ركن التفسير
30 - (و) اذكر يا محمد (إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) بالمعاصي (ويسفك الدماء) يريقها بالقتل كما فعل بنو الجان وكانوا فيها فلما أفسدوا أرسل الله عليهم الملائكة فطردوهم إلى الجزائر والجبال (ونحن نسبح) متلبسين (بحمدك) أي نقول سبحان الله وبحمده (ونقدس لك) ننزهك عما لا يليق بك فاللام زائدة والجملة حال أي فنحن أحق بالاستحلاف (قال) تعالى (إني أعلم ما لا تعلمون) من المصلحة في استخلاف آدم وأن ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم ، فقالوا لن يخلق ربنا خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم لسبقنا له ورؤيتنا ما لم يره فخلق الله تعالى آدم من أديم الأرض أي وجهها بأن قبض منها قبضة من جميع ألوانها وعجنت بالمياه المختلفة وسواه ونفخ فيه الروح فصار حيواناً حساساً بعد أن كان جماداً
يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم فقال تعالى "وإذ قال ربك للملائكة" أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك حكى ابن جرير عن بعض أهل العربية وهو أبو عبيدة أنه زعم أن إذ هاهنا زائدة وأن تقدير الكلام وقال ربك ورده ابن جرير قال القرطبي وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج هذا اجتراء من أبي عبيدة "إني جاعل في الأرض خليفة" أي قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل كما قال تعالى "هو الذي جعلكم خلائف الأرض" وقال "ويجعلكم خلفاء الأرض" وقال "ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون" وقال "فخلف من بعدهم خلف" وقرئ في الشاذ "إني جاعل في الأرض خليفة" حكاها الزمخشري وغيره ونقل القرطبي عن زيد بن علي وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين وعزاه القرطبي إلى ابن عباس وابن مسعود وجميع أهل التأويل وفي ذلك نظر بل الخلاف في ذلك كثير حكاه الرازي في تفسيره وغيره والظاهر أنه لم يرد آدم عينا إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة "أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء" فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم قاله القرطبي أو أنهم قاسوهم على من سبق كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وههنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقا قال قتادة وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" الآية وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي لك كما سيأتي. أي ولا يصدر منا شيء من ذلك وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال "إني أعلم ما لا تعلمون" أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده يسألهم وهو أعلم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه الصلاة والسلام "يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل" فقولهم أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله لهم "إني أعلم ما لا تعلمون" وقيل معنى قوله جوابا لهم "إني أعلم ما لا تعلمون" إني لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها وقيل إنه جواب "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" فقال "إني أعلم ما لا تعلمون" أي من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل بل تضمن قولهم "أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" طلبا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم فقال الله تعالى لهم "إني أعلم ما لا تعلمون" من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة والله أعلم. "ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه" قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالوا: قال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قال لهم إني فاعل هذا ومعناه أنه أخبرهم بذلك وقال السدي استشار الملائكة في خلق آدم رواه ابن أبي حاتم وقال وروي عن قتادة نحوه وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن والله أعلم في الأرض قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن عطاء بن السائب عن عبدالرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "دحيت الأرض من مكة وأول من طاف بالبيت الملائكة فقال الله إني جاعل في الأرض خليفة يعني مكة" وهذا مرسل وفي سنده ضعف وفيه مدرج وهو أن المراد بالأرض مكة والله أعلم فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك خليفة قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة إن الله تعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا: ربنا وما يكون ذاك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قال ابن جرير فكان تأويل الآية على هذا إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه: قال ابن جرير: وإنما معنى الخلافة التي ذكرها إنما هي خلافة قرن منهم قرنا. قال: والخليفة الفعلية من قولك خلف فلان فلانا في هذا الأثر إذا قام مقامه فيه بعده كما قال تعالى "ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم خليفة لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر فكان منه خلفا قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى "إني جاعل في الأرض خليفة" يقول ساكنا وعامرا يعمرها ويسكنها خلفا ليس منكم: قال ابن حرير: وحدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضا قال فبعث الله إليهم إبليس فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ثم خلق آدم فأسكنه إياها فلذلك قال "إني جاعل في الأرض خليفة" وقال سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن ابن سابط "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال: يعنون به بني آدم. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: قال الله للملائكة إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس للّه عز وجل خلق إلا الملائكة والأرض وليس فيها خلق. قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها. وقد تقدم ما رواه السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم فقالت الملائكة ذلك وتقدم آنفا ما رواه الضحاك عن ابن عباس أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم فقالت الملائكة ذلك فقاسوا هؤلاء بأولئك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا على بن محمد الطنافسي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبدالله بن عمرو قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوا بجزائر البحور فقال الله للملائكة: "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال: إني أعلم ما لا تعلمون. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "إني جاعل في الأرض خليفة - إلى قوله - أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" قال: خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة فكفر قوم من الجن فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم وكان الفساد في الأرض فمن ثم قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسدت الجن ويسفك الدماء كما سفكوا. قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا مبارك بن فضالة أخبرنا الحسن قال: قال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قال لهم إني فاعل فآمنوا بربهم فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه ولم يعلموه. فقالوا بالعلم الذي علمهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون قال الحسن إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي علمهم. وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله "أتجعل فيها من يفسد فيها" كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خليفة أفسدوا فيها وسفكوا الدماء فذلك حين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا هشام الرازي حدثنا ابن المبارك عن معروف يعني ابن خربوذ المكي عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول السجل ملك وكان هاروت وماروت من أعوانه وكان له كل يوم ثلاث لمحات في أم الكتاب فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور فأسر ذلك إلى هاروت وماروت وكانا من أعوانه فلما قال تعالى "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قالا ذلك استطالة على الملائكة. وهذا أثر غريب وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر فهو نقله عن أهل الكتاب وفيه نكارة توجب رده والله أعلم ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط وهو خلاف السياق وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم أيضا بحيث قال: حدثنا أبي حدثنا هشام بن أبي عبيد الله حدثنا عبدالله بن يحيى بن أبي كثير قال: سمعت أبي يقول إن الملائكة الذين قالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" كانوا عشرة الآف فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم وهذا أيضا إسرائيلي منكر كالذي قبله والله أعلم. قال ابن جريج إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. قال ابن جرير: وقال بعضهم إنما قالت الملائكة ما قالت أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم فأجابهم ربهم "إني أعلم ما لا تعلمون" يعني أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض ما ترونه لي طائعا. قال: وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك فكأنهم قالوا يا رب خبرنا- مسألة استخبار منهم لا على وجه الإنكار - واختاره ابن جرير وقال سعيد عن قتادة قوله تعالى "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" قال استشار الملائكة في خلق آدم فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء - وقد علمت الملائكة أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض - ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال إني أعلم ما لا تعلمون. فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة قال وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام قالت الملائكة ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال الله تعالى "ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين" وقوله تعالى "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك". قال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال: التسبيح التسبيح والتقديس الصلاة. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال: يقولون نصلي لك. وقال مجاهد: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال: نعظمك ونكبرك. فقال الضحاك: التقديس التطهير. وقال محمد بن إسحق: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال: لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه. وقال ابن جرير: التقديس هو التعظيم والتطهير. ومنه قولهم سبوح قدوس يعني بقولهم سبوح تنزيه له وبقولهم قدوس طهارة وتعظيم له: وكذلك للأرض أرض مقدسة يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذا "ونحن نسبح بحمدك" ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك "ونقدس لك" ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال "ما اصطكى الله لملائكته سبحان الله وبحمده" وروى البيهقي عن عبدالرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به سمع تسبيحا في السماوات العلا "سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى" "قال إني أعلم ما لا تعلمون" قال قتادة فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى قال "إني أعلم ما لا تعلمون" وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعته واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع والله أعلم. أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف وقد نص عليه الشافعي وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف فمنهم من قال لا يشترط وقيل بلى ويكفي شاهدان. وقال الجبائي يجب أربعة وعاقد ومعقود له كما ترك عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة فوقع الأمر على عاقد وهو عبدالرحمن بن عوف ومعقود له وهو عثمان واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين في هذا نظر والله أعلم. ويجب أن يكون ذكرا حرا بالغا عاقلا مسلما عدلا مجتهدا بصيرا سليم الأعضاء خبيرا بالحروب والآراء قرشيا على الصحيح ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافا للغلاة الروافض ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان" وهل له أن يعزل نفسه فيه خلاف وقد عزل الحسن بن علي رضي الله عنه نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك: فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام "من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان" وهذا قول الجمهور وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد منهم إمام الحرمين. وقالت الكرامية: يجوز اثنين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة. قالوا: وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف. وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما وتردد إمام الحرمين في ذلك قلت وهذا يشبه حال الخلفاء بني العباس بالعراق والفاطمين بمصر والأمويين بالمغرب ولنقرر هذا كله في موضع آخر من كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.
(p-٣٨٨)(p-٣٨٩)(p-٣٩٠)(p-٣٩١)(p-٣٩٢)(p-٣٩٣)(p-٣٩٤)(p-٣٩٥)﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ عَطَفَتِ الواوُ قِصَّةَ خَلْقِ أوَّلِ البَشَرِ عَلى قِصَّةِ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ انْتِقالًا بِهِمْ في الِاسْتِدْلالِ عَلى أنَّ اللَّهَ واحِدٌ وعَلى بُطْلانِ شِرْكِهِمْ وتَخَلُّصًا مِن ذِكْرِ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ إلى خَلْقِ النَّوْعِ الَّذِي هو سُلْطانُ الأرْضِ والمُتَصَرِّفُ في أحْوالِها، لِيَجْمَعَ بَيْنَ تَعَدُّدِ الأدِلَّةِ وبَيْنَ مُخْتَلَفِ تَكْوِينِ العَوالِمِ وأصْلِها لِيَعْلَمَ المُسْلِمُونَ ما عَلِمَهُ أهْلُ الكِتابِ مِنَ العِلْمِ الَّذِي كانُوا يُباهُونَ بِهِ العَرَبَ وهو ما في سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْراةِ. واعْلَمْ أنَّ مَوْقِعَ الدَّلِيلِ بِخَلْقِ آدَمَ عَلى الوَحْدانِيَّةِ هو أنَّ خَلْقَ أصْلِ النَّوْعِ أمْرٌ مُدْرَكٌ بِالضَّرُورَةِ لِأنَّ كُلَّ إنْسانٍ إذا لَفَتَ ذِهْنَهُ إلى وُجُودِهِ عَلِمَ أنَّهُ وُجُودٌ مَسْبُوقٌ بِوُجُودِ أصْلٍ لَهُ بِما يُشاهِدُ مِن نَشْأةِ الأبْناءِ عَنِ الآباءِ، فَيُوقِنُ أنَّ لِهَذا النَّوْعِ أصْلًا أوَّلَ يَنْتَهِي إلَيْهِ نُشُوءُهُ، وإذْ قَدْ كانَتِ العِبْرَةُ بِخَلْقِ ما في الأرْضِ جَمِيعًا أُدْمِجَتْ فِيها مِنَّةٌ وهي قَوْلُهُ لَكُمُ المُقْتَضِيَةُ أنَّ خَلْقَ ما في الأرْضِ لِأجْلِهِمْ تَهَيَّأتْ أنْفُسُهم لِسَماعِ قِصَّةِ إيجادِ مَنشَأِ النّاسِ الَّذِينَ خُلِقَتِ الأرْضُ لِأجْلِهِمْ لِيُحاطَ بِما في ذَلِكَ مِن دَلائِلِ القُدْرَةِ مَعَ عَظِيمِ المِنَّةِ وهي مِنَّةُ الخَلْقِ الَّتِي نَشَأتْ عَنْها فَضائِلُ جَمَّةٌ ومِنَّةُ التَّفْضِيلِ ومِنَّةُ خِلافَةِ اللَّهِ في الأرْضِ، فَكانَ خَلْقُ أصْلِنا هو أبْدَعَ مَظاهِرِ إحْيائِنا الَّذِي هو الأصْلُ في خَلْقِ ما في الأرْضِ لَنا، فَكانَتِ المُناسَبَةُ في الِانْتِقالِ إلى التَّذْكِيرِ بِهِ واضِحَةً مَعَ حُسْنِ التَّخَلُّصِ إلى ذِكْرِهِ خَبَرَهُ العَجِيبَ، فَإيرادُ واوِ العَطْفِ هُنا لِأجْلِ إظْهارِ اسْتِقْلالِ هَذِهِ القِصَّةِ في حَدِّ ذاتِها في عِظَمِ شَأْنِها. (p-٣٩٦)و(إذْ) مِن أسْماءِ الزَّمانِ المُبْهَمَةِ تَدُلُّ عَلى زَمانِ نِسْبَةٍ ماضِيَةٍ وقَعَتْ فِيهِ نِسْبَةٌ أُخْرى ماضِيَةٌ قارَنَتْها، فَـ (إذْ) تَحْتاجُ إلى جُمْلَتَيْنِ: جُمْلَةٍ أصْلِيَّةٍ - وهي الدّالَّةُ عَلى المَظْرُوفِ، وتِلْكَ هي الَّتِي تَكُونُ مَعَ جَمِيعِ الظُّرُوفِ - وجُمْلَةٍ تُبَيِّنُ الظَّرْفَ ما هو، لِأنَّ (إذْ) لَمّا كانَتْ مُبْهَمَةً احْتاجَتْ لِما يُبَيِّنُ زَمانَها عَنْ بَقِيَّةِ الأزْمِنَةِ، فَلِذَلِكَ لَزِمَتْ إضافَتُها إلى الجُمَلِ أبَدًا، والأكْثَرُ في الكَلامِ أنْ تَكُونَ ”إذْ“ في مَحَلِّ ظَرْفٍ لِزَمَنِ الفِعْلِ فَتَكُونُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى المَفْعُولِ فِيهِ، وقَدْ تَخْرُجُ (إذْ) عَنِ النَّصْبِ عَلى الظَّرْفِيَّةِ إلى المَفْعُولِيَّةِ كَأسْماءِ الزَّمانِ المُتَصَرِّفَةِ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ صاحِبُ الكَشّافِ وهو مُخْتارُ ابْنِ هِشامٍ خِلافًا لِظاهِرِ كَلامِ الجُمْهُورِ، فَهي تَصِيرُ ظَرْفًا مُبْهَمًا مُتَصَرِّفًا، وقَدْ يُضافُ إلَيْها اسْمُ زَمانٍ نَحْوَ يَوْمَئِذٍ وساعَتَئِذٍ فَتُجَرُّ بِإضافَةٍ صُورِيَّةٍ لِيَكُونَ ذِكْرُها وسِيلَةً إلى حَذْفِ الجُمْلَةِ المُضافَةِ هي إلَيْها، وذَلِكَ أنَّ (إذْ) مُلازِمَةٌ لِلْإضافَةِ، فَإذا حُذِفَتْ جُمْلَتُها عَلِمَ السّامِعُ أنَّ هُنالِكَ حَذْفًا، فَإذا أرادُوا أنْ يَحْذِفُوا جُمْلَةً مَعَ اسْمِ زَمانٍ غَيْرِ (إذْ) خافُوا أنْ لا يَهْتَدِيَ السّامِعُ لِشَيْءٍ مَحْذُوفٍ حَتّى يَتَطَلَّبَ دَلِيلَهُ فَجَعَلُوا ”إذْ“ قَرِينَةً عَلى إضافَةٍ، وحَذَفُوا الجُمْلَةَ لِيُنَبِّهُوا السّامِعَ فَيَتَطَلَّبُ دَلِيلَ المَحْذُوفِ. وهِيَ في هَذِهِ الآيَةِ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ظَرْفًا وكَذَلِكَ أعْرَبَها الجُمْهُورُ وجَعَلُوها مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ قالُوا وهو يُفْضِي إلى أنْ يَكُونَ المَقْصُودُ مِنَ القِصَّةِ قَوْلَ المَلائِكَةِ، وذَلِكَ بَعِيدٌ لِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ العِبْرَةِ هو خِطابُ اللَّهِ لَهم وهو مَبْدَأُ العِبْرَةِ وما تَضَمَّنَتْهُ مِن تَشْرِيفِ آدَمَ وتَعْلِيمِهِ بَعْدَ الِامْتِنانِ بِإيجادِ أصْلِ نَوْعِ النّاسِ الَّذِي هو مَناطُ العِبْرَةِ مِن قَوْلِهِ ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] الآياتِ، ولِأنَّهُ لا يَتَأتّى في نَظِيرِها وهو قَوْلُهُ الآتِي ﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ [البقرة: ٣٤] إذْ وُجُودُ فاءِ التَّعْقِيبِ يَمْنَعُ مِن جَعْلِ الظَّرْفِ مُتَعَلِّقًا بِمَدْخُولِها، ولِأنَّ الأظْهَرَ أنَّ قَوْلَهُ (قالُوا) حِكايَةٌ لِلْمُراجَعَةِ والمُحاوَرَةِ عَلى طَرِيقَةِ أمْثالِهِ كَما سَنُحَقِّقُهُ. فالَّذِي يَنْساقُ إلَيْهِ أُسْلُوبُ النَّظْمِ فِيهِ أنْ يَكُونَ العَطْفُ عَلى جُمْلَةِ ﴿خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] أيْ خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ وقالَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خالِقُ أصْلِ الإنْسانِ لِما قَدَّمْناهُ مِن أنَّ ذِكْرَ خَلْقِ ما في الأرْضِ وكَوْنَهُ لِأجْلِنا يُهَيِّئُ السّامِعَ لِتَرَقُّبِ ذِكْرِ شَأْنِنا بَعْدَ ذِكْرِ شَأْنِ ما خُلِقَ لِأجْلِنا مِن سَماءٍ وأرْضٍ، وتَكُونُ (إذْ) عَلى هَذا مَزِيدَةً لِلتَّأْكِيدِ. قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ المُثَنّى وأنْشَدَ قَوْلَ الأسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ: فَإذْ وذَلِكَ لا مَهاهَ لِذِكْرِهِ والدَّهْرُ يُعْقِبُ صالِحًا بِفَسادِ (p-٣٩٧)هَكَذا رَواهُ ”فَإذْ“ عَلى أنْ يَكُونَ في البَيْتِ زِحافُ الطَّيِّ، وفي رِوايَةٍ ”فَإذا“ فَلا زِحافَ، والمَهاهُ بِهاءَيْنِ الحُسْنُ، ولا يُشْكِلُ عَلَيْهِ أنَّ شَأْنَ الزِّيادَةِ أنْ تَكُونَ في الحُرُوفِ لِأنَّ إذْ وإذا ونَحْوَهُما عُومِلَتْ مُعامَلَةَ الحُرُوفِ، أوْ أنْ يَكُونَ عَطْفُ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ ويُؤَيِّدُهُ أنَّها تُبْتَدَأُ بِها القِصَصُ العَجِيبَةُ الدّالَّةُ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، ألا تَرى أنَّها ذُكِرَتْ أيْضًا في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [البقرة: ٣٤] ولَمْ تُذْكَرْ فِيما بَيْنَهُما، وتَكُونُ (إذْ) اسْمَ زَمانٍ مَفْعُولًا بِهِ بِتَقْدِيرِ اذْكُرْ، ونَظِيرُهُ كَثِيرٌ في القُرْآنِ، والمَقْصُودُ مِن تَعْلِيقِ الذِّكْرِ والقِصَّةِ بِالزَّمانِ إنَّما هو ما حَصَلَ في ذَلِكَ الزَّمانِ مِنَ الأحْوالِ. وتَخْصِيصُ اسْمِ الزَّمانِ دُونَ اسْمِ المَكانِ لِأنَّ النّاسَ تَعارَفُوا إسْنادَ الحَوادِثِ التّارِيخِيَّةِ والقِصَصِ إلى أزْمانِ وُقُوعِها. وكَلامُ اللَّهِ تَعالى لِلْمَلائِكَةِ أُطْلِقَ عَلى ما يَفْهَمُونَ مِنهُ إرادَتَهُ وهو المُعَبَّرُ عَنْهُ بِالكَلامِ النَّفْسِيِّ، فَيَحْتَمِلُ أنَّهُ كَلامٌ سَمِعُوهُ، فَإطْلاقُ القَوْلِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وإسْنادُهُ إلى اللَّهِ لِأنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ القَوْلَ بِدُونِ وسِيلَةٍ مُعْتادَةٍ، ويَحْتَمِلُ أنَّهُ دالٌّ آخَرُ عَلى الإرادَةِ، فَإطْلاقُ القَوْلِ عَلَيْهِ مَجازٌ لِأنَّهُ دَلالَةٌ لِلْعُقَلاءِ، والمَجازُ فِيهِ أقْوى مِنَ المَجازِ الَّذِي في نَحْوِ قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ ”«اشْتَكَتِ النّارُ إلى رَبِّها» “ . وقَوْلِهِ تَعالى (﴿فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١]) . وقَوْلِ أبِي النَّجْمِ ؎إذْ قالَتِ الآطالُ لِلْبَطْنِ الحَقِ ولا طائِلَ في البَحْثِ عَنْ تَعَيُّنِ أحَدِ الِاحْتِمالَيْنِ. والمَلائِكَةُ جَمْعُ مَلَكٍ، وأصْلُ صِيغَةِ الجَمْعِ ”مَلائِكُ“ والتّاءُ لِتَأْكِيدِ الجَمْعِيَّةِ لِما في التّاءِ مِنَ الإيذانِ بِمَعْنى الجَماعَةِ، والظّاهِرُ أنَّ تَأْنِيثَ مَلائِكَةٍ سَرى إلى لُغَةِ العَرَبِ مِن كَلامِ المُتَنَصِّرِينَ مِنهم إذْ كانُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّ الأمْلاكَ بَناتُ اللَّهِ، واعْتَقَدَهُ العَرَبُ أيْضًا، قالَ تَعالى ﴿ويَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَناتِ سُبْحانَهُ﴾ [النحل: ٥٧] فَمَلائِكُ جَمْعُ مَلْأكٍ كَشَمائِلَ وشَمْألٍ، ومِمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُ بَعْضِ شُعَراءِ عَبْدِ القَيْسِ أوْ غَيْرِهِ. ؎ولَسْتَ لِإنْسِيٍّ ولَكِنْ لِمَلْأكٍ ∗∗∗ تَنَزَّلَ مِن جَوِّ السَّماءِ يَصُوبُ ثُمَّ قالُوا: مَلَكٌ تَخْفِيفًا. وقَدِ اخْتَلَفُوا في اشْتِقاقِهِ فَقالَ أبُو عُبَيْدَةَ هو مَفْعَلٌ مِن لَأكَ بِمَعْنى (p-٣٩٨)أرْسَلَ، ومِنهُ قَوْلُهم في الأمْرِ بِتَبْلِيغِ رِسالَةِ ألِكْنِي ألِيهِ أيْ كُنْ رَسُولِي إلَيْهِ، وأصْلُ ألِكْنِي ألْإكْنِي وإنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِعْلٌ. وإنَّما اشْتُقَّ اسْمُ المَلَكِ مِنَ الإرْسالِ لِأنَّ المَلائِكَةَ رُسُلُ اللَّهِ إمّا بِتَبْلِيغٍ أوْ تَكْوِينٍ كَما في الحَدِيثِ ”ثُمَّ يُرْسِلُ إلَيْهِ - أيْ لِلْجَنِينِ في بَطْنِ أُمِّهِ - المَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ“، فَعَلى هَذا القَوْلِ هو مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنى اسْمِ المَفْعُولِ، وقالَ الكِسائِيُّ هو مَقْلُوبٌ ووَزْنُهُ الآنَ مَعْفُلٌ وأصْلُهُ مَأْلَكٌ مِنَ الألُوكِ، والألُوكَةُ وهي الرِّسالَةُ، ويُقالُ مَأْلَكٌ ومَأْلَكَةٌ بِفَتْحِ اللّامِ وضَمِّها، فَقَلَبُوا فِيهِ قَلْبًا مَكانِيًّا فَقالُوا مَلْأكٌ فَهو صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: هو مُشْتَقٌّ مِنَ المَلْكِ بِفَتْحِ المِيمِ وسُكُونِ اللّامِ، والمَلْكُ بِمَعْنى القُوَّةِ قالَ تَعالى ﴿عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ﴾ [التحريم: ٦] والهَمْزَةُ مَزِيدَةٌ فَوَزْنُهُ فَعْألٌ بِسُكُونِ العَيْنِ وفَتْحِ الهَمْزَةِ كَشَمْألٍ، ورُدَّ بِأنَّ دَعْوى زِيادَةِ حَرْفٍ بِلا فائِدَةٍ دَعْوى بَعِيدَةٌ، ورُدَّ مَذْهَبُ الكِسائِيِّ بِأنَّ القَلْبَ خِلافُ الأصْلِ، فَرُجِّحَ مَذْهَبُ أبِي عُبَيْدَةَ، ونَقَلَ القُرْطُبِيُّ عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ أنَّهُ قالَ: لا اشْتِقاقَ لِلْمَلَكِ عِنْدَ العَرَبِ. يُرِيدُ أنَّهم عَرَّبُوهُ مِنَ اللُّغَةِ العِبْرانِيَّةِ، ويُؤَيِّدُهُ أنَّ التَّوْراةَ سَمَّتِ المَلَكَ مَلاكًا بِالتَّخْفِيفِ، ولَيْسَ وُجُودُ كَلِمَةٍ مُتَقارِبَةِ اللَّفْظِ والمَعْنى في لُغَتَيْنِ بِدالٍّ عَلى أنَّها مَنقُولَةٌ مِن إحْداهُما إلى الأُخْرى إلّا بِأدِلَّةٍ أُخْرى. والمَلائِكَةُ مَخْلُوقاتٌ نُورانِيَّةٌ سَماوِيَّةٌ مَجْبُولَةٌ عَلى الخَيْرِ قادِرَةٌ عَلى التَّشَكُّلِ في خَرْقِ العادَةِ لِأنَّ النُّورَ قابِلٌ لِلتَّشَكُّلِ في كَيْفِيّاتٍ ولِأنَّ أجْزاءَهُ لا تَتَزاحَمُ، ونُورُها لا شُعاعَ لَهُ فَلِذَلِكَ لا تُضِيءُ إذا اتَّصَلَتْ بِالعالَمِ الأرْضِيِّ، وإنَّما تَتَشَكَّلُ إذا أرادَ اللَّهُ أنْ يَظْهَرَ بَعْضُهم لِبَعْضِ رُسُلِهِ وأنْبِيائِهِ عَلى وجْهِ خَرْقِ العادَةِ. وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعالى لَها قُوَّةَ التَّوَجُّهِ إلى الأشْياءِ الَّتِي يُرِيدُ اللَّهُ تَكْوِينَها فَتَتَوَلّى التَّدْبِيرَ لَها ولِهَذِهِ التَّوَجُّهاتِ المَلَكِيَّةِ حَيْثِيّاتٌ ومَراتِبُ كَثِيرَةٌ تَتَعَذَّرُ الإحاطَةُ بِها وهي مُضادَّةٌ لِتَوَجُّهاتِ الشَّياطِينِ، فالخَواطِرُ الخَيْرِيَّةُ مِن تَوَجُّهاتِ المَلائِكَةِ وعَلاقَتِها بِالنُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ، وبِعَكْسِها خَواطِرُ الشَّرِّ. والخَلِيفَةُ في الأصْلِ الَّذِي يَخْلُفُ غَيْرَهُ أوْ يَكُونُ بَدَلًا عَنْهُ في عَمَلٍ يَعْمَلُهُ، فَهو فَعِيلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ والتّاءُ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ في الوَصْفِ كالعَلامَةِ. والمُرادُ مِنَ الخَلِيفَةِ هُنا إمّا المَعْنى المَجازِيُّ وهو الَّذِي يَتَوَلّى عَمَلًا يُرِيدُهُ المُسْتَخْلَفُ مِثْلَ الوَكِيلِ والوَصِيِّ أيْ جاعِلٌ في الأرْضِ مُدَبِّرًا يَعْمَلُ ما نُرِيدُهُ في الأرْضِ فَهو اسْتِعارَةٌ أوْ مَجازٌ مُرْسَلٌ ولَيْسَ بِحَقِيقَةٍ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَكُنْ حالًّا في الأرْضِ ولا عامِلًا فِيها العَمَلَ الَّذِي أوْدَعَهُ في الإنْسانِ وهو السَّلْطَنَةُ عَلى مَوْجُوداتِ الأرْضِ، (p-٣٩٩)ولِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَتْرُكْ عَمَلًا كانَ يَعْمَلُهُ فَوَكَلَهُ إلى الإنْسانِ بَلِ التَّدْبِيرُ الأعْظَمُ لَمْ يَزَلْ لِلَّهِ تَعالى فالإنْسانُ هو المَوْجُودُ الوَحِيدُ الَّذِي اسْتَطاعَ بِما أوْدَعَ اللَّهُ في خِلْقَتِهِ أنْ يَتَصَرَّفَ في مَخْلُوقاتِ الأرْضِ بِوُجُوهٍ عَظِيمَةٍ لا تَنْتَهِي خِلافَ غَيْرِهِ مِنَ الحَيَوانِ، وإمّا أنْ يُرادَ مِنَ الخَلِيفَةِ مَعْناهُ الحَقِيقِيُّ إذا صَحَّ أنَّ الأرْضَ كانَتْ مَعْمُورَةً مِن قَبْلُ بِطائِفَةٍ مِنَ المَخْلُوقاتِ يُسَمَّوْنَ الحِنَّ والبِنَّ بِحاءٍ مُهْمِلَةٍ مَكْسُورَةٍ ونُونٍ في الأوَّلِ، وبِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ ونُونٍ في الثّانِي. وقِيلَ اسْمُهُمُ الطَّمُّ والرَّمُّ بِفَتْحِ أوَّلِهِما، وأحْسَبُهُ مِنَ المَزاعِمِ، وأنَّ وضْعَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مِن بابِ قَوْلِ النّاسِ (هَيّانُ بْنُ بَيّانٍ) إشارَةً إلى غَيْرِ مَوْجُودٍ أوْ غَيْرِ مَعْرُوفٍ. ولَعَلَّ هَذا أنْجَزُ لِأهْلِ القَصَصِ مِن خُرافاتِ الفُرْسِ أوِ اليُونانِ، فَإنَّ الفُرْسَ زَعَمُوا أنَّهُ كانَ قَبْلَ الإنْسانِ في الأرْضِ جِنْسٌ اسْمُهُ الطَّمُّ والرَّمُّ، وكانَ اليُونانُ يَعْتَقِدُونَ أنَّ الأرْضَ كانَتْ مَعْمُورَةً بِمَخْلُوقاتٍ تُدْعى ”التِيتانَ“ وأنَّ ”زُفَسَ“ - وهو المُشْتَرِي - كَبِيرُ الأرْبابِ في اعْتِقادِهِمْ - جَلّاهم مِنَ الأرْضِ لِفَسادِهِمْ. وكُلُّ هَذا يُنافِيهِ سِياقُ الآيَةِ، فَإنَّ تَعْقِيبَ ذِكْرِ خَلْقِ الأرْضِ ثُمَّ السَّماواتِ بِذِكْرِ إرادَتِهِ تَعالى جَعْلَ الخَلِيفَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ جَعْلَ الخَلِيفَةِ كانَ أوَّلَ الأحْوالِ عَلى الأرْضِ بَعْدَ خَلْقِها، فالخَلِيفَةُ هُنا الَّذِي يَخْلُفُ صاحِبَ الشَّيْءِ في التَّصَرُّفِ في مَمْلُوكاتِهِ ولا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ المَخْلُوقُ مُسْتَقِرًّا في المَكانِ مِن قَبْلُ، فالخَلِيفَةُ آدَمُ، وخَلَفِيَّتُهُ قِيامُهُ بِتَنْفِيذِ مُرادِ اللَّهِ تَعالى مِن تَعْمِيرِ الأرْضِ بِالإلْهامِ أوْ بِالوَحْيِ وتَلْقِينِ ذُرِّيَّتِهِ مُرادَ اللَّهِ تَعالى مِن هَذا العالَمِ الأرْضِيِّ، ومِمّا يَشْمَلُهُ هَذا التَّصَرُّفُ تَصَرُّفُ آدَمَ بِسَنِّ النِّظامِ لِأهْلِهِ وأهالِيهِمْ عَلى حَسَبِ وفْرَةِ عَدَدِهِمْ واتِّساعِ تَصَرُّفاتِهِمْ. فَكانَتِ الآيَةُ مِن هَذا الوَجْهِ إيماءً إلى حاجَةِ البَشَرِ إلى إقامَةِ خَلِيفَةٍ لِتَنْفِيذِ الفَصْلِ بَيْنَ النّاسِ في مُنازَعاتِهِمْ إذْ لا يَسْتَقِيمُ نِظامٌ يَجْمَعُ البَشَرَ بِدُونِ ذَلِكَ، وقَدْ بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ وبَيَّنَ الشَّرائِعَ فَرُبَّما اجْتَمَعَتِ الرِّسالَةُ والخِلافَةُ ورُبَّما انْفَصَلَتا بِحَسَبِ ما أرادَ اللَّهُ مِن شَرائِعِهِ إلى أنْ جاءَ الإسْلامُ فَجَمَعَ الرِّسالَةَ والخِلافَةَ لِأنَّ دِينَ الإسْلامِ غايَةُ مُرادِ اللَّهِ تَعالى مِنَ الشَّرائِعِ وهو الشَّرِيعَةُ الخاتِمَةُ ولِأنَّ امْتِزاجَ الدِّينِ والمُلْكِ هو أكْمَلُ مَظاهِرِ الخُطَّتَيْنِ قالَ تَعالى ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا لِيُطاعَ بِإذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٦٤] ولِهَذا أجْمَعَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ وفاةِ النَّبِيءِ ﷺ عَلى إقامَةِ الخَلِيفَةِ لِحِفْظِ نِظامِ الأُمَّةِ وتَنْفِيذِ الشَّرِيعَةِ ولَمْ يُنازِعْ في ذَلِكَ أحَدٌ مِنَ الخاصَّةِ ولا مِنَ العامَّةِ إلّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى، مِن جُفاةِ الأعْرابِ ودُعاةِ الفِتْنَةِ، فالمُناظَرَةُ مَعَ أمْثالِهِمْ سُدًى. (p-٤٠٠)ولِلْخَلِيفَةِ شُرُوطٌ مَحَلُّ بَيانِها كُتُبُ الفِقْهِ والكَلامِ، وسَتَجِيءُ مُناسَبَتُها في آياتٍ آتِيَةٍ. والظّاهِرُ أنَّ خِطابَهُ تَعالى هَذا لِلْمَلائِكَةِ كانَ عِنْدَ إتْمامِ خَلْقِ آدَمَ عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ أوْ قَبْلَ النَّفْخِ والأوَّلُ أظْهَرُ، فَيَكُونُ المُرادُ بِالمُخْبَرِ عَنْ جَعْلِهِ خَلِيفَةً هو ذَلِكَ المَخْلُوقُ كَما يَقُولُ الَّذِي كَتَبَ كِتابًا بِحَضْرَةِ جَلِيسٍ: إنِّي مُرْسِلٌ كِتابًا إلى فُلانٍ فَإنَّ السّامِعَ يَعْلَمُ أنَّ المُرادَ أنَّ ذَلِكَ الَّذِي هو بِصَدَدِ كِتابَتِهِ كِتابٌ لِفُلانٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خِطابُهم بِذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ، وعَلى الوُجُوهِ كُلِّها يَكُونُ اسْمُ الفاعِلِ في قَوْلِهِ (جاعِلٌ) لِلزَّمَنِ المُسْتَقْبَلِ لِأنَّ وصْفَ الخَلِيفَةِ لَمْ يَكُنْ ثابِتًا لِآدَمَ ساعَتَئِذٍ. وقَوْلُ اللَّهِ هَذا مُوَجَّهٌ إلى المَلائِكَةِ عَلى وجْهِ الإخْبارِ لِيَسُوقَهم إلى مَعْرِفَةِ فَضْلِ الجِنْسِ الإنْسانِيِّ عَلى وجْهٍ يُزِيلُ ما عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ في نُفُوسِهِمْ مِن سُوءِ الظَّنِّ بِهَذا الجِنْسِ، ولِيَكُونَ كالِاسْتِشارَةٍ لَهم تَكْرِيمًا لَهم فَيَكُونُ تَعْلِيمًا في قالَبِ تَكْرِيمٍ مِثْلَ إلْقاءِ المُعَلِّمِ فائِدَةً لِلتِّلْمِيذِ في صُورَةِ سُؤالٍ وجَوابٍ ولِيَسُنَّ الِاسْتِشارَةَ في الأُمُورِ، ولِتَنْبِيهِ المَلائِكَةِ عَلى ما دَقَّ وخَفِيَ مِن حِكْمَةِ خَلْقِ آدَمَ كَذا ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ. وعِنْدِي أنْ هاتِهِ الِاسْتِشارَةَ جُعِلَتْ لِتَكُونَ حَقِيقَةً مُقارَنَةً في الوُجُودِ لِخَلْقِ أوَّلِ البَشَرِ حَتّى تَكُونَ نامُوسًا أُشْرِبَتْهُ نُفُوسُ ذُرِّيَّتِهِ لِأنَّ مُقارَنَةَ شَيْءٍ مِنَ الأحْوالِ والمَعانِي لِتَكْوِينِ شَيْءٍ ما، تُؤْثِرُ تَآلُفًا بَيْنَ ذَلِكَ الكائِنِ وبَيْنَ المُقارَنِ. ولَعَلَّ هَذا الِاقْتِرانَ يَقُومُ في المَعانِي الَّتِي لا تُوجَدُ إلّا تَبَعًا لِذَواتِ مَقامِ أمْرِ التَّكْوِينِ في الذَّواتِ فَكَما أنَّ أمْرَهُ إذا أرادَ شَيْئًا أيْ إنْشاءَ ذاتٍ أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، كَذَلِكَ أمْرُهُ إذا أرادَ اقْتِرانَ مَعْنًى بِذاتٍ أوْ جِنْسٍ أنْ يُقَدَّرَ حُصُولَ مَبْدَأِ ذَلِكَ المَعْنى عِنْدَ تَكْوِينِ أصْلِ ذَلِكَ الجِنْسِ أوْ عِنْدَ تَكْوِينِ الذّاتِ، ألا تَرى أنَّهُ تَعالى لَمّا أرادَ أنْ يَكُونَ قَبُولُ العِلْمِ مِن خَصائِصِ الإنْسانِ عَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ عِنْدَما خَلَقَهُ. وهَذا هو وجْهُ مَشْرُوعِيَّةِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعالى عِنْدَ الشُّرُوعِ في الأفْعالِ لِيَكُونَ اقْتِرانُ ابْتِدائِها بِلَفْظِ اسْمِهِ تَعالى مُفِيضًا لِلْبَرَكَةِ عَلى جَمِيعِ أجْزاءِ ذَلِكَ الفِعْلِ، ولِهَذا أيْضًا طَلَبَتْ مِنّا الشَّرِيعَةُ تَخَيُّرَ أكْمَلِ الحالاتِ وأفْضَلِ الأوْقاتِ لِلشُّرُوعِ في فَضائِلِ الأعْمالِ ومُهِمّاتِ المُطالِبِ، وتَقَدَّمَ هَذا في الكَلامِ عَلى البَسْمَلَةِ، وسَنَذْكُرُ ما يَتَعَلَّقُ بِالشُّورى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى وشاوِرْهم في الأمْرِ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. (p-٤٠١)وأُسْنِدَتْ حِكايَةُ هَذا القَوْلِ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ بِعُنْوانِ الرَّبِّ لِأنَّهُ قَوْلٌ مُنْبِئٌ عَنْ تَدْبِيرٍ عَظِيمٍ في جَعْلِ الخَلِيفَةِ في الأرْضِ، فَفي ذَلِكَ الجَعْلِ نِعْمَةُ تَدْبِيرٍ مَشُوبٍ بِلُطْفٍ وصَلاحٍ، وذَلِكَ مِن مَعانِي الرُّبُوبِيَّةِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ”﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢]“، ولَمّا كانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ شامِلَةً لِجَمِيعِ النَّوْعِ أُضِيفَ وصْفُ الرَّبِّ إلى ضَمِيرِ أشْرَفِ أفْرادِ النَّوْعِ وهو النَّبِيءُ مُحَمَّدٌ ﷺ مَعَ تَكْرِيمِهِ بِشَرَفِ حُضُورِ المُخاطَبَةِ. * * * ﴿قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ﴾ هَذا جَوابُ المَلائِكَةِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ لَهم ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ فالتَّقْدِيرُ: فَقالُوا عَلى وِزانِ قَوْلِهِ وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا، وفَصَلَ الجَوابَ ولَمْ يَعْطِفْ بِالفاءِ أوِ الواوِ جَرْيًا بِهِ عَلى طَرِيقَةٍ مُتَّبَعَةٍ في القُرْآنِ في حِكايَةِ المُحاوَراتِ وهي طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ قالَ زُهَيْرٌ: ؎قِيلَ لَهم ألا ارْكَبُوا ألاتا قالُوا جَمِيعًا كُلُّهم آلافا أيْ فارْكَبُوا ولَمْ يَقُلْ فَقالُوا. وقالَ رُؤْبَةُ بْنُ العَجّاجِ: ؎قالَتْ بَناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ ∗∗∗ كانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا قالَتْ وإنْ وإنَّما حَذَفُوا العاطِفَ في أمْثالِهِ كَراهِيَةَ تَكْرِيرِ العاطِفِ بِتَكْرِيرِ أفْعالِ القَوْلِ، فَإنَّ المُحاوَرَةَ تَقْتَضِي الإعادَةَ في الغالِبِ فَطَرَدُوا البابَ فَحَذَفُوا العاطِفَ في الجَمِيعِ وهو كَثِيرٌ في التَّنْزِيلِ، ورُبَّما عَطَفُوا ذَلِكَ بِالفاءِ لِنُكْتَةٍ تَقْتَضِي مُخالَفَةَ الِاسْتِعْمالِ وإنْ كانَ العَطْفُ بِالفاءِ هو الظّاهِرُ والأصْلُ، وهَذا مِمّا لَمْ أُسْبَقْ إلى كَشْفِهِ مِن أسالِيبِ الِاسْتِعْمالِ العَرَبِيِّ، ومِمّا عُطِفَ بِالفاءِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون: ٢٣] ﴿فَقالَ المَلَأُ﴾ [المؤمنون: ٢٤] في سُورَةِ المُؤْمِنِينَ، وقَدْ يُعْطَفُ بِالواوِ أيْضًا كَما في قَوْلِهِ ﴿فَأرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنهم أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٢] ﴿وقالَ المَلَأُ مِن قَوْمِهِ﴾ [المؤمنون: ٣٣] إلَخْ في سُورَةِ المُؤْمِنُونَ، وذَلِكَ إذا لَمْ يَكُنِ المَقْصُودُ حِكايَةَ التَّحاوُرِ بَلْ قَصْدُ الإخْبارِ عَنْ أقْوالٍ جَرَتْ أوْ كانَتِ الأقْوالُ المَحْكِيَّةُ مِمّا جَرى في أوْقاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ أوْ أمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ. ويَظْهَرُ ذَلِكَ لَكَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالُوا اقْتُلُوا أبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [غافر: ٢٥] إلى قَوْلِهِ - وقالَ فِرْعَوْنُ ﴿ذَرُونِي أقْتُلْ مُوسى﴾ [غافر: ٢٦] ثُمَّ قالَ تَعالى ﴿وقالَ مُوسى إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُمْ﴾ [غافر: ٢٧] ثُمَّ قالَ ﴿وقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِن آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [غافر: ٢٨] الآيَةَ في سُورَةِ غافِرٍ، ولَيْسَ في قَوْلِهِ ﴿قالُوا أتَجْعَلُ﴾ جَوابًا لِـ (إذْ) عامِلًا فِيها لِما قَدَّمْناهُ آنِفًا مِن أنَّهُ يُفْضِي إلى أنْ يَكُونَ قَوْلُهم ﴿أتَجْعَلُ فِيها﴾ هو المَقْصُودَ مِنَ القِصَّةِ وأنْ تَصِيرَ جُمْلَةُ (إذْ) تابِعَةً لَهُ إذِ الظَّرْفُ تابِعٌ لِلْمَظْرُوفِ. (p-٤٠٢)والِاسْتِفْهامُ المَحْكِيُّ عَنْ كَلامِ المَلائِكَةِ مَحْمُولٌ عَلى حَقِيقَتِهِ مُضَمَّنٌ مَعْنى التَّعَجُّبِ والِاسْتِبْعادِ مِن أنْ تَتَعَلَّقَ الحِكْمَةُ بِذَلِكَ، فَدَلالَةُ الِاسْتِفْهامِ عَلى ذَلِكَ هُنا بِطَرِيقِ الكِنايَةِ مَعَ تَطَلُّبِ ما يُزِيلُ إنْكارَهم واسْتِبْعادَهم فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ بَقاءُ الِاسْتِفْهامِ عَلى حَقِيقَتِهِ خِلافًا لِمَن تَوَهَّمَ الِاسْتِفْهامَ هُنا لِمُجَرَّدِ التَّعَجُّبِ، والَّذِي أقْدَمَ المَلائِكَةَ عَلى هَذا السُّؤالِ أنَّهم عَلِمُوا أنَّ اللَّهَ لَمّا أخْبَرَهم أرادَ مِنهم إظْهارَ عِلْمِهِمْ تُجاهَ هَذا الخَبَرِ لِأنَّهم مَفْطُورُونَ عَلى الصِّدْقِ والنَّزاهَةِ مِن كُلِّ مُؤارَبَةٍ، فَلَمّا نَشَأ ذَلِكَ في نُفُوسِهِمْ أفْصَحَتْ عَنْهُ دَلالَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ يَعْلَمُها اللَّهُ تَعالى مِن أحْوالِهِمْ لاسِيَّما إذا كانَ مِن تَمامِ الِاسْتِشارَةِ أنْ يُبْدِيَ المُسْتَشارُ ما يَراهُ نُصْحًا، وفي الحَدِيثِ «المُسْتَشارُ مُؤْتَمَنٌ وهو بِالخِيارِ ما لَمْ يَتَكَلَّمْ» يَعْنِي إذا تَكَلَّمَ فَعَلَيْهِ أداءُ أمانَةِ النَّصِيحَةِ. وعَبَّرَ بِالمَوْصُولِ وصِلَتِهِ لِلْإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الكَلامِ وهو الِاسْتِفْهامُ والتَّعَجُّبُ لِأنَّ مَن كانَ مِن شَأْنِهِ الفَسادُ والسَّفْكُ لا يَصْلُحُ لِلتَّعْمِيرِ لِأنَّهُ إذا عُمِّرَ نَقْضَ ما عَمَّرَهُ. وعَطْفُ سَفْكِ الدِّماءِ عَلى الإفْسادِ لِلِاهْتِمامِ بِهِ. وتَكْرِيرُ ضَمِيرِ الأرْضِ لِلِاهْتِمامِ بِها والتَّذْكِيرِ بِشَأْنِ عُمْرانِها وحِفْظِ نِظامِها لِيَكُونَ ذَلِكَ أدْخَلَ في التَّعَجُّبِ مِنِ اسْتِخْلافِ آدَمَ وفي صَرْفِ إرادَةِ اللَّهِ تَعالى عَنْ ذَلِكَ إنْ كانَ في الِاسْتِشارَةِ ائْتِمارٌ. والإفْسادُ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ألا إنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ﴾ [البقرة: ١٢] والسَّفْكُ الإراقَةُ وقَدْ غَلَبَ في كَلامِهِمْ تَعْدِيَتُهُ إلى الدِّماءِ، وأمّا إراقَةُ غَيْرِ الدَّمِ فَهي سَفْحٌ بِالحاءِ. وفي المَجِيءِ بِالصِّلَةِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً دَلالَةٌ عَلى تَوَقُّعِ أنْ يَتَكَرَّرَ الإفْسادُ والسَّفْكُ مِن هَذا المَخْلُوقِ وإنَّما ظَنُّوا هَذا الظَّنَّ بِهَذا المَخْلُوقِ مِن جِهَةِ ما اسْتَشْعَرُوهُ مِن صِفاتِ هَذا المَخْلُوقِ المُسْتَخْلَفِ بِإدْراكِهِمُ النُّورانِيِّ لِهَيْئَةِ تَكْوِينِهِ الجَسَدِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ والنُّطْقِيَّةِ إمّا بِوَصْفِ اللَّهِ لَهم هَذا الخَلِيفَةَ أوْ بِرُؤْيَتِهِمْ صُورَةَ تَرْكِيبِهِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ وبَعْدَهُ، والأظْهَرُ أنَّهم رَأوْهُ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ فَعَلِمُوا أنَّهُ تَرْكِيبٌ يَسْتَطِيعُ صاحِبُهُ أنْ يَخْرُجَ عَنِ الجِبِلَّةِ إلى الِاكْتِسابِ، وعَنِ الِامْتِثالِ إلى العِصْيانِ، فَإنَّ العَقْلَ يَشْتَمِلُ عَلى شاهِيَةٍ وغاضِبَةٍ وعاقِلَةٍ ومِن مَجْمُوعِها ومَجْمُوعِ بَعْضِها تَحْصُلُ تَراكِيبُ مِنَ التَّفْكِيرِ نافِعَةٌ وضارَّةٌ، ثُمَّ إنَّ القُدْرَةَ الَّتِي في الجَوارِحِ تَسْتَطِيعُ تَنْفِيذَ كُلِّ ما يَخْطُرُ لِلْعَقْلِ وقُواهُ أنْ يَفْعَلَهُ، ثُمَّ إنَّ النُّطْقَ يَسْتَطِيعُ إظْهارَ خِلافِ الواقِعِ وتَرْوِيجَ الباطِلِ، فَيَكُونُ مِن أحْوالِ ذَلِكَ فَسادٌ كَبِيرٌ ومِن أحْوالِهِ أيْضًا صَلاحٌ عَظِيمٌ، وإنَّ طَبِيعَةَ اسْتِخْدامِ ذِي القُوَّةِ لِقُواهُ قاضِيَةٌ بِأنَّهُ سَيَأْتِي بِكُلِّ ما تَصْلُحُ لَهُ هَذِهِ القُوى خَيْرُها وشَرُّها، فَيَحْصُلُ فِعْلٌ مُخْتَلَطٌ مِن (p-٤٠٣)صالِحٍ وسَيِّئٍ، ومُجَرَّدُ مُشاهَدَةِ المَلائِكَةِ لِهَذا المَخْلُوقِ العَجِيبِ المُرادِ جَعْلُهُ خَلِيفَةً في الأرْضِ كافٍ في إحاطَتِهِمْ بِما يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِن عَجائِبِ الصِّفاتِ عَلى نَحْوِ ما سَيَظْهَرُ مِنها في الخارِجِ؛ لِأنَّ مَدارِكَهم غايَةٌ في السُّمُوِّ لِسَلامَتِها مِن كُدْراتِ المادَّةِ، وإذا كانَ أفْرادُ البَشَرِ يَتَفاوَتُونَ في الشُّعُورِ بِالخَفِيّاتِ، وفي تَوَجُّهِ نُورانِيَّةِ النُّفُوسِ إلى المَعْلُوماتِ، وفي التَّوَسُّمِ والتَّفَرُّسِ في الذَّواتِ بِمِقْدارِ تَفاوُتِهِمْ في صِفاتِ النَّفْسِ جِبِلِّيَّةً واكْتِسابِيَّةً ولَدُنِّيَّةً الَّتِي أعْلاها النُّبُوَّةُ، فَما ظَنُّكَ بِالنُّفُوسِ المَلَكِيَّةِ البَحْتَةِ. وفِي هَذا ما يُغْنِيكَ عَمّا تَكَلَّفَ لَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ مِن وجْهِ اطِّلاعِ المَلائِكَةِ عَلى صِفاتِ الإنْسانِ قَبْلَ بُدُوِّها مِنهُ مِن تَوْقِيفٍ واطِّلاعٍ عَلى ما في اللَّوْحِ أيْ عِلْمِ اللَّهِ، أوْ قِياسٍ عَلى أُمَّةٍ تَقَدَّمَتْ وانْقَرَضَتْ، أوْ قِياسٍ عَلى الوُحُوشِ المُفْتَرِسَةِ إذْ كانَتْ قَدْ وُجِدَتْ عَلى الأرْضِ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ كَما في سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْراةِ. وبِهِ أيْضًا تَعْلَمُ أنَّ حُكْمَ المَلائِكَةِ هَذا عَلى ما يَتَوَقَّعُ هَذا الخَلْقُ مِنَ البَشَرِ لَمْ يُلاحَظْ فِيهِ واحِدٌ دُونَ آخَرَ، لِأنَّهُ حُكْمٌ عَلَيْهِمْ قَبْلَ صُدُورِ الأفْعالِ مِنهم، وإنَّما هو حُكْمٌ بِما يَصْلُحُونَ لَهُ بِالقُوَّةِ، فَلا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلى أنَّ حُكْمَهم هَذا عَلى بَنِي آدَمَ دُونَ آدَمَ حَيْثُ لَمْ يُفْسِدُ، لِأنَّ في هَذا القَوْلِ غَفْلَةً عَمّا ذَكَرْناهُ مِنَ البَيانِ. وأُوثِرَ التَّعْبِيرُ بِالفِعْلِ المُضارِعِ في قَوْلِهِ ﴿مَن يُفْسِدُ﴾ ﴿ويَسْفِكُ﴾ لِأنَّ المُضارِعَ يَدُلُّ عَلى التَّجَدُّدِ والحُدُوثِ دُونَ الدَّوامِ أيْ مَن يَحْصُلُ مِنهُ الفَسادُ تارَةً وسَفْكُ الدِّماءِ تارَةً لِأنَّ الفَسادَ والسَّفْكَ لَيْسا بِمُسْتَمِرَّيْنِ مِنَ البَشَرِ. وقَوْلُهم ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّهم عَلِمُوا أنَّ مُرادَ اللَّهِ مِن خَلْقِ الأرْضِ هو صَلاحُها وانْتِظامُ أمْرِها وإلّا لَما كانَ لِلِاسْتِفْهامِ المَشُوبِ بِالتَّعَجُّبِ مَوْقِعٌ، وهم عَلِمُوا مُرادَ اللَّهِ ذَلِكَ مِن تَلَقِّيهِمْ عَنْهُ سُبْحانَهُ أوْ مِن مُقْتَضى حَقِيقَةِ الخِلافَةِ أوْ مِن قَرائِنِ أحْوالِ الِاعْتِناءِ بِخَلْقِ الأرْضِ وما عَلَيْها عَلى نُظُمٍ تَقْتَضِي إرادَةَ بَقائِها إلى أمَدٍ، وقَدْ دَلَّتْ آياتٌ كَثِيرَةٌ عَلى أنَّ إصْلاحَ العالِمِ مَقْصِدٌ لِلشّارِعِ قالَ تَعالى ﴿فَهَلْ عَسِيتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ﴾ [محمد: ٢٢] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ [النساء: ٥٢] وقالَ ﴿وإذا تَوَلّى سَعى في الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ﴾ [البقرة: ٢٠٥] ولا يَرِدُ هُنا أنَّ هَذا القَوْلَ غِيبَةٌ وهم مُنَزَّهُونَ عَنْها؛ لِأنَّ ذَلِكَ العالَمَ لَيْسَ عالَمَ تَكْلِيفٍ ولِأنَّهُ لا غِيبَةَ في مَشُورَةٍ ونَحْوِها كالخِطْبَةِ والتَّجْرِيحِ لِتَوَقُّفِ المَصْلَحَةِ عَلى ذِكْرِ ما في المُسْتَشارِ (p-٤٠٤)فِي شَأْنِهِ مِنَ النَّقائِصِ، ورُجْحانِ تِلْكَ المَصْلَحَةِ عَلى مَفْسَدَةِ ذِكْرِ أحَدٍ بِما يَكْرَهُ، ولِأنَّ المَوْصُوفَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ إذِ الحَكُمُ عَلى النَّوْعِ، فانْتَفى جَمِيعُ ما يَتَرَتَّبُ عَلى الغِيبَةِ مِنَ المَفاسِدِ في واقِعَةِ الحالِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُحْجِمْ عَنْها المَلائِكَةُ. * * * ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ الواوُ مُتَعَيِّنَةٌ لِلْحالِيَّةِ إذْ لا مَوْقِعَ لِلْعَطْفِ هُنا، وإنْ كانَ ما بَعْدَ الواوِ مِن مِقْوَلِهِمْ ومَحْكِيًّا عَنْهم لَكِنَّ الواوَ مِنَ المَحْكِيِّ ولَيْسَتْ مِنَ الحِكايَةِ لِأنَّ قَوْلَهم: (﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾) يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ؛ أحَدُهُما أنْ يَكُونَ الغَرَضُ مِنهُ تَفْوِيضَ الأمْرِ إلى اللَّهِ تَعالى واتِّهامَ عِلْمِهِمْ فِيما أشارُوا بِهِ كَما يَفْعَلُ المُسْتَشارُ مَعَ مَن يَعْلَمُ أنَّهُ أسَدُّ مِنهُ رَأْيًا وأرْجَحُ عَقْلًا فَيُشِيرُ ثُمَّ يُفَوِّضُ كَما قالَ أهْلُ مَشُورَةِ بِلْقِيسَ إذْ قالَتْ ﴿أفْتُونِي في أمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أمْرًا حَتّى تَشْهَدُونِ﴾ [النمل: ٣٢] ﴿قالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [النمل: ٣٣] أيِ الرَّأْيُ أنْ نُحارِبَهُ ونَصُدَّهُ عَمّا يُرِيدُ مِن قَوْلِهِ ﴿وأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: ٣١] ﴿والأمْرُ إلَيْكِ فانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ﴾ [النمل: ٣٣] وكَما يَفْعَلُ التِّلْمِيذُ مَعَ الأُسْتاذِ في بَحْثِهِ مَعَهُ ثُمَّ يُصَرِّحُ بِأنَّهُ مَبْلَغُ عِلْمِهِ، وأنَّ القَوْلَ الفَصْلَ لِلْأُسْتاذِ، أوْ هو إعْلانٌ بِالتَّنْزِيهِ لِلْخالِقِ عَنْ أنْ يَخْفى عَلَيْهِ ما بَدا لَهم مِن مانِعِ اسْتِخْلافِ آدَمَ، وبَراءَةٌ مِن شائِبَةِ الِاعْتِراضِ، واللَّهُ تَعالى وإنْ كانَ يَعْلَمُ بَراءَتَهم مِن ذَلِكَ إلّا أنَّ كَلامَهم جَرى عَلى طَرِيقَةِ التَّعْبِيرِ عَمّا في الضَّمِيرِ مِن غَيْرِ قَصْدِ إعْلامِ الغَيْرِ، أوْ لِأنَّ في نَفْسِ هَذا التَّصْرِيحِ تَبَرُّكًا وعِبادَةً، أوْ إعْلانٌ لِأهْلِ المَلَأِ الأعْلى بِذَلِكَ. فَإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ العَطْفُ غَيْرَ جائِرٍ لِأنَّ الجُمْلَةَ المَحْكِيَّةَ بِالقَوْلِ إذا عُطِفَتْ عَلَيْها جُمْلَةٌ أُخْرى مِنَ القَوْلِ فالشَّأْنُ أنْ لا يُقْصَدَ العَطْفُ عَلى تَقْدِيرِ عامِلِ القَوْلِ إلّا إذا كانَ القَوْلانِ في وقْتَيْنِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ﴾ [آل عمران: ١٧٣] عَلى أحَدِ الوُجُوهِ في عَطْفِ جُمْلَةِ (نِعْمَ الوَكِيلُ) عِنْدَ مَن لا يَرَوْنَ صِحَّةَ عَطْفِ الإنْشاءِ عَلى الخَبَرِ وإنْ كانَ الحَقُّ صِحَّةَ عَطْفِ الإنْشاءِ عَلى الخَبَرِ وعَكْسِهِ وأنَّهُ لا يُنافِي حُسْنَ الكَلامِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَظٌّ لِلْعَطْفِ، ألا تَرى أنَّهم إذا حَكَوْا حادِثًا مُلِمًّا أوْ مُصابًا جَمًّا أعَقَبُوهُ بِنَحْوِ: حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، أوْ: إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ، ولا يَعْطِفُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فَكانَتِ الواوُ واوَ الحالِ لِلْإشارَةِ (p-٤٠٥)إلى أنَّ هَذا أمْرٌ مُسْتَحْضَرٌ لَهم في حالِ قَوْلِهِمْ ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ﴾ ولَيْسَ شَيْئًا خَطَرَ لَهم بَعْدَ أنْ تَوَغَّلُوا في الِاسْتِبْعادِ والِاسْتِغْرابِ. الِاحْتِمالُ الثّانِي أنْ يَكُونَ الغَرَضُ مِن قَوْلِهِمْ ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ التَّعْرِيضَ بِأنَّهم أوْلى بِالِاسْتِخْلافِ لِأنَّ الجُمْلَةَ الإسْمِيَّةَ دَلَّتْ عَلى الدَّوامِ، وجُمْلَةُ ﴿مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ دَلَّتْ عَلى تَوَقُّعِ الفَسادِ والسَّفْكِ فَكانَ المُرادُ أنَّ اسْتِخْلافَهُ يَقَعُ مِنهُ صَلاحٌ وفَسادٌ، والَّذِينَ لا يَصْدُرُ مِنهم عِصْيانُ مُرادِ اللَّهِ هم أوْلى بِالِاسْتِخْلافِ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ مِنهُ الفَسادُ فَتَكُونُ حالًا مُقَرِّرَةً لِمَدْلُولِ جُمْلَةِ (﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ﴾) تَكْمِلَةً لِلِاسْتِغْرابِ، وعامِلُها هو (تَجْعَلُ) وهَذا الَّذِي أشارَ إلَيْهِ تَمْثِيلُ الكَشّافِ. والعامِلُ في الحالِ هو الِاسْتِفْهامُ لِأنَّهُ مِمّا تَضَمَّنَ مَعْنى الفِعْلِ لاسِيَّما إذا كانَ المَقْصُودُ مِنهُ التَّعَجُّبَ أيْضًا إذْ تَقْدِيرُ (أتَجْعَلُ فِيها) إلَخْ نَتَعَجَّبُ مِن جَعْلِهِ خَلِيفَةً. والتَّسْبِيحُ قَوْلٌ أوْ مَجْمُوعُ قَوْلٍ مَعَ عَمَلٍ يَدُلُّ عَلى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعالى وتَنْزِيهِهِ ولِذَلِكَ سُمِّيَ ذِكْرُ اللَّهِ تَسْبِيحًا، والصَّلاةُ سُبْحَةً ويُطْلَقُ التَّسْبِيحُ عَلى قَوْلِ سُبْحانَ اللَّهِ لِأنَّ ذَلِكَ القَوْلَ مِنَ التَّنْزِيهِ، وقَدْ ذَكَرُوا أنَّ التَّسْبِيحَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّبْحِ وهو الذَّهابُ السَّرِيعُ في الماءِ إذْ قَدْ تُوُسِّعَ في مَعْناهُ إذْ أُطْلِقَ مَجازًا عَلى مَرِّ النُّجُومِ في السَّماءِ قالَ تَعالى ﴿وكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠] وعَلى جَرْيِ الفَرَسِ، قالُوا: فَلَعَلَّ التَّسْبِيحَ لُوحِظَ فِيهِ مَعْنى سُرْعَةِ المُرُورِ في عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، وأظْهَرُ مِنهُ أنْ يَكُونَ سَبَّحَ بِمَعْنى نَسَبَ لِلسَّبَحِ أيِ البُعْدِ وأُرِيدُ البُعْدُ الِاعْتِبارِيُّ وهو الرِّفْعَةُ أيِ التَّنْزِيهُ عَنْ أحْوالِ النَّقائِصِ، وقِيلَ: سُمِعَ سَبَحَ مُخَفَّفًا غَيْرَ مُضاعَفٍ بِمَعْنى نَزَّهَ، ذَكَرَهُ في القامُوسِ. وعِنْدِي أنَّ كَوْنَ التَّسْبِيحِ مَأْخُوذًا مِنَ السَّبْحِ عَلى وجْهِ المَجازِ بِعِيدٌ، والوَجْهُ أنَّهُ مَأْخُوذٌ مِن كَلِمَةِ سُبْحانَ، ولِهَذا التَزَمُوا في هَذا أنْ يَكُونَ بِوَزْنِ ”فَعَّلَ“ المُضاعَفِ فَلَمْ يُسْمَعْ مُخَفَّفًا. وإذا كانَ التَّسْبِيحُ كَما قُلْنا هو قَوْلٌ أوْ قَوْلٌ وعَمَلٌ يَدُلُّ عَلى التَّعْظِيمِ، فَتَعَلُّقُ قَوْلِهِ (بِحَمْدِكَ) بِهِ هُنا وفي أكْثَرِ المَواضِعِ في القُرْآنِ ظاهِرٌ لِأنَّ القَوْلَ يَشْتَمِلُ عَلى حَمَدِ اللَّهِ تَعالى وتَمْجِيدِهِ والثَّناءِ عَلَيْهِ فالباءُ لِلْمُلابَسَةِ أيْ نُسَبِّحُ تَسْبِيحًا مَصْحُوبًا بِالحَمْدِ لَكَ، وبِذَلِكَ تَنْمَحِي جَمِيعُ التَّكَلُّفاتِ الَّتِي فَسَّرُوا بِها هُنا. والتَّقْدِيسُ التَّنْزِيهُ والتَّطْهِيرُ، وهو إمّا بِالفِعْلِ كَما أُطْلِقَ المُقَدَّسُ عَلى الرّاهِبِ في قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ يَصِفُ تَعَلُّقَ الكِلابِ بِالثَّوْرِ الوَحْشِيِّ:(p-٤٠٦) ؎فَأدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بِالسّاقِ والنَّسا كَما شَبْرَقَ الوِلْدانُ ثَوْبَ المُقَدَّسِ وإمّا بِالِاعْتِقادِ كَما في الحَدِيثِ («لا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِها مِن قَوِيِّها» ) أيْ لا نَزَّهَها اللَّهُ تَعالى وطَهَّرَها مِنَ الأرْجاسِ الشَّيْطانِيَّةِ. وفِعْلُ قَدَّسَ يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ، فالإتْيانُ بِاللّامِ مَعَ مَفْعُولِهِ في الآيَةِ لِإفادَةِ تَأْكِيدِ حُصُولِ الفِعْلِ نَحْوُ شَكَرْتُ لَكَ ونَصَحْتُ لَكَ، وفي الحَدِيثِ عِنْدَ ذِكْرِ الَّذِي وجَدَ كَلْبا يَلْهَثُ مِنَ العَطَشِ فَأخَذَ خُفَّهُ فَأدْلاهُ في الرَّكِيَّةِ فَسَقاهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ أيْ شَكَرَهُ - مُبالَغَةً في الشُّكْرِ - لِئَلّا يُتَوَهَّمَ ضَعْفُ ذَلِكَ الشُّكْرِ مِن أنَّهُ عَنْ عَمَلِ حَسَنَةٍ مَعَ دابَّةٍ فَدَفَعَ هَذا الإيهامَ بِالتَّأْكِيدِ بِاللّامِ، وهَذا مِن أفْصَحِ الكَلامِ، فَلا تَذْهَبْ مَعَ الَّذِينَ جَعَلُوا قَوْلَهُ (لَكَ) مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ حامِدِينَ، أوْ هو مُتَعَلِّقٌ بِـ (نُسَبِّحُ) واللّامُ بِمَعْنى لِأجْلِكَ عَلى مَعْنى حَذْفِ مَفْعُولِ (نُسَبِّحُ) أيْ نُسَبِّحُ أنْفُسَنا أيْ نُنَزِّهُها عَنِ النَّقائِصِ لِأجْلِكَ أيْ لِطاعَتِكَ، فَذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ فَصِيحِ الكَلامِ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَ اللّامَ لامَ التَّبْيِينِ الَّتِي سَنَتَعَرَّضُ لَها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿واشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥٢] فَمَعْنى ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ نَحْنُ نُعَظِّمُكَ ونُنَزِّهُكَ، والأوَّلُ بِالقَوْلِ والعَمَلِ والثّانِي بِاعْتِقادِ صِفاتِ الكَمالِ المُناسِبَةِ لِلذّاتِ العَلِيَّةِ، فَلا يُتَوَهَّمُ التَّكْرارُ بَيْنَ نُسَبِّحُ ونُقَدِّسُ. وأُوثِرَتِ الجُمْلَةُ الإسْمِيَّةُ في قَوْلِهِ ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ﴾ لِإفادَةِ الدَّلالَةِ عَلى الدَّوامِ والثَّباتِ أيْ هو وصْفُهُمُ المُلازِمُ لِجِبِلَّتِهِمْ، وتَقْدِيمُ المُسْنِدِ إلَيْهِ عَلى الخَبَرِ الفِعْلِيِّ دُونَ حَرْفِ النَّفْيِ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ لِلتَّخْصِيصِ بِحاصِلِ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ الجُمْلَةُ الإسْمِيَّةُ مِنَ الدَّوامِ أيْ نَحْنُ الدّائِمُونَ عَلى التَّسْبِيحِ والتَّقْدِيسِ دُونَ هَذا المَخْلُوقِ، والأظْهَرُ أنَّ التَّقْدِيمَ لِمُجَرَّدِ التَّقْوى نَحْوُ: هو يُعْطِي الجَزِيلَ. * * * ﴿قالَ إنِّيَ أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ جَوابٌ لِكَلامِهِمْ فَهو جارٍ عَلى أُسْلُوبِ المُقاوَلَةِ في المُحاوَراتِ كَما تَقَدَّمَ، أيْ أعْلَمُ ما في البَشَرِ مِن صِفاتِ الصَّلاحِ ومِن صِفاتِ الفَسادِ، وأعْلَمُ أنَّ صَلاحَهُ يَحْصُلُ مِنهُ المَقْصِدُ مِن تَعْمِيرِ الأرْضِ وأنَّ فَسادَهُ لا يَأْتِي عَلى المَقْصِدِ بِالإبْطالِ وأنَّ في ذَلِكَ كُلِّهِ مَصالِحَ عَظِيمَةً ومَظاهِرَ (p-٤٠٧)لِتَفاوُتِ البَشَرِ في المَراتِبِ واطِّلاعًا عَلى نُمُوذَجٍ مِن غاياتِ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى وإرادَتِهِ وقُدْرَتِهِ بِما يُظْهِرُهُ البَشَرُ مِن مَبالِغِ نَتائِجِ العُقُولِ والعُلُومِ والصَّنائِعِ والفَضائِلِ والشَّرائِعِ وغَيْرِ ذَلِكَ. كَيْفَ ومِن أبْدَعِ ذَلِكَ أنَّ تَرَكُّبَ الصِّفَتَيْنِ الذَّمِيمَتَيْنِ يَأْتِي بِصِفاتِ الفَضائِلِ كَحُدُوثِ الشَّجاعَةِ مِن بَيْنِ طَرَفَيِ التَّهَوُّرِ والجُبْنِ. وهَذا إجْمالٌ في التَّذْكِيرِ بِأنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعالى أوْسَعُ مِمّا عَلِمُوهُ فَهم يُوقِنُونَ إجْمالًا أنَّ لِذَلِكَ حِكْمَةً ومِنَ المَعْلُومِ أنْ لا حاجَةَ هُنا لِتَقْدِيرِ (وما تَعْلَمُونَ) بَعْدَ ﴿ما لا تَعْلَمُونَ﴾ لِأنَّهُ مَعْرُوفٌ لِكُلِّ سامِعٍ ولِأنَّ الغَرَضَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِكْرِهِ وإنَّما تَعَلَّقَ بِذِكْرِ عِلْمِهِ تَعالى بِما شَذَّ عَنْهم. وقَدْ كانَ قَوْلُ اللَّهِ تَعالى هَذا تَنْهِيَةً لِلْمُحاوَرَةِ وإجْمالًا لِلْحُجَّةِ عَلى المَلائِكَةِ بِأنَّ سِعَةَ عِلْمِ اللَّهِ تُحِيطُ بِما لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمُهم وأنَّهُ حِينَ أرادَ أنْ يَجْعَلَ آدَمَ خَلِيفَةً كانَتْ إرادَتُهُ عَنْ عِلْمٍ بِأنَّهُ أهْلٌ لِلْخِلافَةِ، وتَأْكِيدُ الجُمْلَةِ بِأنَّ لِتَنْزِيلِ المَلائِكَةِ في مُراجَعَتِهِمْ وغَفْلَتِهِمْ عَنِ الحِكْمَةِ مَنزِلَةَ المُتَرَدِّدِينَ.