موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الخميس 19 رمضان 1446 هجرية الموافق ل20 مارس 2025


الآية [284] من سورة  

لِّلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا۟ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ


ركن التفسير

284 - (لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا) تظهروا (ما في أنفسكم) من السوء والعزم عليه (أو تخفوه) تسروه (يحاسبكم) يخبركم (به الله) يوم القيامة (فيغفر لمن يشاء) المغفرة له (ويعذب من يشاء) تعذيبه والفعلان بالجزم عطف على جواب الشرط والرفع أي فهو (والله على كل شيء قدير) ومنه محاسبتكم وجزاؤكم

يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهن وأنه المطلع على ما فيهن لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر والضمائر وإن دقت وخفيت وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال تعالى "قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير". وقال "يعلم السر وأخفى" والآيات في ذلك كثيرة جدا وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم وهو المحاسبة على ذلك ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة وخافوا منها ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا عبدالرحمن بن إبراهيم حدثني أبو عبدالرحمن يعني العلاء عن أبيه عن أبي هريره قال: لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير" اشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" إلى آخره ورواه مسلم منفردا به من حديث يزيد بن زريع عن روح بن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة فذكر مثله ولفظه فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" قال نعم "ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا" قال نعم "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" قال نعم "واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين" قال نعم حديث ابن عباس في ذلك قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن آدم بن سليمان سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا" فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" إلى قوله "فانصرنا على القوم الكافرين" وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وإسحق بن إبراهيم ثلاثتهم عن وكيع به وزاد "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" قال قد فعلت "ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا" قال قد فعلت "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" قال قد فعلت "واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين" قال قد فعلت "طريق أخرى" عن ابن عباس قال الإمام أحمد حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: دخلت على ابن عباس فقلت يا أبا عباس كنت عند ابن عمر فقرأ هذه الآية فبكى قال: أية آية؟ قلت "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" قال ابن عباس إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غما شديدا وغاظتهم غيظا شديدا يعني وقالوا يا رسول الله هلكنا إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل فأما قلوبنا فليست بأيدينا فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قولوا سمعنا وأطعنا" فقالوا سمعنا وأطعنا قال فنسختها هذه الآية "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله" إلى "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال "طريق أخرى" عنه قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سعيد بن مرجانة سمعه يحدث أنه بينما هو جالس مع عبدالله بن عمر تلا هذه الآية "لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء" الآية فقال: والله لئن واخذنا الله بهذا لنهلكن ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه قال ابن مرجانة: فقمت حتى أتيت ابن عباس فذكرت له ما قال ابن عمر وما فعل حين تلاها فقال ابن عباس يغفر الله لأبي عبدالرحمن لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبدالله بن عمر فأنزل الله بعدها "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" إلى آخر السورة قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها وصار الأمر إلى أن قضى الله عز وجل أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل "طريق أخرى" قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا إسحق حدثنا يزيد بن هرون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم أن أباه قرأ "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكـم به الله" فدمعت عيناه فبلغ صنيعه ابن عباس فقال: يرحم الله أبا عبدالرحمن لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت فنسختها الآية التي بعدها "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس وقد ثبت عن ابن عمر كما ثبت عن ابن عباس قال البخاري: حدثنا إسحق حدثنا روح حدثنا شعبة عن خالد الحذاء عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" قال: نسختها الآية التي بعدها وهكذا روي عن علي وابن مسعود وكعب الأحبار والشعبي والنخعي ومحمد بن كعب القرظي وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة أنها منسوخة بالتي بعدها وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة من طريق قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعلم". وفى الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قال الله إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرا" لفظ مسلم وهو في إفراده من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "قال الله: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة" وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "قال الله إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها" وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قالت الملائكة رب وذاك أن عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة وإنما تركها من جراي "وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا أحسن أحد إسلامه فإن له بكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل" تفرد به مسلم عن محمد بن رافع عن عبدالرزاق بهذا السياق واللفظ وبعضه في صحيح البخاري وقال مسلم أيضا: حدثنا أبو كريب حدثنا خالد الأحمر عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب له وإن عملها كتبت" تفرد به مسلم دون غيره من أصحاب الكتب وقال مسلم أيضا: حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا عبدالوارث عن الجعد أبي عثمان حدثنا أبو رجاء العطاردي عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تعالى قال "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده سيئة واحدة" ثم رواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان في هذا الإسناد بمعنى حديث عبدالرزاق زاد "ومحاها الله ولا يهلك على الله إلا هالك" وفي حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فقالوا إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال "وقد وجدتموه؟" قالوا نعم قال "ذاك صريح الإيمان" لفظ مسلم وهو عند مسلم أيضا من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به وروى مسلم أيضا من حديث مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال "تلك صريح الإيمان". وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" فإنها لم تنسخ لكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله "يحاسبكم به الله" يقول يخبركم وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب وهو قوله "فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" وهو قوله "ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" أي من الشك والنفاق وقد روى العوفي والضحاك عنه قريبا من هذا. وروى ابن جرير عن مجاهد والضحاك نحوه وعن الحسن البصري أنه قال: هي محكمة لم تنسخ واختار ابن جرير ذلك واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة وأنه تعالى قد يحاسب ويغفر وقد يحاسب ويعاقب بالحديث الذي رواه عند هذه الآية قائلا: حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد بن هشام "ح" وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية حدثنا ابن هشام قالا جميعا في حديثهما عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبدالله بن عمر وهو يطوف إذا عرض له رجل فقال يا ابن عمر ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى ؟ قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول له هل تعرف كذا فيقول رب أعرف مرتين حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم قال فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الأشهاد "هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين" وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة عن قتادة به وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبيه قال: سألت عائشة عن هذه الآية "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها فقالت: هذه مبايعة الله العبد وما يصيبه من الحمى والنكبة والبضاعة يضعها في يد كمه فيفقدها فيفزع لها ثم يجدها في ضبنته حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر وكذا رواه الترمذي وابن جرير من طريق حماد بن سلمة به وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديثه قلت وشيخه علي بن زيد بن جدعان ضعيف يغرب في رواياته وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه أم محمد أمية بنت عبدالله عن عائشة وليس لها عنها في الكتب سواه.

(p-١٢٩)﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرْ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبْ مَن يَشاءُ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ . تَعْلِيلٌ واسْتِدْلالٌ عَلى مَضْمُونِ جُمْلَةِ: ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٨٣] وعَلى ما تَقَدَّمَ آنِفًا مِن نَحْوِ: واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَإذا كانَ ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالوَعْدِ والوَعِيدِ، فَقَدْ جاءَ هَذا الكَلامُ تَصْرِيحًا واسْتِدْلالًا عَلَيْهِ، فَجُمْلَةُ: ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ﴾ إلى آخِرِها هي مَحَطُّ التَّصْرِيحِ، وهي المَقْصُودُ بِالكَلامِ، وهي مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ: ﴿ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ﴾ [البقرة: ٢٨٣] إلى ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٨٣] وجُمْلَةُ ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ هي مَوْقِعُ الِاسْتِدْلالِ، وهي اعْتِراضٌ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ المُتَعاطِفَتَيْنِ، أوْ عِلَّةٌ لِجُمْلَةِ ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٨٣] بِاعْتِبارِ إرادَةِ الوَعِيدِ والوَعْدِ، فالمَعْنى أنَّكم عَبِيدُهُ فَلا يَفُوتُهُ عَمَلُكم والجَزاءُ عَلَيْهِ، وعَلى هَذا الوَجْهِ تَكُونُ جُمْلَةُ: ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ﴾ مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلى جُمْلَةٍ، والمَعْنى: إنَّكم عَبِيدُهُ، وهو مُحاسِبُكم. ونَظِيرُها في المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأسِرُّوا قَوْلَكم أوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ [الملك: ١٣] ﴿ألا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ﴾ [الملك: ١٤] ولا يُخالِفُ بَيْنَهُما إلّا أُسْلُوبُ نَظْمِ الكَلامِ. ومَعْنى الِاسْتِدْلالِ هُنا: أنَّ النّاسَ قَدْ عَلِمُوا أنَّ اللَّهَ رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ، وخالِقُ الخَلْقِ، فَإذا كانَ ما في السَّماواتِ والأرْضِ لِلَّهِ، مَخْلُوقًا لَهُ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُ؛ لِأنَّهُ مُكَوِّنُ ضَمائِرِهِمْ وخَواطِرِهِمْ، وعُمُومُ عِلْمِهِ تَعالى بِأحْوالِ مَخْلُوقاتِهِ مِن تَمامِ مَعْنى الخالِقِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأنَّهُ لَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَكانَ العَبْدُ في حالَةِ اخْتِفاءِ حالِهِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ مُسْتَقِلًّا عَنْ خالِقِهِ، ومالِكِيَّةُ اللَّهِ تَعالى أتَمُّ أنْواعِ المِلْكِ عَلى الحَقِيقَةِ كَسائِرِ الصِّفاتِ الثّابِتَةِ لِلَّهِ تَعالى، فَهي الصِّفاتُ عَلى الحَقِيقَةِ مِنَ الوُجُودِ الواجِبِ إلى ما اقْتَضاهُ واجِبُ الوُجُودِ مِن صِفاتِ الكَمالِ، فَقَوْلُهُ: ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ﴾ الآيَةَ. (p-١٣٠)وعُطِفَ قَوْلُهُ ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ﴾ بِالواوِ دُونَ الفاءِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ الحُكْمَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ مَقْصُودٌ بِالذّاتِ، وأنَّ ما قَبْلَهُ كالتَّمْهِيدِ لَهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وإنْ تُبْدُوا عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٨٣] ويَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ اعْتِراضًا بَيْنَهُما. وإبْداءُ ما في النَّفْسِ: إظْهارُهُ، وهو إعْلانُهُ بِالقَوْلِ، فِيما سَبِيلُهُ القَوْلُ وبِالعَمَلِ فِيما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَمَلٌ، وإخْفاؤُهُ بِخِلافِ ذَلِكَ، وعَطْفُ ”أوْ تُخْفُوهُ“ لِلتَّرَقِّي في الحِسابِ عَلَيْهِ، فَقَدْ جاءَ عَلى مُقْتَضى الظّاهِرِ في عَطْفِ الأقْوى عَلى الأضْعَفِ، في الغَرَضِ المَسُوقِ لَهُ الكَلامُ في سِياقِ الإثْباتِ، و(ما) في النَّفْيِ يَعُمُّ الخَيْرَ والشَّرَّ. والمُحاسَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الحُسْبانِ وهو العَدُّ، فَمَعْنى (﴿يُحاسِبْكُمْ﴾) في أصْلِ اللُّغَةِ: يَعُدُّهُ عَلَيْكم. إلّا أنَّهُ شاعَ إطْلاقُهُ عَلى لازِمِ المَعْنى، وهو المُؤاخَذَةُ والمُجازاةُ كَما حَكى اللَّهُ تَعالى ﴿إنْ حِسابُهم إلّا عَلى رَبِّي﴾ [الشعراء: ١١٣] وشاعَ هَذا في اصْطِلاحِ الشَّرْعِ، ويُوَضِّحُهُ هُنا قَوْلُهُ: (﴿فَيَغْفِرْ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبْ مَن يَشاءُ﴾) . وقَدْ أجْمَلَ اللَّهُ تَعالى هُنا الأحْوالَ المَغْفُورَةَ وغَيْرَ المَغْفُورَةِ: لِيَكُونَ المُؤْمِنُونَ بَيْنَ الخَوْفِ والرَّجاءِ، فَلا يُقَصِّرُوا في اتِّباعِ الخَيْراتِ النَّفْسِيَّةِ والعَمَلِيَّةِ، إلّا أنَّهُ أثْبَتَ غُفْرانًا وتَعْذِيبًا بِوَجْهِ الإجْمالِ عَلى كُلٍّ مِمّا نُبْدِيهِ وما نُخْفِيهِ، ولِلْعُلَماءِ في مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ والجَمْعِ بَيْنَها وبَيْنَ قَوْلِهِ ﷺ «مَن هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» وقَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ لِأُمَّتِي عَمّا حَدَّثَتْها بِهِ أنْفُسُها» وأحْسَنُ كَلامٍ فِيهِ ما يَأْتَلِفُ مِن كَلامَيِ المازِرِيِّ وعِياضٍ، في شَرْحَيْهِما لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ، وهو - مَعَ زِيادَةِ بَيانٍ -: أنَّ ما يَخْطُرُ في النَّفْسِ إنْ كانَ مُجَرَّدَ خاطِرٍ وتَرَدُّدٍ مِن غَيْرِ عَزْمٍ فَلا خِلافَ في عَدَمِ المُؤاخَذَةِ بِهِ، إذْ لا طاقَةَ لِلْمُكَلَّفِ بِصَرْفِهِ عَنْهُ، وهو مَوْرِدُ حَدِيثِ التَّجاوُزِ لِلْأُمَّةِ عَمّا حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها، وإنْ كانَ قَدْ جاشَ في النَّفْسِ عَزْمٌ؛ فَإمّا أنْ يَكُونَ مِنَ الخَواطِرِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْها أفْعالٌ بَدَنِيَّةٌ أوْ لا، فَإنْ كانَ مِنَ الخَواطِرِ الَّتِي لا تَتَرَتَّبُ عَلَيْها أفْعالٌ، مِثْلَ الإيمانِ، والكُفْرِ، والحَسَدِ، فَلا خِلافَ في المُؤاخَذَةِ بِهِ؛ لِأنَّهُ مِمّا يَدْخُلُ في طَوْقِ المُكَلَّفِ أنْ يَصْرِفَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وإنْ كانَ مِنَ الخَواطِرِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْها آثارٌ في الخارِجِ، فَإنْ حَصَلَتِ الآثارُ فَقَدْ خَرَجَ مِن أحْوالِ الخَواطِرِ إلى الأفْعالِ؛ كَمَن يَعْزِمُ عَلى السَّرِقَةِ (p-١٣١)فَيَسْرِقُ، وإنْ عَزَمَ عَلَيْهِ ورَجَعَ عَنْ فِعْلِهِ اخْتِيارًا لِغَيْرِ مانِعٍ مَنَعَهُ، فَلا خِلافَ في عَدَمِ المُؤاخَذَةِ بِهِ وهو مَوْرِدُ حَدِيثِ «مَن هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» وإنْ رَجَعَ لِمانِعٍ قَهَرَهُ عَلى الرُّجُوعِ فَفي المُؤاخَذَةِ بِهِ قَوْلانِ: أيْ إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾ مَحْمُولٌ عَلى مَعْنى يُجازِيكم. وأنَّهُ مُجْمَلٌ تُبَيِّنُهُ مَوارِدُ الثَّوابِ والعِقابِ في أدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وإنَّ مَن سَمّى ذَلِكَ نَسْخًا مِنَ السَّلَفِ فَإنَّما جَرى عَلى تَسْمِيَةٍ سَبَقَتْ ضَبْطَ المُصْطَلَحاتِ الأُصُولِيَّةِ، فَأطْلَقَ النَّسْخَ عَلى مَعْنى البَيانِ وذَلِكَ كَثِيرٌ في عِباراتِ المُتَقَدِّمِينَ. وهَذِهِ الأحادِيثُ وما دَلَّتْ عَلَيْهِ دَلائِلُ قَواعِدِ الشَّرِيعَةِ، هي البَيانُ لِـ (مَن يَشاءُ) في قَوْلِهِ تَعالى: (﴿فَيَغْفِرْ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبْ مَن يَشاءُ﴾) . وفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نُسِخَتْ بِالَّتِي بَعْدَها، أيْ بِقَوْلِهِ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦] كَما سَيَأْتِي هُنالِكَ. وقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذا أنَّ المَشِيئَةَ هُنا مُتَرَتِّبَةٌ عَلى أحْوالِ المُبْدى والمُخْفى، كَما هو بَيِّنٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”فَيَغْفِرْ“ ”ويُعَذِّبْ“ بِالجَزْمِ، عَطْفًا عَلى (يُحاسِبْكم) وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ، وأبُو جَعْفَرٍ، ويَعْقُوبُ، بِالرَّفْعِ عَلى الِاسْتِئْنافِ بِتَقْدِيرِ ”فَهو يَغْفِرُ“، وهُما وجْهانِ فَصِيحانِ، ويَجُوزُ النَّصْبُ ولَمْ يُقْرَأْ بِهِ إلّا في الشّاذِّ. وقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تَذْيِيلٌ لِما دَلَّ عَلى عُمُومِ العِلْمِ، بِما يَدُلُّ عَلى عُمُومِ القُدْرَةِ.


ركن الترجمة

To God belongs all that is in the heavens and the earth; and whether you reveal what is in your heart or conceal it, you will have to account for it to God who will pardon whom He please and punish whom He will, for God has the power over all things.

C'est à Allah qu'appartient tout ce qui est dans les cieux et sur la terre. Que vous manifestiez ce qui est en vous ou que vous le cachiez, Allah vous en demandera compte. Puis Il pardonnera à qui Il veut, et châtiera qui Il veut. Et Allah est Omnipotent.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :