ركن التفسير
267 - (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا) أي زكوا (من طيبات) جياد (ما كسبتم) من المال (ومـ) ـن طيبات (ما أخرجنا لكم من الأرض) من الحبوب والثمار (ولا تيمموا) تقصدوا (الخبيث) الرديء (منه) أي المذكور (تنفقونـ) ـه في الزكاة ، حال من ضمير تيمموا (ولستم بآخذيه) أي الخبيث لو أعطيتموه في حقوقكم (إلا أن تغمضوا فيه) بالتساهل وغض البصر فكيف تؤدون منه حق الله (واعلموا أن الله غني) عن نفقاتكم (حميد) محمود على كل حال
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق والمراد به الصدقة ههنا قاله ابن عباس من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها قال مجاهد: يعني التجارة بتيسيره إياها لهم وقال علي والسدي "من طيبات ما كسبتم" يعني الذهب والفضة ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض قال ابن عباس أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ولهذا قال "ولا تيمموا الخبيث" أي تقصدوا الخبيث "منه تنفقون ولستم بآخذيه" أي لو أعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتغاضوا فيه فالله أغنى عنه منكم فلا تجعلوا لله ما تكرهون وقيل معناه "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" أي لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد حدثنا إسحق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم لأن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه - قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: غشه وظلمه ولا يكسب عبد مالا من حرام فينقق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث. والصحيح القول الأول قال ابن جرير رحمه الله: حدثنا الحسين بن عمر العبقري حدثني أبي عن أسباط عن السدي عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - في قول الله "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" الآية قال: نزلت في الأنصار كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأكل فقراء المهاجرين منه فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع قناء البسر يظن أن ذلك جائز فأنزل الله فيمن فعل ذلك "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" ثم رواه ابن جرير وابن ماجه وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طريق السدي عن عدي بن ثابت عن البراء بنحوه وقال الحاكم صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن السدي عن أبي مالك عن البراء - رضي الله عنه - "ولا تيمموا الخبيث منهم تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" قال: نزلت فينا كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه فسقط منه البسر والتمر فيأكل وكان أناس منه لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه فنزلت "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" قال لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده وكذا رواه الترمذي عن عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي عن عبيد الله هو ابن موسى العبسي عن إسرائيل عن السدي وهو إسماعيل بن عبدالرحمن عن أبي مالك الغفاري واسمه غزوان عن البراء فذكر نحوه ثم قال وهذا حديث حسن غريب وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد حدثنا سليمان بن كثير عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لونين من التمر الجعرور والحبيق وكان الناس يتيممون شرار ثمارهم ثم يخرجونها في الصدقة فنزلت "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين عن الزهري ثم قال أسنده أبو الوليد عن سليمان بن كثير عن الزهري ولفظه نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذ في الصدقة وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حميد اليحصبي عن الزهري عن أبي أمامة ولم يقل عن أبيه فذكر نحوه وكذا رواه ابن وهب عن عبد الجليل وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن عبدالله بن مغفل في هذه الآية "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" قال كسب المسلم لا يكون خبيثـا ولكن لا يصدق بالحشف والدرهم الزيف وما لا خير فيه وقال الإمام أحمد: حدثنا أبـو سعيد حدثنا حماد بن سلمة عن حماد هو ابن سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضب فلم يأكله ولم ينه عنه قلت: يا رسول الله نطعمه المساكين قال لا تطعموهم مما لا تأكلون ثم رواه عن عفان عن حماد بن سلمة به فقلت يا رسول الله ألا أطعمه المسكين؟ قال لا تطعموهم مما لا تأكلون وقال الثوري: عن السدي عن أبي مالك عن البراء "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" يقول لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه؟ رواه ابن جرير وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" يقول لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه قال فذلك قوله "إلا أن تغمضوا فيه" فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه؟ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد وهو قوله "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" ثم روى من طريق العوفي وغيره عن ابن عباس نحو ذلك وكذا ذكره غير واحد. وقوله "واعلموا أن الله غني حميد" أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها وما ذاك إلا أن يساوي الغني الفقير كقوله "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" وهو غني عن جميع خلقه وجميع خلقه فقراء إليه وهو واسع الفضل لا ينقذ ما لديه فمن تصدق بصدقة من كسب طيب فليعلم أن الله غني واسع العطاء كريم جواد وسيجزيه بها ويضاعفها له أضعافا كثيرة من يقرض غير عديم ولا ظلوم وهو الحميد أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره لا إله إلا هو ولا رب سواه.
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ومِمّا أخْرَجَنا لَكم مِنَ الأرْضِ ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنْفِقُونَ ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلّا أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَنِيُّ حَمِيدٌ﴾ . إفْضاءٌ إلى المَقْصُودِ وهو الأمْرُ بِالصَّدَقاتِ بَعْدَ أنْ قُدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَواعِظُ وتَرْغِيبٌ وتَحْذِيرٌ، وهو طَرِيقَةٌ بَلاغِيَّةٌ في الخَطابَةِ والخِطابِ، فَرُبَّما قَدَّمُوا المَطْلُوبَ ثُمَّ جاءُوا بِما يُكْسِبُهُ قَبُولًا عِنْدَ السّامِعِينَ، ورُبَّما قَدَّمُوا ما يُكْسِبُ القَبُولَ قَبْلَ المَقْصُودِ كَما هُنا، وهَذا مِنِ ارْتِكابِ خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ في تَرْتِيبِ الجُمَلِ، ونُكْتَةُ ذَلِكَ أنَّهُ قَدْ شاعَ بَيْنَ النّاسِ التَّرْغِيبُ في الصَّدَقَةِ وتَكَرَّرَ ذَلِكَ في نُزُولِ القُرْآنِ فَصارَ غَرَضًا دِينِيًّا مَشْهُورًا، وكانَ الِاهْتِمامُ بِإيضاحِهِ والتَّرْغِيبُ في أحْوالِهِ والتَّنْفِيرُ مِن نَقائِصِهِ أجْدَرَ بِالبَيانِ، ونَظِيرُ هَذا قَوْلُ عَلِيٍّ في خُطْبَتِهِ الَّتِي خَطَبَها حِينَ دَخَلَ سُفْيانُ الغامِدِيُّ - أحَدَ قُوّادِ أهْلِ الشّامِ - بَلَدَ الأنْبارِ - وهي مِنَ البِلادِ المُطِيعَةِ لِلْخَلِيفَةِ عَلِيٍّ - وقَتَلُوا عامِلَها حَسّانَ بْنَ حَسّانَ البَكْرِيَّ: أمّا بَعْدُ فَإنَّ مَن تَرَكَ الجِهادَ رَغْبَةً عَنْهُ ألْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وشَمِلَهُ البَلاءُ، ودُيِّثَ بِالصَّغارِ، وضُرِبَ عَلى قَلْبِهِ، وسِيمَ الخَسْفَ، ومُنِعَ النَّصَفَ، ألا وإنِّي قَدْ دَعَوْتُكم إلى قِتالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لَيْلًا ونَهارًا وقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهم قَبْلَ أنْ يَغْزُوكم، فَواللَّهِ ما غُزِيَ قَوْمٌ في عُقْرِ دارِهِمْ إلّا ذُلُّوا، فَتَواكَلْتُمْ، هَذا أخُو غامِدٍ قَدْ ورَدَتْ خَيْلُهُ الأنْبارَ. . . إلخ. وانْظُرْ كَلِمَةَ الجِهادِ في هَذِهِ الخُطْبَةِ فَلَعَلَّ أصْلَها القِتالُ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: إلى قِتالِ هَؤُلاءِ. فَحَرَّفَها قاصِدٌ أوْ غافِلٌ، ولا إخالُها تَصْدُرُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - . (p-٥٦)والأمْرُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ، فَتَكُونَ الآيَةُ في الأمْرِ بِالزَّكاةِ، أوْ لِلنَّدَبِ، فَهي في صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، أوْ هو لِلْقَدْرِ المُشْتَرَكِ في الطَّلَبِ فَتَشْمَلُ الزَّكاةَ وصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، والأدِلَّةُ الأُخْرى تُبَيِّنُ حُكْمَ كُلٍّ، والقَيْدُ بِالطَّيِّباتِ يُناسِبُ تَعْمِيمَ النَّفَقاتِ. والمُرادُ بِالطَّيِّباتِ خِيارُ الأمْوالِ، فَيُطْلَقُ الطَّيِّبُ عَلى الأحْسَنِ في صِنْفِهِ، والكَسْبُ ما يَنالُهُ المَرْءُ بِسَعْيِهِ كالتِّجارَةِ والغَنِيمَةِ والصَّيْدِ، ويُطْلَقُ الطَّيِّبُ عَلى المالِ المُكْتَسَبِ بِوَجْهٍ حَلالٍ لا يُخالِطُهُ ظُلْمٌ ولا غِشٌّ، وهو الطَّيِّبُ عِنْدَ اللَّهِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ: «مَن تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ ولا يَقْبَلُ اللَّهُ إلّا طِيبًا تَلَقّاها الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ» الحَدِيثَ، وفي الحَدِيثِ الآخَرِ: «إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلّا طَيِّبًا» . ولَمْ يَذْكُرِ الطَّيِّباتِ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿ومِمّا أخْرَجْنا لَكم مِنَ الأرْضِ﴾ اكْتِفاءً بِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ في قَسِيمِهِ، ويَظْهَرُ أنَّ ذَلِكَ لَمْ يُقَيَّدْ بِالطَّيِّباتِ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أخْرَجْنا لَكُمْ﴾ أشْعَرَ بِأنَّهُ مِمّا اكْتَسَبَهُ المَرْءُ بِعَمَلِهِ بِالحَرْثِ والغَرْسِ ونَحْوِ ذَلِكَ، لِأنَّ الأمْوالَ الخَبِيثَةَ تُحَصَّلُ غالِبًا مِن ظُلْمِ النّاسِ أوِ التَّحَيُّلِ عَلَيْهِمْ وغِشِّهِمْ وذَلِكَ لا يَتَأتّى في الثَّمَراتِ المُسْتَخْرَجَةِ مِنَ الأرْضِ غالِبًا. والمُرادُ بِما أُخْرِجَ مِنَ الأرْضِ الزُّرُوعُ والثِّمارُ، فَمِنهُ ما يَخْرُجُ بِنَفْسِهِ، ومِنهُ ما يُعالَجُ بِأسْبابِهِ كالسَّقْيِ لِلشَّجَرِ والزَّرْعِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ اللَّهُ بِما أوْجَدَ مِنَ الأسْبابِ العادِيَّةِ، وبَعْضُ المُفَسِّرِينَ عَدَّ المَعادِنَ داخِلَةً في ﴿مِمّا أخْرَجْنا لَكم مِنَ الأرْضِ﴾ وتَجِبُ عَلى المَعْدِنِ الزَّكاةُ عِنْدَ مالِكٍ إذا بَلَغَ مِقْدارَ النِّصابِ، وفِيهِ رُبُعُ العُشْرِ، وهو مِنَ الأمْوالِ المَفْرُوضَةِ ولَيْسَ بِزَكاةٍ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ، ولِذَلِكَ قالَ: فِيهِ الخُمُسُ، وبَعْضُهم عَدَّ الرِّكازَ داخِلًا فِيما أُخْرِجَ مِنَ الأرْضِ ولَكِنَّهُ يُخَمَّسُ، وأُلْحِقَ في الحُكْمِ بِالغَنِيمَةِ عِنْدَ المالِكِيَّةِ، ولَعَلَّ المُرادَ بِـ (ما كَسَبْتُمُ) الأمْوالُ المُزَكّاةُ مِنَ العَيْنِ والماشِيَةِ، وبِالمُخْرَجِ مِنَ الأرْضِ الحُبُوبُ والثِّمارُ المُزَكّاةُ. وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنْفِقُونَ﴾ أصْلُ (تَيَمَّمُوا) تَتَيَمَّمُوا، حُذِفَتْ تاءُ المُضارَعَةِ في المُضارِعِ وتَيَمَّمَ بِمَعْنى قَصَدَ وعَمَدَ. والخَبِيثُ: الشَّدِيدُ سُوءًا في صِنْفِهِ؛ فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلى الحَرامِ وعَلى المُسْتَقْذَرِ. قالَ تَعالى: ﴿ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧] وهو الضِّدُّ الأقْصى لِلطَّيِّبِ، فَلا يُطْلَقُ عَلى الرَّدِيءِ إلّا عَلى وجْهِ المُبالَغَةِ، ووُقُوعُ لَفْظِهِ في سِياقِ النَّهْيِ يُفِيدُ عُمُومَ ما يَصْدُقُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ. (p-٥٧)وجُمْلَةُ ﴿مِنهُ تُنْفِقُونَ﴾ حالٌ والجارُّ والمَجْرُورُ لِلْحالِ قُدِّما عَلَيْهِ لِلدَّلالَةِ عَلى الِاخْتِصاصِ، أيْ لا تَقْصِدُوا الخَبِيثَ في حالِ ألّا تُنْفِقُوا إلّا مِنهُ، لِأنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ أنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ صَدَقَتَهُ مِن خُصُوصِ رَدِيءِ مالِهِ، أمّا إخْراجُهُ مِنَ الجَيِّدِ ومِنَ الرَّدِيءِ فَلَيْسَ بِمَنهِيٍّ لاسِيَّما في الزَّكاةِ الواجِبَةِ؛ لِأنَّهُ يُخْرِجُ عَنْ كُلِّ ما هو عِنْدَهُ مِن نَوْعِهِ، وفي حَدِيثِ المُوَطَّأِ في البُيُوعِ: «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ أرْسَلَ عامِلًا عَلى صَدَقاتِ خَيْبَرَ فَأتاهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقالَ لَهُ: أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذا ؟ قالَ: لا، ولَكِنِّي أبِيعُ الصّاعَيْنِ مِنَ الجَمْعِ بِصاعٍ مِن جَنِيبٍ. فَقالَ لَهُ: بِعِ الجَمْعَ بِالدَّراهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّراهِمِ جَنِيبًا» . فَدَلَّ عَلى أنَّ الصَّدَقَةَ تُؤْخَذُ مَن كُلِّ نِصابٍ مِن نَوْعِهِ، ولَكِنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ أنْ يَخُصَّ الصَّدَقَةَ بِالأصْنافِ الرَّدِيئَةِ، وأمّا في الحَيَوانِ فَيُؤْخَذُ الوَسَطُ لِتَعَذُّرِ التَّنْوِيعِ غالِبًا إلّا إذا أكْثَرَ عَدَدَهُ فَلا إشْكالَ في تَقْدِيرِ الظَّرْفِ هُنا. وقَرَأ الجُمْهُورُ ”تَيَمَّمُوا“ بِتاءٍ واحِدَةٍ خَفِيفَةٍ وصْلًا وابْتِداءً، أصْلُهُ تَتَيَمَّمُوا. وقَرَأهُ البَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِ التّاءِ في الوَصْلِ عَلى اعْتِبارِ الإدْغامِ. وقَوْلُهُ: ﴿ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلّا أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مِن ضَمِيرِ ”تُنْفِقُونَ“ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ عَلى ظاهِرِهِ مِنَ الإخْبارِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ الحالِ تَعْلِيلًا لِنَهْيِهِمْ عَنِ الإنْفاقِ مِنَ المالِ الخَبِيثِ شَرْعًا بِقِياسِ الإنْفاقِ مِنهُ عَلى اكْتِسابِهِ قِياسَ مُساواةٍ، أيْ كَما تَكْرَهُونَ كَسْبَهُ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ تَكْرَهُوا إعْطاءَهُ، وكَأنَّ كَراهِيَةَ كَسْبِهِ كانَتْ مَعْلُومَةً لَدَيْهِمْ مُتَقَرِّرَةً في نُفُوسِهِمْ، ولِذَلِكَ وقَعَ القِياسُ عَلَيْها. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ مُسْتَعْمَلًا في النَّهْيِ عَنْ أخْذِ المالِ الخَبِيثِ، فَيَكُونُ الكَلامُ مُنْصَرِفًا إلى غَرَضٍ ثانٍ وهو النَّهْيُ عَنْ أخْذِ المالِ الخَبِيثِ والمَعْنى: لا تَأْخُذُوهُ، وعَلى كِلا الوَجْهَيْنِ هو مُقْتَضٍ تَحْرِيمَ أخْذِ المالِ المَعْلُومَةِ حُرْمَتُهُ عَلى مَن هو بِيَدِهِ ولا يُحِلُّهُ انْتِقالُهُ إلى غَيْرِهِ. والإغْماضُ إطْباقُ الجَفْنِ، ويُطْلَقُ مَجازًا عَلى لازِمِ ذَلِكَ، فَيُطْلَقُ تارَةً عَلى الهَناءِ والِاسْتِراحَةِ لِأنَّ مِن لَوازِمِ الإغْماضِ راحَةَ النّائِمِ. قالَ الأعْشى: ؎عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فاغْتَمِضِي جَفْنًا فَإنَّ لِجَنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعا (p-٥٨)أرادَ فاهْنَئِي. ويُطْلَقُ تارَةً عَلى لازَمِهِ مِن عَدَمِ الرُّؤْيَةِ فَيَدُلُّ عَلى التَّسامُحِ في الأمْرِ المَكْرُوهِ كَقَوْلِ الطِّرِمّاحِ: ؎لَمْ يَفُتْنا بِالوِتْرِ قَوْمٌ ولِلضَّيْ ∗∗∗ مِ رِجالٌ يَرْضَوْنَ بِالإغْماضِ فَإذا أرادُوا المُبالَغَةَ في التَّغافُلِ عَنِ المَكْرُوهِ قالُوا: أغْمَضَ عَيْنَهُ عَلى قَذًى، وذَلِكَ لِأنَّ إغْماضَ الجَفْنِ مَعَ وُجُودِ القَذى في العَيْنِ، لِقَصْدِ الرّاحَةِ مِن تَحَرُّكِ القَذى. قالَ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ زُرارَةَ الكَلّائِيُّ: ؎وأغْمَضْتُ العُيُونَ عَلى قَذاها ∗∗∗ ولَمْ أسْمَعْ إلى قالٍ وقِيلِ والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ مِن جَعْلِ الكَلامِ إخْبارًا هو تَقْيِيدٌ لِلنَّفْيِ، وأمّا عَلى الوَجْهِ الثّانِي مِن جَعْلِ النَّفْيِ بِمَعْنى النَّهْيِ فَهو مِن تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ؛ أما لا تَأْخُذُوهُ إلّا إذا تَغاضَيْتُمْ عَنِ النَّهْيِ وتَجاهَلْتُمُوهُ. وقَوْلُهُ: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ تَذْيِيلٌ، أيْ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقاتِكُمُ الَّتِي لا تَنْفَعُ الفُقَراءَ، أوِ الَّتِي فِيها اسْتِساغَةُ الحَرامِ، حَمِيدٌ، أيْ: شاكِرٌ لِمَن تَصَدَّقَ صَدَقَةً طَيِّبَةً، وافْتَتَحَهُ بِـ ”اعْلَمُوا“ لِلِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ﴾ [البقرة: ٢٢٣] أوْ نُزِّلَ المُخاطَبُونَ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ الإنْفاقِ مِنَ الخَبِيثِ مَنزِلَةَ مَن لا يَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ فَأعْطَوْا لِوَجْهِهِ ما يَقْبَلُهُ المُحْتاجُ بِكُلِّ حالٍ، ولَمْ يَعْلَمُوا أنَّهُ يَحْمَدُ مَن يُعْطِي لِوَجْهِهِ مِن طَيِّبِ الكَسْبِ. والغَنِيُّ الَّذِي لا يَحْتاجُ إلى ما تَكْثُرُ حاجَةُ غالِبِ النّاسِ إلَيْهِ، ولِلَّهِ الغِنى المُطْلَقُ فَلا يُعْطى لِأجْلِهِ ولِامْتِثالِ أمْرِهِ إلّا خَيْرَ ما يُعْطِيهِ أحَدٌ لِلْغَنِيِّ عَنِ المالِ. والحَمِيدُ مِن أمْثِلَةِ المُبالَغَةِ، أيْ: شَدِيدُ الحَمْدِ، لِأنَّهُ يُثْنِي عَلى فاعِلِي الخَيْراتِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ مَحْمُودٌ، فَيَكُونُ ”حَمِيدٌ“ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، أيْ فَتَخَلَّقُوا بِذَلِكَ؛ لِأنَّ صِفاتِ اللَّهِ تَعالى كَمالاتٌ، فَكُونُوا أغْنِياءَ القُلُوبِ عَنِ الشُّحِّ مَحْمُودِينَ عَلى صَدَقاتِكم، ولا تُعْطُوا صَدَقاتٍ تُؤْذِنُ بِالشُّحِّ ولا تُشْكَرُونَ عَلَيْها.