موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الخميس 19 رمضان 1446 هجرية الموافق ل20 مارس 2025


الآية [26] من سورة  

إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسْتَحْىِۦٓ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِۦ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلْفَٰسِقِينَ


ركن التفسير

26 - (إن الله لا يستحيي أن يضرب) يجعل (مثلاً) مفعول أول (ما) نكرة موصوفة بما بعدها مفعول ثان أي مثل كان أو زائدة لتأكيد الخسة فما بعدها المفعول الثاني (بعوضةً) مفرد البعوض وهو صغار البق (فما فوقها) أي أكبر منها أي لا يترك بيانه لما فيه من الحكم (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه) أي المثل (الحق) الثابت الواقع موقعه (من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) تمييز أي بهذا المثل ، وما استفهام إنكار مبتدأ ، وذا بمعنى الذي بصلته خبره أي: أي فائدة فيه قال تعالى في جوابهم (يضل به) أي بهذا المثل (كثيرا) عن الحق لكفرهم به (ويهدي به كثيرا) من المؤمنين لتصديقهم به (وما يضل به إلا الفاسقين) الخارجين عن طاعته

قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" وقوله "أو كصيب من السماء" الآيات الثلاث قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى "هم الخاسرون" وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" وقال سعيد عن قتادة أي إن الله لا يستحي من الحق أن يذكر شيئا مما قل أو كثر وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" قلت: العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية وليس كذلك وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب والله أعلم. وروى ابن جريج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة: وقال ابن أبي حاتم: رُوي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا أن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء" هكذا رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية بنحوه فالله أعلم فهذا اختلافهم في سبب النزول. وقد اختار ابن جرير ما حكاه السدي لأنه أمس بالسورة وهو مناسب ومعني الآية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحي أي لا يستنكف وقيل لا يخشي أن يضرب مثلا ما أي مثل كان بأي شيء كان صغيرا كان أو كبيرا وما هاهنا للتقليل وتكون بعوضة منصوبة على البدل كما تقول لأضربن ضربا ما فيصدق بأدنى شيء أو تكون ما نكرة موصوفة ببعوضة واختار ابن جرير أن ما موصولة وبعوضة معربة بإعرابها قال: وذلك سائغ في كلام العرب أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة ونكرة أخرى كما قال حسان بن ثابت: يكفي بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا قال ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار وتقدير الكلام إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلي ما فوقها وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء وقرأ الضحاك وإبراهيم بن عبلة بعوضة بالرفع قال ابن جني وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله "تماما على الذي أحسن" أي على الذي هو أحسن. وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئا. أي بالذي هو قائل لك شيئا وقوله تعالى "فما فوقها" فيه قولان أحدهما فما دونها في الصغر والحقارة كما إذا وصف لك رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك - يعني فيما وصفت - وهذا قول الكسائي وأبي عبيد قاله الرازي وأكثر المحققين. وفي الحديث "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافرا منها شربة ماء" والثاني فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة وهذا قول قتادة ابن دعامة واختيار ابن جرير فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" فأخبر أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة كما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله "يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب" وقال "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" وقال تعالى "ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء" وقال تعالى "ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء" الآية ثم قال "وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل" الآية كما قال "ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم" الآية. وقال "ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون" الآية. وقال "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وفي القرآن أمثال كثيرة. قال بعض السلف إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن الله قال "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وقال مجاهد في قوله تعالى "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ويهديهم الله بها. وقال قتادة "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله ورُوي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك وقال أبو العالية "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" يعني هذا المثل "وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا" كما قال في سورة المدثر "وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو" وكذلك قال هاهنا "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين" قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة يضل به كثيرا يعني به المنافقين ويهدي به كثيرا يعني به المؤمنين فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم وأنه لما ضرب له موافق فذلك إضلال الله إياهم به ويهدي به يعني المثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق لما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به وذلك هداية من الله لهم به "وما يضل به إلا الفاسقين" قال هم المنافقون وقال أبو العالية "وما يضل به إلا الفاسقين" قال هم أهل النفاق. وكذا قال ربيع بن أنس وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس "وما يضل به إلا الفاسقين" قال يقول يعرفه الكافرون فيكفرون به. وقال قتادة "وما يضل به إلا الفاسقين" فسقوا فأضلهم الله على فسقهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عن إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن سعد "يضل به كثيرا" يعني الخوارج.

﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها﴾ قَدْ يَبْدُو في بادِئِ النَّظَرِ عَدَمُ التَّناسُبِ بَيْنَ مَساقِ الآياتِ السّالِفَةِ ومَساقِ هاتِهِ الآيَةِ فَبَيْنَما كانَتِ الآيَةُ السّابِقَةُ ثَناءً عَلى هَذا الكِتابِ المُبِينِ، ووَصْفَ حالَيِ المُهْتَدِينَ بِهَدْيِهِ والنّاكِبِينَ عَنْ صِراطِهِ وبَيانَ إعْجازِهِ والتَّحَدِّي بِهِ مَعَ ما تَخَلَّلَ وأعْقَبَ ذَلِكَ مِنَ المَواعِظِ والزَّواجِرِ النّافِعَةِ والبَياناتِ البالِغَةِ والتَّمْثِيلاتِ الرّائِعَةِ، إذا بِالكَلامِ قَدْ جاءَ بِخَبَرٍ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَعْبَأُ أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بِشَيْءٍ حَقِيرٍ أوْ غَيْرِ حَقِيرٍ. فَحَقِيقٌ بِالنّاظِرِ عِنْدَ التَّأمُّلِ أنْ تَظْهَرَ لَهُ المُناسِبَةُ لِهَذا الِانْتِقالِ: ذَلِكَ أنَّ الآياتِ السّابِقَةَ اشْتَمَلَتْ عَلى تَحَدِّي البُلَغاءِ بِأنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِ القُرْآنِ، فَلَمّا عَجَزُوا عَنْ مُعارَضَةِ النَّظْمِ سَلَكُوا في المُعارَضَةِ طَرِيقَةَ الطَّعْنِ في المَعانِي فَلَبَّسُوا عَلى النّاسِ بِأنَّ في القُرْآنِ مِن سَخِيفِ المَعْنى ما يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلامُ اللَّهِ لِيَصِلُوا بِذَلِكَ إلى إبْطالِ (p-٣٥٨)أنْ يَكُونَ القُرْآنُ مِن عِنْدِ اللَّهِ بِإلْقاءِ الشَّكِّ في نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ وبَذْرِ الخَصِيبِ في تَنْفِيرِ المُشْرِكِينَ والمُنافِقِينَ. رَوى الواحِدِيُّ في أسْبابِ النُّزُولِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أنْزَلَ قَوْلَهُ ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنهُ﴾ [الحج: ٧٣] وقَوْلُهُ ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أوْلِياءَ كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ [العنكبوت: ٤١] قالَ المُشْرِكُونَ أرَأيْتُمْ أيَّ شَيْءٍ يُصْنَعُ بِهَذا فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها﴾ ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ وقَتادَةَ أنَّ اللَّهَ لَمّا ذَكَرَ الذُّبابَ والعَنْكَبُوتَ في كِتابِهِ وضَرَبَ بِها المَثَلَ ضَحِكَ اليَهُودُ وقالُوا: ما يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هَذا كَلامَ اللَّهِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي﴾ الآيَةَ. والوَجْهُ أنْ نَجْمَعَ بَيْنَ الرِّوايَتَيْنِ ونُبَيِّنَ ما انْطَوَتا عَلَيْهِ بِأنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَفْزَعُونَ إلى يَهُودِ يَثْرِبَ في التَّشاوُرِ في شَأْنِ نُبُوءَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وخاصَّةً بَعْدَ أنْ هاجَرَ النَّبِيءُ ﷺ إلى المَدِينَةِ، فَيَتَلَقَّوْنَ مِنهم صُوَرًا مِنَ الكَيْدِ والتَّشْغِيبِ فَيَكُونُ قَدْ تَظاهَرَ الفَرِيقانِ عَلى الطَّعْنِ في بَلاغَةِ ضَرْبِ المَثَلِ بِالعَنْكَبُوتِ والذُّبابِ فَلَمّا أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى تَمْثِيلَ المُنافِقِينَ بِالَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا وكانَ مُعْظَمُهم مِنَ اليَهُودِ هاجَتْ أحْناقُهم وضاقَ خِناقُهم فاخْتَلَفُوا هَذِهِ المَطاعِنَ فَقالَ كُلُّ فَرِيقٍ ما نُسِبَ إلَيْهِ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ ونَزَلَتِ الآيَةُ لِلرَّدِّ عَلى الفَرِيقَيْنِ ووَضَحَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ. فَيَحْتَمِلُ أنَّ ذَلِكَ قالَهُ عُلَماءُ اليَهُودِ الَّذِينَ لا حَظَّ لَهم في البَلاغَةِ، أوْ قَدْ قالُوهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِفُنُونِ ضَرْبِ الأمْثالِ مُكابِرَةً وتَجاهُلًا. وكَوْنُ القائِلِينَ هُمُ اليَهُودَ هو المُوافِقُ لِكَوْنِ السُّورَةِ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، وكانَ أشَدَّ المُعانِدِينَ فِيها هُمُ اليَهُودُ، ولِأنَّهُ الأوْفَقُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ وهَذِهِ صِفَةُ اليَهُودِ، ولِأنَّ اليَهُودَ قَدْ شاعَ بَيْنَهُمُ التَّشاؤُمُ والغُلُوُّ في الحَذَرِ مِن مَدْلُولاتِ الألْفاظِ حَتّى اشْتَهَرُوا بِاسْتِعْمالِ الكَلامِ المُوَجَّهِ بِالشَّتْمِ والذَّمِّ كَقَوْلِهِمْ ”راعِنا“، قالَ تَعالى ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهم قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٦٢] كَما ورَدَ تَفْسِيرُهُ في الصَّحِيحِ، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِن شَأْنِ العَرَبِ. وإمّا أنْ يَكُونَ قائِلُهُ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِوُقُوعِ مِثْلِهِ في كَلامِ بُلَغائِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: أجْرَأُ مِن ذُبابَةٍ، وأسْمَعُ مِن قُرادٍ، وأطْيَشُ مِن فَراشَةٍ، وأضْعَفُ مِن بَعُوضَةٍ. وهَذا الِاحْتِمالُ أدَلُّ، عَلى أنَّهم ما قالُوا: ما هَذا (p-٣٥٩)التَّمْثِيلُ ؟ إلّا مُكابَرَةً ومُعانِدَةً، فَإنَّهم لَمّا غُلِبُوا بِالتَّحَدِّي وعَجَزُوا عَنِ الإتْيانِ بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ تَعَلَّقُوا في مَعاذِيرِهِمْ بِهاتِهِ السَّفاسِفِ، والمُكابِرُ يَقُولُ ما لا يَعْتَقِدُ، والمَحْجُوجُ المَبْهُوتُ يَسْتَعْوِجُ المُسْتَقِيمَ ويُخْفِي الواضِحَ، وإلى هَذا الثّانِي يَنْزِعُ كَلامُ صاحِبِ الكَشّافِ وهو أوْفَقُ بِالسِّياقِ. والسُّورَةُ وإنْ كانَتْ مَدَنِيَّةً فَإنَّ المُشْرِكِينَ لَمْ يَزالُوا يُلْقُونَ الشُّبَهَ في صِحَّةِ الرِّسالَةِ ويُشِيعُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الهِجْرَةِ بِواسِطَةِ المُنافِقِينَ. وقَدْ دَلَّ عَلى هَذا المَعْنى قَوْلُهُ بَعْدَهُ ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ فَإنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنِ الرَّدُّ عَقِبَ نُزُولِ الآياتِ الواقِعِ فِيها التَّمْثِيلُ الَّذِي أنْكَرُوهُ فَإنَّ البِدارَ بِالرَّدِّ عَلى مَن في مَقالِهِ شُبْهَةٌ رائِحَةٌ يَكُونُ أقْطَعَ لِشُبْهَتِهِ مِن تَأْخِيرِهِ زَمانًا. قُلْنا: الوَجْهُ في تَأْخِيرِ نُزُولِها أنْ يَقَعَ الرَّدُّ بَعْدَ الإتْيانِ بِأمْثالٍ مُعْجَبَةٍ اقْتَضاها مَقامُ تَشْبِيهِ الهَيْئاتِ، فَذَلِكَ كَما يَمْنَعُ الكَرِيمُ عَدُوَّهُ مِن عَطاءٍ فَيَلْمِزُهُ المَمْنُوعُ بِلَمْزِ البُخْلِ، أوْ يَتَأخَّرُ الكَمِيُّ عَنْ ساحَةِ القِتالِ مَكِيدَةً فَيَظُنُّهُ ناسٌ جُبْنًا فَيُسِرُّها الأوَّلُ في نَفْسِهِ حَتّى يَأْتِيَهُ القاصِدُ فَيُعْطَيهِ عَطاءً جَزْلًا، والثّانِي حَتّى يَكُرَّ كَرَّةً تَكُونُ القاضِيَةَ عَلى قَرْنِهِ. فَكَذَلِكَ لَمّا أتى القُرْآنُ بِأعْظَمِ الأمْثالِ وأرْوَعِها وهي قَوْلُهُ ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ [البقرة: ١٧] ﴿أوْ كَصَيِّبٍ﴾ [البقرة: ١٩] الآياتِ، وقَوْلُهُ ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] أتى إثْرَ ذَلِكَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، فَهَذا يُبَيِّنُ لَكَ مُناسِبَةَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَها، وقَدْ غَفَلَ عَنْ بَيانِهِ المُفَسِّرُونَ. والمُرادُ بِالمَثَلِ هُنا الشَّبَهُ مُطْلَقًا لا خُصُوصَ المُرَكَّبِ مِنَ الهَيْئَةِ، بِخِلافِ قَوْلِهِ فِيما سَبَقَ ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ [البقرة: ١٧] لِأنَّ المَعْنِيَّ هُنا ما طَعَنُوا بِهِ في تَشابِيهِ القُرْآنِ مِثْلُ قَوْلِهِ ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا﴾ [الحج: ٧٣] وقَوْلِهِ ﴿كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ [العنكبوت: ٤١] ومَوْقِعُ إنَّ هُنا بَيِّنٌ. وأمّا الإتْيانُ بِالمُسْنَدِ إلَيْهِ عَلَمًا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الصِّفاتِ فَلِأنَّ هَذا العَلَمَ جامِعٌ لِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ فَذِكْرُهُ أوْقَعُ في الإقْناعِ بِأنَّ كَلامَهُ هو أعْلى كَلامٍ في مُراعاةِ ما هو حَقِيقٌ بِالمُراعاةِ، وفي ذَلِكَ أيْضًا إبْطالٌ لِتَمْوِيهِهِمْ بِأنَّ اشْتِمالَ القُرْآنِ عَلى مِثْلِ هَذا المَثَلِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَيْسَ مِن عِنْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ مِن مَعْنى الآيَةِ أنَّ غَيْرَ اللَّهِ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَسْتَحْيِيَ أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مِن هَذا القَبِيلِ. ولِهَذا أيْضًا اخْتِيرَ أنْ يَكُونَ المُسْنَدُ خُصُوصَ فِعْلِ الِاسْتِحْياءِ زِيادَةً في الرَّدِّ عَلَيْهِمْ لِأنَّهم أنْكَرُوا التَّمْثِيلَ بِهاتِهِ الأشْياءِ لِمُراعاةِ كَراهَةِ النّاسِ، ومِثْلُ هَذا ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِحْياءِ كَما سَنُبَيِّنُهُ (p-٣٦٠)فَنُبِّهُوا عَلى أنَّ الخالِقَ لا يَسْتَحْيِي مِن ذَلِكَ إذْ لَيْسَ مِمّا يُسْتَحْيى مِنهُ، ولِأنَّ المَخْلُوقاتِ مُتَساوِيَةٌ في الضَّعْفِ بِالنِّسْبَةِ إلى خالِقِها والمُتَصَرِّفِ فِيها، وقَدْ يَكُونُ ذِكْرُ الِاسْتِحْياءِ هُنا مُحاكاةً لِقَوْلِهِمْ أما يَسْتَحْيِي رَبُّ مُحَمَّدٍ أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بِالذُّبابِ والعَنْكَبُوتِ. فَإنْ قُلْتَ: إذا كانَ اسْتِعْمالُ هَذِهِ الألْفاظِ الدّالَّةِ عَلى مَعانٍ حَقِيرَةٍ غَيْرَ مُخِلٍّ بِالبَلاغَةِ فَما بالُنا نَرى كَثِيرًا مِن أهْلِ النَّقْدِ قَدْ نَقَدُوا مِن كَلامِ البُلَغاءِ ما اشْتَمَلَ عَلى مَثَلٍ هَذا كَقَوْلِ الفَرَزْدَقِ: ؎مِن عِزِّهِمْ حَجَرَتْ كُلَيْبٌ بَيْتَها زَرْبًا كَأنَّهُمُ لَدَيْهِ القُمَّلُ وقَوْلِ أبِي الطَّيِّبِ: ؎أماتَكُمُ مِن قَبْلِ مَوْتِكُمُ الجَهْلُ ∗∗∗ وجَرَّكُمُ مِن خِفَّةٍ بِكُمُ النَّمْلُ وقَوْلِ الطِّرِمّاحِ: ؎ولَوْ أنَّ بُرْغُوثًا عَلى ظَهْرِ قَمْلَةٍ ∗∗∗ يَكُرُّ عَلى ضَبْعَيْ تَمِيمٍ لَوَلَّتِ قُلْتُ: أُصُولُ الِانْتِقادِ الأدَبِيِّ تُؤَوَّلُ إلى بَيانِ ما لا يَحْسُنُ أنْ يَشْتَمِلَ عَلَيْهِ كَلامُ الأدِيبِ مِن جانِبِ صِناعَةِ الكَلامِ، ومِن جانِبِ صُوَرِ المَعانِي، ومِن جانِبِ المُسْتَحْسَنِ مِنها والمَكْرُوهِ، وهَذا النَّوْعُ الثّالِثُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ العَوائِدِ ومَدارِكِ العُقُولِ وأصالَةِ الأفْهامِ بِحَسَبِ الغالِبِ مِن أحْوالِ أهْلِ صِناعَةِ الأدَبِ، ألا تَرى أنَّهُ قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَقْبُولًا عِنْدَ قَوْمٍ غَيْرَ مَقْبُولٍ عِنْدَ أخِرَيْنِ، ومَقْبُولًا في عَصْرٍ مَرْفُوضًا في غَيْرِهِ، ألا تَرى إلى قَوْلِ النّابِغَةِ يُخاطِبُ المَلِكَ النُّعْمانَ: ؎فَإنَّكَ كاللَّيْلِ الَّذِي هو مُدْرِكِي ∗∗∗ وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتَأى عَنْكَ واسِعُ فَإنَّ تَشْبِيهَ المَلِكِ بِاللَّيْلِ لَوْ وقَعَ في زَمانِ المُوَلَّدِينَ لَعُدَّ مِنَ الجَفاءِ أوِ العَجْرَفَةِ، وكَذَلِكَ تَشْبِيهُهم بِالحَيَّةِ في الإقْدامِ وإهْلاكِ العَدُوِّ في قَوْلِ ذِي الإصْبَعِ: ؎عَذِيرَ الحَيِّ مِن عَدَوا ∗∗∗ نَ كانُوا حَيَّةَ الأرْضِ وقَوْلِ النّابِغَةِ في رِثاءِ الحارِثِ الغَسّانِيِّ: ؎ماذا رُزِئْنا بِهِ مِن حَيَّةٍ ذَكَرٍ ∗∗∗ نَضْناضَةٍ بِالرَّزايا صِلِّ أصْلالِ وقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أهْلِ الأدَبِ أنَّ عَلِيَّ بْنَ الجَهْمِ مَدَحَ الخَلِيفَةَ المُتَوَكِّلَ بِقَوْلِهِ: ؎أنْتَ كالكَلْبِ في وفائِكَ بِالعَهْ ∗∗∗ دِ وكالتَّيْسِ في قِراعِ الخُطُوبِ (p-٣٦١)وأنَّهُ لَمّا سَكَنَ بَغْدادَ وعَلِقَتْ نَضارَةُ النّاسِ بِخَيالِهِ قالَ في أوَّلِ ما قالَهُ: ؎عُيُونُ المَها بَيْنَ الرَّصافَةِ والجِسْرِ ∗∗∗ جَلَبْنَ الهَوى مِن حَيْثُ أدْرِي ولا أدْرِي وقَدِ انْتَقَدَ بَشّارٌ عَلى كُثَيِّرٍ قَوْلَهُ: ؎ألا إنَّما لَيْلى عَصا خَيْزُرانَةٌ ∗∗∗ إذا لَمَسُوها بِالأكُفِّ تَلِينُ فَقالَ، لَوْ جَعَلَها عَصا مُخٍّ أوْ عَصا زُبْدٍ لَما تَجاوَزَ مِن أنْ تَكُونَ عَصا، عَلى أنَّ بَشّارًا هو القائِلُ: ؎إذا قامَتْ لِجارَتِها تَثَنَّتْ ∗∗∗ كَأنَّ عِظامَها مِن خَيْزُرانِ وشَبَّهَ بِشارٌ عَبْدَةَ بِالحَيَّةِ في قَوْلِهِ: ؎وكَأنَّها لَمّا مَشَتْ ∗∗∗ أيْمٌ تَأوَّدَ في كَثِيبْ والِاسْتِحْياءُ والحَياءُ واحِدٌ، فالسِّينُ والتّاءُ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ مِثْلُ اسْتَقْدَمَ واسْتَأْخَرَ واسْتَجابَ. وهو انْقِباضُ النَّفْسِ مِن صُدُورِ فِعْلٍ أوْ تَلَقِّيهِ لِاسْتِشْعارِ أنَّهُ لا يَلِيقُ أوْ لا يَحْسُنُ في مُتَعارَفِ أمْثالِهِ، فَهو هَيْئَةٌ تَعْرِضُ لِلنَّفْسِ هي مِن قَبِيلِ الِانْفِعالِ يَظْهَرُ أثَرُها عَلى الوَجْهِ، وفي الإمْساكِ عَنْ ما مِن شَأْنِهِ أنْ يَفْعَلَ. والِاسْتِحْياءُ هُنا مَنفِيٌّ عَنْ أنْ يَكُونَ وصْفًا لِلَّهِ تَعالى فَلا يَحْتاجُ إلى تَأْوِيلٍ في صِحَّةِ إسْنادِهِ إلى اللَّهِ، والتَّعَلُّلُ لِذَلِكَ بِأنَّ نَفْيَ الوَصْفِ يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الِاتِّصافِ تَعَلُّلٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. والضَّرْبُ في قَوْلِهِ ﴿أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ مُسْتَعْمَلٌ مَجازًا في الوَضْعِ والجَعْلِ مِن قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ خَيْمَةً وضَرَبَ بَيْتًا. قالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ: ؎إنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ بَيْتًا مُهاجِرَةً ∗∗∗ بِكُوفَةِ الجُنْدِ غالَتْ وُدَّها غُولُ وقَوْلُ الفَرَزْدَقِ: ؎ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِها ∗∗∗ وقَضى عَلَيْكَ بِهِ الكِتابُ المُنْزَلُ أيْ جَعَلَ شَيْئًا مَثَلًا أيْ شَبَهًا، قالَ تَعالى ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ﴾ [النحل: ٧٤] أيْ لا تَجْعَلُوا لَهُ مُماثِلًا مِن خَلْقِهِ، فانْتِصابُ مَثَلًا عَلى المَفْعُولِ بِهِ، وجَوَّزَ بَعْضُ أئِمَّةِ اللُّغَةِ أنْ يَكُونَ فِعْلُ ضَرَبَ مُشْتَقًّا (p-٣٦٢)مِنَ الضَّرْبِ بِمَعْنى المُماثِلِ فانْتِصابُ مَثَلًا عَلى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ لِلتَّوْكِيدِ لِأنَّ مَثَلًا مُرادِفٌ مَصْدَرَ فِعْلِهِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ، والمَعْنى: لا يَسْتَحْيِي أنْ يُشَبِّهَ بِشَيْءٍ ما. والمَثَلُ المَثِيلُ والمُشابِهُ، وغَلَبَ عَلى مُماثَلَةِ هَيْئَةٍ بِهَيْئَةٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ [البقرة: ١٧] وتَقَدَّمَ هُناكَ مَعْنى ضَرْبِ المَثَلِ بِالمَعْنى الآخَرِ، وتَنْكِيرُ (مَثَلًا) لِلتَّنْوِيعِ بِقَرِينَةِ بَيانِهِ بِقَوْلِهِ (بَعُوضَةً) فَما فَوْقَها. وما إبْهامِيَّةٌ تَتَّصِلُ بِالنَّكِرَةِ فَتُؤَكِّدُ مَعْناها مِن تَنْوِيعٍ أوْ تَفْخِيمٍ أوْ تَحْقِيرٍ، نَحْوِ: لِأمْرٍ ما، وأعْطاهُ شَيْئًا ما. والأظْهَرُ أنَّها مَزِيدَةٌ لِتَكُونَ دَلالَتُها عَلى التَّأْكِيدِ أشَدَّ، وقِيلَ اسْمٌ بِمَعْنى النَّكِرَةِ المُبْهَمَةِ. وبَعُوضَةً بَدَلٌ أوْ بَيانٌ مِن قَوْلِهِ مَثَلًا والبَعُوضَةُ واحِدَةُ البَعُوضِ وهي حَشَرَةٌ صَغِيرَةٌ طائِرَةٌ ذاتُ خُرْطُومٍ دَقِيقٍ تَحُومُ عَلى الإنْسانِ لِتَمْتَصَّ بِخُرْطُومِها مِن دَمِهِ غِذاءً لَها، وتُعْرَفُ في لُغَةِ هُذَيْلٍ بِالخُمُوشِ، وأهْلُ تُونِسَ يُسَمُّونَهُ النّامُوسَ واحِدَتُهُ النّامُوسَةُ وقَدْ جُعِلَتْ هُنا مَثَلًا لِشِدَّةِ الضَّعْفِ والحَقارَةِ. وقَوْلُهُ ﴿فَما فَوْقَها﴾ عُطِفَ عَلى بَعُوضَةً وأصْلُ (فَوْقَ) اسْمٌ لِلْمَكانِ المُعْتَلِي عَلى غَيْرِهِ فَهو اسْمٌ مُبْهَمٌ، فَلِذَلِكَ كانَ مُلازِمًا لِلْإضافَةِ لِأنَّهُ تَتَمَيَّزُ جِهَتُهُ بِالِاسْمِ الَّذِي يُضافُ هو إلَيْهِ، فَهو مِن أسْماءِ الجِهاتِ المُلازِمَةِ لِلْإضافَةِ لَفْظًا أوْ تَقْدِيرًا، ويُسْتَعْمَلُ مَجازًا في المُتَجاوِزِ غَيْرَهُ في صِفَةٍ تَجاوُزًا ظاهِرًا تَشْبِيهًا بِظُهُورِ الشَّيْءِ المُعْتَلِي عَلى غَيْرِهِ عَلى ما هو مُعْتَلٍ عَلَيْهِ، فَفَوْقَ في مِثْلِهِ يُسْتَعْمَلُ في مَعْنى التَّغَلُّبِ والزِّيادَةِ في صِفَةٍ سَواءٌ كانَتْ مِنَ المَحامِدِ أوْ مِنَ المَذامِّ، يُقالُ: فُلانٌ خَسِيسٌ وفَوْقَ الخَسِيسِ وفُلانٌ شُجاعٌ وفَوْقَ الشُّجاعِ، وتَقُولُ أُعْطِيَ فُلانٌ فَوْقَ حَقِّهِ أيْ زائِدًا عَلى حَقِّهِ. وهو في هَذِهِ الآيَةِ صالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ أيْ ما هو أشَدُّ مِنَ البَعُوضَةِ في الحَقارَةِ وما هو أكْبَرُ حَجْمًا. ونَظِيرُهُ قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ «ما مِن مُسْلِمٍ يُشاكُ شَوْكَةً فَما فَوْقَها إلّا كُتِبَتْ لَهُ بِها دَرَجَةٌ ومُحِيَتْ عَنْهُ بِها خَطِيئَةٌ» رَواهُ مُسْلِمٌ، يَحْتَمِلُ أقَلَّ مِنَ الشَّوْكَةِ في الأذى مِثْلَ نُخْبَةِ النَّمْلَةِ - كَما جاءَ في حَدِيثٍ آخَرَ - أوْ ما هو أشَدُّ مِنَ الشَّوْكَةِ مِثْلُ الوَخْزِ بِسِكِّينٍ، وهَذا مِن تَصارِيفِ لَفْظِ فَوْقَ في الكَلامِ، ولِذَلِكَ كانَ لِاخْتِيارِهِ في هَذِهِ الآيَةِ دُونَ لَفْظِ أقَلَّ، ودُونَ لَفْظِ أقْوى مَثَلًا مَوْقِعٌ مِن بَلِيغِ الإيجازِ. (p-٣٦٣)والفاءُ عاطِفَةٌ ما فَوْقَها عَلى بَعُوضَةً أفادَتْ تَشْرِيكَهُما في ضَرْبِ المَثَلِ بِهِما، وحَقُّها أنْ تُفِيدَ التَّرْتِيبَ والتَّعْقِيبَ، ولَكِنَّها هُنا لا تُفِيدُ التَّعْقِيبَ وإنَّما اسْتُعْمِلَتْ في مَعْنى التَّدَرُّجِ في الرُّتَبِ بَيْنَ مَفاعِيلِ (﴿أنْ يَضْرِبَ﴾) ولا تُفِيدُ أنَّ ضَرْبَ المَثَلِ يَكُونُ بِالبَعُوضَةِ ويَعْقُبُهُ ضَرْبُهُ بِما فَوْقَها بَلِ المُرادُ بَيانُ المَثَلِ بِأنَّهُ البَعُوضَةُ وما يَتَدَرَّجُ في مَراتِبِ القُوَّةِ زائِدًا عَلَيْها دَرَجَةً تَلِي دَرَجَةً، فالفاءُ في مِثْلِ هَذا مَجازٌ مُرْسَلٌ عَلاقَتُهُ الإطْلاقُ عَنِ القَيْدِ لِأنَّ الفاءَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّعْقِيبِ الَّذِي هو اتِّصالٌ خاصٌّ، فاسْتُعْمِلَتْ في مُطْلَقِ الِاتِّصالِ، أوْ هي مُسْتَعارَةٌ لِلتَّدَرُّجِ لِأنَّهُ شَبِيهٌ بِالتَّعْقِيبِ في التَّأخُّرِ في التَّعَقُّلِ كَما أنَّ التَّعْقِيبَ تَأخُّرٌ في الحُصُولِ، ومِنهُ: رَحِمَ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ فالمُقَصِّرِينَ. والمَعْنى أنْ يَضْرِبَ البَعُوضَةَ مَثَلًا فَيَضْرِبَ ما فَوْقَها أيْ ما هو دَرَجَةٌ أُخْرى أيْ أحْقَرَ مِنَ البَعُوضَةِ مِثْلَ الذَّرَّةِ، وأعْظَمَ مِنها مِثْلَ العَنْكَبُوتِ والحِمارِ. * * * ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا﴾ الفاءُ لِلتَّعْقِيبِ الذِّكْرِيِّ دُونَ الحُصُولِيِّ أيْ لِتَعْقِيبِ الكَلامِ المُفَصَّلِ عَلى الكَلامِ المُجْمَلِ عَطَفَتِ المُقَدَّرَ في قَوْلِهِ ﴿لا يَسْتَحْيِي﴾ لِأنَّ تَقْدِيرَهُ: لا يَسْتَحْيِي مِنَ النّاسِ كَما تَقَدَّمَ، ولَمّا كانَ في النّاسِ مُؤْمِنُونَ وكافِرُونَ وكِلا الفَرِيقَيْنِ تَلَقّى ذَلِكَ المَثَلَ واخْتَلَفَتْ حالُهم في الِانْتِفاعِ بِهِ، نَشَأ في الكَلامِ إجْمالٌ مُقَدَّرٌ اقْتَضى تَفْصِيلَ حالِهِمْ. وإنَّما عَطَفَ بِالفاءِ لِأنَّ التَّفْصِيلَ حاصِلٌ عَقِبَ الإجْمالِ. و(أمّا) حَرْفٌ مَوْضُوعٌ لِتَفْصِيلِ مُجْمَلٍ مَلْفُوظٍ أوْ مُقَدَّرٍ. ولَمّا كانَ الإجْمالُ يَقْتَضِي اسْتِشْرافَ السّامِعِ لِتَفْصِيلِهِ كانَ التَّصَدِّي لِتَفْصِيلِهِ بِمَنزِلَةِ سُؤالٍ مَفْرُوضٍ كَأنَّ المُتَكَلِّمَ يَقُولُ: إنْ شِئْتَ تَفْصِيلَهُ فَتَفْصِيلُهُ كَيْتَ وكَيْتَ، فَلِذَلِكَ كانَتْ (أمّا) مُتَضَمِّنَةً مَعْنى الشَّرْطِ، ولِذَلِكَ لَزِمَتْها الفاءُ في الجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَها لِأنَّها كَجَوابِ شَرْطٍ، وقَدْ تَخْلُو عَنْ مَعْنى التَّفْصِيلِ في خُصُوصِ قَوْلِ العَرَبِ: أمّا بَعْدُ فَتَتَمَحَّضُ لِلشَّرْطِ وذَلِكَ في التَّحْقِيقِ لِخَفاءِ مَعْنى التَّفْصِيلِ لِأنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى تَرَقُّبِ السّامِعِ كَلامًا بَعْدَ كَلامِهِ الأوَّلِ. وقَدَّرَها سِيبَوَيْهِ بِمَعْنى مَهْما يَكُنْ مِن شَيْءٍ، وتَلَقَّفَهُ أهْلُ العَرَبِيَّةِ بَعْدَهُ وهو عِنْدِي تَقْدِيرُ مَعْنًى لِتَصْحِيحِ دُخُولِ الفاءِ في جَوابِها، وفي النَّفْسِ مِنهُ شَيْءٌ (p-٣٦٤)لِأنَّ دَعْوى قَصْدِ عُمُومِ الشَّرْطِ غَيْرُ بَيِّنَةٍ، فَإذا جِيءَ بِأداةِ التَّفْصِيلِ المُتَضَمِّنَةِ مَعْنى الشَّرْطِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى مَزِيدِ اهْتِمامِ المُتَكَلِّمِ بِذَلِكَ التَّفْصِيلِ فَأفادَ تَقْوِيَةَ الكَلامِ الَّتِي سَمّاها الزَّمَخْشَرِيُّ تَوْكِيدًا وما هو إلّا دَلالَةُ الِاهْتِمامِ بِالكَلامِ، عَلى أنَّ مَضْمُونَهُ مُحَقَّقٌ ولَوْلا ذَلِكَ لَما اهْتَمَّ بِهِ، وبِهَذا يَظْهَرُ فَضْلُ قَوْلِهِ ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ﴾ إلَخْ عَلى أنْ يُقالَ: فالَّذِينَ آمَنُوا يَعْلَمُونَ بِدُونِ (أمّا) والفاءِ. وجَعَلَ تَفْصِيلَ النّاسِ في هَذِهِ الآيَةِ قِسْمَيْنِ لِأنَّ النّاسَ بِالنِّسْبَةِ إلى التَّشْرِيعِ والتَّنْزِيلِ قِسْمانِ ابْتِداءً: مُؤْمِنٌ وكافِرٌ، والمَقْصُودُ مِن ذِكْرِ المُؤْمِنِينَ هُنا الثَّناءُ عَلَيْهِمْ بِثَباتِ إيمانِهِمْ وتَأْيِيسِ الَّذِينَ أرادُوا إلْقاءَ الشَّكِّ عَلَيْهِمْ فَيَعْلَمُونَ أنَّ قُلُوبَهم لا مَدْخَلَ فِيها لِذَلِكَ الشَّكِّ. والمُرادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنا إمّا خُصُوصُ المُشْرِكِينَ كَما هو مُصْطَلَحُ القُرْآنِ غالِبًا، وإمّا ما يَشْمَلُهم ويَشْمَلُ اليَهُودَ بِناءً عَلى ما سَلَفَ في سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ. وإنَّما عَبَّرَ في جانِبِ المُؤْمِنِينَ بِـ (يَعْلَمُونَ) تَعْرِيضًا بِأنَّ الكافِرِينَ إنَّما قالُوا ما قالُوا عِنادًا ومُكابَرَةً وأنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّ ذَلِكَ تَمْثِيلٌ أصابَ المَحَزَّ، كَيْفَ وهَمَ أهْلُ اللِّسانِ وفُرْسانُ البَيانِ، ولَكِنْ شَأْنُ المُعانِدِ المُكابِرِ أنْ يَقُولَ ما لا يَعْتَقِدُ؛ حَسَدًا وعِنادًا. وضَمِيرُ أنَّهُ عائِدٌ إلى المَثَلِ. والحَقُّ تَرْجِعُ مَعانِيهِ إلى مُوافَقَةِ الشَّيْءِ لِما يَحِقُّ أنْ يَقَعَ وهو هُنا المُوافِقُ لِإصابَةِ الكَلامِ وبَلاغَتِهِ. و﴿مِن رَبِّهِمْ﴾ حالٌ مِنَ (الحَقِّ) و(مِن) ابْتِدائِيَّةٌ أيْ وارِدٌ مِنَ اللَّهِ لا كَما زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّهُ مُخالِفٌ لِلصَّوابِ فَهو مُؤْذِنٌ بِأنَّهُ مِن كَلامِ مَن يَقَعُ مِنهُ الخَطَأُ. وأصْلُ ماذا كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِن ما الِاسْتِفْهامِيَّةِ وذا اسْمِ الإشارَةِ، ولِذَلِكَ كانَ أصْلُها أنْ يُسْألَ بِها عَنْ شَيْءٍ مُشارٍ إلَيْهِ كَقَوْلِ القائِلِ ”ماذا“ مُشِيرًا إلى شَيْءٍ حاضِرٍ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: ما هَذا، غَيْرَ أنَّ العَرَبَ تَوَسَّعُوا فِيهِ فاسْتَعْمَلُوهُ اسْمَ اسْتِفْهامٍ مُرَكَّبًا مِن كَلِمَتَيْنِ وذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ المُشارُ إلَيْهِ مُعَبَّرًا عَنْهُ بِلَفْظٍ آخَرَ غَيْرِ الإشارَةِ حَتّى تَصِيرَ الإشارَةُ إلَيْهِ مَعَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِلَفْظٍ آخَرَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، نَحْوَ ماذا التَّوانِي، أوْ حَيْثُ لا يَكُونُ لِلْإشارَةِ مَوْقِعٌ نَحْوَ ﴿وماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ﴾ [النساء: ٣٩] ولِذَلِكَ يَقُولُ النُّحاةُ: إنَّ ذا مُلْغاةٌ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ. وقَدْ يَتَوَسَّعُونَ فِيها تَوَسُّعًا أقْوى فَيَجْعَلُونَ ذا اسْمًا مَوْصُولًا وذَلِكَ حِينَ يَكُونَ المَسْئُولُ عَنْهُ مَعْرُوفًا لِلْمُخاطَبِ بِشَيْءٍ مِن أحْوالِهِ فَلِذَلِكَ يُجْرُونَ عَلَيْهِ جُمْلَةً أوْ نَحْوَها هي صِلَةٌ ويَجْعَلُونَ ذا مَوْصُولًا نَحْوَ ﴿ماذا أنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ [النحل: ٢٤] وعَلى هَذَيْنِ الِاحْتِمالَيْنِ الآخَرَيْنِ يَصِحُّ إعْرابُهُ مُبْتَدَأً ويَصِحُّ إعْرابُهُ مَفْعُولًا مُقَدَّمًا إذا وقَعَ بَعْدَهُ فِعْلٌ. والِاسْتِفْهامُ هُنا إنْكارِيٌّ أيْ جُعِلَ الكَلامُ في صُورَةِ الِاسْتِفْهامِ (p-٣٦٥)كِنايَةً بِهِ عَنِ الإنْكارِ لِأنَّ الشَّيْءَ المُنْكَرَ يُسْتَفْهَمُ عَنْ حُصُولِهِ فاسْتِعْمالُ الِاسْتِفْهامِ في الإنْكارِ مِن قَبِيلِ الكِنايَةِ، ومِثْلُهُ لا يُجابُ بِشَيْءٍ غالِبًا لِأنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ الِاسْتِعْلامُ. وقَدْ يُلاحَظُ فِيهِ مَعْناهُ الأصْلِيُّ فَيُجابُ بِجَوابٍ لِأنَّ الِاسْتِعْمالَ الكِنائِيَّ لا يَمْنَعُ مِن إرادَةِ المَعْنى الأصْلِيِّ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿عَمَّ يَتَساءَلُونَ﴾ [النبإ: ١] ﴿عَنِ النَّبَإ العَظِيمِ﴾ [النبإ: ٢] والإشارَةُ بِقَوْلِهِ بِهَذا مُفِيدَةٌ لِلتَّحْقِيرِ بِقَرِينَةِ المَقامِ كَقَوْلِهِ ﴿أهَذا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٣٦] وانْتَصَبَ قَوْلُهُ مَثَلًا عَلى التَّمْيِيزِ مِن (هَذا) لِأنَّهُ مُبْهَمٌ فَحُقَّ لَهُ التَّمْيِيزُ وهو نَظِيرُ التَّمْيِيزِ لِلضَّمِيرِ في قَوْلِهِمْ (رُبَّهُ رَجُلًا) . * * * ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ في الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ بَيانٌ وتَفْسِيرٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ المُصَدَّرَتَيْنِ بِأمّا عَلى طَرِيقَةِ النَّشْرِ المَعْكُوسِ لِأنَّ مَعْنى هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِما مَعْنى الجُمْلَتَيْنِ السّالِفَتَيْنِ إجْمالًا فَإنَّ عِلْمَ المُؤْمِنِينَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ هُدًى، وقَوْلَ الكافِرِينَ (﴿ماذا أرادَ اللَّهُ﴾) الخَ ضَلالٌ، والأظْهَرُ أنْ لا يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ جَوابًا لِلِاسْتِفْهامِ في قَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴿ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا﴾ لِأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ اسْتِفْهامًا حَقِيقِيًّا كَما تَقَدَّمَ. ويَجُوزُ أنْ يُجْعَلَ جَوابًا عَنِ اسْتِفْهامِهِمْ تَخْرِيجًا لِلْكَلامِ عَلى الأُسْلُوبِ الحَكِيمِ بِحَمْلِ اسْتِفْهامِهِمْ عَلى ظاهِرِهِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ اللّائِقَ بِهِمْ أنْ يَسْألُوا عَنْ حِكْمَةِ ما أرادَ اللَّهُ بِتِلْكَ الأمْثالِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ جَوابًا لَهم ورَدًّا عَلَيْهِمْ وبَيانًا لِحالِ المُؤْمِنِينَ، وهَذا لا يُنافِي كَوْنَ الِاسْتِفْهامِ الَّذِي قَبْلَهُ مَكْنِيٌّ بِهِ عَنِ الإنْكارِ كَما عَلِمْتَهُ آنِفًا مِن عَدَمِ المانِعِ مِن جَمْعِ المَعْنَيَيْنِ الكِنائِيِّ والأصْلِيِّ. وكَوْنُ كِلا الفَرِيقَيْنِ مِنَ المُضَلَّلِ والمَهْدِيِّ كَثِيرًا في نَفْسِهِ، لا يُنافِي نَحْوَ قَوْلِهِ ﴿وقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبإ: ١٣] لِأنَّ قُوَّةَ الشُّكْرِ الَّتِي اقْتَضاها صِيغَةُ المُبالَغَةِ، أخَصُّ في الِاهْتِداءِ. (p-٣٦٦)والفاسِقُ لَفْظٌ مِن مَنقُولاتِ الشَّرِيعَةِ، أصْلُهُ اسْمُ فاعِلٍ مِنَ الفِسْقِ بِكَسْرِ الفاءِ، وحَقِيقَةُ الفِسْقِ خُرُوجُ الثَّمَرَةِ مِن قِشْرِها وهو عاهَةٌ أوْ رَداءَةٌ في الثَّمَرِ، فَهو خُرُوجٌ مَذْمُومٌ يُعَدُّ مِنَ الأدْواءِ مِثْلَ ما قالَ النّابِغَةُ: ؎صِغارُ النَّوى مَكْنُوزَةٌ لَيْسَ قِشْرُها إذا طارَ قِشْرُ التَّمْرِ عَنْها بِطائِرِ قالُوا: ولَمْ يُسْمَعْ في كَلامِهِمْ في غَيْرِ هَذا المَعْنى حَتّى نَقَلَهُ القُرْآنُ لِلْخُرُوجِ عَنْ أمْرِ اللَّهِ تَعالى الجازِمِ بِارْتِكابِ المَعاصِي الكَبائِرِ، فَوَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ في كَلامِ المُسْلِمِينَ: قالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ إبِلًا: ؎فَواسِقًا عَنْ قَصْدِها جَوائِرا ∗∗∗ يَهْوَيْنَ في نَجْدٍ وغَوْرٍ غائِرا والفِسْقُ مَراتِبُ كَثِيرَةٌ تَبْلُغُ بَعْضُها إلى الكُفْرِ. وقَدْ أُطْلِقَ الفِسْقُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ عَلى جَمِيعِها لَكِنَّ الَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ الأدِلَّةِ هو ما اصْطَلَحَ عَلَيْهِ أهْلُ السُّنَّةِ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ والفُقَهاءِ وهو أنَّ الفِسْقَ غَيْرُ الكُفْرِ وأنَّ المَعاصِيَ وإنْ كَثُرَتْ لا تُزِيلُ الإيمانَ وهو الحَقُّ، وقَدْ لَقَّبَ اللَّهُ اليَهُودَ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ القُرْآنِ بِالفاسِقِينَ، وأحْسَبُ أنَّهُ المُرادُ هُنا، وعَزاهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِجُمْهُورٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ. وإسْنادُ الإضْلالِ إلى اللَّهِ تَعالى مُراعًى فِيهِ أنَّهُ الَّذِي مَكَّنَ الضّالِّينَ مِنَ الكَسْبِ والِاخْتِيارِ بِما خَلَقَ لَهم مِنَ العُقُولِ وما فَصَلَ لَهم مِن أسْبابِ الخَيْرِ وضِدِّهِ. وفِي اخْتِيارِ إسْنادِهِ إلى اللَّهِ تَعالى مَعَ صِحَّةِ إسْنادِهِ لِفِعْلِ الضّالِّ إشارَةٌ إلى أنَّهُ ضَلالٌ مُتَمَكِّنٌ مِن نُفُوسِهِمْ حَتّى صارَ كالجِبِلَّةِ فِيهِمْ، فَهم مَأْيُوسٌ مِنِ اهْتِدائِهِمْ كَما قالَ تَعالى ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] فَإسْنادُ الإضْلالِ إلى اللَّهِ تَعالى مَنظُورٌ فِيهِ إلى خَلْقِ أسْبابِهِ القَرِيبَةِ والبَعِيدَةِ وإلّا فَإنَّ اللَّهَ أمَرَ النّاسَ كُلَّهم بِالهُدى وهي مَسْألَةٌ مَفْرُوغٌ مِنها في عِلْمِ الكَلامِ. وقَوْلُهُ ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ إمّا مُسُوقٌ لِبَيانِ أنَّ لِلْفِسْقِ تَأْثِيرًا في زِيادَةِ الضَّلالِ لِأنَّ الفِسْقَ يَرِينُ عَلى القُلُوبِ ويُكْسِبُ النُّفُوسَ ظُلْمَةً فَتَتَساقَطُ في الضَّلالِ المَرَّةَ بَعْدَ الأُخْرى عَلى التَّعاقُبِ، حَتّى يَصِيرَ لَها دُرْبَةً. وهَذا الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ التَّعْلِيقُ عَلى وصْفِ المُشْتَقِّ إنْ كانَ المُرادُ بِهِ هُنا المَعْنى الِاشْتِقاقِيَّ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: هَؤُلاءِ فاسِقُونَ وما مِن فاسِقٍ إلّا وهو ضالٌّ فَما ثَبَتَ الضَّلالُ إلّا بِثُبُوتِ الفِسْقِ عَلى نَحْوِ طَرِيقَةِ القِياسِ الِاقْتِرانِيِّ، وإمّا مُسُوقٌ لِبَيانِ أنَّ الضَّلالَ والفِسْقَ أخَوانِ، فَحَيْثُما تَحَقَّقَ أحَدُهُما أنْبَأ بِتَحَقُّقِ الآخَرِ عَلى نَحْوِ قِياسِ المُساواةِ إذا أُرِيدَ مِنَ الفاسِقِينَ المَعْنى اللَّقَبِيُّ المَشْهُورُ فَلا يَكُونُ لَهُ إيذانٌ بِتَعْلِيلٍ. وإمّا لِبَيانِ أنَّ الإضْلالَ (p-٣٦٧)المُتَكَيَّفَ في إنْكارِ الأمْثالِ إضْلالٌ مَعَ غَباوَةٍ فَلا يَصْدُرُ إلّا مِنَ اليَهُودِ، وقَدْ عُرِفُوا بِهَذا الوَصْفِ. والقَوْلُ في مَذاهِبِ عُلَماءِ الإسْلامِ في الفِسْقِ وتَأْثِيرِهِ في الإيمانِ لَيْسَ هَذا مَقامُ بَيانِهِ إذْ لَيْسَ هو المَقْصُودَ مِنَ الآيَةِ. فَإنْ كانَ مَحْمَلُ الفاسِقِينَ عَلى ما يَشْمَلُ المُشْرِكِينَ واليَهُودَ الَّذِينَ طَعَنُوا في ضَرْبِ المَثَلِ كانَ القَصْرُ في قَوْلِهِ ﴿وما يُضِلُّ بِهِ﴾ إلَخْ بِالإضافَةِ إلى المُؤْمِنِينَ لِيَحْصُلَ تَمْيِيزُ المُرادِ مِنَ المُضَلَّلِ والمُهْتَدِي. وإنْ كانَ مَحْمَلُ الفاسِقِينَ عَلى اليَهُودِ كانَ القَصْرُ حَقِيقِيًّا ادِّعائِيًّا أيْ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وهُمُ الطّاعِنُونَ فِيهِ وأشَدُّهم ضَلالًا هُمُ الفاسِقُونَ، ووَجْهُ ذَلِكَ أنَّ المُشْرِكِينَ أبْعَدُ عَنِ الِاهْتِداءِ بِالكِتابِ لِأنَّهم في شِرْكِهِمْ، وأمّا اليَهُودُ فَهم أهْلُ كِتابٍ وشَأْنُهم أنْ يَعْلَمُوا أفانِينَ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ وضَرْبَ الأمْثالِ، فَإنْكارُهم إيّاها غايَةُ الضَّلالِ، فَكَأنَّهُ لا ضَلالَ سِواهُ. وجُمْلَةُ ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ﴾ إلى آخِرِهِ صِفَةٌ لِـ الفاسِقِينَ لِتَقْرِيرِ اتِّصافِهِمْ بِالفِسْقِ لِأنَّ هاتِهِ الخِلالَ مِن أكْبَرِ أنْواعِ الفُسُوقِ بِمَعْنى الخُرُوجِ عَنْ أمْرِ اللَّهِ تَعالى. وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ مَقْطُوعَةً مُسْتَأْنَفَةً عَلى أنَّ الَّذِينَ مُبْتَدَأٌ وقَوْلَهُ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ خَبَرٌ وهي مَعَ ذَلِكَ لا تَخْرُجُ عَنْ مَعْنى تَوْصِيفِ الفاسِقِينَ بِتِلْكَ الخِلالِ؛ إذِ الِاسْتِئْنافُ لَمّا ورَدَ إثْرَ حِكايَةِ حالٍ عَنِ الفاسِقِينَ تَعَيَّنَ في حُكْمِ البَلاغَةِ أنْ تَكُونَ هاتِهِ الصِّلَةُ مِن صِفاتِهِمْ وأحْوالِهِمْ لِلُزُومِ الِاتِّحادِ في الجامِعِ الخَيالِيِّ، وإلّا لَصارَ الكَلامُ مُقَطَّعًا مَنتُوفًا فَلَيْسَ بَيْنَ الِاعْتِبارَيْنِ إلّا اخْتِلافُ الإعْرابِ، وأمّا المَعْنى فَواحِدٌ، فَلِذَلِكَ كانَ إعْرابُهُ صِفَةً أرْجَحَ أوْ مُتَعَيِّنًا إذْ لا داعِيَ إلى اعْتِبارِ القَطْعِ. ومَجِيءُ المَوْصُولِ هُنا لِلتَّعْرِيفِ بِالمُرادِ مِنَ الفاسِقِينَ أيِ الفاسِقِينَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِهَذِهِ الخِلالِ الثَّلاثِ فالأظْهَرُ أنَّ المُرادَ مِنَ الفاسِقِينَ اليَهُودُ، وقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ هَذا الوَصْفُ في مَواضِعَ مِنَ القُرْآنِ وهم قَدْ عُرِفُوا بِما دَلَّتْ عَلَيْهِ صِلَةُ المَوْصُولِ كَما سَنُبَيِّنُهُ هُنا، بَلْ هم قَدْ شَهِدَتْ عَلَيْهِمْ كُتُبُ أنْبِيائِهِمْ بِأنَّهم نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ غَيْرَ مَرَّةٍ وهم قَدِ اعْتَرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ فَناسَبَ أنْ يُجْعَلَ النَّقْضُ صِلَةً لِاشْتِهارِهِمْ بِها، ووَجْهُ تَخْصِيصِهِمْ بِذَلِكَ أنَّ الطَّعْنَ في هَذا المَثَلِ جَرَّهم إلى زِيادَةِ الطَّعْنِ في الإسْلامِ فازْدادُوا بِذَلِكَ ضَلالًا عَلى ضَلالِهِمُ السّابِقِ في تَغْيِيرِ دِينِهِمْ وفي كُفْرِهِمْ بِعِيسى، فَأمّا المُشْرِكُونَ فَضَلالُهم لا يَقْبَلُ الزِّيادَةَ، عَلى أنَّ سُورَةَ البَقَرَةِ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ وأكْثَرُ الرَّدِّ في الآياتِ المَدَنِيَّةِ مُتَوَجِّهٌ إلى أهْلِ الكِتابِ. (p-٣٦٨)والنَّقْضُ في اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ في فَسْخِ وحَلِّ ما رُكِّبَ ووُصِلَ، بِفِعْلٍ يُعاكِسُ الفِعْلَ الَّذِي كانَ بِهِ التَّرْكِيبُ، وإنَّما زِدْتُ قَوْلِي بِفِعْلٍ إلَخْ؛ لِيَخْرُجَ القَطْعُ والحَرْقُ فَيُقالُ نَقَضَ الحَبْلَ إذا حَلَّ ما كانَ أبْرَمَهُ، ونَقَضَ الغَزْلَ ونَقَضَ البِناءَ. وقَدِ اسْتُعْمِلَ النَّقْضُ هُنا مَجازًا في إبْطالِ العَهْدِ بِقَرِينَةِ إضافَتِهِ إلى عَهْدِ اللَّهِ وهي اسْتِعارَةٌ مِن مُخْتَرَعاتِ القُرْآنِ بُنِيَتْ عَلى ما شاعَ في كَلامِ العَرَبِ في تَشْبِيهِ العَهْدِ وكُلِّ ما فِيهِ وصْلٌ بِالحَبْلِ، وهو تَشْبِيهٌ شائِعٌ في كَلامِهِمْ، ومِنهُ قَوْلُ مالِكِ بْنِ التَّيِّهانِ الأنْصارِيِّ لِلنَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بَيْنَنا وبَيْنَ القَوْمِ حِبالًا ونَحْنُ قاطِعُوها فَنَخْشى إنْ أعَزَّكَ اللَّهُ وأظْهَرَكَ أنْ تَرْجِعَ إلى قَوْمِكَ يُرِيدُ العُهُودَ الَّتِي كانَتْ في الجاهِلِيَّةِ بَيْنَ قُرَيْشٍ وبَيْنَ الأوْسِ والخَزْرَجِ. وكانَ الشّائِعُ في الكَلامِ إطْلاقَ لَفْظِ القَطْعِ والصَّرْمِ وما في مَعْناهُما عَلى إبْطالِ العَهْدِ أيْضًا في كَلامِهِمْ. قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎وإنْ كُنْتِ قَدْ أزْمَعْتِ صَرْمِي فَأجْمِلِي وقالَ لَبِيدٌ: ؎أوَلَمْ تَكُنْ تَدْرِي نَوارُ بِأنَّنِي ∗∗∗ وصّالُ عَقْدِ حَبائِلٍ جَذّامُها وقالَ: ؎بَلْ ما تَذَكَّرَ مِن نَوارَ وقَدْ نَأتْ ∗∗∗ وتَقَطَّعَتْ أسْبابُها ورِمامُها وقالَ: ؎فاقْطَعْ لُبانَةَ مَن تَعَرَّضَ وصْلُهُ ∗∗∗ فَلَشَرُّ واصِلِ خُلَّةٍ صَرّامُها ووَجْهُ اخْتِيارِ اسْتِعارَةِ النَّقْضِ الَّذِي هو حَلُّ طَيّاتِ الحَبْلِ إلى إبْطالِ العَهْدِ أنَّها تَمْثِيلٌ لِإبْطالِ العَهْدِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا وفي أزْمِنَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ ومُعالَجَةٍ. والنَّقْضُ أبْلَغُ في الدَّلالَةِ عَلى الإبْطالِ مِنَ القَطْعِ والصَّرْمِ ونَحْوِهِما لِأنَّ في النَّقْضِ إفْسادًا لِهَيْئَةِ الحَبْلِ وزَوالَ رَجاءِ عَوْدِها وأمّا القَطْعُ فَهو تَجْزِئَةٌ. وفِي النَّقْضِ رَمْزٌ إلى اسْتِعارَةٍ مَكْنِيَّةٍ لِأنَّ النَّقْضَ مِن رَوادِفِ الحَبْلِ فاجْتَمَعَ هُنا اسْتِعارَتانِ مَكْنِيَّةٌ وتَصْرِيحِيَّةٌ وهَذِهِ الأخِيرَةُ تَمْثِيلِيَّةٌ، وقَدْ تَقَرَّرَ في عِلْمِ البَيانِ أنَّ ما يُرْمَزُ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ المَطْرُوحِ في المَكْنِيَّةِ قَدْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا في مَعْنًى حَقِيقِيٍّ عَلى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ وذَلِكَ حَيْثُ لا يَكُونُ لِلْمُشَبَّهِ المَذْكُورِ في صُورَةِ المَكْنِيَّةِ رَدِيفٌ يُمْكِنُ تَشْبِيهُهُ بِرَدِيفِ المُشَبَّهِ بِهِ المَطْرُوحِ، مِثْلُ إثْباتِ (p-٣٦٩)الأظْفارِ لِلْمَنِيَّةِ في قَوْلِهِمْ: أظْفارُ المَنِيَّةِ. وإثْباتِ المَخالِبِ والنّابِ لِلْكُماةِ في قَوْلِ أبِي فِراسٍ الحَمْدانِيِّ: ؎فَلَمّا اشْتَدَّتِ الهَيْجاءُ كُنّا ∗∗∗ أشَدَّ مُخالِبًا وأحَدَّ نابا وإثْباتُ اليَدِ لِلشَّمالِ في قَوْلِ لَبِيدٍ: ؎وغَداةَ رِيحٍ قَدْ كَشَفْتُ وقِرَّةٍ ∗∗∗ إذْ أصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمالِ زِمامُها . وقَدْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا في مَعْنًى مَجازِيٍّ إذا كانَ لِلْمُشَبَّهِ في المَكْنِيَّةِ رَدِيفٌ يُمْكِنُ تَشْبِيهُهُ بِرَدِيفِ المُشَبَّهِ بِهِ المُضْمَرِ نَحْوُ: (﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾)، وقَدْ زِدْنا أنَّها تَمْثِيلِيَّةٌ أيْضًا، والبَلِيغُ لا يُفْلِتُ هاتِهِ الِاسْتِعارَةَ مَهْما تَأْتِ لَهُ ولا يَتَكَلَّفُ لَها مَهْما عَسِرَتْ، فَلَيْسَ الجَوازُ المَذْكُورُ في قَرِينَةِ المَكْنِيَّةِ إلّا جَوازًا في الجُمْلَةِ أيْ بِالنَّظَرِ إلى اخْتِلافِ الأحْوالِ. وهَذا الَّذِي هو مِن رَوادِفِ المُشَبَّهِ بِهِ في صُورَةِ المَكْنِيَّةِ وغَيْرِها قَدْ يَقْطَعُ عَنِ الرَّبْطِ بِالمَكْنِيَّةِ فَيَكُونُ اسْتِعارَةً مُسْتَقِلَّةً، وذَلِكَ حَيْثُ لا تَذْكُرُ مَعَهُ لَفَظًا يُرادُ تَشْبِيهُهُ بِمُشَبَّهٍ بِهِ مُضْمَرٍ نَحْوُ أنْ تَقُولَ: فُلانٌ يَنْقُضُ ما أبْرَمَ. وقَدْ يُرْبَطُ بِالمَكْنِيَّةِ وذَلِكَ حَيْثُ يُذْكَرُ مَعَهُ شَيْءٌ أُرِيدَ تَشْبِيهُهُ بِمُشَبَّهٍ بِهِ مُضْمَرٍ كَما في الآيَةِ حَيْثُ ذُكِرَ النَّقْضُ مَعَ العَهْدِ. وقَدْ يُرْبَطُ بِمُصَرَّحَةٍ وذَلِكَ حَيْثُ يُذْكَرُ مَعَ لَفْظِ المُشَبَّهِ بِهِ الَّذِي الرّادِفُ مِن تَوابِعِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ: إنَّ بَيْنَنا وبَيْنَ القَوْمِ حِبالًا نَحْنُ قاطِعُوها، وحِينَئِذٍ يَكُونُ تَرْشِيحًا لِلْمَجازِ، وهَذِهِ الِاعْتِباراتُ مُتَداخِلَةٌ لا مُتَضادَّةٌ إذْ قَدْ يَصِحُّ في المَوْضِعِ اعْتِبارانِ مِنها أوْ جَمِيعُها، وإنَّما التَّقْسِيمُ بِالنَّظَرِ إلى ما يَنْظُرُ إلَيْهِ البَلِيغُ أوَّلَ النَّظَرِ. واعْلَمْ أنَّ رَدِيفَ المُشَبَّهِ بِهِ في المَكْنِيَّةِ إذا اعْتُبِرَ اسْتِعارَةً في ذاتِهِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أنَّ اعْتِبارَهُ ذَلِكَ يُنافِي كَوْنَهُ رَمْزًا لِلْمُشَبَّهِ بِهِ المُضْمَرِ كالنَّقْضِ فَإنَّهُ لَمّا أُرِيدَ بِهِ إبْطالُ العَهْدِ لَمْ يَكُنْ مِن رَوادِفِ الحَبْلِ، لَكِنْ لَمّا كانَ إيذانُهُ بِالحَبْلِ سابِقًا عِنْدَ سَماعِ لَفْظِهِ لِسَبْقِ المَعْنى الحَقِيقِيِّ إلى ذِهْنِ السّامِعِ حَتّى يَتَأمَّلَ في القَرِينَةِ كَفى ذَلِكَ السَّبْقُ دَلِيلًا ورَمْزًا عَلى المُشَبَّهِ بِهِ المُضْمَرِ، فَإذا حَصَلَ ذَلِكَ الرَّمْزُ لَمْ يَضُرَّ فَهْمُ الِاسْتِعارَةِ في ذَلِكَ اللَّفْظِ. وأجابَ عَبْدُ الحَكِيمِ بِأنَّ كَوْنَهُ رادِفًا بَعْدَ كَوْنِهِ اسْتِعارَةً بِناءً عَلى أنَّهُ لَمّا شُبِّهَ بِهِ الرّادِفُ وسُمِّيَ بِهِ صارَ رادِفًا ادِّعائِيًّا وفِيهِ تَكَلُّفٌ. و﴿عَهْدَ اللَّهِ﴾ هو ما عَهِدَ بِهِ أيْ ما أوْصى بِرَعْيِهِ وحِفاظِهِ، ومَعانِي العَهْدِ في كَلامِ العَرَبِ كَثِيرَةٌ وتَصْرِيفُهُ عُرْفِيٌّ. قالَ الزَّجّاجُ قالَ بَعْضُهم: ما أدْرِي ما العَهْدُ، ومَرْجِعُ مَعانِيهِ إلى المُعاوَدَةِ (p-٣٧٠)والمُحافَظَةِ والمُراجَعَةِ والِافْتِقادِ ولا أدْرِي أيَّ مَعانِيهِ أصْلٌ لِبَقِيَّتِها، وغالِبُ ظَنِّي أنَّها مُتَفَرِّعٌ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ، والأقْرَبُ أنَّ أصْلَها هو العَهْدُ مَصْدَرُ عَهِدَهُ عَهْدًا إذا تَذَكَّرَهُ وراجَعَ إلَيْهِ نَفْسَهُ يَقُولُونَ عَهِدْتُكَ كَذا أيْ أتَذَكَّرُ فِيكَ كَذا وعَهْدِي بِكَ كَذا، وفي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ ولا يَسْألُ عَمّا عَهِدَ أيْ عَمّا عَهِدَ وتَرَكَ في البَيْتِ، ومِنهُ قَوْلُهم: في عَهْدِ فُلانٍ أيْ زَمانِهِ لِأنَّهُ يُقالُ لِلزَّمانِ الَّذِي فِيهِ خَيْرٌ وشَرٌّ لا يَنْساهُ النّاسُ، وتَعَهَّدَ المَكانَ أوْ فُلانًا وتَعاهَدَهُ إذا افْتَقَدَهُ وأحْدَثَ الرُّجُوعَ إلَيْهِ بَعْدَ تَرْكِ العَهْدِ والوَصِيَّةِ، ومِنهُ ولِيُّ العَهْدِ. والعَهْدُ اليَمِينُ والعَهْدُ الِالتِزامُ بِشَيْءٍ، يُقالُ عَهِدَ إلَيْهِ وتَعَهَّدَ إلَيْهِ لِأنَّها أُمُورٌ لا يَزالُ صاحِبُها يَتَذَكَّرُها ويُراعِيها في مَواقِعِ الِاحْتِرازِ عَنْ خَفْرِها. وسُمِّيَ المَوْضِعُ الَّذِي يَتَراجَعُهُ النّاسُ بَعْدَ البُعْدِ عَنْهُ مَعْهَدًا. والعَهْدُ في الآيَةِ الَّذِي أخَذَهُ اللَّهُ عَلى بَنِي آدَمَ أنْ لا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ ﴿ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكم يا بَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾ [يس: ٦٠] الآيَةَ، فَنَقْضُهُ يَشْمَلُ الشِّرْكَ وقَدْ وصَفَ اللَّهُ المُشْرِكِينَ بِنَقْضِ العَهْدِ في قَوْلِهِ ﴿والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾ [الرعد: ٢٥] الآيَةَ في سُورَةِ الرَّعْدِ. وفُسِّرَ بِالعَهْدِ الَّذِي أخَذَهُ اللَّهُ عَلى الأُمَمِ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِمْ أنَّهم إذا بُعِثَ بِعْدَهم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهم لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيئِينَ لَما آتَيْناكم مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ﴾ [آل عمران: ٨١] الآياتِ لِأنَّ المَقْصُودَ مِن ذَلِكَ أخْذُ العَهْدِ عَلى أُمَمِهِمْ. وفُسِّرَ بِالعَهْدِ الَّذِي أخَذَهُ اللَّهُ عَلى أهْلِ الكِتابِ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ﴾ [آل عمران: ١٨٧] الآيَةَ في تَفاسِيرَ أُخْرى بَعِيدَةٍ. والصَّحِيحُ عِنْدِي أنَّ المُرادَ بِالعَهْدِ هو العَهْدُ الَّذِي أخَذَهُ اللَّهُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِن إقامَةِ الدِّينِ وتَأْيِيدِ الرُّسُلِ وأنْ لا يَسْفِكَ بَعْضُهم دِماءَ بَعْضٍ وأنْ يُؤْمِنُوا بِالدِّينِ كُلِّهِ، وقَدْ ذَكَّرَهُمُ القُرْآنُ بِعُهُودِ اللَّهِ تَعالى ونَقْضِهِمْ إيّاها في غَيْرِ ما آيَةٍ، مِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠] ﴿ولَقَدْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ وبَعَثْنا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ [المائدة: ١٢] إلى قَوْلِهِ ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهم لَعَنّاهُمْ﴾ [المائدة: ١٣] إلَخْ وقَوْلُهُ ﴿لَقَدْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ وأرْسَلْنا إلَيْهِمْ رُسُلًا﴾ [المائدة: ٧٠] إلى قَوْلِهِ ﴿فَعَمُوا وصَمُّوا﴾ [المائدة: ٧١] ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكم لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] إلى قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] إلى قَوْلِهِ ﴿وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٨٥] بَلْ إنَّ كُتُبَهم قَدْ صَرَّحَتْ بِعُهُودِ اللَّهِ تَعالى لَهم وأنْحَتْ عَلَيْهِمْ نَقْضَهم لَها وجَعَلَتْ ذَلِكَ إنْذارًا بِما يَحُلُّ بِهِمْ مِنَ المَصائِبِ كَما في كِتابِ أرْمِيا ومَراثِي أرْمِيا وغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ صارَ لَفْظُ العَهْدِ عِنْدَهم لَقَبًا لِلشَّرِيعَةِ الَّتِي جاءَ بِها مُوسى. ولَمّا كانَ قَوْلُهُ (p-٣٧١)﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ الآيَةَ وصْفًا لِـ الفاسِقِينَ وكانَ المُرادُ مِنَ الفاسِقِينَ اليَهُودَ كَما عَلِمْتَ كانَ ذِكْرُ العَهْدِ إيماءً إلى أنَّ الفاسِقِينَ هُنا هم، وتَسْجِيلًا عَلى اليَهُودِ بِأنَّهم قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمْ هَذا الوَصْفُ مِن قَبْلِ اليَوْمِ بِشَهادَةِ كُتُبِهِمْ وعَلى ألْسِنَةِ أنْبِيائِهِمْ فَكانَ لِاخْتِيارِ لَفْظِ العَهْدِ هُنا وقْعٌ عَظِيمٌ يَتَنَزَّلُ مَنزِلَةَ المِفْتاحِ الَّذِي يُوضَعُ في حَلِّ اللُّغْزِ لِيُشِيرَ لِلْمَقْصُودِ، فَهو العَهْدُ الَّذِي سَيَأْتِي ذِكْرُهُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي﴾ [البقرة: ٤٠] والمِيثاقُ مِفْعالٌ وهو يَكُونُ لِلْآلَةِ كَثِيرًا كَمِرْقاةٍ ومِرْآةٍ ومِحْراثٍ. قالَ الخَفاجِيُّ كَأنَّهُ إشْباعٌ لِلْمِفْعَلِ، ولِلْمَصْدَرِ أيْضًا نَحْوَ المِيلادِ والمِيعادِ وهو الأظْهَرُ هُنا. والضَّمِيرُ لِلْعَهْدِ أيْ مِن بَعْدِ تَوْكِيدِ العَهْدِ وتَوْثِيقِهِ. ولَمّا كانَ المُرادُ بِالعَهْدِ عَهْدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، بَلْ كُلُّ ما عاهَدُوا عَلَيْهِ، كانَ تَوْكِيدُ كُلِّ ما يَفْرِضُهُ المُخاطَبُ بِما تَقَدَّمَهُ مِنَ العُهُودِ وما تَأخَّرَ عَنْهُ، فَهو عَلى حَدِّ ﴿ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها﴾ [النحل: ٩١] فالمِيثاقُ إذَنْ عَهْدٌ آخَرُ اعْتُبِرَ مُؤَكِّدًا لِعَهْدٍ سَبَقَهُ أوْ لَحِقَهُ. وقَوْلُهُ ﴿ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ﴾ قِيلَ: ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ هو قُرابَةُ الأرْحامِ، يَعْنِي وحَيْثُ تَرَجَّحَ أنَّ المُرادَ بِهِ بَعْضُ عَمَلِ اليَهُودِ فَذَلِكَ إذْ تَقاتَلُوا وأخْرَجُوا كَثِيرًا مِنهم مِن دِيارِهِمْ، ولَمْ تَزَلِ التَّوْراةُ تُوصِي بَنِي إسْرائِيلَ بِحُسْنِ مُعامَلَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وقِيلَ: الإعْراضُ عَنْ قَطْعِ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ هو مُوالاةُ المُؤْمِنِينَ. وقِيلَ: اقْتِرانُ القَوْلِ بِالعَمَلِ. وقِيلَ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الأنْبِياءِ في الإيمانِ بِبَعْضٍ والكُفْرِ بِبَعْضٍ. وقالَ البَغَوِيُّ يَعْنِي بِما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ الإيمانَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وبِجَمِيعِ الرُّسُلِ. وأقُولُ تَكْمِيلًا لِهَذا: إنَّ مُرادَ اللَّهِ تَعالى مِمّا شَرَعَ لِلنّاسِ مُنْذُ النَّشْأةِ إلى خَتْمِ الرِّسالَةِ واحِدٌ وهو إبْلاغُ البَشَرِ إلى الغايَةِ الَّتِي خُلِقُوا لَها وحِفْظُ نِظامِ عالَمِهِمْ وضَبْطُ تَصَرُّفاتِهِمْ فِيهِ عَلى وجْهٍ لا يَعْتَوِرُهُ خَلَلٌ، وإنَّما اخْتَلَفَتِ الشَّرائِعُ عَلى حَسَبِ مَبْلَغِ تَهَيُّئِ البَشَرِ لِتَلَقِّي مُرادِ اللَّهِ تَعالى، ولِذَلِكَ قَلَّما اخْتَلَفَتِ الأُصُولُ الأساسِيَّةُ لِلشَّرائِعِ الإلَهِيَّةِ، قالَ تَعالى ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ وما وصَّيْنا بِهِ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ﴾ [الشورى: ١٣] الآيَةَ. وإنَّما اخْتَلَفَتِ الشَّرائِعُ في تَفارِيعِ أُصُولِها اخْتِلافًا مُراعًى فِيهِ مَبْلَغَ طاقَةِ البَشَرِ لُطْفًا مِنَ اللَّهِ تَعالى بِالنّاسِ ورَحْمَةً مِنهُ بِهِمْ حَتّى في حَمْلِهِمْ عَلى مَصالِحِهِمْ لِيَكُونَ تَلَقِّيهِمْ لِذَلِكَ أسْهَلَ، وعَمَلُهم بِهِ أدْوَمَ، إلى أنْ جاءَتِ الشَّرِيعَةُ الإسْلامِيَّةُ في وقْتٍ راهَقَ فِيهِ البَشَرُ مَبْلَغَ غايَةِ الكَمالِ العَقْلِيِّ، وجاءَهم دِينٌ تُناسِبُ أحْكامُهُ وأُصُولُهُ اسْتِعْدادَهُمُ الفِكْرِيَّ وإنْ تَخالَفَتِ الأعْصارُ وتَباعَدَتِ الأقْطارُ، فَكانَ دِينًا عامًّا لِجَمِيعِ البَشَرِ، فَلا جَرَمَ أنْ كانَتِ الشَّرائِعُ السّابِقَةُ تَمْهِيدًا لَهُ لِتُهَيِّئَ البَشَرَ لِقَبُولِ تَعالِيمِهِ وتَفارِيعِها (p-٣٧٢)الَّتِي هي غايَةُ مُرادِ اللَّهِ تَعالى مِنَ النّاسِ، ولِذا قالَ تَعالى ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩] فَما مِن شَرِيعَةٍ سَلَفَتْ إلّا وهي حَلْقَةٌ مِن سِلْسِلَةٍ جُعِلَتْ وصْلَةً لِلْعُرْوَةِ الوُثْقى الَّتِي لا انْفِصامَ لَها وهي عُرْوَةُ الإسْلامِ، فَمَتى بَلَغَها النّاسُ فَقَدْ فَصَمُوا ما قَبْلَها مِنَ الحِلَقِ وبَلَغُوا المُرادَ، ومَتى انْقَطَعُوا في أثْناءِ بَعْضِ الحِلَقِ فَقَدْ قَطَعُوا ما أرادَ اللَّهُ وصْلَهُ، فاليَهُودُ لَمّا زَعَمُوا أنَّهم لا يَحِلُّ لَهُمُ العُدُولُ عَنْ شَرِيعَةِ التَّوْراةِ قَدْ قَطَعُوا ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ فَفَرَّقُوا مُجْتَمَعَهُ. والفَسادُ في الأرْضِ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ألا إنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ﴾ [البقرة: ١٢] ومِنَ الفَسادِ في الأرْضِ عُكُوفُ قَوْمٍ عَلى دِينٍ قَدِ اضْمَحَلَّ وقْتُ العَمَلِ بِهِ وأصْبَحَ غَيْرَ صالِحٍ لِما أرادَ اللَّهُ مِنَ البَشَرِ، فَإنَّ اللَّهَ ما جَعَلَ شَرِيعَةً مِنَ الشَّرائِعِ خاصَّةً وقابِلَةً لِلنَّسْخِ إلّا وقَدْ أرادَ مِنها إصْلاحَ طائِفَةٍ مِنَ البَشَرِ مُعَيَّنَةٍ في مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ في عِلْمِهِ، وما نَسَخَ دِينًا إلّا لِتَمامِ وقْتِ صُلُوحِيَّتِهِ لِلْعَمَلِ بِهِ، فالتَّصْمِيمُ عَلى عَدَمِ تَلَقِّي النّاسِخِ وعَلى مُلازَمَةِ المَنسُوخِ هو عَمَلٌ بِما لَمْ يَبْقَ فِيهِ صَلاحٌ لِلْبَشَرِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ فَسادًا في الأرْضِ لِأنَّهُ كَمُداواةِ المَرِيضِ بِدَواءٍ كانَ وُصِفَ لَهُ في حالَةٍ تَبَدَّلَتْ مِن أحْوالِ مَرَضِهِ حَتّى أتى دِينُ الإسْلامِ عامًّا دائِمًا لِأنَّهُ صالِحٌ لِلْكُلِّ. وقَوْلُهُ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ قَصْرُ قَلْبٍ لِأنَّهم ظَنُّوا أنْفُسَهم رابِحِينَ وهو اسْتِعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ تَقَدَّمَتْ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ [البقرة: ١٦] وذِكْرُ الخُسْرانِ تَخْيِيلٌ مُرادٌ مِنهُ الِاسْتِعارَةُ في ذاتِهِ عَلى نَحْوِ ما قَرَّرَ في (﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾) فَهَذِهِ الآيَةُ ظاهِرَةٌ في أنَّها مُوَجَّهَةٌ إلى اليَهُودِ لِما عَلِمْتَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ ولِما عَلِمْتَ مِن كَثْرَةِ إطْلاقِ وصْفِ الفاسِقِينَ عَلى اليَهُودِ، وإنْ كانَ الَّذِينَ طَعَنُوا في أمْثالِ القُرْآنِ فَرِيقَيْنِ: المُشْرِكِينَ واليَهُودَ، كَما تَقَدَّمَ، وكانَ القُرْآنُ قَدْ وصَفَ المُشْرِكِينَ في سُورَةِ الرَّعْدِ - وهي مَكِّيَّةٌ - بِهَذِهِ الصِّفاتِ الثَّلاثِ في قَوْلِهِ ﴿والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ في الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهم سُوءُ الدّارِ﴾ [الرعد: ٢٥] فالمُرادُ بِهِمُ المُشْرِكُونَ لا مَحالَةَ فَذَلِكَ كُلُّهُ لا يُناكِدُ جَعْلَ آيَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ مُوَجَّهَةً إلى اليَهُودِ إذْ لَيْسَ يَلْزَمُ المُفَسِّرَ حَمْلُهُ أيِ القُرْآنِ عَلى مَعْنًى واحِدٍ كَما يُوهِمُهُ صَنِيعُ كَثِيرٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ حَتّى كانَ آيُ القُرْآنِ عِنْدَهم قَوالِبَ تُفَرَّغُ فِيها مَعانٍ مُتَّحِدَةٌ. واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ قَدْ وصَفَ المُؤْمِنِينَ بِضِدِّ هَذِهِ الصِّفاتِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبابِ﴾ [الرعد: ١٩] ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ﴾ [الرعد: ٢٠] ﴿والَّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ﴾ [الرعد: ٢١] الآيَةَ في سُورَةِ الرَّعْدِ (p-٣٧٣)واعْلَمْ أنَّ نُزُولَ هَذِهِ الآياتِ ونَحْوِها في بَعْضِ أهْلِ الكِتابِ أوِ المُشْرِكِينَ هو وعِيدٌ وتَوْبِيخٌ لِلْمُشْرِكِينَ وأهْلِ الكِتابِ وهو أيْضًا مَوْعِظَةٌ وذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَعْلَمَ سامِعُوهُ أنَّ كُلَّ مَن شارَكَ هَؤُلاءِ المَذْمُومِينَ فِيما أوْجَبَ ذَمَّهم وسَبَّبَ وعِيدَهم هو آخِذٌ بِحَظٍّ مِمّا نالَهم مِن ذَلِكَ عَلى حَسَبِ مِقْدارِ المُشارَكَةِ في المُوجِبِ.


ركن الترجمة

God is not loath to advance the similitude of a gnat or a being more contemptible; and those who believe know whatever is from the Lord is true. But those who disbelieve say: "What does God mean by this parable?" He causes some to err this way, and some He guides; yet He turns away none but those who transgress,

Certes, Allah ne se gêne point de citer en exemple n'importe quoi: un moustique ou quoi que ce soit au-dessus; quant aux croyants, ils savent bien qu'il s'agit de la vérité venant de la part de leur Seigneur; quant aux infidèles, ils se demandent «Qu'a voulu dire Allah par un tel exemple?» Par cela, nombreux sont ceux qu'Il égare et nombreux sont ceux qu'Il guide; mais Il n'égare par cela que les pervers,

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :