَطْفِ لا بُدَّ أنْ تَرْبُطَ هَذِهِ الجُمْلَةَ بِشَيْءٍ مِنَ الكَلامِ الَّذِي قَبْلَها. وتَعَلُّقُ الجَعْلِ بِالذّاتِ هُنا هو عَلى مَعْنى التَّعْلِيقِ بِالِاسْمِ، فالتَّقْدِيرُ: ولا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ، وحُذِفَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ في مِثْلِهِ عِنْدَ قِيامِ القَرِينَةِ لِظُهُورِ عَدَمِ صِحَّةِ تُعَلُّقِ الفِعْلِ بِالمُسَمّى كَقَوْلِ النّابِغَةِ: ؎حَلَفْتُ فَلَمْ أتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ولَيْسَ وراءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ أيْ ولَيْسَ بَعْدَ اسْمِ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبٌ لِلْحَلِفِ. (p-٣٧٧)والعُرْضَةُ: اسْمٌ عَلى وزْنِ الفُعْلَةِ وهو وزْنٌ دالٌّ عَلى المَفْعُولِ كالقُبْضَةِ والمُسْكَةِ والهُزْأةِ، وهو مُشْتَقٌّ مِن: عَرَضَهُ إذا وضَعَهُ عَلى العُرْضِ أيِ الجانِبِ، ومَعْنى العَرْضِ هُنا جَعْلُ الشَّيْءِ حاجِزًا مِن قَوْلِهِمْ عَرَضَ العُودَ عَلى الإناءِ فَنَشَأ عَنْ ذَلِكَ إطْلاقُ العُرْضَةِ عَلى الحاجِزِ المُتَعَرِّضِ، وهو إطْلاقٌ شائِعٌ يُساوِي المَعْنى الحَقِيقِيَّ، وأُطْلِقَتْ عَلى ما يَكْثُرُ جَمْعُ النّاسِ حَوْلَهُ فَكَأنَّهُ يَعْتَرِضُهم عَنِ الِانْصِرافِ وأنْشَدَ في الكَشّافِ: ولا تَجْعَلُونِي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ والآيَةُ تَحْتَمِلُ المَعْنَيَيْنِ. واللّامُ في قَوْلِ لِأيْمانِكم لامُ التَّعْدِيَةِ تَتَعَلَّقُ بِـ ”عُرْضَةً“ لِما فِيها مِن مَعْنى الفِعْلِ: أيْ لا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ مُعَرَّضًا لِأيْمانِكم فَتَحْلِفُوا بِهِ عَلى الِامْتِناعِ مِنَ البِرِّ والتَّقْوى والإصْلاحِ، ثُمَّ تَقُولُوا سَبَقَتْ مِنّا يَمِينٌ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اللّامُ لِلتَّعْلِيلِ: أيْ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأجْلِ أيْمانِكُمُ الصّادِرَةِ عَلى ألّا تَبَرُّوا. والأيْمانُ: جَمْعُ يَمِينٍ وهو الحَلِفُ سُمِّيَ الحَلِفُ يَمِينًا أخْذًا مِنَ اليَمِينِ الَّتِي هي إحْدى اليَدَيْنِ وهي اليَدُ الَّتِي يَفْعَلُ بِها الإنْسانُ مُعْظَمَ أفْعالِهِ، وهي اشْتُقَّتْ مِنَ اليُمْنِ: وهو البَرَكَةُ، لِأنَّ اليَدَ اليُمْنى يَتَيَسَّرُ بِها الفِعْلُ أحْسَنَ مِنَ اليَدِ الأُخْرى، وسُمِّيَ الحَلِفُ يَمِينًا لِأنَّ العَرَبَ كانَ مِن عادَتِهِمْ إذا تَحالَفُوا أنْ يُمْسِكَ المُتَحالِفانِ أحَدُهُما بِاليَدِ اليُمْنى مِنَ الآخَرِ، قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠] فَكانُوا يَقُولُونَ: أعْطى يَمِينَهُ، إذا أكَّدَ العَهْدَ. وشاعَ ذَلِكَ في كَلامِهِمْ قالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: ؎حَتّى وضَعْتُ يَمِينِي لا أُنازِعُهُ ∗∗∗ في كَفِّ ذِي يَسَراتِ قِيلُهُ القِيلُ ثُمَّ اخْتَصَرُوا، فَقالُوا صَدَرَتْ مِنهُ يَمِينٌ، أوْ حَلَفَ يَمِينًا، فَتَسْمِيَةُ الحَلِفِ يَمِينًا مِن تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مُقارِنِهِ المُلازِمِ لَهُ، أوْ مِن تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَكانِهِ؛ كَما سَمَّوُا الماءَ وادِيًا وإنَّما المَحَلُّ في هَذِهِ التَّسْمِيَةِ عَلى هَذا الوَجْهِ مَحَلٌّ تَخْيِيلِيٌّ. ولَمّا كانَ غالِبُ أيْمانِهِمْ في العُهُودِ والحَلِفِ، وهو الَّذِي يَضَعُ فِيهِ المُتَعاهِدُونَ أيْدِيَهم (p-٣٧٨)بَعْضَها في بَعْضٍ، شاعَ إطْلاقُ اليَمِينِ عَلى كُلِّ حَلِفٍ، جَرْيًا عَلى غالِبِ الأحْوالِ؛ فَأُطْلِقَتِ اليَمِينُ عَلى قَسَمِ المَرْءِ في خاصَّةِ نَفْسِهِ دُونَ عَهْدٍ ولا حَلِفٍ. والقَصْدُ مِنَ الحَلِفِ يَرْجِعُ إلى قَصْدِ أنْ يُشْهِدَ الإنْسانُ اللَّهَ تَعالى عَلى صِدْقِهِ: في خَبَرٍ أوْ وعْدٍ أوْ تَعْلِيقٍ. ولِذَلِكَ يَقُولُ: (بِاللَّهِ) أيْ أُخْبِرُ مُتَلَبِّسًا بِإشْهادِ اللَّهِ، أوْ أعِدُ أوْ أُعَلِّقُ مُتَلَبِّسًا بِإشْهادِ اللَّهِ عَلى تَحْقِيقِ ذَلِكَ، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ تَضَمَّنَ اليَمِينُ مَعْنًى قَوِيًّا في الصِّدْقِ، لِأنَّ مَن أشْهَدَ بِاللَّهِ عَلى باطِلٍ فَقَدِ اجْتَرَأ عَلَيْهِ واسْتَخَفَّ بِهِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ أصْلَ اليَمِينِ إشْهادُ اللَّهِ، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما في قَلْبِهِ﴾ [البقرة: ٢٠٤] كَما تَقَدَّمَ، وقَوْلُ العَرَبِ: يَعْلَمُ اللَّهُ، في مَقامِ الحَلِفِ المُغَلَّظِ، ولِأجْلِهِ كانَتِ الباءُ هي أصْلَ حُرُوفِ القَسَمِ، لِدَلالَتِها عَلى المُلابَسَةِ في أصْلِ مَعانِيها، وكانَتِ الواوُ والتّاءُ لاحِقَتَيْنِ بِها في القَسَمِ الإنْشائِيِّ دُونَ الِاسْتِعْطافِيِّ. ومَعْنى الآيَةِ إنْ كانَتِ العُرْضَةُ بِمَعْنى الحاجِزِ، نَهْيُ المُسْلِمِينَ عَنْ أنْ يَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ حائِلًا مَعْنَوِيًّا دُونَ فِعْلِ ما حَلَفُوا عَلى تَرْكِهِ مِنِ البِرِّ، والتَّقْوى، والإصْلاحِ بَيْنَ النّاسِ فاللّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وهي مُتَعَلِّقَةٌ بِـ تَجْعَلُوا، و﴿أنْ تَبَرُّوا﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”عُرْضَةً“ عَلى حَذْفِ اللّامِ الجارَّةِ، المُطَّرِدِ حَذْفُها مَعَ ”أنْ“، أيْ ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ لِأجْلِ أنْ حَلَفْتُمْ بِهِ عُرْضَةً حاجِزًا عَنْ فِعْلِ البِرِّ، والإصْلاحِ، والتَّقْوى، فالآيَةُ عَلى هَذا الوَجْهِ، نَهْيٌ عَنِ المُحافَظَةِ عَلى اليَمِينِ إذا كانَتِ المُحافَظَةُ عَلَيْها تَمْنَعُ مِن فِعْلِ خَيْرٍ شَرْعِيٍّ، وهو نَهْيُ تَحْرِيمٍ أوْ تَنْزِيهٍ بِحَسَبِ حُكْمِ الشَّيْءِ المَحْذُوفِ عَلى تَرْكِهِ، ومِن لَوازِمِهِ التَّحَرُّزُ حِينَ الحَلِفِ وعَدَمُ التَّسَرُّعِ لِلْأيْمانِ، إذْ لا يَنْبَغِي التَّعَرُّضُ لِكَثْرَةِ التَّرَخُّصِ. وقَدْ كانَتِ العَرَبُ في الجاهِلِيَّةِ تَغْضَبُ، فَتُقْسِمُ بِاللَّهِ، وبِآلِهَتِها، وبِآبائِها، عَلى الِامْتِناعِ مِن شَيْءٍ، لِيَسُدُّوا بِاليَمِينِ بابَ المُراجَعَةِ أوِ النَّدامَةِ. وفِي الكَشّافِ كانَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلى تَرْكِ الخَيْرِ: مِن صِلَةِ الرَّحِمِ، أوْ إصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ، أوْ إحْسانٍ، ثُمَّ يَقُولُ أخافُ أنْ أحْنَثَ في يَمِينِي، فَيَتْرُكُ فِعْلَ البِرِّ فَتَكُونُ الآيَةُ وارِدَةً لِإصْلاحِ خَلَلٍ مِن أحْوالِهِمْ. وقَدْ قِيلَ إنَّ سَبَبَ نُزُولِها حَلِفُ أبِي بَكْرٍ: ألّا يُنْفِقَ عَلى ابْنِ خالَتِهِ. مِسْطَحِ بْنِ أُثاثَةَ لِأنَّهُ مِمَّنْ خاضُوا في الإفْكِ. ولا تَظْهَرُ لِهَذا القَوْلِ مُناسَبَةٌ بِمَوْقِعِ الآيَةِ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في حَلِفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَواحَةَ: ألّا يُكَلِّمَ خَتَنَهُ بَشِيرَ بْنَ النُّعْمانِ الأنْصارِيَّ، (p-٣٧٩)وكانَ قَدْ طَلَّقَ أُخْتَ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ أرادَ الرُّجُوعَ والصُّلْحَ، فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ ألّا يُصْلِحَ بَيْنَهُما. وإمّا عَلى تَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ العُرْضَةُ بِمَعْنى الشَّيْءِ المُعَرِّضِ لِفِعْلٍ في غَرَضٍ، فالمَعْنى: لا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ مُعَرَّضًا لِأنْ تَحْلِفُوا بِهِ في الِامْتِناعِ مِنِ البِرِّ، والتَّقْوى، والإصْلاحِ بَيْنَ النّاسِ، فالأيْمانُ عَلى ظاهِرِهِ، وهي الأقْسامُ واللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِعُرْضَةٍ، وأنْ تَبَرُّوا مَفْعُولُ الأيْمانِ، بِتَقْدِيرِ ”لا“ مَحْذُوفَةٌ بَعْدَ ”أنْ“ والتَّقْدِيرُ: ألّا تَبَرُّوا، نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكم أنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦] وهو كَثِيرٌ فَتَكُونُ الآيَةُ نَهْيًا عَنِ الحَلِفِ بِاللَّهِ عَلى تَرْكِ الطّاعاتِ؛ لِأنَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ سَبَبًا في قَطْعِ ما أمَرَ اللَّهُ بِفِعْلِهِ، وهَذا النَّهْيُ يَسْتَلْزِمُ: أنَّهُ إنْ وقَعَ الحَلِفُ عَلى تَرْكِ البِرِّ والتَّقْوى والإصْلاحِ، أنَّهُ لا حَرَجَ في ذَلِكَ، وأنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ ويَفْعَلُ الخَيْرَ. أوْ مَعْناهُ: لا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ مُعَرَّضًا لِلْحَلِفِ، كَما قُلْنا، ويَكُونُ قَوْلُهُ ﴿أنْ تَبَرُّوا﴾ مَفْعُولًا لِأجْلِهِ، وهو عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ؛ أيْ إنَّما نَهَيْتُكم لِتَكُونُوا أبْرارًا، أتْقِياءَ، مُصْلِحِينَ، وفي قَرِيبٍ مِن هَذا، قالَ مالِكٌ: بَلَغَنِي أنَّهُ الحَلِفُ بِاللَّهِ في كُلِّ شَيْءٍ. وعَلَيْهِ فَتَكُونُ الآيَةُ نَهْيًا عَنِ الإسْراعِ بِالحَلِفِ، لِأنَّ كَثْرَةَ الحَلِفِ. تُعَرِّضُ الحالِفَ لِلْحِنْثِ. وكانَتْ كَثْرَةُ الأيْمانِ مِن عاداتِ الجاهِلِيَّةِ، في جُمْلَةِ العَوائِدِ النّاشِئَةِ عَنِ الغَضَبِ ونَعْرِ الحُمْقِ، فَنَهى الإسْلامُ عَنْ ذَلِكَ ولِذَلِكَ تَمَدَّحُوا بِقِلَّةِ الأيْمانِ قالَ كُثَيِّرٌ: ؎قَلِيلُ الألايِي حافِظٌ لِيَمِينِهِ ∗∗∗ وإنْ سَبَقَتْ مِنهُ الألِيَّةُ بَرَّتِ وفِي مَعْنى هَذا أنْ يَكُونَ العُرْضَةُ مُسْتَعارًا لِما يَكْثُرُ الحُلُولُ حَوْلَهُ، أيْ لا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ كالشَّيْءِ المُعَرَّضِ لِلْقاصِدِينَ. ولَيْسَ في الآيَةِ عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ ما يُفْهِمُ الإذْنَ في الحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، لِما تَقَرَّرَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الحَلِفِ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ وصِفاتِهِ. وقَوْلُهُ ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ، والمُرادُ مِنهُ العِلْمُ بِالأقْوالِ والنِّيّاتِ، والمَقْصُودُ لازِمُهُ: وهو الوَعْدُ عَلى الِامْتِثالِ، عَلى جَمِيعِ التَّقادِيرِ، والعُذْرُ في الحِنْثِ عَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ، والتَّحْذِيرُ مِنَ الحَلِفِ، عَلى التَّقْدِيرِ الثّانِي. وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى مَعْنًى عَظِيمٍ: وهو أنَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ لا يَنْبَغِي أنْ يُجْعَلَ وسِيلَةً لِتَعْطِيلِ ما يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنَ الخَيْرِ، فَإنَّ المُحافَظَةَ عَلى البِرِّ في اليَمِينِ تَرْجِعُ إلى تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعالى، وتَصْدِيقِ الشَّهادَةِ بِهِ عَلى الفِعْلِ المَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وهَذا وإنْ كانَ مَقْصِدًا جَلِيلًا يُشْكَرُ عَلَيْهِ الحالِفُ، الطّالِبُ لِلْبِرِّ؛ لَكِنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ لِقَطْعِ الخَيْراتِ مِمّا لا يَرْضى بِهِ اللَّهُ تَعالى، فَقَدْ تَعارَضَ أمْرانِ (p-٣٨٠)مُرْضِيانِ لِلَّهِ تَعالى إذا حَصَلَ أحَدُهُما لَمْ يَحْصُلِ الآخَرُ. واللَّهُ يَأْمُرُنا أنْ نُقَدِّمَ أحَدَ الأمْرَيْنِ المُرْضِيَيْنِ لَهُ، وهو ما فِيهِ تَعْظِيمُهُ بِطَلَبِ إرْضائِهِ، مَعَ نَفْعِ خَلْقِهِ بِالبِرِّ والتَّقْوى والإصْلاحِ، دُونَ الأمْرِ الَّذِي فِيهِ إرْضاؤُهُ بِتَعْظِيمِ اسْمِهِ فَقَطْ، إذْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعالى: أنَّ تَعْظِيمَ اسْمِهِ قَدْ حَصَلَ عِنْدَ تَحَرُّجِ الحالِفِ مِنَ الحِنْثِ، فَبَرُّ اليَمِينِ أدَبٌ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعالى، والإتْيانُ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ مَرْضاةٌ لِلَّهِ؛ فَأمَرَ اللَّهُ بِتَقْدِيمِ مَرْضاتِهِ عَلى الأدَبِ مَعَ اسْمِهِ، كَما قِيلَ: الِامْتِثالُ مُقَدَّمٌ عَلى الأدَبِ. وقَدْ قالَ النَّبِيءُ ﷺ: «إنِّي لا أحْلِفُ عَلى يَمِينٍ، فَأرى غَيْرَها خَيْرًا مِنها، إلّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وفَعَلْتُ الَّذِي هو خَيْرٌ»، ولِأجْلِ ذَلِكَ لَمّا أقْسَمَ أيُّوبُ أنْ يَضْرِبَ امْرَأتَهُ مِائَةَ جِلْدَةٍ، أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا مِن مِائَةِ عَصًا فَيَضْرِبَها بِهِ، وقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أنَّ هَذا غَيْرُ مَقْصِدِ أيُّوبَ؛ ولَكِنْ لَمّا لَمْ يَرْضَ اللَّهُ مِن أيُّوبَ أنْ يَضْرِبَ امْرَأتَهُ، نَهاهُ عَنْ ذَلِكَ، وأمَرَهُ بِالتَّحَلُّلِ مُحافَظَةً عَلى حِرْصِ أيُّوبَ عَلى البِرِّ في يَمِينِهِ، وكَراهَتِهِ أنْ يَتَخَلَّفَ مِنهُ مُعْتادُهُ في تَعْظِيمِ اسْمِ رَبِّهِ، فَهَذا وجْهٌ مِنَ التَّحِلَّةِ، أفْتى اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ، ولَعَلَّ الكَفّارَةَ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً. فَهي مِن يُسْرِ الإسْلامِ وسَماحَتِهِ. فَقَدْ كَفانا اللَّهُ ذَلِكَ إذْ شَرَعَ لَنا تَحِلَّةَ اليَمِينِ بِالكَفّارَةِ؛ ولِذَلِكَ صارَ لا يُجْزِئُ في الإسْلامِ، أنْ يَفْعَلَ الحالِفُ مِثْلَ ما فَعَلَ أيُّوبُ.


ركن الترجمة

Do not implicate God in your oaths to avoid doing good and being pious and keeping peace among men, for God hears all and knows everything.

Et n'usez pas du nom d'Allah, dans vos serments, pour vous dispenser de faire le bien, d'être pieux et de réconcilier les gens. Et Allah est Audient et Omniscient.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :