موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الأربعاء 18 رمضان 1446 هجرية الموافق ل19 مارس 2025


الآية [283] من سورة  

وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا۟ كَاتِبًا فَرِهَٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا تَكْتُمُوا۟ ٱلشَّهَٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٌ قَلْبُهُۥ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ


ركن التفسير

283 - (وإن كنتم على سفر) أي مسافرين وتداينتم (ولم تجدوا كاتبا فرُهُنٌ) وفي قراءة {فرِهان} جمع رَهْن (مقبوضة) تستوثقون بها ، وبينت السنة جواز الرهن في الحضر ووجود الكاتب فالتقيد بما ذكر لأن التوثيق فيه أشد وأفاد قوله مقبوضة اشتراط القبض في الرهن والاكتفاء به من المرتهن ووكيله (فإن أمن بعضكم بعضا) أي الدائن المدين على حقه فلم يرتهن (فليؤد الذي اؤتمن) أي المدين (أمانته) دينه (وليتق الله ربه) في أدائه (ولا تكتموا الشهادة) إذا دعيتم لإقامتها (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) خص بالذكر لأنه محل الشهادة ولأنه إذا أثم تبعه غيره فيعاقب عليه معاقبة الآثمين (والله بما تعملون عليم) لا يخفى عليه شيء منه

يقول تعالى "وإن كنتم على سفر" أي مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى "ولم تجدوا كاتبا" يكتب لكم قال ابن عباس أو وجدوه ولم يجدوا قرطاسا أو دواة أو قلما فرهان مقبوضة أي فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة أي في يد صاحب الحق وقد استدل بقوله "فرهان مقبوضة" على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض كما هو مذهب الشافعي والجمهور واستدل بها آخرون على أنه لا بد أن يكون الرهن مقبوضا في يد المرتهن وهو رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه طائفة واستدل آخرون من السلف بهذه الآية على أنه لا يكون الرهن مشروعا إلا في السفر قاله مجاهد وغيره وقد ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير رهنها قوتا لأهله وفي رواية من يهود المدينة وفي رواية الشافعي عند أبي الشحم اليهودي وتقرير هذه المسائل في كتاب الأحكام الكبير ولله الحمد والمنة وبه المستعان. وقوله "فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذين ائتمن أمانته" روى ابن أبي حاتم بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري أنه قال: هذه نسخت ما قبلها وقال الشعبي: إذا ائتمن بعضكم بعضا فلا بأس أن لا تكتبوا أو لا تشهدوا وقوله "وليتق الله ربه" يعنى المؤتمن كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية قتادة عن الحسن عن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "على اليد ما أخذت حتى تؤديه". وقوله "ولا تكتموا الشهادة" أي لا تخفوها وتغلوها ولا تظهروها قال ابن عباس وغيره: شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك ولهذا قال "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" قال السدي يعني فاجر قلبه وهذه كقوله تعالى "ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين" وقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا" وهكذا قال ههنا "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم".

﴿وإنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ ولَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ . هَذا مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ [البقرة: ٢٨٢] الآيَةَ، فَجَمِيعُ ما تَقَدَّمَ حُكْمٌ في الحَضَرِ والمُكْنَةِ، فَإنْ كانُوا عَلى سَفَرٍ ولَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الكِتابَةِ لِعَدَمِ وُجُودِ مَن يَكْتُبُ ويَشْهَدُ، فَقَدْ شُرِعَ لَهم حُكْمٌ آخَرُ وهو الرَّهْنُ، وهَذا آخِرُ الأقْسامِ المُتَوَقَّعَةِ في صُوَرِ المُعامَلَةِ، وهي حالَةُ السَّفَرِ غالِبًا، ويُلْحَقُ بِها ما يُماثِلُ السَّفَرَ في هاتِهِ الحالَةِ. والرِّهانُ جَمْعُ رَهْنٍ، ويُجْمَعُ أيْضًا عَلى رُهُنٍ بِضَمِّ الرّاءِ وضَمِّ الهاءِ. وقَدْ قَرَأهُ جُمْهُورُ العَشَرَةِ بِكَسْرِ الرّاءِ وفَتْحِ الهاءِ، وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: بِضَمِّ الرّاءِ وضَمِّ الهاءِ، وجَمْعُهُ بِاعْتِبارِ تَعَدُّدِ المُخاطَبِينَ بِهَذا الحُكْمِ. والرَّهْنُ هُنا اسْمٌ لِلشَّيْءِ المَرْهُونِ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالمَصْدَرِ كالخَلْقِ، ومَعْنى الرَّهْنِ: أنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِن مَتاعِ المَدِينِ بِيَدِ الدّائِنِ تَوْثِقَةً لَهُ في دَيْنِهِ، وأصْلُ الرَّهْنِ في كَلامِ العَرَبِ يَدُلُّ عَلى الحَبْسِ قالَ تَعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: ٣٨] فالمَرْهُونُ مَحْبُوسٌ بِيَدِ الدّائِنِ إلى أنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ. قالَ زُهَيْرٌ: ؎وفارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لا فَكاكَ لَهُ يَوْمَ الوَداعِ فَأمْسى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقا والرَّهْنُ شائِعٌ عِنْدَ العَرَبِ؛ فَقَدْ كانُوا يَرْهَنُونَ في الحِمالاتِ والدِّياتِ إلى أنْ يَقَعَ دَفْعُها، فَرُبَّما رَهَنُوا أبْناءَهم، ورُبَّما رَهَنُوا واحِدًا مِن صَنادِيدِهِمْ، قالَ الأعْشى يَذْكُرُ أنَّ كِسْرى رامَ أخْذَ رَهائِنَ مِن أبْنائِهِمْ: ؎آلَيْتُ لا أُعْطِيهِ مِن أبْنائِنا ∗∗∗ رُهُنًا فَنُفْسِدَهم كَمَن قَدْ أفْسَدا (p-١٢١)وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمّامٍ السَّلُولِيُّ: ؎فَلَمّا خَشِيتُ أظافِيرَهم ∗∗∗ نَجَوْتُ وأرْهَنْتُهم مالِكًا ومِن حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ أنَّهُ قالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أرْهِنُونِي أبْناءَكم. ومَعْنى (فَرِهانٌ): أيْ فَرِهانٌ تُعَوَّضُ بِها الكِتابَةُ، ووَصْفُها بِمَقْبُوضَةٍ إمّا لِمُجَرَّدِ الكَشْفِ؛ لِأنَّ الرِّهانَ لا تَكُونُ إلّا مَقْبُوضَةً، وإمّا لِلِاحْتِرازِ عَنِ الرَّهْنِ لِلتَّوْثِقَةِ في الدُّيُونِ في الحَضَرِ. فَيُؤْخَذُ مِنَ الإذْنِ في الرَّهْنِ أنَّهُ مُباحٌ. فَلِذَلِكَ إذا سَألَهُ رَبُّ الدَّيْنِ أُجِيبَ إلَيْهِ، فَدَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ الرَّهْنَ تَوْثِقَةٌ في الدَّيْنِ. والآيَةُ دالَّةٌ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ الرَّهْنِ في السَّفَرِ بِصَرِيحِها، وأمّا مَشْرُوعِيَّةُ الرَّهْنِ في الحَضَرِ فَلِأنَّ تَعْلِيقَهُ هُنا عَلى حالِ السَّفَرِ لَيْسَ تَعْلِيقًا بِمَعْنى التَّقْيِيدِ بَلْ هو تَعْلِيقٌ بِمَعْنى الفَرْضِ والتَّقْدِيرِ، إذا لَمْ يُوجَدِ الشّاهِدُ في السَّفَرِ، فَلا مَفْهُومَ لِلشَّرْطِ لِوُرُودِهِ مَوْرِدَ بَيانِ حالٍ خاصَّةٍ لا لِلِاحْتِرازِ، ولا تُعْتَبَرُ مَفاهِيمُ القُيُودِ إلّا إذا سِيقَتْ مَساقَ الِاحْتِرازِ، ولِذا لَمْ يَعْتَدُّوا بِها إذا خَرَجَتْ مَخْرَجَ الغالِبِ، ولا مَفْهُومَ لَهُ في الِانْتِقالِ عَنِ الشَّهادَةِ أيْضًا، إذْ قَدْ عُلِمَ مِنَ الآيَةِ أنَّ الرَّهْنَ مُعامَلَةٌ مَعْلُومَةٌ لَهم، فَلِذَلِكَ أُحِيلُوا عَلَيْها عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلى مَعْنى الإرْشادِ والتَّنْبِيهِ. وقَدْ أخَذَ مُجاهِدٌ، والضَّحّاكُ، وداوُدُ الظّاهِرِيُّ، بِظاهِرِ الآيَةِ مِن تَقْيِيدِ الرَّهْنِ بِحالِ السَّفَرِ، مَعَ أنَّ السُّنَّةَ أثْبَتَتْ وُقُوعَ الرَّهْنِ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ ومِنَ الصَّحابَةِ في الحَضَرِ. والآيَةُ دَلِيلٌ عَلى أنَّ القَبْضَ مِن مُتَمِّماتِ الرَّهْنِ شَرْعًا، ولَمْ يَخْتَلِفِ العُلَماءُ في ذَلِكَ، وإنَّما اخْتَلَفُوا في الأحْكامِ النّاشِئَةِ عَنْ تَرْكِ القَبْضِ، فَقالَ الشّافِعِيُّ: القَبْضُ شَرْطٌ في صِحَّةِ الرَّهْنِ لِظاهِرِ الآيَةِ، فَلَوْ لَمْ يُقارِنْ عُقْدَةَ الرَّهْنِ قَبْضٌ فَسَدَتِ العُقْدَةُ عِنْدَهُ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ، صاحِبُ أبِي حَنِيفَةَ: لا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِدُونِ قَبْضٍ، وتَرَدَّدَ المُتَأخِّرُونَ مِنَ الحَنَفِيَّةِ في مُفادِ هَذِهِ العِبارَةِ، فَقالَ جَماعَةٌ: هو عِنْدَهُ شَرْطٌ في الصِّحَّةِ كَقَوْلِ (p-١٢٢)الشّافِعِيِّ، وقالَ جَماعَةٌ: هو شَرْطٌ في اللُّزُومِ قَرِيبًا مِن قَوْلِ مالِكٍ، واتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ لِلرّاهِنِ أنْ يَرْجِعَ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ إذا لَمْ يَقَعِ الحَوْزُ، وذَهَبَ مالِكٌ إلى أنَّ القَبْضَ شَرْطٌ في اللُّزُومِ، لِأنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ يَثْبُتُ بِالصِّيغَةِ كالبَيْعِ، والقَبْضُ مِن لَوازِمِهِ، فَلِذَلِكَ يُجْبَرُ الرّاهِنُ عَلى تَحْوِيزِ المُرْتَهَنِ إلّا أنَّهُ إذا ماتَ الرّاهِنُ أوْ أفْلَسَ قَبْلَ التَّحْوِيزِ كانَ المُرْتَهِنُ أُسْوَةَ الغُرَماءِ؛ إذْ لَيْسَ لَهُ ما يُؤْثِرُهُ عَلى بَقِيَّةِ الغُرَماءِ، والآيَةُ تَشْهَدُ لِهَذا لِأنَّ اللَّهَ جَعَلَ القَبْضَ وصْفًا لِلرَّهْنِ، فَعُلِمَ أنَّ ماهِيَّةَ الرَّهْنِ قَدْ تَحَقَّقَتْ بِدُونِ القَبْضِ، وأهْلُ تُونُسَ يَكْتَفُونَ في رَهْنِ الرِّباعِ والعَقارِ بِرَهْنِ رُسُومِ التَّمَلُّكِ، ويَعُدُّونَ ذَلِكَ في رَهْنِ الدَّيْنِ حَوْزًا. وفِي الآيَةِ دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى بُطْلانِ الِانْتِفاعِ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ الرَّهْنَ عِوَضًا عَنِ الشَّهادَةِ في التَّوْثِيقِ فَلا وجْهَ لِلِانْتِفاعِ، واشْتِراطُ الِانْتِفاعِ بِالرَّهْنِ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ تَوَثُّقًا إلى ماهِيَةِ البَيْعِ. * * * ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ . مُتَفَرِّعٌ عَلى جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ مِن أحْكامِ الدَّيْنِ: أيْ إنْ أمِنَ كُلٌّ مِنَ المُتَدايِنَيْنِ الآخَرَ، أيْ: وثِقَ بَعْضُكم بِأمانَةِ بَعْضٍ فَلَمْ يُطالِبْهُ بِإشْهادٍ ولا رَهْنٍ، فالبَعْضُ المَرْفُوعُ هو الدّائِنُ، والبَعْضُ المَنصُوبُ هو المَدِينُ وهو الَّذِي اؤْتُمِنَ. والأمانَةُ مَصْدَرُ آمَنَهُ: إذا جَعَلَهُ آمِنًا، والأمْنُ اطْمِئْنانُ النَّفْسِ وسَلامَتُها مِمّا تَخافُهُ، وأُطْلِقَتِ الأمانَةُ عَلى الشَّيْءِ المُؤَمَّنِ عَلَيْهِ، مِن إطْلاقِ المَصْدَرِ عَلى المَفْعُولِ، وإضافَةُ (أمانَتِهِ) تُشْبِهُ إضافَةَ المَصْدَرِ إلى مَفْعُولِهِ، وسَيَجِيءُ ذِكْرُ الأمانَةِ بِمَعْنى صِفَةِ الأمِينِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنا لَكم ناصِحٌ أمِينٌ﴾ [الأعراف: ٦٨] في سُورَةِ الأعْرافِ. وقَدْ أُطْلِقَ هُنا اسْمُ الأمانَةِ عَلى الدَّيْنِ في الذِّمَّةِ وعَلى الرَّهْنِ لِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الحَقِّ لِأنَّ اسْمَ الأماناتِ لَهُ مَهابَةٌ في النُّفُوسِ، فَذَلِكَ تَحْذِيرٌ مِن عَدَمِ الوَفاءِ بِهِ؛ لِأنَّهُ لَمّا سُمِّيَ أمانَةً فَعَدَمُ أدائِهِ يَنْعَكِسُ خِيانَةً؛ لِأنَّها ضِدُّها، وفي الحَدِيثِ: «أدِّ الأمانَةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَن خانَكَ» . (p-١٢٣)والأداءُ: الدَّفْعُ والتَّوْفِيَةُ، ورَدُّ الشَّيْءِ أوْ رَدُّ مِثْلِهِ فِيما لا تُقْصَدُ أعْيانُهُ، ومِنهُ أداءُ الأمانَةِ وأداءُ الدَّيْنِ أيْ عَدَمُ جَحْدِهِ. قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها﴾ [النساء: ٥٨] والمَعْنى: إذا ظَنَنْتُمْ أنَّكم في غُنْيَةٍ عَنِ التَّوَثُّقِ في دُيُونِكم بِأنَّكم أُمَناءُ عِنْدَ بَعْضِكم، فَأعْطُوا الأمانَةَ حَقَّها. وقَدْ عَلِمْتَ مِمّا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: (فاكْتُبُوهُ) أنَّ آيَةَ ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ﴾ تُعْتَبَرُ تَكْمِيلًا لِطَلَبِ الكِتابَةِ، والإشْهادِ طَلَبَ نَدْبٍ واسْتِحْبابٍ عِنْدَ الَّذِينَ حَمَلُوا الأمْرَ في قَوْلِهِ تَعالى ”فاكْتُبُوهُ“ عَلى مَعْنى النَّدْبِ والِاسْتِحْبابِ، وهُمُ الجُمْهُورُ، ومَعْنى كَوْنِهِ تَكْمِيلًا لِذَلِكَ الطَّلَبِ أنَّها بَيَّنَتْ أنَّ الكِتابَةَ والإشْهادَ بَيْنَ المُتَدايِنَيْنِ، مَقْصُودٌ بِها حُسْنُ التَّعامُلِ بَيْنَهُما، فَإنْ بَدا لَهُما أنْ يَأْخُذا بِهِما فَنَعِمّا، وإنِ اكْتَفَيا بِما يَعْلَمانِهِ مِن أمانٍ بَيْنَهُما فَلَهُما تَرْكُهُما. وأُتْبِعَ هَذا البَيانُ بِوِصايَةِ كِلا المُتَعامِلَيْنِ بِأنْ يُؤَدِّيا الأمانَةَ ويَتَّقِيا اللَّهَ. وتَقَدَّمَ أيْضًا أنَّ الَّذِينَ قالُوا بِأنَّ الكِتابَةَ والإشْهادَ عَلى الدُّيُونِ كانَ واجِبًا ثُمَّ نُسِخَ وُجُوبُهُ، ادَّعَوْا أنَّ ناسِخَهُ هو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ الآيَةَ، وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وابْنِ جُرَيْجٍ، وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ، والرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمانَ، ونُسِبَ إلى أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ. ومَحْمَلُ قَوْلِهِمْ وقَوْلِ أبِي سَعِيدٍ - إنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ - أنَّهم عَنَوْا بِالنَّسْخِ تَخْصِيصَ عُمُومِ الأحْوالِ والأزْمِنَةِ، وتَسْمِيَةَ مِثْلِ ذَلِكَ نَسْخًا تَسْمِيَةٌ قَدِيمَةٌ. أمّا الَّذِينَ يَرَوْنَ وُجُوبَ الكِتابَةِ والإشْهادِ بِالدُّيُونِ حُكْمًا مُحْكَمًا، ومِنهُمُ الطَّبَرِيُّ فَقَصَرُوا آيَةَ ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ الآيَةَ. عَلى كَوْنِها تَكْمِلَةً لِصُورَةِ الرَّهْنِ في السَّفَرِ خاصَّةً، كَما صَرَّحَ بِهِ الطَّبَرِيُّ ولَمْ يَأْتِ بِكَلامٍ واضِحٍ في ذَلِكَ، ولَكِنَّهُ جَمْجَمَ الكَلامَ وطَواهُ. ولَوْ أنَّهم قالُوا: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَعْنِي حالَةَ تَعَذُّرِ وُجُودِ الرَّهْنِ في حالَةِ السَّفَرِ، أيْ فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يَأْمَنَ بَعْضُكم بَعْضًا فالتَّقْدِيرُ: فَإنْ لَمْ تَجِدُوا رَهْنًا وأمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا إلى (p-١٢٤)آخِرِهِ - لَكانَ لَهُ وجْهٌ، ويُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ إنْ لَمْ يَأْمَنهُ لا يُدايِنُهُ، ولَكِنْ طُوِيَ هَذا تَرْغِيبًا لِلنّاسِ في المُواساةِ والِاتِّسامِ بِالأمانَةِ، وهَؤُلاءِ الفِرَقُ الثَّلاثَةُ كُلُّهم يَجْعَلُونَ هَذِهِ الآيَةَ مَقْصُورَةً عَلى بَيانِ حالَةِ تَرْكِ التَّوْثِيقِ في الدُّيُونِ. وأظْهَرُ مِمّا قالُوهُ عِنْدِي: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَشْرِيعٌ مُسْتَقِلٌّ يَعُمُّ جَمِيعَ الأحْوالِ المُتَعَلِّقَةِ بِالدُّيُونِ مِن إشْهادٍ ورَهْنٍ ووَفاءٍ بِالدَّيْنِ، والمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّبايُعِ، ولِهَذِهِ النُّكْتَةِ أُبْهِمَ المُؤْتَمَنُونَ بِكَلِمَةِ ”بَعْضٍ“ لِيَشْمَلَ الِائْتِمانَ مِن كِلا الجانِبَيْنِ: الَّذِي مِن قِبَلِ رَبِّ الدَّيْنِ والَّذِي مِن قِبَلِ المَدِينِ. فَرَبُّ الدَّيْنِ يَأْتَمِنُ المَدِينَ إذا لَمْ يَرَ حاجَةً إلى الإشْهادِ، ولَمْ يُطالِبْهُ بِإعْطاءِ الرَّهْنِ في السَّفَرِ ولا في الحَضَرِ. والمَدِينُ يَأْتَمِنُ الدّائِنَ إذا سَلَّمَ لَهُ رَهْنًا أغْلى ثَمَنًا بِكَثِيرٍ مِن قِيمَةِ الدَّيْنِ المُرْتَهَنِ فِيهِ، والغالِبُ أنَّ الرِّهانَ تَكُونُ أوْفَرَ قِيمَةً مِنَ الدُّيُونِ الَّتِي أُرْهِنَتْ لِأجْلِها، فَأمَرَ كُلَّ جانِبٍ مُؤْتَمَنٍ أنْ يُؤَدِّيَ أمانَتَهُ، فَأداءُ المَدِينِ أمانَتَهُ بِدَفْعِ الدَّيْنِ دُونَ مَطْلٍ ولا جُحُودٍ، وأداءُ الدّائِنِ أمانَتَهُ إذا أُعْطِيَ رَهْنًا مُتَجاوِزَ القِيمَةِ عَلى الدَّيْنِ أنْ يَرُدَّ الرَّهْنَ ولا يَجْحَدَهُ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِالدَّيْنِ؛ لِأنَّ الرَّهْنَ أوْفَرُ مِنهُ ولا يُنْقِصَ شَيْئًا مِنَ الرَّهْنِ. ولَفْظُ الأمانَةِ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنَيَيْنِ: مَعْنى الصِّفَةِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِها الأمِينُ، ومَعْنى الشَّيْءِ المُؤَمَّنِ. فَيُؤْخَذُ مِن هَذا التَّفْسِيرِ إبْطالُ غَلْقِ الرَّهْنِ: وهو أنْ يَصِيرَ الشَّيْءُ المَرْهُونُ مِلْكًا لِرَبِّ الدَّيْنِ، إذا لَمْ يُدْفَعِ الدَّيْنُ عِنْدَ الأجَلِ، قالَ النَّبِيءُ ﷺ «لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» وقَدْ كانَ غَلْقُ الرَّهْنِ مِن أعْمالِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، قالَ زُهَيْرٌ: ؎وفارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لا فَكاكَ لَهُ عِنْدَ الوَداعِ فَأمْسى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقا ومَعْنى: ﴿أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ أنْ يَقُولَ كِلا المُتَعامِلَيْنِ لِلْآخَرِ: لا حاجَةَ لَنا بِالإشْهادِ ونَحْنُ يَأْمَنُ بَعْضُنا بَعْضًا، وذَلِكَ كَيْ لا يَنْتَقِضَ المَقْصِدُ الَّذِي أشَرْنا إلَيْهِ فِيما مَضى مِن دَفْعِ مَظِنَّةِ اتِّهامِ أحَدِ المُتَدايِنَيْنِ الآخَرَ. (p-١٢٥)وزِيدَ في التَّحْذِيرِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ وذِكْرُ اسْمِ الجَلالَةِ فِيهِ مَعَ إمْكانِ الِاسْتِغْناءِ بِقَوْلِهِ: ولْيَتَقِّ رَبَّهُ، لِإدْخالِ الرَّوْعِ في ضَمِيرِ السّامِعِ وتَرْبِيَةِ المَهابَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿الَّذِي اؤْتُمِنَ﴾ وقَعَ فِيهِ ياءٌ هي المَدَّةُ في آخِرِ (الَّذِي) ووَقَعَ بَعْدَهُ هَمْزَتانِ أُولاهُما وصَلْيَةٌ وهي هَمْزَةُ الِافْتِعالِ، والثّانِيَةُ قَطْعِيَّةٌ أصْلِيَّةٌ، فَقَرَأهُ الجُمْهُورُ بِكَسْرِ ذالِ الَّذِي وبِهَمْزَةٍ ساكِنَةٍ بَعْدَ كَسْرَةِ الذّالِ؛ لِأنَّ هَمْزَةَ الوَصْلِ سَقَطَتْ في الدَّرَجِ فَبَقِيَتِ الهَمْزَةُ عَلى سُكُونِها؛ إذِ الدّاعِي لِقَلْبِ الهَمْزَةِ الثّانِيَةِ مَدًّا قَدْ زالَ، وهو الهَمْزَةُ الأُولى، فَفي هَذِهِ القِراءَةِ تَصْحِيحٌ لِلْهَمْزَةِ؛ إذْ لا داعِيَ لِلْإعْلالِ. وقَرَأهُ ورْشٌ عَنْ نافِعٍ، وأبُو عَمْرٍو، وأبُو جَعْفَرٍ: ”الَّذِيتُمِنَ“ بِياءٍ بَعْدَ ذالِ ”الَّذِي“ ثُمَّ فَوْقِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ؛ اعْتِبارًا بِأنَّ الهَمْزَةَ الأصْلِيَّةَ قَدِ انْقَلَبَتْ واوًا بَعْدَ هَمْزَةِ الِافْتِعالِ الوَصْلِيَّةِ؛ لِأنَّ الشَّأْنَ ضَمُّ هَمْزَةِ الوَصْلِ مُجانَسَةً لِحَرَكَةِ تاءِ الِافْتِعالِ عِنْدَ البِناءِ لِلْمَجْهُولِ، فَلَمّا حُذِفَتْ هَمْزَةُ الوَصْلِ في الدَّرَجِ بَقِيَتِ الهَمْزَةُ الثّانِيَةُ واوًا بَعْدَ كَسْرِ ذالِ ”الَّذِي“ فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً. فَفي هَذِهِ القِراءَةِ قَلْبانِ. وقَرَأهُ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: ”الَّذِي اوْتُمِنَ“ بِقَلْبِ الهَمْزَةِ واوًا تَبَعًا لِلضَّمَّةِ مُشِيرًا بِها إلى الهَمْزَةِ. وهَذا الِاخْتِلافُ راجِعٌ إلى وجْهِ الأداءِ، فَلا مُخالَفَةَ فِيهِ لِرَسْمِ المُصْحَفِ. * * * ﴿ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ . وِصايَةٌ ثانِيَةٌ لِلشُّهَداءِ تَجْمَعُ الشَّهاداتِ في جَمِيعِ الأحْوالِ؛ فَإنَّهُ أمَرَ أنْ يَكْتُبَ الشّاهِدُ بِالعَدْلِ، ثُمَّ نَهى عَنِ الِامْتِناعِ مِنَ الكِتابَةِ بَيْنَ المُتَدايِنَيْنِ، وأعْقَبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ كِتْمانِ الشَّهادَةِ كُلِّها، فَكانَ هَذا النَّهْيُ بِعُمُومِهِ بِمَنزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِأحْكامِ الشَّهادَةِ في الدَّيْنِ. (p-١٢٦)واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ﴾ نَهْيٌ، وأنَّ مُقْتَضى النَّهْيِ إفادَةُ التَّكْرارِ عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَماءِ الأُصُولِ، أيْ تَكْرارِ الِانْكِفافِ عَنْ فِعْلِ المَنهِيِّ في أوْقاتِ عُرُوضِ فِعْلِهِ، ولَوْلا إفادَتُهُ التَّكْرارَ لَما تَحَقَّقَتْ مَعْصِيَةٌ، وأنَّ التَّكْرارَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ تَكْرارٌ يَسْتَغْرِقُ الأزْمِنَةَ الَّتِي يَعْرِضُ فِيها داعٍ لِفِعْلِ المَنهِيِّ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ كانَ حَقًّا عَلى مَن تَحَمَّلَ شَهادَةً بِحَقٍّ ألّا يَكْتُمَهُ عِنْدَ عُرُوضِ إعْلانِهِ: بِأنْ يُبَلِّغَهُ إلى مَن يَنْتَفِعُ بِهِ، أوْ يَقْضِيَ بِهِ كُلَّما ظَهَرَ الدّاعِي إلى الِاسْتِظْهارِ بِهِ، أوْ قَبْلَ ذَلِكَ إذا خَشِيَ الشّاهِدُ تَلاشِيَ ما في عِلْمِهِ بِغَيْبَةٍ أوْ طُرُوِّ نِسْيانٍ، أوْ عُرُوضِ مَوْتٍ، بِحَسَبِ ما يَتَوَقَّعُ الشّاهِدُ أنَّهُ حافِظٌ لِلْحَقِّ الَّذِي في عِلْمِهِ، عَلى مِقْدارِ طاقَتِهِ واجْتِهادِهِ. وإذْ قَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أنَّ اللَّهَ أنْبَأنا بِأنَّ مُرادَهُ إقامَةُ الشَّهادَةِ عَلى وجْهِها بِقَوْلِهِ: ﴿وأقْوَمُ لِلشَّهادَةِ﴾ [البقرة: ٢٨٢] وأنَّهُ حَرَّضَ الشّاهِدَ عَلى الحُضُورِ لِلْإشْهادِ إذا طُلِبَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا﴾ [البقرة: ٢٨٢] فَعُلِمَ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ الِاهْتِمامُ بِإظْهارِ الشَّهادَةِ إظْهارًا لِلْحَقِّ، ويُؤَيِّدُ هَذا المَعْنى ويَزِيدُهُ بَيانًا قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ «ألا أُخْبِرُكم بِخَيْرِ الشُّهَداءِ، الَّذِي يَأْتِي بِشَهادَتِهِ قَبْلَ أنْ يُسْألَها» رَواهُ مالِكٌ في المُوَطَّأِ ورَواهُ عَنْهُ مُسْلِمٌ والأرْبَعَةُ. فَهَذا وجْهُ تَفْسِيرِ الآيَةِ تَظاهَرَ فِيهِ الأثَرُ والنَّظَرُ، ولَكِنْ رُوِيَ في الصَّحِيحِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «خَيْرُ أُمَّتِي القَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهم - قالَها ثانِيَةً، وشَكَّ أبُو هُرَيْرَةَ في الثّالِثَةِ - ثُمَّ يَخْلُفُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أنْ يُسْتَشْهَدُوا» الحَدِيثَ. وهُوَ مَسُوقٌ مَساقَ ذَمِّ مَن وصَفَهم بِأنَّهم يَشْهَدُونَ قَبْلَ أنْ يُسْتَشْهَدُوا، وأنَّ ذَمَّهم مِن أجْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في مَحْمَلِهِ، قالَ عِياضٌ: حَمَلَهُ قَوْمٌ عَلى ظاهِرِهِ مِن ذَمِّ مَن يَشْهَدُ قَبْلَ أنْ تُطْلَبَ مِنهُ الشَّهادَةُ، والجُمْهُورُ عَلى خِلافِهِ وأنَّ ذَلِكَ غَيْرُ قادِحٍ، وحَمَلُوا ما في الحَدِيثِ عَلى ما إذا شَهِدَ كاذِبًا، وإلّا فَقَدْ جاءَ في الصَّحِيحِ «خَيْرُ الشُّهُودِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهادَتِهِ قَبْلَ أنْ يُسْألَها» وأقُولُ: رَوى مُسْلِمٌ عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «إنَّ خَيْرَكم قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهم - قالَها مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثًا - ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهم قَوْمٌ يَشْهَدُونَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ» الحَدِيثَ. (p-١٢٧)والظّاهِرُ أنَّ ما رَواهُ أبُو هُرَيْرَةَ وما رَواهُ عِمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ حَدِيثٌ واحِدٌ، سَمِعَهُ كِلاهُما، واخْتَلَفَتْ عِبارَتُهُما في حِكايَتِهِ فَيَكُونُ لَفْظُ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ مُبَيِّنًا لَفْظَ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: «قَبْلَ أنْ يُسْتَشْهَدُوا» دُونَ أنْ يُسْتَشْهَدُوا، أيْ دُونَ أنْ يَسْتَشْهِدَهم مُشْهِدٌ، أيْ: أنْ يَحْمِلُوا شَهادَةً أيْ يَشْهَدُونَ بِما لا يَعْلَمُونَ، وهو الَّذِي عَناهُ المازِرِيُّ بِقَوْلِهِ: وحَمَلُوا ما في الحَدِيثِ - أيْ حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ - عَلى ما إذا شَهِدَ كاذِبًا. فَهَذا طَرِيقٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوايَتَيْنِ، وهي تَرْجِعُ إلى حَمْلِ المُجْمَلِ عَلى المُبَيَّنِ. وقالَ النَّوَوِيُّ: تَأوَّلَهُ بَعْضُ العُلَماءِ بِأنَّ ذَمَّ الشَّهادَةِ قَبْلَ أنْ يُسْألَها الشّاهِدُ هو في الشَّهادَةِ بِحُقُوقِ النّاسِ بِخِلافِ ما فِيهِ حَقُّ اللَّهِ. قالَ النَّوَوِيُّ: وهَذا الجَمْعُ هو مَذْهَبُ أصْحابِنا، وهَذِهِ طَرِيقَةٌ تَرْجِعُ إلى إعْمالِ كُلٍّ مِنَ الحَدِيثَيْنِ في بابٍ، بِتَأْوِيلِ كُلٍّ مِنَ الحَدِيثَيْنِ عَلى غَيْرِ ظاهِرِهِ، لِئَلّا يُلْغى أحَدُهُما. قُلْتُ: وبَنى عَلَيْهِ الشّافِعِيَّةُ فَرْعًا بِرَدِّ الشَّهادَةِ الَّتِي يُؤَدِّيها الشّاهِدُ قَبْلَ أنْ يُسْألَها. ذَكَرَهُ الغَزالِيُّ في الوَجِيزِ، والَّذِي نَقَلَ ابْنُ مَرْزُوقٍ في شَرْحِ مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ عَلى الوَجِيزِ ”الحِرْصُ عَلى الشَّهادَةِ بِالمُبادَرَةِ قَبْلَ الدَّعْوى لا تُقْبَلُ، وبَعْدَ الدَّعْوى وقَبْلَ الِاسْتِشْهادِ وجْهانِ؛ فَإنْ لَمْ تُقْبَلْ فَهَلْ يَصِيرُ مَجْرُوحًا وجْهانِ“ . فَأمّا المالِكِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ كَلامُهم. فالَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ عِياضٌ وابْنُ مَرْزُوقٍ أنَّ أداءَ الشّاهِدِ شَهادَتَهُ قَبْلَ أنْ يُسْألَها مَقْبُولٌ لِحَدِيثِ المُوَطَّأِ: «خَيْرُ الشُّهَداءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهادَتِهِ قَبْلَ أنْ يُسْألَها» ونَقَلَ الباجِيُّ عَنْ مالِكٍ: أنَّ مَعْنى الحَدِيثِ أنْ يَكُونَ عِنْدَ الشّاهِدِ شَهادَةٌ لِرَجُلٍ لا يَعْلَمُ بِها، فَيُخْبِرُهُ بِها ويُؤَدِّيها لَهُ عِنْدَ الحاكِمِ، فَإنَّ مالِكًا ذَكَرَهُ في المُوَطَّأِ ولَمْ يُذَيِّلْهُ بِما يَقْتَضِي أنَّهُ لا عَمَلَ عَلَيْهِ، وتَبِعَ الباجِيَّ ابْنُ مَرْزُوقٍ في شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ خَلِيلٍ، وادَّعى أنَّهُ لا يُعْرَفُ في المَذْهَبِ ما يُخالِفُهُ والَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الحاجِبِ، وخَلِيلٌ وشارِحُو مُخْتَصَرَيْهِما: أنَّ أداءَ الشَّهادَةِ قَبْلَ أنْ يُطْلَبَ مِنَ الشّاهِدِ أداؤُها مانِعٌ مِن قَبُولِها: قالَ ابْنُ الحاجِبِ: وفي الأداءِ يُبْدَأُ بِهِ دُونَ طَلَبٍ فِيما تَمَحَّضَ مِن حَقِّ الآدَمِيِّ قادِحَةٌ، وقالَ خَلِيلٌ - عاطِفًا عَلى مَوانِعِ قَبُولِ الشَّهادَةِ -: ”أوْ رَفَعَ قَبْلَ الطَّلَبِ في مَحْضِ حَقِّ الآدَمِيِّ“ (p-١٢٨)وكَذَلِكَ ابْنُ راشِدٍ القَفَصِيُّ في كِتابِهِ (الفائِقُ في الأحْكامِ والوَثائِقِ) ونَسَبَهُ النَّوَوِيُّ في شَرْحِهِ عَلى صَحِيحِ مُسْلِمٍ لِمالِكٍ، عَلى أنَّ المُسْتَنَدَ مُتَّحِدٌ وهو إعْمالُ حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ ولَعَلَّهُ أخَذَ نِسْبَةَ ذَلِكَ لِمالِكٍ مِن كَلامِ ابْنِ الحاجِبِ المُتَقَدِّمِ. وادَّعى ابْنُ مَرْزُوقٍ أنَّ ابْنَ الحاجِبِ تَبِعَ ابْنَ شاسٍ إذْ قالَ: فَإنْ بادَرَ بِها مِن غَيْرِ طَلَبٍ لَمْ يُقْبَلْ. وأنَّ ابْنَ شاسٍ أخَذَهُ مِن كَلامِ الغَزالِيِّ قالَ: والَّذِي تَقْتَضِيهِ نُصُوصُ المَذْهَبِ أنَّهُ إنْ رَفَعَها قَبْلَ الطَّلَبِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِيها بَلْ إنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مَندُوبًا فَلا أقَلَّ مِن أنْ لا تُرَدَّ، واعْتَضَدَ بِكَلامِ الباجِيِّ في شَرْحِ حَدِيثِ: «خَيْرُ الشُّهَداءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهادَتِهِ قَبْلَ أنْ يُسْألَها» . وقَدْ سَلَكُوا في تَعْلِيلِ المَسْألَةِ مَسْلَكَيْنِ: مَسْلَكٍ يَرْجِعُ إلى الجَمْعِ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ، وهو مَسْلَكُ الشّافِعِيَّةِ، ومَسْلَكِ إعْمالِ قاعِدَةِ رَدِّ الشَّهادَةِ بِتُهْمَةِ الحِرْصِ عَلى العَمَلِ بِشَهادَتِهِ وأنَّهُ رِيبَةٌ. وقَوْلُهُ: ﴿ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ زِيادَةٌ في التَّحْذِيرِ، والإثْمُ: الذَّنْبُ والفُجُورُ. والقَلْبُ اسْمٌ لِلْإدْراكِ والِانْفِعالاتِ النَّفْسِيَّةِ والنَّوايا، وأُسْنِدَ الإثْمُ إلى القَلْبِ وإنَّما الآثِمُ الكاتِمُ لِأنَّ القَلْبَ - أيْ حَرَكاتِ العَقْلِ - يُسَبِّبُ ارْتِكابَ الإثْمِ. فَإنَّ كِتْمانَ الشَّهادَةِ إصْرارٌ قَلْبِيٌّ عَلى مَعْصِيَةٍ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَحَرُوا أعْيُنَ النّاسِ﴾ [الأعراف: ١١٦] وإنَّما سَحَرُوا النّاسَ بِواسِطَةِ مَرْئِيّاتٍ وتَخَيُّلاتٍ. وقَوْلُ الأعْشى: ؎كَذَلِكَ فافْعَلْ ما حَيِيتَ إذا شَتَوْا وأقْدِمْ إذا ما أعْيُنُ النّاسِ تَفْرَقُ لِأنَّ الفَرَقَ يَنْشَأُ عَنْ رُؤْيَةِ الأهْوالِ. وقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ تَهْدِيدٌ، كِنايَةٌ عَنِ المُجازاةِ بِمِثْلِ الصَّنِيعِ؛ لِأنَّ القادِرَ لا يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ المُؤاخَذَةِ إلّا الجَهْلُ فَإذا كانَ عَلِيمًا أقامَ قِسْطاسَ الجَزاءِ.


ركن الترجمة

If you are on a journey and cannot find a scribe, pledge your goods (against the Loan); and if one trusts the other, then let him who is trusted deliver the thing entrusted, and have fear of God, his Lord. Do not suppress any evidence, for he who conceals evidence is sinful of heart; and God is aware of all you do.

Mais si vous êtes en voyage et ne trouvez pas de scribe, un gage reçu suffit. S'il y a entre vous une confiance réciproque, que celui à qui on a confié quelque chose la restitue; et qu'il craigne Allah son Seigneur. Et ne cachez pas le témoignage: quiconque le cache a, certes, un cœur pécheur. Allah, de ce que vous faites, est Omniscient.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :