ركن التفسير
253 - (تلك) مبتدأ (الرسل) صفة أو خبر (فضلنا بعضهم على بعض) بتخصيصه بمنقبة ليست بغيره (منهم من كلم اللهُ) كموسى (ورفع بعضهم) أي محمداً صلى الله عليه وسلم (درجات) على غيره بعموم الدعوة وختْم النبوة وتفضيل أمته على سائر الأمم والمعجزات المتكاثرة والخصائص العديدة (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه) قويناه (بروح القُدُس) جبريل يسير معه حيث سار (ولو شاء الله) لهدى الناس جميعا (ما اقتتل الذين من بعدهم) بعد الرسل أي أممهم (من بعد ما جاءتهم البينات) لاختلافهم وتضليل بعضهم بعضا (ولكن اختلفوا) لمشيئته ذلك (فمنهم من آمن) ثبت على إيمانه (ومنهم من كفر) كالنصارى بعد المسيح (ولو شاء الله ما اقتتلوا) تأكيد (ولكن الله يفعل ما يريد) من توفيق من شاء وخذلان من شاء
يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال تعالى "ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا" وقال ههنا "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله" يعني موسى ومحمدا - صلى الله عليه وسلم - وكذلك آدم كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر - رضي الله عنه - "ورفع بعضهم درجات" كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنبياء في السموات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل "فإن قيل" فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين فرفع المسلم يده فلطم بها وجهه اليهودي فقال: أي خبيث؟ وعلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ فجاء اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى على المسلم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ فلا تفضلوني على الأنبياء" وفي رواية "لا تفضلوا بين الأنبياء" فالجواب من وجوه "أحدها" أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر "الثاني" أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع "الثالث" أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر "الرابع" لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية "الخامس" ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به. وقوله "وآتينا عيسى ابن مريم البينات" أي الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به من أنه عبدالله ورسوله إليهم "وأيدناه بروح القدس" يعني أن الله أيده بجبريل عليه السلام ثم قال تعالى "ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا" أي كل ذلك عن قضاء الله وقدره ولهذا قال "ولكن الله يفعل ما يريد".
(p-٥)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ مِنهم مَن كَلَّمَ اللَّهُ ورَفَعَ بَعْضَهم دَرَجاتٍ وآتَيْنا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّناتِ وأيَّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ . مَوْقِعُ هَذِهِ الآيَةِ مَوْقِعُ الفَذْلَكَةِ لِما قَبْلَها والمُقَدِّمَةِ لِما بَعْدَها، فَأمّا الأوَّلُ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أنْبَأ بِاخْتِبارِ الرُّسُلِ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى وما عَرَضَ لَهم مَعَ أقْوامِهِمْ وخَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالحَقِّ﴾ [البقرة: ٢٥٢] جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ في قَوْلِهِ ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ لَفْتًا إلى العِبَرِ الَّتِي في خِلالِ ذَلِكَ كُلِّهِ، ولَمّا أنْهى ذَلِكَ كُلَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ ﴿وإنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٢] تَذْكِيرًا بِأنَّ إعْلامَهُ بِأخْبارِ الأُمَمِ والرُّسُلِ آيَةٌ عَلى صِدْقِ رِسالَتِهِ، إذْ ما كانَ لِمِثْلِهِ قِبَلٌ بِعِلْمِ ذَلِكَ لَوْلا وحْيُ اللَّهِ إلَيْهِ، وفي هَذا كُلِّهِ حُجَّةٌ عَلى المُشْرِكِينَ وعَلى أهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ جَحَدُوا رِسالَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ فَمَوْقِعُ اسْمِ الإشارَةِ مِثْلُ مَوْقِعِهِ في قَوْلِ النّابِغَةِ: ؎بَنِي عَمِّهِ دُنْيا وعَمْرِو بْنِ عامِرٍ أُولَئِكَ قَوْمٌ بَأْسُهم غَيْرُ كاذِبِ والإشارَةُ إلى جَماعَةِ المُرْسَلِينَ في قَوْلِهِ ﴿وإنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٢] وجِيءَ بِالإشارَةِ لِما فِيها مِنَ الدَّلالَةِ عَلى الِاسْتِحْضارِ، حَتّى كَأنَّ جَماعَةَ الرُّسُلِ حاضِرَةٌ لِلسّامِعِ بَعْدَ ما مَرَّ مِن ذِكْرِ عَجِيبِ أحْوالِ بَعْضِهِمْ وما أعْقَبَهُ مِن ذِكْرِهِمْ عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ. وأمّا الثّانِي فَلِأنَّهُ لَمّا أُفِيضَ القَوْلُ في القِتالِ وفي الحَثِّ عَلى الجِهادِ والِاعْتِبارِ بِقِتالِ الأُمَمِ الماضِيَةِ عُقِّبَ ذَلِكَ بِأنَّهُ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما اخْتَلَفَ النّاسُ في أمْرِ الدِّينِ مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ ولَكِنَّهم أساءُوا الفَهْمَ فَجَحَدُوا البَيِّناتِ فَأفْضى بِهِمْ سُوءُ فَهْمِهِمْ إلى اشْتِطاطِ الخِلافِ بَيْنَهم حَتّى أفْضى إلى الِاقْتِتالِ، فَمَوْقِعُ اسْمِ الإشارَةِ عَلى هَذا الِاعْتِبارِ كَمَوْقِعِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، أيْ هي قِصَّةُ الرُّسُلِ وأُمَمِهِمْ، فَضَّلْنا بَعْضَ الرُّسُلِ عَلى بَعْضٍ فَحَسَدَتْ بَعْضُ الأُمَمِ أتْباعَ بَعْضِ الرُّسُلِ فَكَذَّبَ اليَهُودُ عِيسى ومُحَمَّدًا عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكَذَّبَ النَّصارى مُحَمَّدًا ﷺ . وقُرِنَ اسْمُ الإشارَةِ بِكافِ البُعْدِ تَنْوِيهًا بِمَراتِبِهِمْ كَقَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ [البقرة: ٢] . (p-٦)واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ و(الرُّسُلُ) خَبَرٌ، ولَيْسَ (الرُّسُلُ) بَدَلًا لِأنَّ الإخْبارَ عَنِ الجَماعَةِ بِأنَّها الرُّسُلُ أوْقَعُ في اسْتِحْضارِ الجَماعَةِ العَجِيبِ شَأْنُهُمُ الباهِرِ خَبَرُهم، وجُمْلَةُ (فَضَّلْنا) حالٌ. والمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ تَمْجِيدُ سُمْعَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وتَعْلِيمُ المُسْلِمِينَ أنَّ هاتِهِ الفِئَةَ الطَّيِّبَةَ مَعَ عَظِيمِ شَأْنِها قَدْ فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ، وأسْبابُ التَّفْضِيلِ لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ تَعالى، غَيْرَ أنَّها تَرْجِعُ إلى ما جَرى عَلى أيْدِيهِمْ مِنَ الخَيْراتِ المُصْلِحَةِ لِلْبَشَرِ ومِن نَصْرِ الحَقِّ، وما لَقُوهُ مِنَ الأذى في سَبِيلِ ذَلِكَ، وما أُيِّدُوا بِهِ مِنَ الشَّرائِعِ العَظِيمَةِ المُتَفاوِتَةِ في هُدى البَشَرِ، وفي عُمُومِ ذَلِكَ الهُدى ودَوامِهِ، وإذا كانَ الرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: «لَأنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ»، فَما بالُكَ بِمَن هَدى اللَّهُ بِهِمْ أُمَمًا في أزْمانٍ مُتَعاقِبَةٍ، ومِن أجْلِ ذَلِكَ كانَ مُحَمَّدٌ ﷺ أفْضَلَ الرُّسُلِ، ويَتَضَمَّنُ الكَلامُ ثَناءً عَلَيْهِمْ وتَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيما لَقِيَ مِن قَوْمِهِ. وقَدْ خَصَّ اللَّهُ مِن جُمْلَةِ الرُّسُلِ بَعْضًا بِصِفاتٍ يَتَعَيَّنُ بِها المَقْصُودُ مِنهم أوْ بِذِكْرِ اسْمِهِ، فَذَكَرَ ثَلاثَةً إذْ قالَ: ﴿مِنهم مَن كَلَّمَ اللَّهُ﴾ وهَذا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِاشْتِهارِهِ بِهَذِهِ الخَصْلَةِ العَظِيمَةِ في القُرْآنِ، وذَكَرَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ووَسَّطَ بَيْنِهِما الإيماءَ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ بِوَصْفِهِ، بِقَوْلِهِ: ﴿ورَفَعَ بَعْضَهم دَرَجاتٍ﴾ . وقَوْلُهُ ﴿ورَفَعَ بَعْضَهم دَرَجاتٍ﴾ يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ البَعْضِ هُنا واحِدًا مِنَ الرُّسُلِ مُعَيَّنًا لا طائِفَةً، وتَكُونَ الدَّرَجاتُ مَراتِبَ مِنَ الفَضِيلَةِ ثابِتَةً لِذَلِكَ الواحِدِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ مِنَ البَعْضِ جَماعَةً مِنَ الرُّسُلِ مُجْمَلًا، ومِنَ الدَّرَجاتِ دَرَجاتٍ بَيْنَهم لَصارَ الكَلامُ تَكْرارًا مَعَ قَوْلِهِ ﴿فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ﴾ ولِأنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بَعْضٌ فُضِّلَ عَلى بَعْضٍ لَقالَ: ورَفَعَ بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ كَما قالَ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿ورَفَعَ بَعْضَكم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ﴾ [الأنعام: ١٦٥] . وعَلَيْهِ فالعُدُولُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ أوْ بِالوَصْفِ المَشْهُورِ بِهِ لِقَصْدِ دَفْعِ الِاحْتِشامِ عَنِ المُبَلِّغِ الَّذِي هو المَقْصُودُ مِن هَذا الوَصْفِ وهو مُحَمَّدٌ ﷺ والعَرَبُ تُعَبِّرُ بِالبَعْضِ عَنِ النَّفْسِ كَما في قَوْلِ لَبِيدٍ: ؎تَرّاكُ أمْكِنَةٍ إذا لَمْ أرْضَها ∗∗∗ أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمامُها (p-٧)أرادَ نَفْسَهُ. وعَنِ المُخاطَبِ كَقَوْلِ أبِي الطَّيِّبِ: ؎إذا كانَ بَعْضُ النّاسِ سَيْفًا لِدَوْلَةٍ ∗∗∗ فَفي النّاسِ بُوقاتٌ لَها وطُبُولُ والَّذِي يُعَيِّنُ المُرادَ في هَذا كُلِّهِ هو القَرِينَةُ كانْطِباقِ الخَبَرِ أوِ الوَصْفِ عَلى واحِدٍ كَقَوْلِ طَرَفَةَ: ؎إذا القَوْمُ قالُوا مَن فَتًى خِلْتُ أنَّنِي ∗∗∗ عُنِيتُ فَلَمْ أكْسَلْ ولَمْ أتَبَلَّدِ وقَدْ جاءَ عَلى نَحْوِ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: (﴿وما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وكِيلًا﴾ [الإسراء: ٥٤] ﴿ورَبُّكَ أعْلَمُ بِمَن في السَّماواتِ والأرْضِ ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيئِينَ عَلى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: ٥٥]) عَقِبَ قَوْلِهِ ﴿وإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾ [الإسراء: ٤٥] إلى أنْ قالَ: ﴿وقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٥٣] إلى قَوْلِهِ: (﴿ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيئِينَ عَلى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: ٥٥]) . وهَذا إعْلامٌ بِأنَّ بَعْضَ الرُّسُلِ أفْضَلُ مِن بَعْضٍ عَلى وجْهِ الإجْمالِ وعَدَمِ تَعْيِينِ الفاضِلِ مِنَ المَفْضُولِ؛ ذَلِكَ أنَّ كُلَّ فَرِيقٍ اشْتَرَكُوا في صِفَةِ خَيْرٍ لا يَخْلُونَ مِن أنْ يَكُونَ بَعْضُهم أفْضَلَ مِن بَعْضٍ بِما لِلْبَعْضِ مِن صِفاتِ كَمالٍ زائِدَةٍ عَلى الصِّفَةِ المُشْتَرَكَةِ بَيْنَهم. وفي تَمْيِيزِ صِفاتِ التَّفاضُلِ غُمُوضٌ، وتَطَرُّقٌ لِتَوَقُّعِ الخَطَأِ وعُرُوضٌ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِسَهْلٍ عَلى العُقُولِ المُعَرَّضَةِ لِلْغَفْلَةِ والخَطَأِ، فَإذا كانَ التَّفْضِيلُ قَدْ أنْبَأ بِهِ رَبُّ الجَمِيعِ ومَن إلَيْهِ التَّفْضِيلُ، فَلَيْسَ مِن قَدْرِ النّاسِ أنْ يَتَصَدَّرُوا لِوَضْعِ الرُّسُلِ في مَراتِبِهِمْ، وحَسْبُهُمُ الوُقُوفُ عِنْدَ ما يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ في كِتابِهِ أوْ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ. وهَذا مَوْرِدُ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الأنْبِياءِ» يَعْنِي بِهِ النَّهْيَ عَنِ التَّفْضِيلِ التَّفْصِيلِيِّ، بِخِلافِ التَّفْضِيلِ عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ، كَما نَقُولُ: الرُّسُلُ أفْضَلُ مِنَ الأنْبِياءِ الَّذِينَ لَيْسُوا رُسُلًا. وقَدْ ثَبَتَ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ أفْضَلُ الرُّسُلِ لِما تَظاهَرَ مِن آياتِ تَفْضِيلِهِ وتَفْضِيلِ الدِّينِ الَّذِي جاءَ بِهِ وتَفْضِيلِ الكِتابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ. وهي مُتَقارِنَةُ الدَّلالَةِ تَنْصِيصًا وظُهُورًا، إلّا أنَّ كَثْرَتَها تُحَصِّلُ اليَقِينَ بِمَجْمُوعِ مَعانِيها عَمَلًا بِقاعِدَةِ: كَثْرَةُ الظَّواهِرِ تُفِيدُ القَطْعَ، وأعْظَمُها آيَةُ ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيئِينَ لَما آتَيْتُكم مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ﴾ [آل عمران: ٨١] الآيَةَ. (p-٨)وأمّا قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ: «لا يَقُولَنَّ أحَدُكم أنا خَيْرٌ مِن يُونُسَ بْنِ مَتّى» يَعْنِي بِقَوْلِهِ (أنا) نَفْسَهُ عَلى أرْجَحِ الِاحْتِمالَيْنِ، وقَوْلُهُ: «لا تُفَضِّلُونِي عَلى مُوسى» فَذَلِكَ صَدَرَ قَبْلَ أنْ يُنْبِئَهُ اللَّهُ بِأنَّهُ أفْضَلُ الخَلْقِ عِنْدَهُ. وهَذِهِ الدَّرَجاتُ كَثِيرَةٌ عَرَفْنا مِنها: عُمُومَ الرِّسالَةِ لِكافَّةِ النّاسِ، ودَوامَها طُولَ الدَّهْرِ، وخَتْمَها لِلرِّسالاتِ، والتَّأْيِيدَ بِالمُعْجِزَةِ العَظِيمَةِ الَّتِي لا تَلْتَبِسُ بِالسِّحْرِ والشَّعْوَذَةِ، وبِدَوامِ تِلْكَ المُعْجِزَةِ، وإمْكانِ أنْ يُشاهِدَها كُلُّ مَن يُؤَهِّلُ نَفْسَهُ لِإدْراكِ الإعْجازِ، وبِابْتِناءِ شَرِيعَتِهِ عَلى رَعْيِ المَصالِحِ ودَرْءِ المَفاسِدِ والبُلُوغِ بِالنُّفُوسِ إلى أوَجِ الكَمالِ، وبِتَيْسِيرِ إدانَةِ مُعانَدِيهِ لَهُ، وتَمْلِيكِهِ أرْضَهم ودِيارَهم وأمْوالَهم في زَمَنٍ قَصِيرٍ، وبِجَعْلِ نَقْلِ مُعْجِزَتِهِ مُتَواتِرًا لا يَجْهَلُها إلّا مُكابِرٌ، وبِمُشاهَدَةِ أُمَّتِهِ لِقَبْرِهِ الشَّرِيفِ وإمْكانِ اقْتِرابِهِمْ مِنهُ وائْتِناسِهِمْ بِهِ وقَدْ عَطَفَ ما دَلَّ عَلى نَبِيئِنا ﷺ عَلى ما دَلَّ عَلى موسى عَلَيْهِما السَّلامُ لِشِدَّةِ الشَّبَهِ بَيْنَ شَرِيعَتَيْهِما، لِأنَّ شَرِيعَةَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أوْسَعُ الشَّرائِعِ، مِمّا قَبْلَها، بِخِلافِ شَرِيعَةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ. وتَكْلِيمُ اللَّهِ مُوسى هو ما أوْحاهُ إلَيْهِ بِدُونِ واسِطَةِ جِبْرِيلَ، بِأنْ أسْمَعَهُ كَلامًا أيْقَنَ أنَّهُ صادِرٌ بِتَكْوِينِ اللَّهِ، بِأنْ خَلَقَ اللَّهُ أصْواتًا مِن لُغَةِ مُوسى تَضَمَّنَتْ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ، وسَيَجِيءُ بَيانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٤] في سُورَةِ النِّساءِ. وقَوْلُهُ: ﴿وآتَيْنا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّناتِ وأيَّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ البَيِّناتُ هي المُعْجِزاتُ الظّاهِرَةُ البَيِّنَةُ، ورُوحُ القُدُسِ هو جِبْرِيلُ، فَإنَّ الرُّوحَ هُنا بِمَعْنى المَلَكِ الخاصِّ كَقَوْلِهِ ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيها﴾ [القدر: ٤] . والقُدُسِ بِضَمِّ القافِ وبِضَمِّ الدّالِ عِنْدَ أهْلِ الحِجازِ وسُكُونِها عِنْدَ بَنِي تَمِيمٍ بِمَعْنى الخُلُوصِ والنَّزاهَةِ، فَإضافَةُ رُوحِ القُدُسِ مِن إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى الصِّفَةِ، ولِذَلِكَ يُقالُ الرُّوحُ القُدُسُ، وقِيلَ: القُدُسِ اسْمُ اللَّهِ كالقُدُّوسِ، فَإضافَةُ (رُوحٍ) إلَيْهِ إضافَةٌ أصْلِيَّةٌ، أيْ: رَوْحٌ مِن مَلائِكَةِ اللَّهِ. (p-٩)ورُوحُ القُدُسِ هو جِبْرِيلُ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ﴾ [النحل: ١٠٢] وفي الحَدِيثِ «إنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتّى تَسْتَكْمِلَ أجَلَها» وفي الحَدِيثِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ لِحَسّانَ «اهْجُهم ومَعَكَ رُوحُ القُدُسِ» . وإنَّما وُصِفَ عِيسى بِهَذَيْنِ مَعَ أنَّ سائِرَ الرُّسُلِ أُيِّدُوا بِالبَيِّناتِ وبِرُوحِ القُدُسِ، لِلرَّدِّ عَلى اليَهُودِ الَّذِينَ أنْكَرُوا رِسالَتَهُ ومُعْجِزاتِهِ، ولِلرَّدِّ عَلى النَّصارى الَّذِينَ غَلَوْا فَزَعَمُوا أُلُوهِيَّتَهُ، ولِأجْلِ هَذا ذُكِرَ مَعَهُ اسْمُ أُمِّهِ، مَهْما ذُكِرَ، لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ ابْنَ الإنْسانِ لا يَكُونُ إلَهًا، وعَلى أنَّ مَرْيَمَ أمَةُ اللَّهِ تَعالى لا صاحِبَةٌ؛ لِأنَّ العَرَبَ لا تَذْكُرُ أسْماءَ نِسائِها وإنَّما تَكْنِي، فَيَقُولُونَ: رَبَّةُ البَيْتِ، والأهْلُ، ونَحْوُ ذَلِكَ. ولا يَذْكُرُونَ أسْماءَ النِّساءِ إلّا في الغَزَلِ، أوْ أسْماءَ الإماءِ. * * * ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ ولَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنهم مَن آمَنَ ومِنهم مَن كَفَرَ ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما اقْتَتَلُوا ولَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ﴾ . اعْتِراضٌ بَيْنَ الفَذْلَكَةِ المُسْتَفادَةِ مِن جُمْلَةِ ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ إلى آخِرِها، وبَيْنَ جُمْلَةِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٤] فالواوُ اعْتِراضِيَّةٌ، فَإنَّ ما جَرى مِنَ الأمْرِ بِالقِتالِ ومِنَ الأمْثالِ الَّتِي بَيَّنَتْ خِصالَ الشَّجاعَةِ والجُبْنِ وآثارَهُما، المَقْصُودُ مِنهُ تَشْرِيعًا وتَمْثِيلًا قِتالُ أهْلِ الإيمانِ لِأهْلِ الكُفْرِ لِإعْلاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ ونَصْرِ الحَقِّ عَلى الباطِلِ وبَثِّ الهُدى وإزْهاقِ الضَّلالِ - بَيَّنَ اللَّهُ بِهِذا الِاعْتِراضِ حُجَّةَ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا، بِأنَّ الكافِرِينَ هُمُ الظّالِمُونَ إذِ اخْتَلَفُوا عَلى ما جاءَتْهم بِهِ الرُّسُلُ، ولَوِ اتَّبَعُوا الحَقَّ لَسَلَّمُوا وسالَمُوا. ثُمَّ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ المُضافُ إلَيْهِ في قَوْلِهِ مِن بَعْدِهِمْ مُرادًا بِهِ جُمْلَةُ الرُّسُلِ أيْ: ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مِنَ الأُمَمِ المُخْتَلِفَةِ في العَقائِدِ (p-١٠)مِثْلَ اقْتِتالِ اليَهُودِ والنَّصارى في اليَمَنِ في قِصَّةِ أصْحابِ الأُخْدُودِ، ومُقاتَلَةِ الفِلَسْطِينِيِّينَ لِبَنِي إسْرائِيلَ انْتِصارًا لِأصْنامِهِمْ، ومُقاتَلَةِ الحَبَشَةِ لِمُشْرِكِي العَرَبِ انْتِصارًا لِبَيْعَةِ القُلَّيْسِ الَّتِي بَناها الحَبَشَةُ في اليَمَنِ، والأُمَمِ الَّذِينَ كانُوا في زَمَنِ الإسْلامِ وناوَوُهُ وقاتَلُوا المُسْلِمِينَ أهْلَهُ، وهُمُ المُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ واليَهُودِ والنَّصارى، ويَكُونُ المُرادُ بِالبَيِّناتِ دَلائِلَ صِدْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَتَكُونُ الآيَةُ إنْحاءً عَلى الَّذِينَ عانَدُوا النَّبِيءَ وناوَوُا المُسْلِمِينَ وقاتَلُوهم، وتَكُونُ الآيَةُ عَلى هَذا ظاهِرَةَ التَّفَرُّعِ عَلى قَوْلِهِ ﴿وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ واعْلَمُوا﴾ [البقرة: ٢٤٤] إلخ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ مِن بَعْدِهِمْ ضَمِيرَ الرُّسُلِ عَلى إرادَةِ التَّوْزِيعِ، أيِ الَّذِينَ مِن بَعْدِ كُلِّ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ، فَيَكُونُ مُفِيدًا أنَّ أُمَّةَ كُلِّ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ اخْتَلَفُوا واقْتَتَلُوا اخْتِلافًا واقْتِتالًا نَشَآ مِن تَكْفِيرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَما وقَعَ لِبَنِي إسْرائِيلَ في عُصُورٍ كَثِيرَةٍ بَلَغَتْ فِيها طَوائِفُ مِنهم في الخُرُوجِ مِنَ الدِّينِ إلى حَدِّ عِبادَةِ الأوْثانِ، وكَما وقَعَ لِلنَّصارى في عُصُورٍ بَلَغَ فِيها اخْتِلافُهم إلى حَدِّ أنْ كَفَّرَ بَعْضُهم بَعْضًا، فَتَقاتَلَتِ اليَهُودُ غَيْرَ مَرَّةٍ قِتالًا جَرى بَيْنَ مَمْلَكَةِ يَهُوذا ومَمْلَكَةِ إسْرائِيلَ، وتَقاتَلَتِ النَّصارى كَذَلِكَ مِن جَرّاءِ الخِلافِ بَيْنَ اليَعاقِبَةِ والمَلَكِيَّةِ قَبْلَ الإسْلامِ، وأشْهَرُ مُقاتَلاتِ النَّصارى الحُرُوبُ العَظِيمَةُ الَّتِي نَشَأتْ في القَرْنِ السّادِسِ عَشَرَ مِنَ التّارِيخِ المَسِيحِيِّ بَيْنَ أشْياعِ الكاثُولِيكِ وبَيْنَ أشْياعِ مَذْهَبِ لُوثِيرَ الرّاهِبِ الجِرْمانِيِّ الَّذِي دَعا النّاسَ إلى إصْلاحِ المَسِيحِيَّةِ واعْتِبارِ أتْباعِ الكَنِيسَةِ الكاثُولِيكِيَّةِ كُفّارًا لِادِّعائِهِمْ أُلُوهِيَّةِ المَسِيحِ، فَعَظُمَتْ بِذَلِكَ حُرُوبٌ بَيْنَ فَرَنْسا وأسْبانْيا وجِرْمانْيا وانْكِلْتِرا وغَيْرِها مِن دُوَلِ أُورُوبّا. والمَقْصُودُ تَحْذِيرُ المُسْلِمِينَ مِنَ الوُقُوعِ في مِثْلِ ما وقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ، وقَدْ حَذَّرَ النَّبِيءُ ﷺ مِن ذَلِكَ تَحْذِيرًا مُتَواتِرًا بِقَوْلِهِ في خُطْبَةِ حَجَّةِ الوَداعِ «فَلا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكم رِقابَ بَعْضٍ» يُحَذِّرُهم ما يَقَعُ مِن حُرُوبِ الرِّدَّةِ وحُرُوبِ الخَوارِجِ بِدَعْوى التَّكْفِيرِ، وهَذِهِ الوَصِيَّةُ مِن دَلائِلِ النُّبُوَّةِ العَظِيمَةِ. ووَرَدَ في الصَّحِيحِ قَوْلُهُ: «إذا التَقى المُسْلِمانِ بِسَيْفَيْهِما فالقاتِلُ والمَقْتُولُ في النّارِ، قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، هَذا القاتِلُ، فَما بالُ المَقْتُولِ ؟ قالَ: أما إنَّهُ كانَ حَرِيصًا عَلى قَتْلِ أخِيهِ» وذَلِكَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا أنَّهُ القِتالُ عَلى اخْتِلافِ العَقِيدَةِ. (p-١١)والمُرادُ بِالبَيِّناتِ عَلى هَذا الِاحْتِمالِ أدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ الواضِحَةُ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَّبِعِ الشَّرِيعَةِ ومُعانِدِها والَّتِي لا تَقْبَلُ خَطَأ الفَهْمِ والتَّأْوِيلِ، لَوْ لَمْ يَكُنْ دَأْبُهُمُ المُكابَرَةَ ودَحْضَ الدِّينِ لِأجْلِ عَرَضِ الدُّنْيا، والمَعْنى أنَّ اللَّهَ شاءَ اقْتِتالَهم فاقْتَتَلُوا، وشاءَ اخْتِلافَهم فاخْتَلَفُوا، والمَشِيئَةُ هُنا مَشِيئَةُ تَكْوِينٍ وتَقْدِيرٍ لا مَشِيئَةُ الرِّضا؛ لِأنَّ الكَلامَ مَسُوقٌ مَساقَ التَّمَنِّي لِلْجَوابِ والتَّحْسِيرِ عَلى امْتِناعِهِ وانْتِفائِهِ المُفادِ بِـ (لَوْ) كَقَوْلِ طَرَفَةَ: ؎فَلَوْ شاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ خالِدٍ ولَوْ شاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ وقَوْلُهُ: ﴿ولَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ اسْتِدْراكٌ عَلى ما تَضَمَّنَهُ جَوابُ لَوْ شاءَ اللَّهُ وهو: (ما اقْتَتَلَ) لَكِنْ ذَكَرَ في الِاسْتِدْراكِ لازِمَ الضِّدِّ لِجَوابِ (لَوْ) وهو الِاخْتِلافُ لِأنَّهم لَمّا اخْتَلَفُوا اقْتَتَلُوا ولَوْ لَمْ يَخْتَلِفُوا لَما اقْتَتَلُوا، وإنَّما جِيءَ بِلازِمِ الضِّدِّ في الِاسْتِدْراكِ لِلْإيماءِ إلى سَبَبِ الِاقْتِتالِ لِيَظْهَرَ أنَّ مَعْنى نَفْيِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَرْكُهُمُ الِاقْتِتالَ، هو أنَّهُ خَلَقَ داعِيَةَ الِاخْتِلافِ فِيهِمْ، فَبِتِلْكَ الدّاعِيَةِ اخْتَلَفُوا، فَجَرَّهُمُ الخِلافُ إلى أقْصاهُ، وهو الخِلافُ في العَقِيدَةِ، فَمِنهم مَن آمَنَ ومِنهم مَن كَفَرَ، فاقْتَتَلُوا لِأنَّ لُزُومَ الِاقْتِتالِ لِهَذِهِ الحالَةِ أمْرٌ عُرْفِيٌّ شائِعٌ، فَإنْ كانَ المُرادُ اخْتِلافَ أُمَّةِ الرَّسُولِ الواحِدِ، فالإيمانُ والكُفْرُ في الآيَةِ عِبارَةٌ عَنْ خَطَأِ أهْلِ الدِّينِ فِيهِ إلى الحَدِّ الَّذِي يُفْضِي بِبَعْضِهِمْ إلى الكُفْرِ بِهِ، وإنْ كانَ المُرادُ اخْتِلافَ أُمَمِ الرُّسُلِ كُلٍّ لِلْأُخْرى كَما في قَوْلِهِ ﴿وقالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ﴾ [البقرة: ١١٣] فالإيمانُ والكُفْرُ في الآيَةِ ظاهِرٌ، أيْ: فَمِنهم مَن آمَنَ بِالرَّسُولِ الخاتَمِ فاتَّبَعَهُ ومِنهم مَن كَفَرَ بِهِ فَعاداهُ، فاقْتَتَلَ الفَرِيقانِ. وأيًّا ما كانَ المُرادُ مِنَ الوَجْهَيْنِ فَإنَّ قَوْلَهُ ﴿فَمِنهم مَن آمَنَ ومِنهم مَن كَفَرَ﴾ يُنادِي عَلى أنَّ الِاخْتِلافَ الَّذِي لا يَبْلُغُ بِالمُخْتَلِفِينَ إلى كُفْرِ بَعْضِهِمْ بِما آمَنَ بِهِ الآخَرُ لا يَبْلُغُ بِالمُخْتَلِفِينَ إلى التَّقاتُلِ، لِأنَّ فِيما أقامَ اللَّهُ لَهم مِن بَيِّناتِ الشَّرْعِ ما فِيهِ كِفايَةُ الفَصْلِ بَيْنَ المُخْتَلِفِينَ في اخْتِلافِهِمْ إذا لَمْ تَغْلِبْ عَلَيْهِمُ المُكابَرَةُ والهَوى، أوْ لَمْ يَعُمَّهم سُوءُ الفَهْمِ وقِلَّةُ الهُدى. لا جَرَمَ أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ في خِلْقَةِ العُقُولِ اخْتِلافَ المُيُولِ والأفْهامِ وجَعَلَ في تَفاوُتِ الذَّكاءِ وأصالَةِ الرَّأْيِ أسْبابًا لِاخْتِلافِ قَواعِدِ العُلُومِ والمَذاهِبِ، فَأسْبابُ الِاخْتِلافِ إذَنْ مَرْكُوزَةٌ في الطِّباعِ، ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ﴾ (p-١٢)ثُمَّ قالَ: ﴿ولَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ فَصارَ المَعْنى لَوْ شاءَ اللَّهُ ما اخْتَلَفُوا، لَكِنَّ الخِلافَ مَرْكُوزٌ في الجِبِلَّةِ، بَيْدَ أنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ أيْضًا في العُقُولِ أُصُولًا ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً أوْ ظَنِّيَّةً ظَنًّا قَرِيبًا مِنَ القَطْعِ بِهِ تَسْتَطِيعُ العُقُولُ أنْ تُعَيِّنَ الحَقَّ مِن مُخْتَلِفِ الآراءِ، فَما صَرَفَ النّاسَ عَنِ اتِّباعِهِ إلّا التَّأْوِيلاتُ البَعِيدَةُ الَّتِي تَحْمِلُ عَلَيْها المُكابَرَةُ أوْ كَراهِيَةُ ظُهُورِ المَغْلُوبِيَّةِ، أوْ حُبُّ المَدْحِ مِنَ الأشْياعِ وأهْلِ الأغْراضِ، أوِ السَّعْيُ إلى عَرَضٍ عاجِلٍ مِنَ الدُّنْيا، ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما غَرَزَ في خِلْقَةِ النُّفُوسِ دَواعِيَ المَيْلِ إلى هاتِهِ الخَواطِرِ السَّيِّئَةِ فَما اخْتَلَفُوا خِلافًا يَدُومُ، ولَكِنِ اخْتَلَفُوا هَذا الخِلافَ، فَمِنهم مَن آمَنَ ومِنهم مَن كَفَرَ، فَلا عُذْرَ في القِتالِ إلّا لِفَرِيقَيْنِ: مُؤْمِنٍ، وكافِرٍ بِما آمَنَ بِهِ الآخَرُ؛ لِأنَّ الغَضَبَ والحَمِيَّةَ النّاشِئَيْنَ عَنِ الِاخْتِلافِ في الدِّينِ قَدْ كانا سَبَبَ قِتالٍ مُنْذُ قَدِيمٍ، أمّا الخِلافُ النّاشِئُ بَيْنَ أهْلِ دِينٍ واحِدٍ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إلى التَّكْفِيرِ فَلا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ سَبَبَ قِتالٍ. ولِهَذا قالَ النَّبِيءُ ﷺ: «مَن قالَ لِأخِيهِ يا كافِرُ فَقَدْ باءَ هو بِها» لِأنَّهُ إذا نَسَبَ أخاهُ في الدِّينِ إلى الكُفْرِ فَقَدْ أخَذَ في أسْبابِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وتَوْلِيدِ سَبَبِ التَّقاتُلِ، فَرَجَعَ هو بِإثْمِ الكُفْرِ لِأنَّهُ المُتَسَبِّبُ فِيما يَتَسَبَّبُ عَلى الكُفْرِ، ولِأنَّهُ إذا كانَ يَرى بَعْضَ أحْوالِ الإيمانِ كُفْرًا، فَقَدْ صارَ هو كافِرًا لِأنَّهُ جَعَلَ الإيمانَ كُفْرًا، وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «فَلا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكم رِقابَ بَعْضٍ» فَجَعَلَ القِتالَ شِعارَ التَّكْفِيرِ، وقَدْ صَمَّ المُسْلِمُونَ عَنْ هَذِهِ النَّصِيحَةِ الجَلِيلَةِ، فاخْتَلَفُوا خِلافًا بَلَغَ بِهِمْ إلى التَّكْفِيرِ والقِتالِ، وأوَّلُهُ خِلافُ الرِّدَّةِ في زَمَنِ أبِي بَكْرٍ، ثُمَّ خِلافُ الحَرُورِيَّةِ في زَمَنِ عَلِيٍّ وقَدْ كَفَّرُوا عَلِيًّا في قَبُولِهِ تَحْكِيمَ الحَكَمَيْنِ، ثُمَّ خِلافُ أتْباعِ المُقَنَّعِ بِخُراسانَ الَّذِي ادَّعى الأُلُوهِيَّةَ واتَّخَذَ وجْهًا مِن ذَهَبٍ، وظَهَرَ سَنَةَ ١٥٩ وهَلَكَ سَنَةَ ١٦٣، ثُمَّ خِلافُ القَرامِطَةِ مَعَ بَقِيَّةِ المُسْلِمِينَ وفِيهِ شائِبَةٌ مِنَ الخِلافِ المَذْهَبِيِّ لِأنَّهم في الأصْلِ مِنَ الشِّيعَةِ ثُمَّ تَطَرَّفُوا فَكَفَرُوا وادَّعَوُا الحُلُولَ أيْ - حُلُولَ الرَّبِّ في المَخْلُوقاتِ -، واقْتَلَعُوا الحَجَرَ الأسْوَدَ مِنَ الكَعْبَةِ وذَهَبُوا بِهِ إلى بَلَدِهِمْ في البَحْرَيْنِ، وذَلِكَ مِن سَنَةِ ٢٩٣ . واخْتَلَفَ المُسْلِمُونَ أيْضًا خِلافًا كَثِيرًا في المَذاهِبِ جَرَّ بِهِمْ تاراتٍ إلى مُقاتَلاتٍ عَظِيمَةٍ، وأكْثَرُها حُرُوبُ الخَوارِجِ غَيْرِ المُكَفِّرِينَ لِبَقِيَّةِ الأُمَّةِ في المَشْرِقِ، ومُقاتَلاتُ أبِي يَزِيدَ النَّكارِيِّ الخارِجِيِّ بِالقَيْرَوانِ وغَيْرِها سَنَةَ ٣٣٣ ومُقاتَلَةُ الشِّيعَةِ وأهْلِ السُّنَّةِ بِالقَيْرَوانِ سَنَةَ ٤٠٧، ومُقاتَلَةُ الشّافِعِيَّةِ والحَنابِلَةِ (p-١٣)بِبَغْدادَ سَنَةَ ٤٧٥، ومُقاتَلَةُ الشِّيعَةِ وأهْلِ السُّنَّةِ بِها سَنَةَ ٤٤٥، وأعْقَبَتْها حَوادِثُ شَرٍّ بَيْنَهم مُتَكَرِّرَةٌ إلى أنِ اصْطَلَحُوا في سَنَةِ ٥٠٢ وزالَ الشَّرُّ بَيْنَهم، وقِتالُ الباطِنِيَّةِ المَعْرُوفِينَ بِالإسْماعِيلِيَّةِ لِأهْلِ السُّنَّةِ في ساوَةَ وغَيْرِها مِن سَنَةِ ٤٩٤ إلى سَنَةِ ٥٢٣، ثُمَّ انْقَلَبَتْ إلى مُقاتَلاتٍ سِياسِيَّةٍ، ثُمَّ انْقَلَبُوا أنْصارًا لِلْإسْلامِ في الحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المُقاتَلاتِ النّاشِئَةِ عَنِ التَّكْفِيرِ والتَّضْلِيلِ، لا نَذْكُرُ غَيْرَها مِن مُقاتَلاتِ الدُّوَلِ والأحْزابِ الَّتِي نَخَرَتْ عِظامَ الإسْلامِ، وتَطَرَّقَتْ كُلَّ جِهَةٍ مِنهُ حَتّى البَلَدَ الحَرامَ. فالآيَةُ تُنادِي عَلى التَّعَجُّبِ والتَّحْذِيرِ مِن فِعْلِ الأُمَمِ في التَّقاتُلِ لِلتَّخالُفِ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغُوا في أصالَةِ العُقُولِ أوْ في سَلامَةِ الطَّوايا إلى الوَسائِلِ الَّتِي يَتَفادَوْنَ بِها عَنِ التَّقاتُلِ فَهم مَلُومُونَ مِن هَذِهِ الجِهَةِ، ومُشِيرَةٌ إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى لَوْ شاءَ لَخَلَقَهم مِن قَبْلُ عَلى صِفَةٍ أكْمَلَ مِمّا هم عَلَيْهِ حَتّى يَسْتَعِدُّوا بِها إلى الِاهْتِداءِ إلى الحَقِّ وإلى التَّبَصُّرِ في العَواقِبِ قَبْلَ ذَلِكَ الإبّانِ، فانْتِفاءُ المَشِيئَةِ راجِعٌ إلى حِكْمَةِ الخِلْقَةِ، واللَّوْمُ والحَسْرَةُ راجِعانِ إلى التَّقْصِيرِ في امْتِثالِ الشَّرِيعَةِ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما اقْتَتَلُوا ولَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ﴾ فَأعادَ ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما اقْتَتَلُوا﴾ تَأْكِيدًا لِلْأوَّلِ وتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ﴾ لِيَعْلَمَ الواقِفُ عَلى كَلامِ اللَّهِ تَعالى أنَّ في هُدى اللَّهِ تَعالى مَقْنَعًا لَهم لَوْ أرادُوا الِاهْتِداءَ كَما خَلَقَ المَلائِكَةَ، فاللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ولَكِنَّهُ يُكَمِّلُ حالَ الخَلْقِ بِالإرْشادِ والهُدى، وهم يُفَرِّطُونَ في ذَلِكَ.