موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الخميس 19 رمضان 1446 هجرية الموافق ل20 مارس 2025


الآية [24] من سورة  

فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا۟ وَلَن تَفْعَلُوا۟ فَٱتَّقُوا۟ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ


ركن التفسير

24 - ولما عجزوا عن ذلك قال تعالى (فإن لم تفعلوا) ما ذُكر لعجزكم (ولن تفعلوا) ذلك أبداً لظهور إعجازه - اعتراض - (فاتقوا) بالإيمان بالله وأنه ليس من كلام البشر (النار التي وقودها الناس) الكفار (والحجارة) كأصنامهم منها ، يعني مفرطة الحرارة تتقد بما ذكر ، لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه (أعدت) هُيِّئت (للكافرين) يعذبون بها ، جملة مستأنفة أو حال لازمة

ولهذا قال تعالى "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا" لن لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبدا وهذه أيضا معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبرا جازما قاطعا مقدما غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن وأني يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى قال الله تعالى "الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحادي ولا يداني فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء وأمر بكل خير ونهى عن كل شر كما قال تعالى "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا" أي صدقا في الإخبار وعدلا في الأحكام فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها كما قيل في الشعر إن أعذبه أكذبه. وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئا إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ثم تجد له فيه بيتا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة وسواء تكررت أم لا وكلما تكررت حلا وعلا لا يخلق عن كثرة الرد ولا يمل منه العلماء وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات فما ظنك بالقلوب الفاهمات وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ومشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" وقال "فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون" وقال في الترهيب "أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر" و "أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير" وقال في الزجر: "فكلا أخذنا بذنبه" وقال في الوعظ "أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون" إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء كما قال ابن مسعود وغيره من السلف إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن يا أيها الذين أمنوا فارعها سمعك فإنها خير يأمر به أو شر ينهى عنه ولهذا قال تعالى "يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" الآية وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم بشرت به وحذرت وأنذرت ودعت إلى فعل الخير واجتناب المنكرات وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى وثبتت على الطريقة المثلى وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم. ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما الذي كان أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" لفظ مسلم - وقوله صلى الله عليه وسلم "وإنما كان الذي أوتيته وحيا" أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ولله الحمد والمنة. وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة. فقال إن كان هذا القرآن معجزا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته فقد حصل المدعى وهو المطلوب وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له كان ذلك دليلا على أنه من عند الله لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر وإنا أعطيناك الكوثر. وقوله تعالى "فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين" أما الوقود بفتح الواو فهو ما يلقى في النار لاضرامها كالحطب ونحوه كما قال تعالى "وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا" وقال تعالى "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون" والمراد بالحجارة هي ههنا حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت أجارنا الله منها. وقال عبدالملك بن ميسرة الزراد عن عبدالرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن عبدالله بن مسعود في قوله تعالى "وقودها الناس والحجارة" قال هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين. رواه ابن جرير وهذا لفظه وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين. وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون به مع النار. وقال مجاهد حجارة من كبريت أنتن من الجيفة وقال أبو جعفر محمد بن علي حجارة من كبريت. وقال ابن جريج حجارة من كبريت أسود في النار. وقال لي عمرو بن دينار أصلب من هذه الحجارة وأعظم. وقيل المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" الآية حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول: قال لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمستنكر فجعلها هذه الحجارة أولى. وهذا الذي قاله ليس بقوي وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ولا سيما على ما ذكره السلف من إنها حجارة من كبريت معدة لذلك ثم إن أخذ النار بهذه الحجارة أيضا مشاهد وهذا الجص يكون أحجارا فيعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها وشدة ضرامها وقوة لهبها قال تعالى "كلما خبت زدناهم سعيرا" وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها قال ليكون ذلك أشد عذابا لأهلها. قال: وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "كل مؤذ في النار" وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف. ثم قال القرطبي وقد فسر بمعنيين أحدهما أن كل من آذى النار دخل النار والآخر أن كل ما يؤذي في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك. وقوله تعالى "أعدت للكافرين" الأظهر أن الضمير في أعدت عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة ويحتمل عوده على الحجارة كما قال ابن مسعود ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان وأعدت أي أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أعدت للكافرين أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله تعالى "أعدت" أي أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها "تحاجت الجنة والنار" ومنها "استأذنت النار ربها فقالت رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف" وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها" وهو عند مسلم وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس. "تنبيه ينبغي الوقوف عليه" قوله تعالى "فأتوا بسورة من مثله" وقوله في سورة يونس "بسورة مثله" يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أو قصيرة لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كـما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه. فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها وهذا لا أعلم فيه نزاعا بين الناس سلفا وخلفا. وقد قال الرازي في تفسيره: فإن قيل قوله تعالى "فأتوا بسورة من مثله" يتناول سورة الكوثر وسورة العصر وقل يا أيها الكافرون ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم إن الأتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار البشر كان مكابرة والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين "قلنا" فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني وقلنا إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود وإن لم يكن كذلك كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزا فعلى التقديرين يحصل المعجز هذا لفظه بحروفه والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة قال الشافعي رحمه الله لو تدبر الناس هذه السور لكفتهم "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين فقال له عمرو لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال وما هي فقال "والعصر إن الإنسان لفي خسر" ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل علي مثلها فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حقر فقر ثم قال كيف ترى يا عمرو فقال له عمرو والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب.

(p-٣٤٢)﴿فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا فاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى الشَّرْطِ وجَوابِهِ، أيْ فَإنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ أوْ أتَيْتُمْ بِما زَعَمْتُمْ أنَّهُ سُورَةٌ - ولَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ شُهَداؤُكم عَلى التَّفْسِيرَيْنِ - فاعْلَمُوا أنَّكُمُ اجْتَرَأْتُمْ عَلى اللَّهِ بِتَكْذِيبِ رَسُولِهِ المُؤَيَّدِ بِمُعْجِزَةِ القُرْآنِ فاتَّقُوا عِقابَهُ المُعَدَّ لِأمْثالِكم. ومَفْعُولُ (تَفْعَلُوا) مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّياقُ، أيْ فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ أيِ الإتْيانَ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلى حَذْفِ المَفْعُولِ في مِثْلِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالاتَهُ﴾ [المائدة: ٦٧]) في سُورَةِ المائِدَةِ. وجِيءَ بِإنِ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي الأصْلُ فِيها عَدَمُ القَطْعِ مَعَ أنَّ عَدَمَ فِعْلِهِمْ هو الأرْجَحُ بِقَرِينَةِ مَقامِ التَّحَدِّي والتَّعْجِيزِ؛ لِأنَّ القَصْدَ إظْهارُ هَذا الشَّرْطِ في صُورَةِ النّادِرِ مُبالِغَةً في تَوْفِيرِ دَواعِيهِمْ عَلى المُعارَضَةِ بِطَرِيقِ المُلايَنَةِ والتَّحْرِيضِ، واسْتِقْصاءً لَهم في إمْكانِها، وذَلِكَ مِنِ اسْتِنْزالِ طائِرِ الخَصْمِ، وقَيْدٍ لِأوابِدِ مُكابَرَتِهِ، ومُجادَلَةٍ لَهُ بِالَّتِي هي أحْسَنُ، حَتّى إذا جاءَ لِلْحَقِّ وأنْصَفَ مِن نَفْسِهِ يَرْتَقِي مَعَهُ في دَرَجاتِ الجَدَلِ؛ ولِذَلِكَ جاءَ بَعْدَهُ ﴿ولَنْ تَفْعَلُوا﴾ كَأنَّ المُتَحَدِّيَ يَتَدَبَّرُ في شَأْنِهِمْ، ويَزِنُ أمْرَهم فَيَقُولُ أوَّلًا ائْتُوا بِسُورَةٍ، ثُمَّ يَقُولُ قَدِّرُوا أنَّكم لا تَسْتَطِيعُونَ الإتْيانَ بِمِثْلِهِ وأعِدُّوا لَهاتِهِ الحالَةِ مَخْلَصًا مِنها، ثُمَّ يَقُولُ: ها قَدْ أيْقَنْتُ وأيْقَنْتُمْ أنَّكم لا تَسْتَطِيعُونَ الإتْيانَ بِمِثْلِهِ. مَعَ ما في هَذا مِن تَوْفِيرِ دَواعِيهِمْ عَلى المُعارَضَةِ بِطَرِيقِ المُخاشَنَةِ والتَّحْذِيرِ. ولِذَلِكَ حَسُنَ مَوْقِعُ (لَنْ) الدّالَّةِ عَلى نَفْيِ المُسْتَقْبَلِ، فالنَّفْيُ بِها آكَدُ مِنَ النَّفْيِ بِلا، ولِهَذا قالَ سِيبَوَيْهِ: ”لا“ لِنَفْيِ ”يَفْعَلُ“، و”لَنْ“ لِنَفْيِ ”سَيَفْعَلُ“ فَقَدْ قالَ الخَلِيلُ: إنَّ ”لَنْ“ حَرْفٌ مُخْتَزَلٌ مِن لا النّافِيَةِ وأنِ الِاسْتِقْبالِيَّةِ. وهو رَأْيٌ حَسَنٌ، وإذا كانَتْ لِنَفْيِ المُسْتَقْبَلِ تَدُلُّ عَلى النَّفْيِ المُؤَيَّدِ غالِبًا لِأنَّهُ لَمّا لَمْ يُوَقَّتْ بِحَدٍّ مِن حُدُودِ المُسْتَقْبَلِ دَلَّ عَلى اسْتِغْراقِ أزْمِنَتِهِ إذْ لَيْسَ بَعْضُها أوْلى مِن بَعْضٍ، ومِن أجْلِ ذَلِكَ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِإفادَتِها التَّأْبِيدَ حَقِيقَةً أوْ مَجازًا وهو التَّأْكِيدُ، وقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مَواقِعَها في القُرْآنِ وكَلامِ العَرَبِ فَوَجَدْتُها لا يُؤْتى بِها إلّا في مَقامِ إرادَةِ النَّفْيِ المُؤَكَّدِ أوِ المُؤَبَّدِ. وكَلامُ الخَلِيلِ في أصْلِ وضْعِها يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَمَن قالَ مِنَ النُّحاةِ أنَّها لا تُفِيدُ تَأْكِيدًا ولا تَأْبِيدًا فَقَدْ كابَرَ. وقَوْلُهُ ﴿ولَنْ تَفْعَلُوا﴾ مِن أكْبَرِ مُعْجِزاتِ القُرْآنِ فَإنَّها مُعْجِزَةٌ مِن جِهَتَيْنِ: الأُولى أنَّها أثْبَتَتْ أنَّهم لَمْ يُعارِضُوا لِأنَّ ذَلِكَ أبْعَثُ لَهم عَلى المُعارَضَةِ لَوْ كانُوا قادِرِينَ، وقَدْ تَأكَّدَ ذَلِكَ كُلُّهُ (p-٣٤٣)بِقَوْلِهِ قَبْلُ: (﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣]) وذَلِكَ دَلِيلُ العَجْزِ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِهِ فَيَدُلُّ عَلى أنَّهُ كَلامُ مَن قُدْرَتُهُ فَوْقَ طَوْقِ البَشَرِ. الثّانِيَةُ أنَّهُ أخْبَرَ بِأنَّهم لا يَأْتُونَ بِذَلِكَ في المُسْتَقْبَلِ فَما أتى أحَدٌ مِنهم ولا مِمَّنْ خَلَفَهم بِما يُعارِضُ القُرْآنَ فَكانَتْ هاتِهِ الآيَةُ مُعْجِزَةً مِن نَوْعِ الإعْجازِ بِالإخْبارِ عَنِ الغَيْبِ مُسْتَمِرَّةً عَلى تَعاقُبِ السِّنِينَ، فَإنَّ آياتِ المُعارَضَةِ الكَثِيرَةَ في القُرْآنِ قَدْ قُرِعَتْ بِها أسْماعُ المُعانِدِينَ مِنَ العَرَبِ الَّذِينَ أبَوْا تَصْدِيقَ الرَّسُولِ، وتَواتَرَتْ بِها الأخْبارُ بَيْنَهم وسارَتْ بِها الرُّكْبانُ بِحَيْثُ لا يَسَعُ ادِّعاءَ جَهْلِها - ودَواعِي المُعارَضَةِ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ - فَفي خاصَّتِهِمْ بِما يَأْنَسُونَهُ مِن تَأهُّلِهِمْ لِقَوْلِ الكَلامِ البَلِيغِ وهم شُعَراؤُهم وخُطَباؤُهم. ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌وكانَتْ لَهم مَجامِعُ التَّقاوُلِ ونَوادِي التَّشاوُرِ والتَّعاوُنِ، وفي عامَّتِهِمْ وصَعالِيكِهِمْ بِحِرْصِهِمْ عَلى حَثِّ خاصَّتِهِمْ لِدَفْعِ مَسَبَّةِ الغَلَبَةِ عَنْ قَبائِلِهِمْ ودِينِهِمْ والِانْتِصارِ لِآلِهَتِهِمْ وإيقافِ تَيّارِ دُخُولِ رِجالِهِمْ في دِينِ الإسْلامِ. مَعَ ما عُرِفَ بِهِ العَرَبِيُّ مِن إباءَةِ الغَلَبَةِ وكَراهَةِ الِاسْتِكانَةِ. فَما أمَسَكَ الكافَّةُ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِ القُرْآنِ إلّا لِعَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وذَلِكَ حُجَّةٌ عَلى أنَّهُ مَنَزَّلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، ولَوْ عارَضَهُ واحِدٌ أوْ جَماعَةٌ لَطارُوا بِهِ فَرَحًا وأشاعُوهُ وتَناقَلُوهُ، فَإنَّهُمُ اعْتادُوا تَناقُلَ أقْوالِ بُلَغائِهِمْ مِن قَبْلِ أنْ يُغْرِيَهُمُ التَّحَدِّي فَما ظَنُّكَ بِهِمْ لَوْ ظَفِرُوا بِشَيْءٍ مِنهُ يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْهم هَذِهِ الِاسْتِكانَةَ، وعَدَمُ العُثُورِ عَلى شَيْءٍ يُدَّعى مِن ذَلِكَ يُوجِبُ اليَقِينَ بِأنَّهم أمْسَكُوا عَنْ مُعارَضَتِهِ، وسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ في آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ ٠ و(تَفْعَلُوا) الأوَّلُ مَجْزُومٌ بِلَمْ لا مَحالَةَ؛ لِأنَّ ”إنِ“ الشُّرْطِيَّةَ دَخَلَتْ عَلى الفِعْلِ بَعْدَ اعْتِبارِهِ مَنفِيًّا فَيَكُونُ مَعْنى الشَّرْطِ مُتَسَلِّطًا عَلى لَمْ وفِعْلِها، فَظَهَرَ أنْ لَيْسَ هَذا مُتَنازِعٌ بَيْنَ ”إنْ“ و”لَمْ“ في العَمَلِ في (تَفْعَلُوا) لِاخْتِلافِ المَعْنَيَيْنِ، فَلا يُفْرَضُ فِيهِ الِاخْتِلافُ الواقِعُ بَيْنَ النُّحاةِ في صِحَّةِ تَنازُعِ الحَرْفَيْنِ مَعْمُولًا واحِدًا كَما تَوَهَّمَهُ ابْنُ العِلْجِ أحَدُ نُحاةِ الأنْدَلُسِ نَسَبَهُ إلَيْهِ في التَّصْرِيحِ عَلى التَّوْضِيحِ عَلى أنَّ الحَقَّ أنَّهُ لا مانِعَ مِنهُ مَعَ اتِّحادِ الِاقْتِضاءِ مِن حَيْثُ المَعْنى، وقَدْ أخَذَ جَوازَهُ مِن كَلامِ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ في المَسائِلِ الدِّمَشْقِيّاتِ ومِن كِتابِ التَّذْكِرَةِ لَهُ أنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الرّاجِزِ: ؎حَتّى تَراها وكَأنَّ وكَأنْ أعْناقُها مُشَرَّفاتٌ في قَرَنْ مِن قَبِيلِ التَّنازُعِ بَيْنَ ”كَأنَّ“ المُشَدَّدَةِ ”وكَأنِ“ المُخَفَّفَةِ. وقَوْلُهُ ﴿فاتَّقُوا النّارَ﴾ أثَرٌ لِجَوابِ الشَّرْطِ في قَوْلِهِ ﴿فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ دَلَّ عَلى جُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ (p-٣٤٤)لِلْإيجازِ لِأنَّ جَوابَ الشَّرْطِ في المَعْنى هو ما جِيءَ بِالشَّرْطِ لِأجْلِهِ وهو مَفادُ قَوْلِهِ ﴿وإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ [البقرة: ٢٣]، فَتَقْدِيرُ جَوابِ قَوْلِهِ: (﴿فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾) أنَّهُ: فَأيْقِنُوا بِأنَّ ما جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ مُنَزَّلٌ مِن عِنْدِنا وأنَّهُ صادِقٌ فِيما أمَرَكم بِهِ مِن وُجُوبِ عِبادَةِ اللَّهِ وحْدَهُ واحْذَرُوا - إنْ لَمْ تَمْتَثِلُوا أمْرَهُ - عَذابَ النّارِ فَوَقَعَ قَوْلُهُ ﴿فاتَّقُوا النّارَ﴾ مَوْقِعَ الجَوابِ لِدَلالَتِهِ عَلَيْهِ وإيذائِهِ بِهِ، وهو إيجازٌ بَدِيعٌ، وذَلِكَ أنَّ اتِّقاءَ النّارِ لَمْ يَكُنْ مِمّا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِن قَبْلُ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالبَعْثِ، فَإذا تَبَيَّنَ صِدْقُ الرَّسُولِ لَزِمَهُمُ الإيمانُ بِالبَعْثِ والجَزاءِ. وإنَّما عَبَّرَ بِـ (﴿لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا﴾) دُونَ: فَإنْ لَمْ تَأْتُوا بِذَلِكَ ولَنْ تَأْتُوا، كَما في قَوْلِهِ تَعالى (﴿قالَ ائْتُونِي بِأخٍ لَكم مِن أبِيكُمْ﴾ [يوسف: ٥٩]) إلى قَوْلِهِ (﴿فَإنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ﴾ [يوسف: ٦٠]) إلَخْ لِأنَّ في لَفْظِ (تَفْعَلُوا) هُنا مِنَ الإيجازِ ما لَيْسَ مِثْلُهُ في الآيَةِ الأُخْرى إذِ الإتْيانُ المُتَحَدّى بِهِ في هَذِهِ الآيَةِ إتْيانٌ مُكَيَّفٌ بِكَيْفِيَّةٍ خاصَّةٍ وهي كَوْنُ المَأْتِيِّ بِهِ مِثْلَ هَذا القُرْآنِ ومَشْهُودًا عَلَيْهِ ومُسْتَعانًا عَلَيْهِ بِشُهَدائِهِمْ فَكانَ في لَفْظِ (تَفْعَلُوا) مِنَ الإحاطَةِ بِتِلْكَ الصِّفاتِ والقُيُودِ إيجازٌ لا يَقْتَضِيهِ الإتْيانُ الَّذِي في سُورَةِ يُوسُفَ. والوَقُودُ بِفَتْحِ الواوِ اسْمٌ لِما يُوقَدُ بِهِ، وبِالضَّمِّ مَصْدَرٌ، وقِيلَ بِالعَكْسِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ حُكِيَ الضَّمُّ والفَتْحُ في كُلٍّ مِنَ الحَطَبِ والمَصْدَرِ. وقِياسُ ”فَعُولٍ“ بِفَتْحِ الفاءِ أنَّهُ اسْمٌ لِما يُفْعَلُ بِهِ كالوَضُوءِ والحَنُوطِ والسَّعُوطِ والوَجُورِ إلّا سَبْعَةَ ألْفاظٍ ورَدَتْ بِالفَتْحِ لِلْمَصْدَرِ وهي: الوَلُوعُ والقَبُولُ والوَضُوءُ والطَّهُورُ والوَزُوعُ واللَّغُوبُ والوَقُودُ. والفَتْحُ هُنا هو المُتَعَيَّنُ لِأنَّ المُرادَ الِاسْمُ، وقُرِئَ بِالضَّمِّ في الشّاذِّ، وذَلِكَ عَلى اعْتِبارِ الضَّمِّ مَصْدَرًا أوْ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ ذَوُو وقُودِها النّاسُ. والنّاسُ أُرِيدَ بِهِ صِنْفٌ مِنهم وهُمُ الكافِرُونَ، فَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الِاسْتِغْراقِ العُرْفِيِّ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ العَهْدِ؛ لِأنَّ كَوْنَهُمُ المُشْرِكِينَ قَدْ عُلِمَ مِن آياتٍ أُخْرى كَثِيرَةٍ. والحِجارَةُ جَمْعُ حَجَرٍ عَلى غَيْرِ قِياسٍ وهو وزْنٌ نادِرٌ في كَلامِهِمْ جَمَعُوا حَجَرًا عَنْ أحْجارٍ وألْحَقُوا بِهِ هاءَ التَّأْنِيثِ قالَ سِيبَوَيْهِ كَما ألْحَقُوها بِالبُعُولَةِ والفُحُولَةِ. وعَنْ أبِي الهَيْثَمِ أنَّ العَرَبَ تُدْخِلُ الهاءَ في كُلِّ جَمْعٍ عَلى فِعالٍ أوْ فُعُولٍ لِأنَّهُ إذا وقَفَ عَلَيْهِ اجْتَمَعَ فِيهِ عِنْدَ الوَقْفِ ساكِنانِ أحَدُهُما الألِفُ السّاكِنَةُ والثّانِي الحَرْفُ المَوْقُوفُ عَلَيْهِ أيِ اسْتَحْسَنُوا أنْ يَكُونَ خَفِيفًا إذا وقَفُوا عَلَيْهِ، ولَيْسَ هو مِنِ اجْتِماعِ السّاكِنَيْنِ المَمْنُوعِ، ومِن ذَلِكَ عِظامَةٌ ونِفارَةٌ وفِحالَةٌ وحِبالَةٌ وذِكارَةٌ وفُحُولَةٌ وحُمُولَةٌ جُمُوعًا وبِكارَةٌ جَمْعُ ”بَكْرٍ“ بِفَتْحِ الباءِ، ومِهارَةٌ جَمْعُ مُهْرٍ (p-٣٤٥)ومَعْنى وقُودُها الحِجارَةُ أنَّ الحَجَرَ جُعِلَ لَها مَكانَ الحَطَبِ لِأنَّهُ إذا اشْتَعَلَ صارَ أشَدَّ إحْراقًا وأبْطَأ انْطِفاءً، ومِنَ الحِجارَةِ أصْنامُهم فَإنَّها أحْجارٌ، وقَدْ جاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] وفي هَذِهِ الآيَةِ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ المُخاطَبِينَ، والمَعْنى المُعَرَّضُ بِهِ: فاحْذَرُوا أنْ تَكُونُوا أنْتُمْ وما عَبَدْتُمْ وقُودَ النّارِ، وقَرِينَةُ التَّعْرِيضِ قَوْلُهُ: (فاتَّقُوا) وقَوْلُهُ: (والحِجارَةُ) لِأنَّهم لَمّا أُمِرُوا بِاتِّقائِها أمْرَ تَحْذِيرٍ عَلِمُوا أنَّهم هُمُ النّاسُ، ولَمّا ذُكِرَتِ الحِجارَةُ عَلِمُوا أنَّها أصْنامُهم، فَلَزِمَ أنْ يَكُونَ النّاسُ هم عُبّادَ تِلْكَ الأصْنامِ، فالتَّعْرِيضُ هُنا مُتَفاوِتٌ فالأوَّلُ مِنهُ بِواسِطَةٍ واحِدَةٍ والثّانِي بِواسِطَتَيْنِ. وحِكْمَةُ إلْقاءِ حِجارَةِ الأصْنامِ في النّارِ مَعَ أنَّها لا تَظْهَرُ فِيها حِكْمَةُ الجَزاءِ أنَّ ذَلِكَ تَحْقِيرٌ لَها وزِيادَةُ إظْهارِ خَطَأِ عَبَدَتِها فِيما عَبَدُوا، وتَكَرَّرَ لِحَسْرَتِهِمْ عَلى إهانَتِها، وحَسْرَتِهِمْ أيْضًا عَلى أنْ كانَ ما أعَدُّوهُ سَبَبًا لِعِزِّهِمْ وفَخْرِهِمْ سَبَبًا لِعَذابِهِمْ، وما أعَدُّوهُ لِنَجاتِهِمْ سَبَبًا لِعَذابِهِمْ، قالَ تَعالى ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] الآيَةَ. وتَعْرِيفُ النّارِ لِلْعَهْدِ، ووَصْفُها بِالمَوْصُولِ المُقْتَضِي عِلْمَ المُخاطَبِينَ بِالصِّلَةِ كَما هو الغالِبُ في صِلَةِ المَوْصُولِ لِتَنْزِيلِ الجاهِلِ مَنزِلَةَ العالَمِ بِقَصْدِ تَحْقِيقِ وُجُودِ جَهَنَّمَ، أوْ لِأنَّ وصْفَ جَهَنَّمَ بِذَلِكَ قَدْ تَقَرَّرَ فِيما نَزَلَ قَبْلُ مِنَ القُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ التَّحْرِيمِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكم وأهْلِيكم نارًا وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ﴾ [التحريم: ٦] وإنْ كانَتْ سُورَةُ التَّحْرِيمِ مَعْدُودَةً في السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ البَقَرَةِ فَإنَّ في صِحَّةِ ذَلِكَ العَدِّ نَظَرًا، أوْ لِأنَّهُ قَدْ عُلِمَ ذَلِكَ عِنْدَهم مِن أخْبارِ أهْلِ الكِتابِ. وفِي جَعْلِ النّاسِ والحِجارَةِ وقُودًا دَلِيلٌ عَلى أنَّ نارَ جَهَنَّمَ مُشْتَعِلَةٌ مِن قَبْلِ زَجِّ النّاسِ فِيها وأنَّ النّاسَ والحِجارَةَ إنَّما تَتَّقِدُ بِها لِأنَّ نارَ جَهَنَّمَ هي عُنْصُرُ الحَرارَةِ كُلِّها كَما أشارَ إلَيْهِ حَدِيثُ المُوَطَّأِ: «إنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ فَإذا اتَّصَلَ بِها الآدَمِيُّ اشْتَعَلَ ونَضِجَ جِلْدُهُ وإذا اتَّصَلَتْ بِها الحِجارَةُ صُهِرَتْ» . وفي الِاحْتِراقِ بِالسَّيّالِ الكَهْرَبائِيِّ نَمُوذَجٌ يُقَرِّبُ ذَلِكَ لِلنّاسِ اليَوْمَ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ جَهَنَّمَ تَتَّقِدُ بِحِجارَةِ الكِبْرِيتِ فَيَكُونُ نَمُوذَجَها البَراكِينُ المُلْتَهِبَةُ. وقَوْلُهُ ﴿أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ اسْتِئْنافٌ لَمْ يُعْطَفْ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ مَقْصُودٌ بِالخَبَرِيَّةِ لِأنَّهُ لَوْ عُطِفَ لَأوْهَمَ العَطْفُ أنَّهُ صِفَةٌ ثانِيَةٌ أوْ صِلَةٌ أُخْرى وجَعَلَهُ خَبَرًا أهْوَلَ وأفْخَمَ وأدْخَلَ لِلرَّوْعِ في قُلُوبِ المُخاطَبِينَ وهو تَعْرِيضٌ بِأنَّها أُعِدَّتْ لَهُمُ ابْتِداءً لِأنَّ المُحاوَرَةَ مَعَهم. (p-٣٤٦)وهَذِهِ الآيَةُ قَدْ أثْبَتَتْ إعْجازَ القُرْآنِ إثْباتًا مُتَواتِرًا امْتازَ بِهِ القُرْآنُ عَنْ بَقِيَّةِ المُعْجِزاتِ، فَإنَّ سائِرَ المُعْجِزاتِ لِلْأنْبِياءِ ولِنَبِيِّنا عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما ثَبَتَتْ بِأخْبارِ آحادٍ وثَبَتَ مِن جَمِيعِها قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِها وهو وُقُوعُ أصْلِ الإعْجازِ بِتَواتُرٍ مَعْنَوِيٍّ مِثْلُ كَرَمِ حاتِمٍ وشَجاعَةِ عَمْرٍو فَأمّا القُرْآنُ فَإعْجازُهُ ثَبَتَ بِالتَّواتُرِ النَّقْلِيِّ، أدْرَكَ مُعْجِزَتَهُ العَرَبُ بِالحِسِّ. وأدْرَكَها عامَّةُ غَيْرِهِمْ بِالنَّقْلِ. وقَدْ تُدْرِكُها الخاصَّةُ مِن غَيْرِهِمْ بِالحِسِّ كَذَلِكَ عَلى ما سَنُبَيِّنُهُ. أمّا إدْراكُ العَرَبِ مُعْجِزَةَ القُرْآنِ فَظاهِرٌ مِن هَذِهِ الآيَةِ وأمْثالِها، فَإنَّهم كَذَّبُوا النَّبِيءَ ﷺ وناوَءُوهُ وأعْرَضُوا عَنْ مُتابَعَتِهِ فَحاجَّهم عَلى إثْباتِ صِدْقِهِ بِكَلامٍ أوْحاهُ اللَّهُ إلَيْهِ، وجَعَلَ دَلِيلَ أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ عَجْزَهم عَنْ مُعارَضَتِهِ، فَإنَّهُ مُرَكَّبٌ مِن حُرُوفِ لُغَتِهِمْ ومِن كَلِماتِها وعَلى أسالِيبِ تَراكِيبِها، وأوْدَعَ مِنَ الخَصائِصِ البَلاغِيَّةِ ما عَرَفُوا أمْثالَهُ في كَلامِ بُلَغائِهِمْ مِنَ الخُطَباءِ والشُّعَراءِ، ثُمَّ حاكَمَهم إلى الفَصْلِ في أمْرِ تَصْدِيقِهِ أوْ تَكْذِيبِهِ بِحُكْمٍ سَهْلٍ وعَدْلٍ وهو مُعارَضَتُهم لِما أتى بِهِ أوْ عَجْزُهم عَنْ ذَلِكَ نَطَقَ بِذَلِكَ القُرْآنُ في غَيْرِ مَوْضِعٍ كَهاتِهِ الآيَةِ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا المُعارَضَةَ فَكانَ عَجْزُهم عَنِ المُعارَضَةِ لا يَعْدُو أمْرَيْنِ: إمّا أنْ يَكُونَ عَجْزُهم لِأنَّ القُرْآنَ بَلَغَ فِيما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الخَصائِصِ البَلاغِيَّةِ الَّتِي يَقْتَضِيها الحالُ حَدَّ الإطاقَةِ لِأذْهانِ بُلَغاءِ البَشَرِ بِالإحاطَةِ بِهِ، بِحَيْثُ لَوِ اجْتَمَعَتْ أذْهانُهم وانْقَدَحَتْ قَرائِحُهم وتَآمَرُوا وتَشاوَرُوا في نَوادِيهِمْ وبِطاحِهِمْ وأسْواقِ مَوْسِمِهِمْ، فَأبْدى كُلُّ بَلِيغٍ ما لاحَ لَهُ مِنَ النُّكَتِ والخَصائِصِ لَوَجَدُوا كُلَّ ذَلِكَ قَدْ وفَتْ بِهِ آياتُ القُرْآنِ في مِثْلِهِ وأتَتْ بِأعْظَمَ مِنهُ، ثُمَّ لَوْ لَحِقَ بِهِمْ لاحِقٌ، وخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ فَأبْدى ما لَمْ يُبْدُوهُ مِنَ النُّكَتِ لَوَجَدَ تِلْكَ الآيَةَ الَّتِي انْقَدَحَتْ فِيها أفْهامُ السّابِقَيْنِ وأحْصَتْ ما فِيها مِنَ الخَصائِصِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلى ما لاحَ لِهَذا الأخِيرِ وأوْفَرَ مِنهُ، فَهَذا هو القَدْرُ الَّذِي أدْرَكَهُ بُلَغاءُ العَرَبِ بِفِطَرِهِمْ، فَأعْرَضُوا عَنْ مُعارَضَتِهِ عِلْمًا بِأنَّهم لا قِبَلَ لَهم بِمِثْلِهِ، وقَدْ كانُوا مِن عُلُوِّ الهِمَّةِ ورَجاحَةِ الرَّأْيِ بِحَيْثُ لا يُعَرِّضُونَ أنْفُسَهم لِلِافْتِضاحِ ولا يَرْضَوْنَ لِأنْفُسِهِمْ بِالِانْتِقاصِ، لِذَلِكَ رَأوُا الإمْساكَ عَنِ المُعارَضَةِ أجْدى بِهِمْ واحْتَمَلُوا النِّداءَ عَلَيْهِمْ بِالعَجْزِ عَنِ المُعارَضَةِ في مِثْلِ هَذِهِ الآيَةِ، لَعَلَّهم رَأوْا أنَّ السُّكُوتَ يَقْبَلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِالأنَفَةِ ما لا تَقْبَلُهُ المُعارَضَةُ القاصِرَةُ عَنْ بَلاغَةِ القُرْآنِ فَثَبَتَ أنَّهُ مُعْجِزٌ لِبُلُوغِهِ حَدًّا لا يَسْتَطِيعُهُ البَشَرُ، فَكانَ هَذا الكَلامُ خارِقًا لِلْعادَةِ ودَلِيلًا عَلى أنَّ اللَّهَ أوْجَدَهُ كَذَلِكَ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلى صِدْقِ الرَّسُولِ، فالعَجْزُ عَنِ المُعارَضَةِ لِهَذا الوَجْهِ كانَ لِعَدَمِ القُدْرَةِ عَلى الإتْيانِ (p-٣٤٧)بِمِثْلِهِ، وهَذا هو رَأْيُ جُمْهُورِ أهْلِ السُّنَّةِ والمُعْتَزِلَةِ وأعْيانِ الأشاعِرَةِ مِثْلِ أبِي بَكْرٍ الباقِلّانِيِّ وعَبْدِ القاهِرِ الجُرْجانِيِّ وهو المَشْهُورُ عَنِ الأشْعَرِيِّ. وقَدْ يَجُوزُ أنْ يَكُونُوا قادِرِينَ عَلى الإتْيانِ بِمِثْلِهِ، مُمْكِنَةً مِنهُمُ المُعارَضَةُ ولَكِنَّهم صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنِ التَّصَدِّي لَها مَعَ تَوَفُّرِ الدَّواعِي عَلى ذَلِكَ، فَيَكُونُ صَدُّهم عَنْ ذَلِكَ - مَعَ اخْتِلافِ أحْوالِهِمْ - أمْرًا خارِقًا لِلْعادَةِ أيْضًا وهو دَلِيلُ المُعْجِزَةِ، وهَذا مَذْهَبٌ مِن قَوْلٍ ذَهَبَ إلَيْهِ فَرِيقٌ، وقَدْ ذَكَرَهُ أبُو بَكْرٍ الباقِلّانِيُّ في كِتابِهِ في إعْجازِ القُرْآنِ ولَمْ يُعَيِّنْ لَهُ قائِلًا وقَدْ نَسَبَهُ التَّفْتَزانِيُّ في كِتابِ المَقاصِدِ إلى القائِلِينَ: إنَّ الإعْجازَ بِالصِّرْفَةِ وهو قَوْلُ النَّظّامِ مِنَ المُعْتَزِلَةِ وكَثِيرٍ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، ونَسَبَهُ الخَفاجِيُّ إلى أبِي إسْحاقَ الإسْفَرائِينِيِّ ونَسَبَهُ عِياضٌ إلى أبِي الحَسَنِ الأشْعَرِيِّ ولَكِنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ عَنْهُ، وقالَ بِهِ الشَّرِيفُ المُرْتَضى مِنَ الشِّيعَةِ كَما في المَقاصِدِ، وهو مَعَ كَوْنِهِ كافِيًا في أنَّ عَجْزَهم عَلى المُعارَضَةِ بِتَعْجِيزِ اللَّهِ إيّاهم هو مَسْلَكٌ ضَعِيفٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى وُجُوهِ إعْجازِ القُرْآنِ تَفْصِيلًا في المُقَدِّمَةِ العاشِرَةِ مِن مُقَدِّماتِ هَذا التَّفْسِيرِ. فَإنْ قُلْتَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَرْكُ العَرَبِ لِلْمُعارَضَةِ تَعاجُزًا لا عَجْزًا. وبَعْدُ فَمَن آمَنّا أنْ يَكُونَ العَرَبُ قَدْ عارَضُوا القُرْآنَ ولَمْ يُنْقَلْ إلَيْنا ما عارَضُوا بِهِ. قُلْتُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ فِعْلُهم ذَلِكَ تَعاجُزًا؛ فَإنَّ مُحَمَّدًا ﷺ بُعِثَ في أُمَّةٍ مُناوِئَةٍ لَهُ مُعادِيَةٍ لا كَما بُعِثَ مُوسى في بَنِي إسْرائِيلَ مُوالِينَ مُعاضِدِينَ لَهُ ومُشايِعِينَ، فَكانَتِ العَرَبُ قاطِبَةً مُعارِضَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ إذْ كَذَّبُوهُ ولَمَزُوهُ بِالجُنُونِ والسِّحْرِ وغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَتِّبِعْهُ مِنهم إلّا نَفَرٌ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفَونَ بَيْنَ قَوْمِهِمْ لا نَصِيرَ لَهم في أوَّلِ الدَّعْوَةِ، ثُمَّ كانَ مِن أمْرِ قَوْمِهِ أنْ قاطَعُوهُ ثُمَّ أمَرُوهُ بِالخُرُوجِ بَيْنَ هَمٍّ بِقَتْلِهِ واقْتِصارٍ عَلى إخْراجِهِ، كُلُّ هَذا ثَبَتَ عَنْهم في أحادِيثِهِمْ وأقْوالِهِمُ المَنقُولَةِ نَقْلًا يَسْتَحِيلُ تَواطُؤُنا عَلَيْهِ عَلى الكَذِبِ، ودامُوا عَلى مُناوَأتِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ كَذَلِكَ يَصُدُّونَهُ عَنِ الحَجِّ ويَضْطَهِدُونَ أتْباعَهُ إلى آخِرِ ما عُرِفَ في التّارِيخِ والسِّيَرِ، ولَمْ تَكُنْ تِلْكَ المُناوَأةُ في أمَدٍ قَصِيرٍ يُمْكِنُ في خِلالِهِ كَتْمُ الحَوادِثِ وطَيُّ نَشْرِ المُعارَضَةِ، فَإنَّها مُدَّةُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً إلى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ. (p-٣٤٨)لا جَرَمَ أنَّ أقْصى رَغْبَةٍ لَهم في تِلْكَ المُدَّةِ هي إظْهارُ تَكْذِيبِهِ انْتِصارًا لِأنْفُسِهِمْ ولِآلِهَتِهِمْ وتَظاهُرًا بِالنَّصْرِ بَيْنَ قَبائِلِ العَرَبِ، كُلُّ هَذا ثَبَتَ بِالتَّواتُرِ عِنْدَ جَمِيعِ الأُمَمِ المُجاوِرَةِ لَهم مِن فُرْسٍ ورُومٍ وقِبْطٍ وأحْباشٍ. ولا جَرَمَ أنَّ القُرْآنَ قَصَّرَ مَعَهم مَسافَةَ المُجادَلَةَ وهَيَّأ لَهم طَرِيقَ إلْزامِهِ بِحَقِّيَّةِ ما نَسَبُوهُ إلَيْهِ فَأتاهم كِتابًا مُنَزَّلًا نُجُومًا ودَعاهم إلى المُعارَضَةِ بِالإتْيانِ بِقِطْعَةٍ قَصِيرَةٍ مِثْلِهِ وأنْ يَجْمَعُوا لِذَلِكَ شُهَداءَهم وأعْوانَهم، نَطَقَ بِذَلِكَ هَذا الكِتابُ، كُلُّ هَذا ثَبَتَ بِالتَّواتُرِ، فَإنَّ هَذا الكِتابَ مُتَواتِرٌ بَيْنَ العَرَبِ ولا يَخْلُو عَنِ العِلْمِ بِوُجُودِهِ أهْلُ الدِّينِ مِنَ الأُمَمِ. وإنَّ اشْتِمالَهُ عَلى طَلَبِ المُعارَضَةِ ثابِتٌ بِالتَّواتُرِ المَعْلُومِ لَدَيْنا، فَإنَّهُ هو هَذا الكِتابُ الَّذِي آمَنَ المُسْلِمُونَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ بِهِ وحَفِظُوهُ وآمَنَ بِهِ جَمِيعُ العَرَبِ أيْضًا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَألِفُوهُ كَما هو اليَوْمَ، شَهِدَتْ عَلى ذَلِكَ الأجْيالُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ. وقَدْ كانَ هَؤُلاءِ المُتَحَدُّونَ المَدْعُوُّونَ إلى المُعارَضَةِ بِالمَكانَةِ المَعْرُوفَةِ مِن أصالَةِ الرَّأْيِ واسْتِقامَةِ الأذْهانِ، ورُجْحانِ العُقُولِ وعَدَمِ رَواجِ الزَّيْفِ عَلَيْهِمْ، وبِالكَفاءَةِ والمَقْدِرَةِ عَلى التَّفَنُّنِ في المَعانِي والألْفاظِ. تَواتَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَنْهم بِما نُقِلَ مِن كَلامِهِمْ نَظْمًا ونَثْرًا، وبِما اشْتَهَرَ وتَواتَرَ مِنَ القَدْرِ المُشْتَرَكِ مِن بَيْنِ المَرْوِيّاتِ مِن نَوادِرِهِمْ وأخْبارِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ يَعُوزُهم أنْ يُعارِضُوهُ لَوْ وجَدُوهُ عَلى النَّحْوِ المُتَعارَفِ لَدَيْهِمْ، فَإنَّ صِحَّةَ أذْهانِهِمْ أدْرَكَتْ أنَّهُ تَجاوَزَ الحَدَّ المُتَعارَفَ لَدَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ أعْرَضُوا عَنِ المُعارَضَةِ مَعَ تَوَفُّرِ داعِيهِمْ بِالطَّبْعِ وحِرْصِهِمْ لَوْ وجَدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا. ثَبَتَ إعْراضُهم عَنِ المُعارَضَةِ بِطَرِيقِ التَّواتُرِ إذْ لَوْ وقَعَ مِثْلُ هَذا لَأعْلَنُوهُ وأشاعُوهُ وتَناقَلَهُ النّاسُ لِأنَّهُ مِنَ الحَوادِثِ العَظِيمَةِ، فَعَدَلُوا عَنِ المُعارَضَةِ بِاللِّسانِ إلى المُحارَبَةِ والمُكافَحَةِ، ثَبَتَ ذَلِكَ بِالتَّواتُرِ لا مَحالَةَ عِنْدَ أهْلِ التّارِيخِ وغَيْرِهِمْ. وأيًّا ما جَعَلْتَ سَبَبَ إعْراضِهِمْ عَنِ المُعارَضَةِ مِن خُرُوجِ كَلامِهِ عَنْ طَوْقِ البَشَرِ أوْ مِن صَرْفِ اللَّهِ أذْهانَهم عَنْ ذَلِكَ فَهو دَلِيلٌ عَلى أمْرٍ خارِقٍ لِلْعادَةِ كانَ بِتَقْدِيرٍ مِن خالِقِ القَدَرِ ومُعْجِزِ البَشَرِ. ووَراءَ هَذا كُلِّهِ دَلِيلٌ آخَرَ يُعَرِّفُنا بِأنَّ العَرَبَ بِحُسْنِ فِطْرَتِهِمْ قَدْ أدْرَكُوا صِدْقَ الرَّسُولِ وفَطِنُوا لِإعْجازِ القُرْآنِ وأنَّهُ لَيْسَ بِكَلامٍ مُعْتادٍ لِلْبَشَرِ وأنَّهم ما كَذَّبُوا إلّا عِنادًا أوْ مُكابَرَةً وحِرْصًا عَلى السِّيادَةِ ونُفُورًا مِنَ الِاعْتِرافِ بِالخَطَأِ، ذَلِكَ الدَّلِيلُ هو إسْلامُ جَمِيعِ قَبائِلِ العَرَبِ (p-٣٤٩)وتَعاقُبُهم في الوِفادَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَإنَّهم كانُوا مُقْتَدِينَ بِقُرَيْشٍ في المُعارَضَةِ مُكْبِرِينَ المُتابِعَةَ لِهَذا الدِّينِ خَشْيَةَ مَسَبَّةِ بَعْضِهِمْ وخاصَّةً قُرَيْشٌ ومَن ظاهَرَهم، فَلَمّا غُلِبَتْ قُرَيْشٌ لَمْ يَبْقَ ما يَصُدُّ بَقِيَّةَ العَرَبِ عَنِ المَجِيءِ طائِعِينَ مُعْتَرِفِينَ عَنْ غَيْرِ غَلَبٍ، فَإنَّهم كانُوا يَسْتَطِيعُونَ الثَّباتَ لِلْمُقارَعَةِ أكْثَرَ مِمّا ثَبَتَتْ قُرَيْشٌ إذْ قَدْ كانَ مِن تِلْكَ القَبائِلِ أهْلُ البَأْسِ والشِّدَّةِ مِن عَرَبِ نَجْدٍ وطَيِّءٍ وغَيْرِهِمْ مِمَّنِ اعْتَزَّ بِهِمُ الإسْلامُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإنَّهُ لَيْسَ مِمّا عُرِفَ في عَوائِدِ الأُمَمِ وأخْلاقِها أنْ تَنْبِذَ قَبائِلُ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةٌ أدْيانًا تَعْتَقِدُ صِحَّتَها وتَجِيءَ جَمِيعَها طائِعًا نابِذًا دِينَهُ في خِلالِ أشْهُرٍ مِن عامِ الوُفُودِ لَمْ يَجْمَعْهم فِيهِ نادٍ ولَمْ تَسْرِ بَيْنَهم سُفَراءُ ولا حَشَرَهم مَجْمَعٌ لَوْلا أنَّهم كانُوا مُتَهَيِّئِينَ لِهَذا الِاعْتِرافِ لا يَصُدُّهم عَنْهُ إلا صادٌّ ضَعِيفٌ وهو المُكابَرَةُ والمُعانَدَةُ. ثُمَّ في هَذِهِ الآيَةِ مُعْجِزَةٌ باقِيَةٌ وهي قَوْلُهُ ﴿ولَنْ تَفْعَلُوا﴾ فَإنَّها قَدْ مَرَّتْ عَلَيْها العُصُورُ والقُرُونُ وماصَدَقُها واضِحٌ إذْ لَمْ تَقَعِ المُعارَضَةُ مِن أحَدٍ مِنَ المُخاطَبِينَ ولا مِمَّنْ لَحِقَهم إلى اليَوْمِ. فَإنْ قُلْتَ ثَبَتَ بِهَذا أنَّ القُرْآنَ مُعْجِزٌ لِلْعَرَبِ وبِذَلِكَ ثَبَتَ لَدَيْهِمْ أنَّهُ مُعْجِزَةٌ وثَبَتَ لَدَيْهِمْ بِهِ صِدْقُ الرَّسُولِ ولَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لِمَن لَيْسَ مِثْلَهم فَما هي المُعْجِزَةُ لِغَيْرِهِمْ ؟ قُلْتُ: إنَّ ثُبُوتَ الإعْجازِ لا يَسْتَلْزِمُ مُساواةَ النّاسِ في طَرِيقِ الثُّبُوتِ، فَإنَّهُ إذا أعْجَزَ العَرَبَ ثَبَتَ أنَّهُ خارِقٌ لِلْعادَةِ لِما عَلِمْتَ مِنَ الوَجْهَيْنِ السّابِقَيْنِ، فَيَكُونُ الإعْجازُ لِلْعَرَبِ بِالبَداهَةِ ولِمَن جاءَ بَعْدَهم بِالِاسْتِدْلالِ والبُرْهانِ، وهُما طَرِيقانِ لِحُصُولِ العِلْمِ. وبَعْدُ فَإنَّ مَن شاءَ أنْ يُدْرِكَ الإعْجازَ كَما أدْرَكَهُ العَرَبُ فَما عَلَيْهِ إلّا أنْ يَشْتَغِلَ بِتَعَلُّمِ اللُّغَةِ وأدَبِها وخَصائِصِها حَتّى يُساوِيَ أوْ يُقارِبَ العَرَبَ في ذَوْقِ لُغَتِهِمْ ثُمَّ يَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ في نِسْبَةِ القُرْآنِ مِن كَلامِ بُلَغائِهِمْ. ولَمْ يَخْلُ عَصْرٌ مِن فِئَةٍ اضْطَلَعَتْ بِفَهْمِ البَلاغَةِ العَرَبِيَّةِ وأدْرَكَتْ إعْجازَ القُرْآنِ وهم عُلَماءُ البَلاغَةِ وأدَبِ العَرَبِيَّةِ الصَّحِيحِ. قالَ الشَّيْخُ عَبْدُ القاهِرِ في مُقَدِّمَةِ دَلائِلِ الإعْجازِ: فَإنْ قالَ قائِلٌ: إنَّ لَنا طَرِيقًا إلى إعْجازِ القُرْآنِ غَيْرَ ما قُلْتَ أيْ مِن تَوَقُّفِهِ عَلى عِلْمِ البَيانِ وهو عِلْمُنا بِعَجْزِ العَرَبِ عَنْ أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ وتَرْكِهِمْ أنْ يُعارِضُوهُ مَعَ تَكْرارِ التَّحَدِّي عَلَيْهِمْ وطُولِ التَّقْرِيعِ لَهم بِالعَجْزِ عَنْهُ ولَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ ما قامَتْ بِهِ الحُجَّةُ عَلى العَجَمِ قِيامَها عَلى العَرَبِ وما اسْتَوى النّاسُ فِيهِ قاطِبَةً، فَلَمْ يَخْرُجِ الجاهِلُ بِلِسانِ العَرَبِ عَنْ أنْ يَكُونَ مَحْجُوجًا بِالقُرْآنِ، قِيلَ لَهُ: خَبِّرْنا عَمّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ مِنِ اخْتِصاصِ نَبِيِّنا عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنْ كانَتْ مُعْجِزَتُهُ باقِيَةً عَلى وجْهِ الدَّهْرِ، أتَعْرِفُ لَهُ مَعْنًى غَيْرَ ألّا يَزالَ البُرْهانُ مِنهُ لائِحًا مُعْرِضًا لِكُلِّ مَن أرادَ العِلْمَ بِهِ، والعِلْمُ بِهِ (p-٣٥٠)مُمْكِنًا لِمَنِ التَمَسَهُ، وألّا مَعْنى لِبَقاءِ المُعْجِزَةِ بِالقُرْآنِ إلّا أنَّ الوَصْفَ الَّذِي كانَ بِهِ مُعْجِزًا قائِمٌ فِيهِ أبَدًا اهـ. وقالَ السَّكّاكِيُّ في مَعْرِضِ التَّنْوِيهِ بِبَعْضِ مَسائِلِ التَّقْدِيمِ قَوْلُهُ: ”مُتَوَسِّلًا بِذَلِكَ إلى أنْ يَتَأنَّقَ في وجْهِ الإعْجازِ في التَّنْزِيلِ مُنْتَقِلًا مِمّا أجْمَلَهُ عَجْزُ المُتَحَدِّينَ بِهِ عِنْدَكَ إلى التَّفْصِيلِ“ وقَدْ بَيَّنْتُ في المُقَدِّمَةِ العاشِرَةِ تَفاصِيلَ مِن وُجُوهِ إعْجازِهِ، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أصْنافٍ مِنَ الإعْجازِ إذْ نَقَلَتِ الإعْجازَ بِالتَّواتُرِ وكانَتْ بِبَلاغَتِها مُعْجِزَةً، وكانَتْ مُعْجِزَةً مِن حَيْثُ الإخْبارِ عَنِ المُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ بِما تَحَقَّقَ صِدْقُهُ فَسُبْحانَ مُنْزِلِها ومُؤَتِّيها.


ركن الترجمة

But if you cannot, as indeed you cannot, then guard yourselves against the Fire whose fuel is men and rocks, which has been prepared for the infidels.

Si vous n'y parvenez pas et, à coup sûr, vous n'y parviendrez jamais, parez-vous donc contre le feu qu'alimenteront les hommes et les pierres, lequel est réservé aux infidèles.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :