موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الثلاثاء 17 رمضان 1446 هجرية الموافق ل18 مارس 2025


الآية [234] من سورة  

وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَٰجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِىٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ


ركن التفسير

234 - (والذين يتوفون) يموتون (منكم ويذرون) يتركون (أزواجاً يتربصن) أي ليتربصن (بأنفسهن) بعدهم عن النكاح (أربعة أشهر وعشرا) من الليالي وهذا في غير الحوامل وأما الحوامل فعدتهن أن يضعن حملهن بآية الطلاق والأمة على النصف من ذلك بالسنة (فإذا بلغن أجلهن) انقضت مدة تربصهن (فلا جناح عليكم) أيها الأولياء (فيما فعلن في أنفسهن) من التزين والتعرض للخطاب (بالمعروف) شرعا (والله بما تعملون خبير) عالم بباطنه كظاهره

هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها فترددوا إليه مرارا في ذلك فقال أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطئا فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه: لها الصداق كاملا وفي لفظ لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قضى به في بروع بنت واشق ففرح عبدالله بذلك فرحا شديدا وفي رواية فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى به في بروع بنت واشق. ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل فإن عدتها بوضع الحمل ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع أو أربعة أشهر وعشر للجمع بين الآيتين وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية المخرج في الصحيحين من غير وجه أنها توفي عنها زوجها سعد بن خولة وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته وفي رواية فوضعت حملها بعده بليال فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: ما لي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي قال أبو عمر بن عبدالبر: وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة يعني لما احتج عليه به قال ويصحح ذلك عنه أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة كما هو قول أهل العلم قاطبة. وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة فإن عدتها على النصف من عدة الحرة شهران وخمس ليال على قول الجمهور لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحد فكذلك فلتكن على النصف منها في العدة. ومن العلماء كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام لعموم الآية. ولأن العدة من باب الأمور الجبلية التي تستوي فيها الخليقة وقد ذكر سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا لاحتمال اشتمال الرحم على حمل فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجودا كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح" فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه والله أعلم. قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة سألت سعيد بن المسيب ما بال العشرة؟ قال: فيه ينفخ الروح وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأن ينفخ فيه الروح رواهما ابن جرير ومن ههنا ذهب الإمام أحمد في رواية عنه إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة ههنا لأنها صارت فراشا كالحرائر وللحديث الذي رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص أنه قا1ل: لا تلبسوا علينا سنة نبينا: عدة أم الولد إذ توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر. ورواه أبو داود عن قتيبة عن غندر وعن ابن المثنى عن عبدالأعلى وابن ماجه عن علي بن محمد عن الربيع ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عروبة عن مطر الوراق عن رجاء بن حيوة عن قبيصة عن عمرو بن العاص فذكره وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث وقيل إن قبيصة لم يسمع عمرا وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف منهم سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وأبو عياض والزهري وعمر بن عبد العزيز وبه كان يأمر يزيد بن عبدالملك بن مروان وهو أمير المؤمنين وبه يقول الأوزاعي وإسحق بن راهويه وأحمد بن حنبل في رواية عنه وقال طاوس وقتادة: عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها نصف عدة الحرة شهران وخمس ليال وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح بن حيي تعتد بثلاث حيض وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي وقال: مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه عدتها حيضة وبه يقول ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور قال الليث: ولو مات وهو حائض أجزأتها وقال مالك: فلو كانت ممن لا تحيض فثلاثة أشهر وقال الشافعي والجمهور: شهر وثلاثة أحب إلي والله أعلم. وقوله "فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير" يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها لما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمي المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" وفي الصحيحين أيضا عن أم سلمة أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال "لا" كل ذلك يقول ـ لا ـ مرتين أو ثلاثا ثم قال "إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة" قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ومن ههنا ذهب كثيرون من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها وهي قوله "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج" الآية. كما قاله ابن عباس وغيره وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره. والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدا ولا يجب في عدة الرجعية قولا واحدا وهل يجب في عدة البائن فيه قولان: ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن سواء في ذلك الصغيرة والآيسة والحرة والأمة والمسلمة والكافرة لعموم الآية. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا إحداد على الكافرة وبه يقول أشهب وابن نافع من أصحاب مالك وحجة قائل هذه المقالة قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" قالوا: فجعله تعبدا وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري الصغيرة بها لعدم التكليف وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع والله الموفق للصواب. وقوله "فإذا بلغن أجلهن" أي انقضت عدتهن قاله الضحاك والربيع بن أنس "فلا جناح عليكم" قال: الزهري أي على أوليائها "فيما فعلن" يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن قال الوني عن ابن عباس إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج فذلك المعروف وروي عن مقاتل بن حيان نحوه وقال ابن حريج عن مجاهد "فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف" قال النكاح الحلال الطيب وروي عن الحسن والزهري والسدي نحو ذلك.

(p-٤٤١)﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكم فِيما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنَّ بِالمَعْرُوفِ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ انْتِقالٌ إلى بَيانِ عِدَّةِ الوَفاةِ، بَعْدَ الكَلامِ عَنْ عِدَّةِ الطَّلاقِ، وما اتَّصَلَ بِذَلِكَ مِن أحْكامِ الإرْضاعِ، عَقِبَ الطَّلاقِ، تَقَصِّيًا لِما بِهِ إصْلاحُ أحْوالِ العائِلاتِ، فَهو عَطْفُ قِصَّةٍ عَلى قِصَّةٍ، ويُتَوَفَّوْنَ: مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، وهو مِنَ الأفْعالِ الَّتِي التَزَمَتِ العَرَبُ فِيها البِناءَ لِلْمَجْهُولِ: مِثْلَ عُنِيَ واضْطُرَّ، وذَلِكَ في كُلِّ فِعْلٍ قَدْ عُرِفَ فاعِلُهُ ما هو، أوْ لَمْ يَعْرِفُوا لَهُ فاعِلًا مُعَيَّنًا. وهو مِن تَوَفّاهُ اللَّهُ، أوْ تَوَفّاهُ المَوْتُ، فاسْتِعْمالُ التَّوَفِّي مِنهُ مَجازٌ، تَنْزِيلًا لِعُمْرِ الحَيِّ مَنزِلَةَ حَقٍّ لِلْمَوْتِ، أوْ لِخالِقِ المَوْتِ، فَقالُوا: تُوُفِّيَ فُلانٌ كَما يُقالُ: تُوُفِّيَ الحَقُّ ونَظِيرُهُ قُبِضَ فُلانٌ، وقُبِضَ الحَقُّ فَصارَ المُرادُ مِن تُوُفِّيَ: ماتَ، كَما صارَ المُرادُ مِن قَبَضَ وشاعَ هَذا المَجازُ حَتّى صارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وجاءَ الإسْلامُ فَقالَ اللَّهُ تَعالى ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ﴾ [الزمر: ٤٢] وقالَ ﴿حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ المَوْتُ﴾ [النساء: ١٥] وقالَ: ﴿قُلْ يَتَوَفّاكم مَلَكُ المَوْتِ﴾ [السجدة: ١١] فَظَهَرَ الفاعِلُ، المَجْهُولُ عِنْدَهم، في مَقامِ التَّعْلِيمِ أوِ المَوْعِظَةِ، وأبْقى اسْتِعْمالَ الفِعْلِ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ فِيما عَدا ذَلِكَ: إيجازًا وتَبَعًا لِلِاسْتِعْمالِ. وقَوْلُهُ ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾ خَبَرُ الَّذِينَ وقَدْ حَصَلَ الرَّبْطُ بَيْنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ بِضَمِيرِ يَتَرَبَّصْنَ، العائِدِ إلى الأزْواجِ، الَّذِي هو مَفْعُولُ الفِعْلِ المَعْطُوفِ عَلى الصِّلَةِ، فَهُنَّ أزْواجُ المُتَوَفِّينَ؛ لِأنَّ الضَّمِيرَ قائِمٌ مَقامَ الظّاهِرِ، وهَذا الظّاهِرُ قائِمٌ مَقامَ المُضافِ إلى ضَمِيرِ المُبْتَدَأِ، بِناءً عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ والكِسائِيِّ: مِنَ الِاكْتِفاءِ في الرَّبْطِ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلى اسْمٍ، مُضافٍ إلى مِثْلِ العائِدِ، وخالَفَ الجُمْهُورَ في ذَلِكَ، كَما في التَّسْهِيلِ وشَرْحِهِ، ولِذَلِكَ قَدَّرُوا هُنا: ويَذَرُونَ أزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهم كَما قالُوا: السَّمْنُ مَنَوانِ بِدِرْهَمٍ أيْ مِنهُ، وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وأزْواجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم إلَخْ يَتَرَبَّصْنَ، بِناءً عَلى أنَّهُ حَذْفٌ لِمُضافٍ، وبِذَلِكَ قُدِّرَ في الكَشّافِ ولا داعِيَ إلَيْهِ كَما قالَ التَّفْتازانِيُّ، وقِيلَ التَّقْدِيرُ: ومِمّا يُتْلى عَلَيْكم حُكْمُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم، ونُقِلَ ذَلِكَ عَنْ سِيبَوَيْهِ، فَيَكُونُ يَتَرَبَّصْنَ: اسْتِئْنافًا، وكُلُّها تَقْدِيراتٌ لا فائِدَةَ فِيها، بَعْدَ اسْتِقامَةِ المَعْنى. (p-٤٤٢)وقَوْلُهُ ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾ تَقَدَّمَ بَيانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] . وتَأْنِيثُ اسْمِ العَدَدِ في قَوْلِهِ عَشْرًا لِمُراعاةِ اللَّيالِي، والمُرادُ: اللَّيالِي بِأيّامِها؛ إذْ لا تَكُونُ لَيْلَةٌ بِلا يَوْمٍ، ولا يَوْمٌ بِلا لَيْلَةٍ، والعَرَبُ تَعْتَبِرُ اللَّيالِيَ في التّارِيخِ والتَّأْجِيلِ، يَقُولُونَ: كَتَبَ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ في شَهْرِ كَذا، ورُبَّما اعْتَبَرُوا الأيّامَ كَما قالَ تَعالى: ﴿فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ﴾ [البقرة: ١٩٦] وقالَ ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] ) لِأنَّ عَمَلَ الصِّيامِ إنَّما يَظْهَرُ في اليَوْمِ لا في اللَّيْلَةِ، قالَ في الكَشّافِ: والعَرَبُ تُجْرِي أحْكامَ التَّأْنِيثِ والتَّذْكِيرِ، في أسْماءِ الأيّامِ، إذا لَمْ تَجْرِ عَلى لَفْظٍ مَذْكُورٍ، بِالوَجْهَيْنِ. قالَ تَعالى ﴿يَتَخافَتُونَ بَيْنَهم إنْ لَبِثْتُمْ إلّا عَشْرًا﴾ [طه: ١٠٣] ﴿نَحْنُ أعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إذْ يَقُولُ أمْثَلُهم طَرِيقَةً إنْ لَبِثْتُمْ إلّا يَوْمًا﴾ [طه: ١٠٤] فَأرادَ بِالعَشْرِ: الأيّامَ ومَعَ ذَلِكَ جَرَّدَها مِن عَلامَةِ تَذْكِيرِ العَدَدِ، لِأنَّ اليَوْمَ يُعْتَبَرُ مَعَ لَيْلَتِهِ، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عِدَّةَ الوَفاةِ مَنُوطَةً بِالأمَدِ الَّذِي يَتَحَرَّكُ في مِثْلِهِ الجَنِينُ تَحَرُّكًا بَيِّنًا، مُحافَظَةً عَلى أنْسابِ الأمْواتِ؛ فَإنَّهُ جَعَلَ عِدَّةَ الطَّلاقِ ما يَدُلُّ عَلى بَراءَةِ الرَّحِمِ دَلالَةً ظَنِّيَّةً: وهو الأقْراءُ، عَلى ما تَقَدَّمَ؛ لِأنَّ المُطَلِّقَ يَعْلَمُ حالَ مُطَلَّقَتِهِ مِن طُهْرٍ وعَدَمِهِ، ومِن قُرْبانِهِ إيّاها قَبْلَ الطَّلاقِ وعَدَمِهِ، وكَذَلِكَ العُلُوقُ لا يَخْفى، فَلَوْ أنَّها ادَّعَتْ عَلَيْهِ نَسَبًا، وهو يُوقِنُ بِانْتِفائِهِ، كانَ لَهُ في اللِّعانِ مَندُوحَةٌ، أمّا المَيِّتُ فَلا يُدافِعُ عَنْ نَفْسِهِ، فَجُعِلَتْ عِدَّتُهُ أمَدًا مَقْطُوعًا بِانْتِفاءِ الحَمْلِ في مِثْلِهِ: وهو الأرْبَعَةُ الأشْهُرِ والعَشَرَةُ، فَإنَّ الحَمْلَ يَكُونُ نُطْفَةً أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ مُضْغَةً أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ. فَما بَيْنَ اسْتِقْرارِ النُّطْفَةِ في الرَّحِمِ، إلى نَفْخِ الرُّوحِ في الجَنِينِ، أرْبَعَةُ أشْهُرٍ، وإذْ قَدْ كانَ الجَنِينُ، عَقِبَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، يَقْوى تَدْرِيجًا، جُعِلَتِ العَشْرُ اللَّيالِي: الزّائِدَةَ عَلى الأرْبَعَةِ الأشْهَرِ، لِتَحَقُّقِ تَحَرُّكِ الجَنِينِ تَحَرُّكًا بَيِّنًا، فَإذا مَضَتْ هَذِهِ المُدَّةُ حَصَلَ اليَقِينُ بِانْتِفاءِ الحَمْلِ؛ إذْ لَوْ كانَ ثَمَّةَ حَمْلٌ لَتَحَرَّكَ لا مَحالَةَ، وهو يَتَحَرَّكُ لِأرْبَعَةِ أشْهُرٍ، وزِيدَتْ عَلَيْها العَشْرُ احْتِياطًا لِاخْتِلافِ حَرَكاتِ الأجِنَّةِ قُوَّةً وضَعْفًا، بِاخْتِلافِ قُوى الأمْزِجَةِ. وعُمُومُ الَّذِينَ في صِلَتِهِ، وما يَتَعَلَّقُ بِها مِنَ الأزْواجِ، يَقْتَضِي عُمُومَ هَذا الحُكْمِ في المُتَوَفّى عَنْهُنَّ، سَواءٌ كُنَّ حَرائِرَ أمْ إماءً، وسَواءٌ كُنَّ حَوامِلَ أمْ غَيْرَ حَوامِلَ، وسَواءٌ كُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ أمْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِنَّ، فَأمّا الإماءُ فَقالَ جُمْهُورُ العُلَماءِ: إنَّ عِدَّتَهُنَّ عَلى نِصْفِ عِدَّةِ الحَرائِرِ. قِياسًا عَلى تَنْصِيفِ الحَدِّ، والطَّلاقِ، وعَلى تَنْصِيفِ عِدَّةِ الطَّلاقِ، ولَمْ يَقُلْ بِمُساواتِهِنَّ لِلْحَرائِرِ، في عِدَّةِ الوَفاةِ إلّا الأصَمُّ، وفي رِوايَةٍ عَنِ ابْنِ (p-٤٤٣)سِيرِينَ، إلّا أُمَّهاتِ الأوْلادِ فَقالَتْ طائِفَةٌ: عِدَّتُهُنَّ مِثْلُ الحَرائِرِ، وهو قَوْلُ سَعِيدٍ والزُّهْرِيِّ والحَسَنِ والأوْزاعِيِّ وإسْحاقَ ورُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ العاصِ، وقالَتْ طَوائِفُ غَيْرُ ذَلِكَ. وإنَّ إجْماعَ فُقَهاءِ الإسْلامِ عَلى تَنْصِيفِ عِدَّةِ الوَفاةِ في الأمَةِ المُتَوَفّى زَوْجُها لَمِن مُعْضِلاتِ المَسائِلِ الفِقْهِيَّةِ، فَبِنا أنْ نَنْظُرَ إلى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ عِدَّةِ الوَفاةِ، وإلى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ التَّنْصِيفِ لِذِي الرِّقِّ، فِيما نَصِفُ لَهُ فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَنَرى بِمَسْلَكِ السَّبْرِ والتَّقْسِيمِ أنَّ عِدَّةَ الوَفاةِ إمّا أنْ تَكُونَ لِحِكْمَةٍ تُحَقِّقُ النَّسَبَ أوْ عَدَمَهُ، وإمّا أنْ تَكُونَ لِقَصْدِ الإحْدادِ عَلى الزَّوْجِ، لَمّا نَسَخَ الإسْلامُ ما كانَ عَلَيْهِ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ مِنَ الإحْدادِ حَوْلًا كامِلًا، أبْقى لَهُنَّ ثُلُثَ الحَوْلِ، كَما أبْقى لِلْمَيِّتِ حَقَّ الوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مالِهِ، ولَيْسَ لَها حِكْمَةٌ غَيْرُ هَذَيْنِ؛ إذْ لَيْسَ فِيها ما في عِدَّةِ الطَّلاقِ مِن حِكْمَةِ انْتِظارِ نَدامَةِ المُطَّلِقِ، ولَيْسَ هَذا الوَجْهُ الثّانِي بِصالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ، لِأنَّهُ لا يُظَنُّ بِالشَّرِيعَةِ أنْ تُقَرِّرَ أوْهامَ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، فَتَبْقى مِنهُ تُراثًا سَيِّئًا، ولِأنَّهُ قَدْ عُهِدَ مِن تَصَرُّفِ الإسْلامِ إبْطالُ تَهْوِيلِ أمْرِ المَوْتِ، والجَزَعِ لَهُ، الَّذِي كانَ عِنْدَ الجاهِلِيَّةِ، عُرِفَ ذَلِكَ في غَيْرِ ما مَوْضِعٍ مِن تَصَرُّفاتِ الشَّرِيعَةِ، ولِأنَّ الفُقَهاءَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ عِدَّةَ الحامِلِ مِنَ الوَفاةِ وضْعُ حَمْلِها، فَلَوْ كانَتْ عِدَّةَ غَيْرِ الحامِلِ لِقَصْدِ اسْتِبْقاءِ الحُزْنِ لاسْتَوَتا في العِدَّةِ، فَتَعَيَّنَ أنَّ حِكْمَةَ عِدَّةِ الوَفاةِ هي تَحَقُّقُ الحَمْلِ أوْ عَدَمُهُ، فَلْنَنْقُلِ النَّظَرَ إلى الأمَةِ نَجِدْ فِيها وصَفَّيْنِ: الإنْسانِيَّةُ والرِّقُّ، فَإذا سَلَكْنا إلَيْهِما طَرِيقَ تَخْرِيجِ المَناطِ، وجَدْنا الوَصْفَ المُناسِبَ لِتَعْلِيلِ الِاعْتِدادِ الَّذِي حِكْمَتُهُ تَحَقُّقُ النَّسَبِ هو وصْفُ الإنْسانِيَّةِ؛ إذِ الحَمْلُ لا يَخْتَلِفُ حالُهُ بِاخْتِلافِ أصْنافِ النِّساءِ، وأحْوالُهُنَّ الِاصْطِلاحِيَّةُ أمّا الرِّقُّ فَلَيْسَ وصْفًا صالِحًا لِلتَّأْثِيرِ في هَذا الحُكْمِ، وإنَّما نُصِّفَتْ لِلْعَبْدِ أحْكامٌ تَرْجِعُ إلى المُناسِبِ التَّحْسِينِيِّ: كَتَنْصِيفِ الحَدِّ لِضَعْفِ مُرُوءَتِهِ، ولِتَفَشِّي السَّرِقَةِ في العَبِيدِ، فَطُرِدَ حُكْمُ التَّنْصِيفِ لَهم في غَيْرِهِ. وتَنْصِيفُ عِدَّةِ الأمَةِ في الطَّلاقِ الوارِدِ في الحَدِيثِ، لِعِلَّةِ الرَّغْبَةِ في مُراجَعَةِ أمْثالِها، فَإذا جاءَ راغِبٌ فِيها بَعْدَ قُرْأيْنِ تَزَوَّجَتْ، ويَطَّرِدُ بابُ التَّنْصِيفِ أيْضًا. فالوَجْهُ أنْ تَكُونَ عِدَّةُ الوَفاةِ لِلْأمَةِ كَمِثْلِ الحُرَّةِ، ولَيْسَ في تَنْصِيفِها أثَرٌ، ومُسْتَنَدُ الإجْماعِ قِياسٌ مَعَ وُجُودِ الفارِقِ. وأمّا الحَوامِلُ فالخِلافُ فِيهِنَّ قَوِيٌّ؛ فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ عِدَّتَهُنَّ مِنَ الوَفاةِ وضْعُ حَمْلِهِنَّ، وهو قَوْلُ عُمَرَ وابْنِهِ وأبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وأبِي هُرَيْرَةَ، وهو قَوْلُ مالِكٍ، قالَ عُمَرُ: لَوْ وضَعَتْ حَمْلَها وزَوْجَها عَلى سَرِيرِهِ لَمْ يُدْفَنْ لَحَلَّتْ لِلْأزْواجِ وحُجَّتُهم: (p-٤٤٤)حَدِيثُ سُبَيْعَةَ الأسْلَمِيَّةِ زَوْجِ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، تُوُفِّيَ عَنْها بِمَكَّةَ عامَ حِجَّةِ الوَداعِ وهي حامِلٌ فَوَضَعَتْ حَمْلَها بَعْدَ نِصْفِ شَهْرٍ كَما في المُوَطَّأِ، أوْ بَعْدَ أرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ لَها: «قَدْ حَلَلْتِ فانْكِحِي إنْ بَدا لَكِ» واحْتَجُّوا أيْضًا بِقَوْلِهِ تَعالى في آيَةِ سُورَةِ الطَّلاقِ ﴿وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤] وعُمُومُ أُولاتِ الأحْمالِ، مَعَ تَأخُّرِ نُزُولِ تِلْكَ السُّورَةِ عَنْ سُورَةِ البَقَرَةِ، يَقْضِي بِالمَصِيرِ إلى اعْتِبارِ تَخْصِيصِ عُمُومِ ما في سُورَةِ البَقَرَةِ، وإلى هَذا أشارَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَن شاءَ باهَلْتُهُ، لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّساءِ القُصْرى - يَعْنِي سُورَةَ يا أيُّها النَّبِيءُ إذا طَلَّقْتُمُ - بَعْدَ الطُّولى أيِ السُّورَةِ الطُّولى أيِ البَقَرَةِ ولَيْسَ المُرادُ سُورَةَ النِّساءِ الطُّولى. وعِنْدِي أنَّ الحُجَّةَ لِلْجُمْهُورِ، تَرْجِعُ إلى ما قَدَّمْناهُ مِن أنَّ حِكْمَةَ عِدَّةِ الوَفاةِ هي تَيَقُّنُ حِفْظِ النَّسَبِ، فَلَمّا كانَ وضْعُ الحَمْلِ أدَلَّ شَيْءٍ عَلى بَراءَةِ الرَّحِمِ، كانَ مُغْنِيًا عَنْ غَيْرِهِ، وكانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: أتَجْعَلُونَ عَلَيْها التَّغْلِيظَ ولا تَجْعَلُونَ عَلَيْها الرُّخْصَةَ، يُرِيدُ أنَّها لَوْ طالَ أمَدُ حَمْلِها لَما حَلَّتْ، وعَنْ عَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ عِدَّةَ الحامِلِ في الوَفاةِ أقْصى الأجَلَيْنِ، واخْتارَهُ سَحْنُونٌ مِنَ المالِكِيَّةِ فَقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: إنَّ في هَذا القَوْلِ جَمْعًا بَيْنَ مُقْتَضى الآيَتَيْنِ، وقالَ بَعْضُهم: في هَذا القَوْلِ احْتِياطٌ، وهَذِهِ العِبارَةُ أحْسَنُ؛ إذْ لَيْسَ في الأخْذِ بِأقْصى الأجَلَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ الآيَتَيْنِ بِالمَعْنى الأُصُولِيِّ؛ لِأنَّ الجَمْعَ بَيْنَ المُتَعارِضَيْنِ مَعْناهُ أنْ يُعْمَلَ بِكُلٍّ مِنهُما: في حالَةٍ أوْ زَمَنٍ أوْ أفْرادٍ، غَيْرَ ما أُعْمِلَ فِيهِ بِالآخَرِ، بِحَيْثُ يَتَحَقَّقُ في صُورَةِ الجَمْعِ عَمَلٌ بِمُقْتَضى المُتَعارِضَيْنِ مَعًا، ولِذَلِكَ يُسَمُّونَ الجَمْعَ بِإعْمالِ النَّصَّيْنِ، والمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِدادِ تَحْدِيدُ أمَدِ التَّرَبُّصِ والِانْتِظارِ، فَإذا نَحْنُ أخَذْنا بِأقْصى الأجَلَيْنِ، أبْطَلْنا مُقْتَضى إحْدى الآيَتَيْنِ لا مَحالَةَ؛ لِأنَّنا نُلْزِمُ المُتَوَفّى عَنْها بِتَجاوُزِ ما حَدَّدَتْهُ لَها إحْدى الآيَتَيْنِ، ولا نَجِدُ حالَةً تَحَقَّقَ فِيها مُقْتَضاهُما، كَما هو بَيِّنٌ، فَأحْسَنُ العِبارَتَيْنِ أنْ تُعَبَّرَ بِالِاحْتِياطِ: وهو أنَّ الآيَتَيْنِ تَعارَضَتا بِعُمُومٍ وخُصُوصٍ وجْهِيٍّ، فَعَمَدْنا إلى صُورَةِ التَّعارُضِ وأعْمَلْنا فِيها مَرَّةً مُقْتَضى هَذِهِ الآيَةِ، ومَرَّةً مُقْتَضى الأُخْرى، تَرْجِيحًا لِأحَدِ المُقْتَضَيَيْنِ في كُلِّ مَوْضِعٍ بِمُرَجِّحِ الِاحْتِياطِ، فَهو تَرْجِيحٌ لا جَمْعٌ لَكِنَّ (p-٤٤٥)حَدِيثَ سُبَيْعَةَ في الصَّحِيحِ أبْطَلَ هَذا المَسْلَكَ لِلتَّرْجِيحِ كَما أنَّ ابْتِداءَ سُورَةِ الطَّلاقِ بِقَوْلِهِ تَعالى إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يُنادِي عَلى تَخْصِيصِ عُمُومِ قَوْلِهِ ﴿وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤] هُنالِكَ بِالحَوامِلِ المُطَلَّقاتِ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ ابْنَ عَبّاسٍ رَجَعَ إلى قَوْلِ الجُمْهُورِ وهو ظاهِرُ حَدِيثِ المُوَطَّأِ في اخْتِلافِهِ وأبِي سَلَمَةَ في ذَلِكَ، وإرْسالِهِما مَن سَألَ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فَأخْبَرَتْهُما بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ، فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ لا تَلْتَفِتُ الشَّرِيعَةُ، عَلى هَذا، إلى ما في طِباعِ النِّساءِ مِنَ الحُزْنِ عَلى وفاةِ أزْواجِهِنَّ ؟ وكَيْفَ لا تَبْقى بَعْدَ نَسْخِ حُزْنِ الحَوْلِ الكامِلِ مُدَّةَ ما يَظْهَرُ فِيها حالُ المَرْأةِ ؟ وكَيْفَ تَحِلُّ الحامِلُ لِلْأزْواجِ لَوْ وضَعَتْ حَمْلَها وزَوْجُها لَمّا يُوضَعُ عَنْ سَرِيرِهِ كَما وقَعَ في قَوْلِ عُمَرَ ؟ قُلْتُ: كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَ إحْدادَ الحَوْلِ فَرْضًا عَلى كُلِّ مُتَوَفًّى عَنْها، والأزْواجُ في هَذا الحُزْنِ مُتَفاوِتاتٌ، وكَذَلِكَ هُنَّ مُتَفاوِتاتٌ في المَقْدِرَةِ عَلى البَقاءِ في الِانْتِظارِ لِقِلَّةِ ذاتِ اليَدِ في غالِبِ النِّساءِ، فَكُنَّ يَصْبِرْنَ عَلى انْتِظارِ الحَوْلِ راضِياتٍ، أوْ كارِهاتٍ، فَلَمّا أبْطَلَ الشَّرْعُ ذَلِكَ فِيما أبْطَلَ مِن أوْهامِ الجاهِلِيَّةِ، لَمْ يَكْتَرِثْ بِأنْ يُشَرِّعَ لِلنِّساءِ حُكْمًا في هَذا الشَّأْنِ، ووَكِلَهُ إلى ما يَحْدُثُ في نُفُوسِهِنَّ، وجَدَّتِهِنَّ، كَما يُوكِلُ جَمِيعَ الجِبِلِّياتِ والطَّبْعِيّاتِ إلى الوِجْدانِ؛ فَإنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ لِلنّاسِ مِقْدارَ الأكَلاتِ والأسْفارِ، والحَدِيثِ، ونَحْوَ هَذا. وإنَّما اهْتَمَّ بِالمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ: وهو حِفْظُ الأنْسابِ، فَإذا قُضِيَ حَقُّهُ، فَقَدْ بَقِيَ لِلنِّساءِ أنْ يَفْعَلْنَ في أنْفُسِهِمْ ما يَشَأْنَ، مِنَ المَعْرُوفِ، كَما قالَ ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْكم فِيما فَعَلْنَ﴾ فَإذا شاءَتِ المَرْأةُ بَعْدَ انْقِضاءِ العِدَّةِ أنْ تَحْبِسَ نَفْسَها فَلْتَفْعَلْ. أمّا الأزْواجُ غَيْرُ المَدْخُولِ بِهِنَّ، فَعَلَيْهِنَّ عِدَّةُ الوَفاةِ، دُونَ عِدَّةِ الطَّلاقِ، لِعُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ ولِأنَّ لَهُنَّ المِيراثَ، فالعِصْمَةُ تَقَرَّرَتْ بِوَجْهٍ مُعْتَبَرٍ، حَتّى كانَتْ سَبَبَ إرْثٍ، وعَدَمُ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ، لا يَنْفِي احْتِمالَ أنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ قارَبَها خُفْيَةً، إذْ هي حَلالٌ لَهُ، فَأوْجَبَ عَلَيْها الِاعْتِدادَ احْتِياطًا لِحِفْظِ النَّسَبِ، ولِذَلِكَ قالَ مالِكٌ، وإنْ كانَ لِلنَّظَرِ فِيهِ مَجالٌ، فَقَدْ تُقاسُ المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها، الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ بِها، عَلى الَّتِي طَلَّقَها زَوْجُها قَبْلَ أنْ يَمَسَّها، الَّتِي قالَ اللَّهُ تَعالى فِيها ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكم عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها﴾ [الأحزاب: ٤٩] . وقَدْ ذَكَرُوا حَدِيثَ بِرْوَعَ بِنْتِ واشِقٍ الأشْجَعِيَّةِ، رَواهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ سِنانٍ الأشْجَعِيِّ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَضى في بِرْوَعَ بِنْتِ واشِقٍ وقَدْ ماتَ زَوْجُها، (p-٤٤٦)ولَمْ يَفْرِضْ لَها صَداقًا، ولَمْ يَدْخُلْ بِها أنَّ لَها مِثْلَ صَداقِ نِسائِها، وعَلَيْها العِدَّةُ ولَها المِيراثُ» ولَمْ يُخالِفْ أحَدٌ في وُجُوبِ الِاعْتِدادِ عَلَيْها، وإنَّما اخْتَلَفُوا في وُجُوبِ مَهْرِ المِثْلِ لَها. وقَوْلُهُ ﴿فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ﴾ أيْ إذا انْتَهَتِ المُدَّةُ المَعْنِيَّةُ بِالتَّرَبُّصِ، أيْ إذا بَلَغْنَ بِتَرَبُّصِهِنَّ تِلْكَ المُدَّةَ، وجُعِلَ امْتِدادُ التَّرَبُّصِ بُلُوغًا، عَلى وجْهِ الإطْلاقِ الشّائِعِ في قَوْلِهِمْ بَلَغَ الأمَدَ، وأصْلُهُ اسْمُ البُلُوغِ وهو الوُصُولُ، اسْتُعِيرَ لِإكْمالِ المُدَّةِ تَشْبِيهًا لِلزَّمانِ بِالطَّرِيقِ المُوَصِّلَةِ إلى المَقْصُودِ. والأجَلُ مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَنِ جُعِلَتْ ظَرْفًا لِإيقاعِ فِعْلٍ في نِهايَتِها أوْ في أثْنائِها تارَةً. وضَمِيرُ أجَلَهُنَّ لِلْأزْواجِ اللّائِي تُوُفِّيَ عَنْهُنَّ أزْواجُهُنَّ، وعُرِفَ الأجَلُ بِالإضافَةِ إلى ضَمِيرِهِنَّ دُونَ غَيْرِ الإضافَةِ مِن طُرُقِ التَّعْرِيفِ لِما يُؤْذَنُ بِهِ إضافَةُ أجْلٍ مَن كَوْنِهِنَّ قَضَيْنَ ما عَلَيْهِنَّ، فَلا تُضايِقُوهُنَّ بِالزِّيادَةِ عَلَيْهِ. وأُسْنِدَ البُلُوغُ إلَيْهِنَّ، وأُضِيفَ الأجَلُ إلَيْهِنَّ، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ مَشَقَّةً هَذا الأجَلِ عَلَيْهِنَّ ومَعْنى الجُناحِ هُنا: الحَرَجُ، لِإزالَةِ ما عَسى أنْ يَكُونَ قَدْ بَقِيَ في نُفُوسِ النّاسِ مِنِ اسْتِفْظاعِ تَسَرُّعِ النِّساءِ إلى التَّزَوُّجِ بَعْدَ عِدَّةِ الوَفاةِ، وقَبْلَ الحَوْلِ، فَإنَّ أهْلَ الزَّوْجِ المُتَوَفّى قَدْ يَتَحَرَّجُونَ مِن ذَلِكَ، فَنَفى اللَّهُ هَذا الحَرَجَ، وقالَ ﴿فِيما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنَّ﴾ تَغْلِيظًا لِمَن يَتَحَرَّجُ مِن فِعْلِ غَيْرِهِ، كَأنَّهُ يَقُولُ لَوْ كانَتِ المَرْأةُ ذاتَ تَعَلُّقٍ شَدِيدٍ بِعَهْدِ زَوْجِها المُتَوَفّى، لَكانَ داعِيَ زِيادَةِ تَرَبُّصِها مِن نَفْسِها، فَإذا لَمْ يَكُنْ لَها ذَلِكَ الدّاعِي، فَلِماذا التَّحَرُّجُ مِمّا تَفْعَلُهُ في نَفْسِها، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ وقَيَّدَهُ بِأنْ يَكُونَ مِنَ المَعْرُوفِ نَهْيًا لِلْمَرْأةِ أنْ تَفْعَلَ ما لَيْسَ مِنَ المَعْرُوفِ شَرْعًا وعادَةً، كالإفْراطِ في الحُزْنِ المُنْكَرِ شَرْعًا، أوِ التَّظاهُرِ بِتَرْكِ التَّزَوُّجِ بَعْدَ زَوْجِها، وتَغْلِيظًا لِلَّذِينَ يُنْكِرُونَ عَلى النِّساءِ تَسَرُّعَهُنَّ بَعْدَ العِدَّةِ، أوْ بَعْدَ وضْعِ الحَمْلِ، كَما فَعَلَتْ سُبَيْعَةُ أيْ فَإنَّ ذَلِكَ مِنَ المَعْرُوفِ. وقَدْ دَلَّ مَفْهُومُ الشَّرْطِ في قَوْلِهِ ﴿فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ﴾ عَلى أنَّهُنَّ، في مُدَّةِ الأجَلِ، مَنهِيّاتٌ عَنْ أفْعالٍ في أنْفُسِهِنَّ كالتَّزَوُّجِ وما يَتَقَدَّمُهُ مِنِ الخِطْبَةِ والتَّزَيُّنِ، فَأمّا التَّزَوُّجُ في العِدَّةِ فَقَدِ اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلى مَنعِهِ، وسَيَأْتِي تَفْصِيلُ القَوْلِ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِن خِطْبَةِ النِّساءِ﴾ [البقرة: ٢٣٥] . وأمّا ما عَداهُ، فالخِلافُ مَفْرُوضٌ في أمْرَيْنِ: في الإحْدادِ، وفي مُلازَمَةِ البَيْتِ. فَأمّا الإحْدادُ فَهو مَصْدَرُ أحَدَتِ المَرْأةُ إذا حَزِنَتْ، ولَبِسَتْ ثِيابَ الحُزْنِ، وتَرَكَتِ (p-٤٤٧)الزِّينَةَ، ويُقالُ حِدادٌ، والمُرادُ بِهِ في الإسْلامِ تَرْكُ المُعْتَدَّةِ مِنَ الوَفاةِ الزِّينَةَ، والطِّيبَ، ومَصْبُوغَ الثِّيابِ، إلّا الأبْيَضَ، وتَرْكُ الحُلِيِّ، وهو واجِبٌ بِالسُّنَّةِ فَفي الصَّحِيحِ «لا يَحِلُّ لِامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلّا عَلى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا» ولَمْ يُخالِفْ في هَذا إلّا الحَسَنُ البَصْرِيُّ، فَجَعَلَ الإحْدادَ ثَلاثَةَ أيّامٍ لا غَيْرُ وهو ضَعِيفٌ. والحِكْمَةُ مِنَ الإحْدادِ سَدُّ ذَرِيعَةِ كُلِّ ما يُوَسْوِسُ إلى الرِّجالِ: مِن رُؤْيَةِ مَحاسِنِ المَرْأةِ المُعْتَدَّةِ، حَتّى يَبْتَعِدُوا عَنِ الرَّغْبَةِ في التَّعَجُّلِ بِما لا يَلِيقُ، ولِذَلِكَ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في الإحْدادِ عَلى المُطَلَّقَةِ، فَقالَ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، ورَبِيعَةُ، وعَطاءٌ: لا إحْدادَ عَلى مُطَلَّقَةٍ، أخْذًا بِصَرِيحِ الحَدِيثِ، وبِأنَّ المُطَلَّقَةَ يَرْقُبُها مُطَلِّقُها، ويَحُولُ بَيْنَها وبَيْنَ ما عَسى أنْ تَتَساهَلَ فِيهِ، بِخِلافِ المُتَوَفّى عَنْها كَما قَدَّمْناهُ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيُّ، وسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وسُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ، وابْنُ سِيرِينَ: تُحِدُّ المُطَلَّقَةُ طَلاقَ الثَّلاثِ، كالمُتَوَفّى عَنْها، لِأنَّهُما جَمِيعًا في عِدَّةٍ يُحْفَظُ فِيها النَّسَبُ، والزَّوْجَةُ الكِتابِيَّةُ كالمُسْلِمَةِ في ذَلِكَ، عِنْدَ مالِكٍ، تُجْبَرُ عَلَيْهِ وبِهِ قالَ الشّافِعِيُّ، واللَّيْثُ، وأبُو ثَوْرٍ، لِاتِّحادِ العِلَّةِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ، وأشْهَبُ، وابْنُ نافِعٍ، وابْنُ كِنانَةَ، مِنَ المالِكِيَّةِ: لا إحْدادَ عَلَيْها، وُقُوفًا عِنْدَ قَوْلِهِ ﷺ: «لا يَحِلُّ لِامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ» فَوَصَفَها بِالإيمانِ، وهو مُتَمَسَّكٌ ضَئِيلٌ، لِأنَّ مَوْرِدَ الوَصْفِ لَيْسَ مَوْرِدَ التَّقْيِيدِ، بَلْ مَوْرِدُ التَّحْرِيضِ عَلى امْتِثالِ أمْرِ الشَّرِيعَةِ وقَدْ شَدَّدَ النَّبِيءُ ﷺ في أمْرِ الإحْدادِ، فَفي المُوَطَّأِ: «أنَّ امْرَأةً جاءَتْ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ: إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْها زَوْجُها، وقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَيْها، أفَتُكَحِّلُهُما فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لا لا مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثًا إنَّما هي أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وعَشْرًا وقَدْ كانَتْ إحْداكُنَّ في الجاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالبَعْرَةِ عَلى رَأْسِ الحَوَلِ» . وقَدْ أباحَ النَّبِيءُ ﷺ لِأُمِّ سَلَمَةَ في مُدَّةِ إحْدادِها عَلى أبِي سَلَمَةَ: أنْ تَجْعَلَ الصَّبْرَ في عَيْنَيْها (p-٤٤٨)بِاللَّيْلِ، وتَمَسَحَهُ بِالنَّهارِ، وبِمِثْلِ ذَلِكَ أفْتَتْ أُمُّ سَلَمَةَ امْرَأةً حادًّا اشْتَكَتْ عَيْنَيْها أنْ تَكْتَحِلَ بِكُحْلِ الجِلاءِ بِاللَّيْلِ، وتَمْسَحَهُ بِالنَّهارِ، رُوِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ في المُوَطَّأِ، قالَ مالِكٌ: وإذا كانَتِ الضَّرُورَةُ فَإنَّ دِينَ اللَّهِ يُسْرٌ: ولِذَلِكَ حَمَلُوا نَهْيَ النَّبِيءِ ﷺ المَرْأةَ الَّتِي اسْتَفْتَتْهُ أُمَّها أنْ تَكْتَحِلَ عَلى أنَّهُ عَلِمَ مِنَ المُعْتَدَّةِ أنَّها أرادَتِ التَّرَخُّصَ، فَقَيَّضَتْ أُمَّها لِتَسْألَ لَها. وأمّا مُلازَمَةُ مُعْتَدَّةِ الوَفاةِ بَيْتَ زَوْجِها فَلَيْسَتْ مَأْخُوذَةً مِن هَذِهِ الآيَةِ؛ لِأنَّ التَّرَبُّصَ تَرَبُّصٌ بِالزَّمانِ، لا بَدَلٌ عَلى مُلازَمَةِ المَكانِ، والظّاهِرُ عِنْدِي أنَّ الجُمْهُورَ أخَذُوا ذَلِكَ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا وصِيَّةٌ لِأزْواجِهِمْ مَتاعًا إلى الحَوْلِ غَيْرَ إخْراجٍ﴾ [البقرة: ٢٤٠] فَإنَّ ذَلِكَ الحُكْمَ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ إلّا حِفْظُ المُعْتَدَّةِ، فَلَمّا نُسِخَ عِنْدَ الجُمْهُورِ، بِهَذِهِ الآيَةِ، كانَ النَّسْخُ وارِدًا عَلى المُدَّةِ وهي الحَوْلُ، لا عَلى بَقِيَّةِ الحُكْمِ، عَلى أنَّ المُعْتَدَّةَ مِنَ الوَفاةِ أوْلى بِالسُّكْنى مِن مُعْتَدَّةِ الطَّلاقِ الَّتِي جاءَ فِيها ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] وجاءَ فِيها ﴿أسْكِنُوهُنَّ مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ [الطلاق: ٦] وقالَ المُفَسِّرُونَ والفُقَهاءُ: ثَبَتَ وُجُوبُ مُلازَمَةِ البَيْتِ، بِالسُّنَّةِ، فَفي المُوَطَّأِ والصِّحاحِ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ لِلْفُرَيْعَةِ ابْنَةِ مالِكِ بْنِ سِنانٍ الخُدْرِيِّ، أُخْتِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ لَمّا تُوُفِّيَ عَنْها زَوْجُها: امْكُثِي في بَيْتِكِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ» وهو حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، وقَضى بِهِ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ وفي المُوَطَّأِ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ كانَ يَرُدُّ المُتَوَفّى عَنْهُنَّ أزْواجُهُنَّ مِنَ البَيْداءِ يَمْنَعُهُنَّ الحَجَّ، وبِذَلِكَ قالَ ابْنُ عُمَرَ، وبِهِ أخَذَ جُمْهُورُ فُقَهاءِ المَدِينَةِ، والحِجازِ، والعِراقِ، والشّامِ، ومِصْرَ، ولَمْ يُخالِفْ في ذَلِكَ إلّا عَلِيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعائِشَةُ، وعَطاءٌ، والحَسَنُ، وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وأبُو حَنِيفَةَ، وداوُدُ الظّاهِرِيُّ، وقَدْ أخْرَجَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أُخْتَها أُمَّ كُلْثُومٍ، حِينَ تُوُفِّيَ زَوْجُها، طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، إلى مَكَّةَ في عُمْرَةٍ، وكانَتْ تُفْتِي بِالخُرُوجِ، فَأنْكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحابَةِ ذَلِكَ عَلَيْها، قالَ الزُّهْرِيُّ: فَأخَذَ المُتَرَخِّصُونَ بِقَوْلِ عائِشَةَ، وأخَذَ أهْلُ العَزْمِ والوَرَعِ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، واتَّفَقَ الكُلُّ عَلى أنَّ المَرْأةَ المُعْتَدَّةَ تَخْرُجُ لِلضَّرُورَةِ، وتَخْرُجُ نَهارًا، لِحَوائِجِها، مِن وقْتِ انْتِشارِ النّاسِ إلى وقْتِ هُدُوئِهِمْ بَعْدَ العَتَمَةِ، ولا تَبِيتُ إلّا في المَنزِلِ، وشُرُوطُ ذَلِكَ وأحْكامُهُ، ووُجُودُ المَحَلِّ لِلزَّوْجِ، أوْ في كِرائِهِ، وانْتِظارُ الوَرَثَةِ بَيْعَ المَنزِلِ إلى ما بَعْدَ العِدَّةِ، وحُكْمُ ما لَوِ ارْتابَتْ في الحَمْلِ فَطالَتِ العِدَّةُ، (p-٤٤٩)مَبْسُوطَةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ، والخِلافِ، فَلا حاجَةَ بِنا إلَيْها هُنا. ومِنِ القِراءاتِ الشّاذَّةِ في هَذِهِ الآيَةِ: ما ذَكَرَهُ في الكَشّافِ أنَّ عَلِيًّا قَرَأ (﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ﴾) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ عَلى أنَّهُ مُضارِعُ تُوُفِّيَ، مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ بِمَعْنى ماتَ بِتَأْوِيلِ إنَّهُ تَوَفّى أجْلَهُ أيِ اسْتَوْفاهُ. وأنا، وإنْ كُنْتُ التَزَمْتُ ألّا أتَعَرَّضَ لِلْقِراءاتِ الشّاذَّةِ، فَإنَّما ذَكَرْتُ هَذِهِ القِراءَةَ لِقِصَّةٍ طَرِيفَةٍ فِيها نُكْتَةٌ عَرَبِيَّةٌ، أشارَ إلَيْها في الكَشّافِ، وفَصَلَها السَّكّاكِيُّ في المِفْتاحِ، وهي أنَّ عَلِيًّا كانَ يُشَيِّعُ جِنازَةً، فَقالَ لَهُ قائِلٌ مَنِ المُتَوَفِّي بِلَفْظِ اسْمِ الفاعِلِ أيْ بِكَسْرِ الفاءِ سائِلًا عَنِ المُتَوَفّى - بِفَتْحِ الفاءِ - فَلَمْ يَقُلْ: فُلانٌ بَلْ قالَ (اللَّهُ) مُخَطِّئًا إيّاهُ، مُنَبِّهًا لَهُ بِذَلِكَ عَلى أنَّهُ يَحِقُّ أنْ يَقُولَ: مَنِ المُتَوَفّى بِلَفْظِ اسْمِ المَفْعُولِ، وما فَعَلَ ذَلِكَ إلّا لِأنَّهُ عَرَفَ مَنِ السّائِلِ أنَّهُ ما أوْرَدَ لَفْظَ المُتَوَفِّي عَلى الوَجْهِ الَّذِي يَكْسُوهُ جَزالَةٌ وفَخامَةٌ، وهو وجْهُ القِراءَةِ المَنسُوبَةِ إلَيْهِ - أيْ إلى عَلِيٍّ - والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم بِلَفْظِ بِناءِ الفاعِلِ عَلى إرادَةِ مَعْنى: (والَّذِينَ يَسْتَوْفُونَ مُدَّةَ أعْمارِهِمْ) . وفِي الكَشّافِ أنَّ القِصَّةَ وقَعَتْ مَعَ أبِي الأسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، وأنَّ عَلِيًّا لَمّا بَلَغَتْهُ أمَرَ أبا الأسْوَدِ أنْ يَضَعَ كِتابًا في النَّحْوِ، وقالَ: إنَّ الحِكايَةَ تُناقِضُها القِراءَةُ المَنسُوبَةُ إلى عَلِيٍّ، فَجَعَلَ القِراءَةَ مُسَلَّمَةً وتَرَدَّدَ في صِحَّةِ الحِكايَةِ، وعَنِ ابْنِ جِنِّي: أنَّ الحِكايَةَ رَواها أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ، قالَ ابْنُ جِنِّي: وهَذا عِنْدِي مُسْتَقِيمٌ لِأنَّهُ عَلى حَذْفِ المَفْعُولِ؛ أيْ والَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ أعْمارَهم أوْ آجالَهم، وحَذْفُ المَفْعُولِ كَثِيرٌ في القُرْآنِ وفَصِيحِ الكَلامِ وقالَ التَّفْتازانِيُّ: لَيْسَ المُرادَ أنَّ لِلْمُتَوَفّى مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما الإماتَةُ، وثانِيهُما الِاسْتِيفاءُ وأخْذُ الحَقِّ، بَلْ مَعْناهُ الِاسْتِيفاءُ وأخْذُ الحَقِّ لا غَيْرُ، لَكِنَّ عِنْدَ الِاسْتِعْمالِ قَدْ يُقَدَّرُ مَفْعُولُهُ النَّفْسَ فَيَكُونُ الفاعِلُ هو اللَّهَ تَعالى أوِ المَلِكَ، وهَذا الِاسْتِعْمالُ الشّائِعُ، وقَدْ يُقَدَّرُ مُدَّةَ العُمْرِ فَيَكُونُ الفاعِلُ هو المَيِّتَ لِأنَّهُ الَّذِي اسْتَوْفى مُدَّةَ عُمْرِهِ، وهَذا مِنَ المَعانِي الدَّقِيقَةِ الَّتِي لا يَتَنَبَّهُ لَها إلّا البُلَغاءُ، فَحِينَ عَرَفَ عَلِيٌّ مِنَ السّائِلِ عَدَمَ تَنَبُّهِهِ لِذَلِكَ لَمْ يَحْمِلْ كَلامُهُ عَلَيْهِ.


ركن الترجمة

Wives of men who die among you should wait (after their husbands death) for four months and ten days; and when the term is over there is no sin if they do what they like with themselves honourably, for God is aware of all that you do.

Ceux des vôtres que la mort frappe et qui laissent des épouses: celles-ci doivent observer une période d'attente de quatre mois et dix jours. Passé ce délai, on ne vous reprochera pas la façon dont elles disposeront d'elles-mêmes d'une manière convenable. Allah est Parfaitement Connaisseur de ce que vous faites.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :