ركن التفسير
225 - (لا يؤاخذكم الله باللغو) الكائن (في أيمانكم) وهو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف نحو والله ، وبلى والله ، فلا إثم عليه ولا كفارة (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) أي قصدته من الإيمان إذا حنثتم (والله غفور) لما كان من اللغو (حليم) بتأخير العقوبة عن مستحقها
وقوله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية وهي التي لا يقصدها الحالف بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد كما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد لتكون هذه بهذه ولهذا قال تعالى "ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" الآية وفي الآية الأخرى "بما عقدتم الأيمان" قال أبو داود: "باب لغو اليمن" حدثنا حميد بن مسعدة الشامي حدثنا حيان يعني ابن إبراهيم حدثنا إبراهيم يعني الصائغ عن عطاء: اللغو في اليمين قال قالت عائشة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله" ثم قال أبو داود رواه داود ابن الفرات عن إبراهيم الصائغ عن عطاء عن عائشة موقوفا. ورواه الزهري وعبدالملك ومالك بن مغول كلهم عن عطاء عن عائشة موقوفا أيضا. "قلت" وكذا رواه ابن جريج وابن أبي ليلى عن عطاء عن عائشة موقوفا. ورواه ابن جرير عن هناد عن وكيع وعبدة وأبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" لا والله وبلى والله ثم رواه عن محمد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحق عن هشام عن أبيه عنها وبه عن ابن إسحق عن الزهري عن القاسم عنها وبه عن ابن إسحق عن ابن أبي نجيح عن عطاء عنها وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة في قوله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" قالت هم القوم يتدارءون في الأمر فيقول هذا لا والله وبلى والله وكلا والله يتدارءون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا هارون بن إسحق الهمداني حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قول الله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" قالت: هو قول الرجل لا والله وبلى والله. وحدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثني ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال: كانت عائشة تقول إنما اللغو في المزاحة والهزل وهو قول الرجل لا والله وبلى والله فذاك لا كفارة فيه إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله ثم قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عمر وابن عباس في أحد قوليه والشعبي وعكرمة في أحد قوليه وعروة بن الزبير وأبي صالح والضحاك في أحد قوليه وأبي قلابة والزهري نحو ذلك "الوجه الثاني" قرئ على يونس بن عبدالأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني الثقة عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها كانت تتأول هذه الآية يعني قوله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" وتقول هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه ثم قال: وروي عن أبي هريرة وابن عباس في أحد قوليه وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد في أحد قوليه وإبراهيم النخعي في أحد قوليه والحسن وزرارة بن أوفي وأبي مالك وعطاء الخراساني وبكر بن عبدالله أحد قولي عكرمة وحبيب بن أبي ثابت والسدي ومكحول ومقاتل وطاوس وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن سعيد وربيعة نحو ذلك وقال ابن جرير حدثنا محمد بن موسى الجرشي حدثنا عبدالله بن ميمون المرادي حدثنا عوف الأعرابي عن الحسن بن أبي الحسن قال مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم ينتضلون يعني يرمون ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أصحابه فقام رجل من القوم فقال أصبت والله وأخطأت والله فقال الذي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - للنبي - صلى الله عليه وسلم - حنث الرجل يا رسول الله قال "كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة" هذا مرسل حسن عن الحسن وقال ابن أبي حاتم وروي عن عائشة القولان جميعا حدثنا عصام بن رواد أنبأنا آدم حدثنا شيبان عن جابر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت: هو قوله لا والله وبلى والله وهو يرى أنه صادق ولا يكون كذلك "أقوال أخر" قال عبدالرزاق عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه وقال زيد بن أسلم هو قول الرجل أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا فهو هذا قال ابن أبي حاتم: وحدثنا علي بن الحسين حدثنا مسدد بن خالد حدثنا خالد حدثنا عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان وأخبرني أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد بن بشير حدثني أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك فذلك ما ليس عليك فيه كفارة وكذا روي عن سعيد بن جبير. وقال أبو داود "باب اليمين في الغضب" حدثنا محمد بن المنهال أنبأنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني عن القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عز وجل ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك" وقوله "ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" قال: ابن عباس ومجاهد وغير واحد: هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب قال مجاهد وغيره: وهي كقوله تعالى "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" الآية "والله غفور حليم" أي غفور لعباده حليم عليهم.
﴿لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أيْمانِكم ولَكِنْ يُؤاخِذُكم بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكم واللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، لِأنَّ الآيَةَ السّابِقَةَ لَمّا أفادَتِ النَّهْيَ عَنِ التَّسَرُّعِ بِالحَلِفِ إفادَةً صَرِيحَةً أوِ التِزامِيَّةً، كانَتْ نُفُوسُ السّامِعِينَ بِحَيْثُ يَهْجِسُ بِها التَّفَكُّرُ والتَّطَلُّعُ إلى حُكْمِ اليَمِينِ الَّتِي تَجْرِي عَلى الألْسُنِ. ومُناسَبَتُهُ لِما قَبْلَهُ ظاهِرَةٌ لا سِيِّما إنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ ﴿ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأيْمانِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٤] نَهْيًا عَنِ الحَلِفِ. والمُؤاخَذَةُ مُفاعَلَةٌ مِنَ الأخْذِ بِمَعْنى العَدِّ والمُحاسَبَةِ، يُقالُ أخَذَهُ بِكَذا أيْ عَدَّهُ عَلَيْهِ لِيُعاتِبَهُ، أوْ يُعاقِبَهُ، قالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: ؎لا تَأْخُذْنِي بِأقْوالِ الوُشاةِ ولَمْ أُذْنِبْ وإنْ كَثُرَتْ فِيَّ الأقاوِيلُ فالمُفاعَلَةُ هُنا لِلْمُبالَغَةِ في الأخْذِ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ حُصُولُ الفِعْلِ مِنَ الجانِبَيْنِ (p-٣٨١)والمُؤاخَذَةُ بِاليَمِينِ، هي الإلْزامُ بِالوَفاءِ بِها، وعَدَمُ الحِنْثِ؛ ويَتَرَتَّبُ عَلى ذَلِكَ أنْ يَأْثَمَ إذا وقَعَ الحِنْثُ، إلّا ما أذِنَ اللَّهُ في كَفّارَتِهِ، كَما في آيَةِ سُورَةِ العُقُودِ. واللَّغْوُ مَصْدَرُ لَغا، إذا قالَ كَلامًا خَطَأً، يُقالُ: لَغا يَلْغُو لَغْوًا كَدَعا، ولَغا يَلْغى لَغْيًا كَسَعى. ولُغَةُ القُرْآنِ بِالواوِ. وفي اللِّسانِ: أنَّهُ لا نَظِيرَ لَهُ إلّا قَوْلُهم أسَوْتُهُ أسْوًا وأسًى أصْلَحْتُهُ وفي الكَواشِي: ولَغا يَلْغُو لَغْوًا قالَ باطِلًا، ويُطْلَقُ اللَّغْوُ أيْضًا عَلى الكَلامِ السّاقِطِ، الَّذِي لا يُعْتَدُّ بِهِ، وهو الخَطَأُ، وهو إطْلاقٌ شائِعٌ. وقَدِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ في الأساسِ، ولَمْ يَجْعَلْهُ مَجازًا؛ واقْتَصَرَ عَلى التَّفْسِيرِ بِهِ في الكَشّافِ وتَبِعَهُ مُتابِعُوهُ. و(في) لِلظَّرْفِيَّةِ المَجازِيَّةِ، المُرادُ بِها المُلابَسَةُ، وهي ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، صِفَةُ اللَّغْوِ أوْ حالٌ مِنهُ، وكَذَلِكَ قَدَّرَهُ الكَواشِيُّ فَيَكُونُ المَعْنى، عَلى جَعْلِ اللَّغْوِ بِمَعْنى المَصْدَرِ، وهو الأظْهَرُ: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِأنْ تَلْغُوا لَغْوًا مُلابِسًا لِلْأيْمانِ، أيْ لا يُؤاخِذُكم بِالأيْمانِ الصّادِرَةِ صُدُورَ اللَّغْوِ، أيْ غَيْرِ المَقْصُودِ مِنَ القَوْلِ. فَإذا جَعَلْتَ اللَّغْوَ اسْمًا، بِمَعْنى الكَلامِ السّاقِطِ الخاطِئِ، لَمْ تَصِحَّ ظَرْفِيَّتُهُ في الأيْمانِ، لِأنَّهُ مِنَ الأيْمانِ، فالظَّرْفِيَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُؤاخِذُكم، والمَعْنى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ في أيْمانِكم بِاللَّغْوِ، أيْ لا يُؤاخِذُكم مِن بَيْنِ أيْمانِكم بِاليَمِينِ اللَّغْوِ، والأيْمانُ جَمْعُ يَمِينٍ، واليَمِينُ القَسَمُ والحَلِفُ، وهو ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعالى، أوْ بَعْضِ صِفاتِهِ، أوْ بَعْضِ شُئُونِهِ العُلْيا أوْ شَعائِرِهِ. فَقَدْ كانَتِ العَرَبُ تَحْلِفُ بِاللَّهِ، وبِرَبِّ الكَعْبَةِ، وبِالهَدْيِ، وبِمَناسِكِ الحَجِّ. والقَسَمُ عِنْدَهم بِحَرْفٍ مِن حُرُوفِ القَسَمِ الثَّلاثَةِ: الواوُ والباءُ والتّاءُ، ورُبَّما ذَكَرُوا لَفْظَ حَلَفْتُ أوْ أقْسَمْتُ، ورُبَّما حَلَفُوا بِدِماءِ البُدْنِ، ورُبَّما قالُوا والدِّماءِ، وقَدْ يُدْخِلُونَ لامًا عَلى عَمْرِ اللَّهِ، يُقالُ: لَعَمْرُ اللَّهِ، ويَقُولُونَ: عَمَرَكَ اللَّهُ، ولَمْ أرَ أنَّهم كانُوا يَحْلِفُونَ بِأسْماءِ الأصْنامِ. فَهَذا الحَلِفُ الَّذِي يُرادُ بِهِ التِزامُ فِعْلٍ، أوْ بَراءَةٌ مِن حَقٍّ. وقَدْ يَحْلِفُونَ بِأشْياءَ عَزِيزَةٍ عِنْدَهم لِقَصْدِ تَأْكِيدِ الخَبَرِ أوِ الِالتِزامِ، كَقَوْلِهِمْ وأبِيكَ ولَعَمْرُكَ ولَعَمْرِي، ويَحْلِفُونَ بِآبائِهِمْ، ولَمّا جاءَ الإسْلامُ نَهى عَنِ الحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ. ومِن عادَةِ العَرَبِ في القَسَمِ أنَّ بَعْضَ القَسَمِ يُقْسِمُونَ بِهِ عَلى التِزامِ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ المُقْسِمُ لِيُلْجِئَ نَفْسَهُ إلى عَمَلِهِ ولا يَنْدَمَ عَنْهُ، وهو مِن قَبِيلِ قَسَمِ النَّذْرِ، فَإذا أرادَ أحَدٌ أنْ يُظْهِرَ عَزْمَهُ عَلى فِعْلٍ لا مَحالَةَ مِنهُ، ولا مَطْمَعَ لِأحَدٍ في صَرْفِهِ عَنْهُ، أكَّدَهُ بِالقَسَمِ، قالَ بِلِعاءُ بْنُ قَيْسٍ:(p-٣٨٢) ؎وفارِسٍ في غِمارِ المَوْتِ مُنْغَمِسٍ ∗∗∗ إذا تَألّى عَلى مَكْرُوهَةٍ صَدَقا أيْ إذا حَلَفَ عَلى أنْ يُقاتِلَ أوْ يَقْتُلَ أوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ المَصاعِبِ والأضْرارِ، ومِنهُ سُمِّيَتِ الحَرْبُ كَرِيهَةً، فَصارَ نُطْقُهم بِاليَمِينِ مُؤْذِنًا بِالعَزْمِ، وكَثُرَ ذَلِكَ في ألْسِنَتِهِمْ في أغْراضِ التَّأْكِيدِ ونَحْوِهِ، حَتّى صارَ يَجْرِي ذَلِكَ عَلى اللِّسانِ كَما تَجْرِي الكَلِماتُ الدّالَّةُ عَلى المَعانِي مِن غَيْرِ إرادَةِ الحَلِفِ، وصارَتْ كَثْرَتُهُ في الكَلامِ لا تَنْحَصِرُ، فَكَثُرَ التَّحَرُّجُ مِن ذَلِكَ في الإسْلامِ قالَ كُثَيِّرٌ: ؎قَلِيلُ الألايِي حافِظٌ لِيَمِينِهِ ∗∗∗ وإنْ سَبَقَتْ مِنهُ الألِيَّةُ بَرَّتِ فَأشْبَهَ جَرَيانُ الحَلِفِ عَلى اللِّسانِ اللَّغْوَ مِنَ الكَلامِ. وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُرادِ مِن لَغْوِ اليَمِينِ في هَذِهِ الآيَةِ، فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ اللَّغْوَ هو اليَمِينُ الَّتِي تَجْرِي عَلى اللِّسانِ، لَمْ يَقْصِدِ المُتَكَلِّمُ بِها الحَلِفَ، ولَكِنَّها جَرَتْ مَجْرى التَّأْكِيدِ. أوِ التَّنْبِيهِ، كَقَوْلِ العَرَبِ: لا واللَّهِ، وبَلى واللَّهِ، وقَوْلِ القائِلِ: واللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِن فُلانٍ كَلامًا عَجَبًا، وغَيْرُ هَذا لَيْسَ بِلَغْوٍ، وهَذا قَوْلُ عائِشَةَ، رَواهُ عَنْها في المُوَطَّأِ والصِّحاحِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ، وأبُو قِلابَةَ، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، وأبُو صالِحٍ، وأخَذَ بِهِ الشّافِعِيُّ. والحُجَّةُ لَهُ أنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ اللَّغْوَ قَسِيمًا لِلَّتِي كَسَبَها القَلْبُ، في هَذِهِ الآيَةِ، ولِلَّتِي عَقَدَ عَلَيْها الحالِفُ اليَمِينَ في قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ يُؤاخِذُكم بِما عَقَّدْتُمُ الأيْمانَ﴾ [المائدة: ٨٩] فَما عَقَّدْتُمُ الأيْمانَ هو ما كَسَبَتْهُ القُلُوبُ؛ لِأنَّ ما كَسَبَتْ قُلُوبُكم مُبَيَّنٌ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مُجْمَلُ ما عَقَّدْتُمْ، فَتَعَيَّنَ أنْ تَكُونَ اللَّغْوُ هي الَّتِي لا قَصْدَ فِيها إلى الحَلِفِ، وهي الَّتِي تَجْرِي عَلى اللِّسانِ دُونَ قَصْدٍ، وعَلَيْهِ فَمَعْنى نَفْيِ المُؤاخَذَةِ نَفْيُ المُؤاخَذَةِ بِالإثْمِ وبِالكَفّارَةِ؛ لِأنَّ نَفْيَ الفِعْلِ يَعُمُّ، فاليَمِينُ الَّتِي لا قَصْدَ فِيها، لا إثْمَ ولا كَفّارَةَ عَلَيْها، وغَيْرُها تَلْزَمُ فِيهِ الكَفّارَةُ لِلْخُرُوجِ مِنِ الإثْمِ بِدَلِيلِ آيَةِ المائِدَةِ؛ إذْ فَسَّرَ المُؤاخَذَةَ فِيها بِقَوْلِهِ ﴿فَكَفّارَتُهُ إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ﴾ [المائدة: ٨٩] فَيَكُونُ في الغَمُوسِ، وفي يَمِينِ التَّعْلِيقِ، وفي اليَمِينِ عَلى الظَّنِّ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ خِلافُهُ، الكَفّارَةُ في جَمِيعِ ذَلِكَ. وقالَ مالِكٌ: لَغْوُ اليَمِينِ أنْ يَحْلِفَ عَلى شَيْءٍ يَظُنُّهُ كَذَلِكَ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ خِلافُ ظَنِّهِ. قالَ في المُوَطَّأِ: وهَذا أحْسَنُ ما سَمِعْتُ إلَيَّ في ذَلِكَ وهو مَرْوِيٌّ في غَيْرِ المُوَطَّأِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ومَن قالَ بِهِ الحَسَنُ، وإبْراهِيمُ، وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ، ومَكْحُولٌ، وابْنُ أبِي نَجِيحٍ. ووَجْهُهُ مِنَ الآيَةِ: أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ المُؤاخَذَةَ عَلى كَسْبِ القَلْبِ في اليَمِينِ، ولا تَكُونُ (p-٣٨٣)المُؤاخَذَةُ إلّا عَلى الحِنْثِ، لا أصْلِ القَسَمِ؛ إذْ لا مُؤاخَذَةَ لِأجْلِ مُجَرَّدِ الحَلِفِ لا سِيَّما مَعَ البَرِّ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن كَسْبِ القَلْبِ كَسْبَهُ الحِنْثَ أيْ تَعَمُّدَهُ الحِنْثَ، فَهو الَّذِي فِيهِ المُؤاخَذَةُ، والمُؤاخَذَةُ أُجْمِلَتْ في هاتِهِ الآيَةِ، وبُيِّنَتْ في آيَةِ المائِدَةِ بِالكَفّارَةِ، فالحالِفُ عَلى ظَنٍّ يَظْهَرُ بَعْدُ خِلافُهُ لا تَعَمُّدَ عِنْدَهُ لِلْحِنْثِ، فَهو اللَّغْوُ، فَلا مُؤاخَذَةَ فِيهِ، أيْ لا كَفّارَةَ وأمّا قَوْلُ الرَّجُلِ: لا واللَّهِ وبَلى واللَّهِ، وهو كاذِبٌ، فَهو عِنْدَ مالِكٍ قَسَمٌ لَيْسَ بِلَغْوٍ، لِأنَّ اللَّغَوِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالحِنْثِ بَعْدَ اعْتِقادِ الصِّدْقِ، والقائِلُ لا واللَّهِ كاذِبًا، لَمْ يَتَبَيَّنْ حِنْثُهُ لَهُ بَعْدَ اليَمِينِ، بَلْ هو غافِلٌ عَنْ كَوْنِهِ حالِفًا، فَإذا انْتَبَهَ لِلْحَلِفِ، وجَبَتْ عَلَيْهِ المَفازَةُ، لِأنَّهُ حَلِفَها حِينَ حَلِفَها وهو حانِثٌ. وإنَّما جَعَلْنا تَفْسِيرَ ما كَسَبَتْ قُلُوبُكم كَسْبَ القَلْبِ لِلْحِنْثِ، لِأنَّ مَساقَ الآيَةِ في الحِنْثِ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأيْمانِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٤]، إمّا إذْنٌ في الحِنْثِ، أوْ نَهْيٌ عَنِ الحَلِفِ خَشْيَةَ الحِنْثِ، عَلى الوَجْهَيْنِ الماضِيَيْنِ، وقَوْلُهُ ﴿لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ﴾ بَيانٌ وتَعْلِيلٌ لِذَلِكَ، وحُكْمُ البَيانِ حُكْمُ المُبَيَّنِ، لِأنَّهُ عَيَّنَهُ. وقالَ جَماعَةٌ: اللَّغْوُ ما لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الكَذِبُ، فَتَشْمَلُ القِسْمَيْنِ، سَواءٌ كانَ بِلا قَصْدٍ كالَّتِي تَجْرِي عَلى الألْسُنِ في (لا واللَّهِ وبَلى واللَّهِ) أمْ كانَ بِقَصْدٍ، مَعَ اعْتِقادِ الصِّدْقِ، فَتَبَيَّنَ خِلافُهُ. ومِمَّنْ قالَ بِهَذا: ابْنُ عَبّاسٍ، والشَّعْبِيُّ وقالَ بِهِ أبُو حَنِيفَةَ، فَقالَ: اللَّغْوُ لا كَفّارَةَ فِيها ولا إثْمَ. واحْتَجَّ لِذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ اللَّغْوَ هُنا، مُقابِلًا لِما كَسَبَتْهُ القُلُوبُ، ونَفى المُؤاخَذَةَ عَنِ اللَّغْوِ، وأثْبَتَها لِما كَسَبَهُ القَلْبُ، والمُؤاخَذَةُ لا مَحالَةَ عَلى الحِنْثِ لا عَلى أصْلِ الحَلِفِ، فاللَّغْوُ هي الَّتِي لا حَنِثَ فِيها؛ ولَمْ يَرَ بَيْنَ آيَةِ البَقَرَةِ وآيَةِ المائِدَةِ تَعارُضًا حَتّى يَحْمِلَ إحْداهُما عَلى الأُخْرى بَلْ قالَ: إنَّ آيَةَ البَقَرَةِ جَعَلَتِ اللَّغْوَ مُقابِلًا لِما كَسَبَهُ القَلْبُ، وأثْبَتَ المُؤاخَذَةَ لِما كَسَبَهُ القَلْبُ أيْ عَزَمَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ، والمُؤاخَذَةُ مُطْلَقَةٌ تَنْصَرِفُ إلى أكْمَلِ أفْرادِها، وهي العُقُوبَةُ الأُخْرَوِيَّةُ فَيَتَعَيَّنُ أنَّهُ ما كَسَبَتْهُ القُلُوبُ، أُرِيدَ بِهِ الغَمُوسُ؛ وجَعَلَ في آيَةِ المائِدَةِ اللَّغْوَ مُقابِلًا لِلْأيْمانِ المَعْقُودَةِ، والعَقْدُ في الأصْلِ: الرَّبْطُ، وهو مَعْناهُ لُغَةً، وقَدْ أضافَهُ إلى الأيْمانِ، فَدَلَّ عَلى أنَّها اليَمِينُ الَّتِي فِيها تَعْلِيقٌ، وقَدْ فَسَّرَ المُؤاخَذَةَ فِيها بِقَوْلِهِ: ﴿فَكَفّارَتُهُ إطْعامُ﴾ [المائدة: ٨٩] إلَخْ، فَظَهَرَ مِنَ الآيَتَيْنِ أنَّ اللَّغْوَ ما قابَلَ الغَمُوسَ، والمُنْعَقِدَةَ، وهو نَوْعانِ لا مَحالَةَ، وظَهَرَ حُكْمُ الغَمُوسِ، وهي الحَلِفُ بِقَصْدِ الكَذِبِ، فَهو الإثْمُ، وحُكْمُ المُنْعَقِدَةِ، أنَّهُ الكَفّارَةُ، فَوافَقَ مالِكًا في الغَمُوسِ وخالَفَهُ في أحَدِ نَوْعَيِ اللَّغْوِ، وهَذا تَحْقِيقُ مَذْهَبِهِ. (p-٣٨٤)وفِي اللَّغْوِ غَيْرُ هَذِهِ المَذاهِبِ، مَذاهِبُ أنْهاها ابْنُ عَطِيَّةَ إلى عَشَرَةٍ، لا نُطِيلُ بِها. وقَوْلُهُ ﴿واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٨] تَذْيِيلٌ لِحُكْمِ نَفْيِ المُؤاخَذَةِ، ومُناسِبَةِ اقْتِرانِ وصْفِ الغَفُورِ بِالحَلِيمِ هُنا، دُونَ الرَّحِيمِ لِأنَّ هَذِهِ مَغْفِرَةٌ لِذَنْبٍ هو مِن قَبِيلِ التَّقْصِيرِ في الأدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعالى، فَلِذَلِكَ وصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِالحَلِيمِ، لِأنَّ الحَلِيمَ هو الَّذِي لا يَسْتَفِزُّهُ التَّقْصِيرُ في جانِبِهِ، ولا يَغْضَبُ لِلْغَفْلَةِ، ويَقْبَلُ المَعْذِرَةَ.