موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الخميس 19 رمضان 1446 هجرية الموافق ل20 مارس 2025


الآية [34] من سورة  

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُوا۟ لِءَادَمَ فَسَجَدُوٓا۟ إِلَّآ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ


ركن التفسير

34 -(و) اذكر (إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) سجود تحيةٍ بالانحناء (فسجدوا إلا إبليس) هو أبو الجن كان بين الملائكة (أبى) امتنع عن السجود (واستكبر) تكبّر عنه وقال : أنا خير منه (وكان من الكافرين) في علم الله

وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وقد دل على ذلك أحاديث أيضا كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم وحديث موسى عليه السلام "رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة فلما اجتمع به قال أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته" قال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء الله. وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة وكان خازنا من خزان الجنة قال وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي قال وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت قال وخلق الإنسان من طين فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا قال فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه فقال قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد قال فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه فقال الله تعالى للملائكة الذين كانوا معه: "إني جاعل في الأرض خليفة" فقالت الملائكة مجيبين له: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء وإنما بعثتنا عليهم لذلك؟ فقال الله تعالى "إني أعلم ما لا تعلمون" يقول إني قد اطلعت على قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره قال ثم أمر بتربة آدم فرفعت فخلق الله آدم من طين لازب واللازب اللازج الطيب من حمأ مسنون منتن وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب فخلق منه آدم بيده قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت فهو قول الله تعالى "من صلصال كالفخار" يقول كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت قال ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ويدخل من دبره ويخرج من فيه ثم يقول لست شيئا للصلصلة ولشيء ما خلقت ولئن سلطت عليك لأهلكنك ولئن سلطت علي لأعصينك. قال فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه فجعل لا يجري. شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده فذهب لينهض فلم يقدر فهو قول الله تعالى "وخلق الإنسان عجولا" قال ضجرا لا صبر له على سراء ولا ضراء قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال "الحمد لله رب العالمين" بإلهام الله فقال الله له "يرحمك الله يا آدم" قال ثم قال تعالى: للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السماوات اسجدوا لآدم فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار فقال لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا خلقتني من نار وخلقته من طين يقول إن النار أقوى من الطين قال فلما أبى أبليس أن يسجد أبلسه الله أي آيسه من الخير كله وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته ثم علم آدم الأسماء كلها وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم وقال لهم "أنبئوني بأسماء هؤلاء" أي يقول أخبروني بأسماء هؤلاء "إن كنتم صادقين" إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة قال: فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم "قالوا سبحانك" تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره تبنا إليك "لا علم لنا إلا ما علمتنا" تبريا منهم من علم الغيب إلا ما علمتنا كما علمت آدم فقال "يا آدم أنبئهم بأسمائهم" يقول "أخبرهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم" قال "ألم أقل لكم" أيتها الملائكة خاصة "إني أعلم غيب السماوات والأرض" ولا يعلم غيري "وأعلم ما تبدون" يقول ما تظهرون "وما كنتم تكتمون" يقول أعلم السر كما أعلم العلانية يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار هذا سياق غريب وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازنا فوقع في صدره وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك فقال الله للملائكة "إني جاعل في الأرض خليفة" فقالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا قالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال "إني أعلم ما لا تعلمون" يعني من شأن إبليس. فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ وقال يا رب إنها عاذت بك فأعذتها فبعث ميكائيل فعاذت منه فعاذها فرجع فقال كما قال جبريل فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به قبل التراب حتى عاد طينا لازبا واللازب هو الذي يلتزق بعضه ببعض ثم قال للملائكة "إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه ليقول له تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه بخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه فكان أشدهم فزعا منه إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة فذلك حين يقول "من صلصال كالفخار" ويقول لأمر ما خلقت ودخل من فيه فخرج من دبره وقال للملائكة لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف لئن سلطت عليه لأهلكنه فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله فقال فقال له الله "يرحمك الله" فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل الروح إلى جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول الله تعالى "خلق الإنسان من عجل" فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين أبى واستكبر وكان من الكافرين قال الله له ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين قال الله له "اخرج منها فما يكون لك" يعني ما ينبغي لك "أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين" والصغار هو الذل قال وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرض الخلق على الملائكة "فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء "فقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" قال الله يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قال: قولهم "أتجعل فيها من يفسد فيها" فهذا الذي أبدوا "وأعلم ما كنتم تكتمون" يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ويقع فيه إسرائيليات كثيرة فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه أشياء ويقول على شرط البخاري. والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم لأنه لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر وسنبسط المسألة إن شاء الله تعالى عند قوله "إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه" ولهذا قال: محمد بن إسحاق عن خلاد بن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل وكان من سكان الأرض وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما فذلك دعاه إلى الكبر وكان من حي يسمون جنا. وفي رواية عن خلاد عن عطاء عن طاوس أو مجاهد عن ابن عباس أو غيره بنحوه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان إبليس اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد وقال سنيد: عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان سماء الدنيا وكان له سلطان على الأرض وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس سواء. وقال صالح مولى التوأمة عن ابن عباس: إن من الملائكة قبيلا يقال لهم الجن وكان إبليس منهم وكان يوسوس ما بين السماء والأرض فعصى فمسخه الله شيطانا رجيما رواه ابن جرير. وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عدي بن أبي عدي عن عوف عن الحسن قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس وهذا إسناد صحيح عن الحسن وهكذا قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم سواء. وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء رواه ابن جرير. وقال سنيد بن داود: حدثنا هشيم أنبأنا عبدالرحمن بن يحيى عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل عن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة يتعبد معها فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا فأبى إبليس فلذلك قال تعالى "إلا إبليس كان من الجن" وقال ابن جرير حدثنا محمد بن سنان البزار حدثنا أبو عاصم عن شريك عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال:إن الله خلق خلقا فقال اسجدوا لآدم فقالوا لا نفعل فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم ثم خلق خلقا آخر فقال "إني خالق بشرا من طين" اسجدوا لآدم قال فأبوا فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم ثم خلق هؤلاء فقال اسجدوا لآدم قالوا نعم وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم - وهذا غريب ولا يكاد يصح إسناده فإن فيه رجلا مبهما ومثله لا يحتج به والله أعلم. وقال: ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا صالح بن حيان حدثنا عبدالله بن بريدة: قوله تعالى "وكان من الكافرين" من الذين أبوا فأحرقتهم النار وقال أبو جعفر رضي الله عنه عن الربيع عن أبي العالية "وكان من الكافرين" يعني من العاصين وقال السدي "وكان من الكافرين" الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد وقال محمد بن كعب القرظي ابتدأ الله خلق إبليس من الكفر والضلالة وعمل بعمل الملائكة فصيره الله إلى ما أبدى عليه خلقه على الكفر قال الله تعالى "وكان من الكافرين" وقال قتادة في قوله تعالى "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته وقال بعض الناس كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى "ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا" وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا. قال معاذ: قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك فقال "لا. لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" ورجحه الرازي وقال بعضهم بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال تعالى "أقم الصلاة لدلوك الشمس" وفي هذا التنظير نظر والأظهر أن القول الأول أولى والسجدة لآدم إكراما وإعظاما واحتراما وسلاما وهي طاعة لله عز وجل لأنها امتثال لأمره تعالى. وقد قواه الرازي في تفسيره وضعف ما عداه من القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف والآخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال وقال قتادة في قوله تعالى "فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين" حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة وقال أنا ناري وهذا طيني وكان بدء الذنوب الكبر استكبر عدو الله أن يسجد لآدم عليه السلام قلت وقد ثبت في الصحيح "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر" وقد كان في قلب إبليس من الكبر- والكفر- والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس قال بعض المعربين وكان من الكافرين أي وصار من الكافرين بسبب امتناعه كما قال "فكان من المغرقين" وقال "فتكونا من الظالمين" وقال الشاعر: بتيهاء فقر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها أي قد صارت وقال ابن فورك تقديره وقد كان في علم الله من الكافرين ورجحه القرطبي وذكر هاهنا مسألة فقال: قال علماؤنا من أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق العادات فليس ذلك دالا على ولايته خلافا لبعض الصوفية والرافضة هذا لفظه ثم استدل على ما قال بأنا لا نقطع بهذا الذي جرى الخارق على يديه أنه يوافي الله بالإيمان وهو لا يقطع بنفسه لذلك يعني والولي الذي يقطع له بذلك الأمر قلت وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يد غير الولي بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضا بما ثبت عن ابن صياد أنه قال هو الدخ حين خبأ له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين" وبما كان يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبدالله بن عمر وبما ثبتت به الأحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب وأن يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة. وقد قال: يونس بن عبدالأعلى الصدفي قلت للشافعي كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله. بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة وقد حكى الرازي وغيره قولين للعلماء هل المأمور بالسجود لآدم خاص بملائكة الأرض أو عام بملائكة السماوات والأرض وقد رجح كلا من القولين طائفة وظاهر الآية الكريمة العموم " فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس" فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم والله أعلم.

﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ أبى واسْتَكْبَرَ وكانَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] عَطْفُ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ وإعادَةُ إذْ بَعْدَ حَرْفِ العَطْفِ المُغْنِي عَنْ إعادَةِ ظَرْفِهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الجُمْلَةَ مَقْصُودَةٌ بِذاتِها لِأنَّها مُتَمَيِّزَةٌ بِهَذِهِ القِصَّةِ العَجِيبَةِ فَجاءَتْ عَلى أُسْلُوبٍ يُؤْذِنُ بِالِاسْتِقْلالِ والِاهْتِمامِ، ولِأجْلِ هَذِهِ المُراعاةِ لَمْ يُؤْتَ بِهَذِهِ القِصَّةِ مَعْطُوفَةً بِفاءِ التَّفْرِيعِ فَيَقُولُ فَقُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وإنْ كانَ مَضْمُونُها في الواقِعِ مُتَفَرِّعًا عَلى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَها، فَإنَّ أمْرَهم بِالسُّجُودِ لِآدَمَ ما كانَ إلّا لِأجْلِ ظُهُورِ مَزِيَّتِهِ عَلَيْهِمْ إذْ عَلِمَ ما لَمْ يَعْلَمُوهُ، وذَلِكَ ما اقْتَضاهُ تَرْتِيبُ ذِكْرِ هَذِهِ القِصَصِ بَعْضِها بَعْدَ بَعْضٍ ابْتِداءً مِن خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ وما طَرَأ بَعْدَهُ مِن أطْوارِ أُصُولِ العامِرِينِ الأرْضَ وما بَيْنَها وبَيْنَ السَّماءِ فَإنَّ الأصْلَ في الكَلامِ أنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ نَظْمِهِ جارِيًا عَلى تَرْتِيبِ حُصُولِ مَدْلُولاتِهِ في الخارِجِ ما لَمْ تَنْصَبَّ قَرِينَةٌ عَلى مُخالَفَةِ ذَلِكَ. ولا يَرِيبُكَ قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ الحِجْرِ ﴿إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن صَلْصالٍ مِن حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٨] ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ [الحجر: ٢٩] لِأنَّ تِلْكَ حَكَتِ القِصَّةَ بِإجْمالٍ فَطَوَتْ أنْباءَها طَيًّا جاءَ تَبْيِينُهُ في ما تَكَرَّرَ مِنها في آياتٍ أُخْرى وأوْضَحُها أيَّةُ البَقَرَةِ لِاقْتِضاءِ الآيَةِ السّابِقَةِ أنَّ فَضِيلَةَ آدَمَ لَمْ تَظْهَرْ لِلْمَلائِكَةِ إلّا بَعْدَ تَعْلِيمِهِ الأسْماءَ وعَرْضِها عَلَيْهِمْ وعَجْزِهِمْ عَنِ الإنْباءِ بِها وأنَّهم كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتَرَقِّبِينَ بَيانَ ما يَكْشِفُ ظَنَّهم بِآدَمَ أنْ يَكُونَ مُفْسِدًا في الأرْضِ بَعْدَ أنْ لازَمُوا جانِبَ التَّوَقُّفِ لِما قالَ اللَّهُ لَهم (﴿إنِّيَ أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠]) فَكانَ إنْباءُ آدَمَ بِالأسْماءِ عِنْدَ عَجْزِهِمْ عَنِ الإنْباءِ بِها بَيانًا لِكَشْفِ شُبْهَتِهِمْ فاسْتَحَقُّوا أنْ يَأْتُوا بِما فِيهِ مَعْذِرَةٌ عَنْ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِحَقِّهِ. (p-٤٢١)وقَدْ أُرِيدَ مِن هَذِهِ القِصَّةِ إظْهارُ مَزِيَّةِ نَوْعِ الإنْسانِ وأنَّ اللَّهَ يَخُصُّ أجْناسَ مَخْلُوقاتِهِ وأنْواعَها بِما اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ مِنَ الخَصائِصِ والمَزايا لِئَلّا يَخْلُوَ شَيْءٌ مِنها عَنْ فائِدَةٍ مِن وُجُودِهِ في هَذا العالَمِ وإظْهارِ فَضِيلَةِ المَعْرِفَةِ، وبَيانِ أنَّ العالِمَ حَقِيقٌ بِتَعْظِيمِ مَن حَوْلَهُ إيّاهُ، وإظْهارِ ما لِلنُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ الشَّيْطانِيَّةِ مِنَ الخَبَثِ والفَسادِ، وبَيانُ أنَّ الِاعْتِرافَ بِالحَقِّ مِن خِصالِ الفَضائِلِ المَلائِكِيَّةِ، وأنَّ الفَسادَ والحَسَدَ والكِبْرَ مِن مَذامِّ ذَوِي العُقُولِ. والقَوْلُ في إعْرابِ إذْ كالقَوْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] وإظْهارُ لَفْظِ المَلائِكَةِ ولَفْظِ آدَمَ هُنا دُونَ الإتْيانِ بِضَمِيرَيْهِما كَما في قَوْلِهِ (قالُوا سُبْحانَكَ) وقَوْلِهِ (﴿فَلَمّا أنْبَأهُمْ﴾ [البقرة: ٣٣]) لِتَكُونَ القِصَّةُ المَعْطُوفَةُ مَعْنُونَةً بِمِثْلِ عُنْوانِ القِصَّةِ المَعْطُوفِ عَلَيْها إشارَةً إلى جَدارَةِ المَعْطُوفَةِ بِأنْ تَكُونَ قِصَّةً مَقْصُودَةً غَيْرَ مُنْدَمِجَةٍ في القِصَّةِ الَّتِي قَبْلَها. وغُيِّرَ أُسْلُوبُ إسْنادِ القَوْلِ إلى اللَّهِ فَأُتِيَ بِهِ مُسْنَدًا إلى ضَمِيرِ العَظَمَةِ (وإذْ قُلْنا) وأتى بِهِ في الآيَةِ السّابِقَةِ مُسْنَدًا إلى رَبِّ النَّبِيءِ (وإذْ قالَ رَبُّكَ) لِلتَّفَنُّنِ، ولِأنَّ القَوْلَ هُنا تَضَمَّنَ أمْرًا بِفِعْلٍ فِيهِ غَضاضَةٌ عَلى المَأْمُورِينَ فَناسَبَهُ إظْهارُ عَظَمَةِ الآمِرِ، وأمّا القَوْلُ السّابِقُ فَمُجَرَّدُ إعْلامٍ مِنَ اللَّهِ بِمُرادِهِ لِيُظْهِرَ رَأْيَهم، ولِقَصْدِ اقْتِرانِ الِاسْتِشارَةِ بِمَبْدَأِ تَكْوِينِ الذّاتِ الأوْلى مِن نَوْعِ الإنْسانِ المُحْتاجِ إلى التَّشاوُرِ فَناسَبَهُ الإسْنادُ إلى المَوْصُوفِ بِالرُّبُوبِيَّةِ المُؤْذِنَةِ بِتَدْبِيرِ شَأْنِ المَرْبُوبَيْنِ. وأُضِيفَ إلى ضَمِيرِ أشْرَفِ المَرْبُوبِينَ وهو النَّبِيءُ ﷺ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] وحَقِيقَةُ السُّجُودِ طَأْطَأةُ الجَسَدِ أوْ إيقاعُهُ عَلى الأرْضِ بِقَصْدِ التَّعْظِيمِ لِمُشاهَدٍ بِالعِيانِ كالسُّجُودِ لِلْمَلِكِ والسَّيِّدِ والسُّجُودِ لِلْكَواكِبِ، قالَ تَعالى ﴿وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: ١٠٠] وقالَ ﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ ولا لِلْقَمَرِ﴾ [فصلت: ٣٧] وقالَ الأعْشى: فَلَمّا أتانا بُعَيْدَ الكَرى سَجَدْنا لَهُ وخَلَعْنا العَمارا وقالَ أيْضًا: ؎يُراوِحُ مِن صَلَواتِ المَلِي ∗∗∗ كِ طَوْرًا سُجُودًا وطَوْرًا جُؤارا أوْ (p-٤٢٢)لِمُشاهَدٍ بِالتَّخَيُّلِ والِاسْتِحْضارِ وهو السُّجُودُ لِلَّهِ، قالَ تَعالى ﴿فاسْجُدُوا لِلَّهِ واعْبُدُوا﴾ [النجم: ٦٢] والسُّجُودُ رُكْنٌ مِن أرْكانِ الصَّلاةِ في الإسْلامِ. وأمّا سُجُودُ المَلائِكَةِ فَهو تَمْثِيلٌ لِحالَةٍ فِيهِمْ تَدُلُّ عَلى تَعْظِيمٍ، وقَدْ جَمَعَ مَعانِيَهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولِلَّهِ يَسْجُدُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مِن دابَّةٍ والمَلائِكَةُ وهم لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل: ٤٩] فَكانَ السُّجُودُ أوَّلَ تَحِيَّةٍ تَلَقّاها البَشَرُ عِنْدَ خَلْقِ العالِمِ. وقَدْ عُرِفَ السُّجُودُ مُنْذُ أقْدَمِ عُصُورِ التّارِيخِ فَقَدْ وُجِدَ عَلى الآثارِ الكِلْدانِيَّةِ مُنْذُ القَرْنِ التّاسِعَ عَشَرَ قَبْلَ المَسِيحِ صُورَةُ حَمُورابِي مَلِكِ كِلْدِيَةَ راكِعًا أمامَ الشَّمْسِ. ووُجِدَتْ عَلى الآثارِ المِصْرِيَّةِ صُوَرُ أسْرى الحَرْبِ سُجَّدًا لِفِرْعَوْنَ وهَيْآتُ السُّجُودِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ العَوائِدِ. وهَيْئَةُ سُجُودِ الصَّلاةِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلافِ الأدْيانِ. والسُّجُودُ في صَلاةِ الإسْلامِ الخُرُورُ عَلى الأرْضِ بِالجَبْهَةِ واليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ. وتَعْدِيَةُ اسْجُدُوا لِاسْمِ آدَمَ بِاللّامِ دالٌّ عَلى أنَّهم كُلِّفُوا بِالسُّجُودِ لِذاتِهِ وهو أصْلُ دَلالَةِ لامِ التَّعْلِيلِ إذا عُلِّقَ بِمادَّةِ السُّجُودِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فاسْجُدُوا لِلَّهِ واعْبُدُوا﴾ [النجم: ٦٢] وقَوْلِهِ ﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ ولا لِلْقَمَرِ﴾ [فصلت: ٣٧] ولا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أنَّ السُّجُودَ في الإسْلامِ لِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ لِأنَّ هَذا شَرْعٌ جَدِيدٌ نَسَخَ ما كانَ في الشَّرائِعِ الأُخْرى، ولِأنَّ سُجُودَ المَلائِكَةِ مِن عَمَلِ العالَمِ الأعْلى ولَيْسَ ذَلِكَ بِداخِلٍ تَحْتَ تَكالِيفِ أهْلِ الأرْضِ فَلا طائِلَ تَحْتَ إطالَةِ البَحْثِ في أنَّ آدَمَ مَسْجُودٌ لَهُ أوْ هو قِبْلَةٌ لِلسّاجِدِينَ كالكَعْبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، ولا حاجَةَ إلى التَّكَلُّفِ بِجَعْلِ اللّامِ بِمَعْنى إلى مِثْلَها في قَوْلِ حَسّانَ: ؎ألَيْسَ أوَّلَ مَن صَلّى لِقِبْلَتِكم ∗∗∗ فَإنَّ لِلضَّرُورَةِ أحْكامًا . لا يُناسِبُ أنْ يُقاسَ بِها أحْسَنُ الكَلامِ نِظامًا. وفي هَذِهِ الآيَةِ مَنزَعٌ بَدِيعٌ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ العِلْمِ وجَدارَةِ العُلَماءِ بِالتَّعْظِيمِ والتَّبْجِيلِ لِأنَّ اللَّهَ لَمّا عَلَّمَ آدَمَ عِلْمًا لَمْ يُؤَهِّلْ لَهُ المَلائِكَةَ كانَ قَدْ جَعَلَ آدَمَ أُنْمُوذَجًا لِلْمُبْدَعاتِ والمُخْتَرَعاتِ والعُلُومِ الَّتِي ظَهَرَتْ في البَشَرِ مِن بَعْدُ والَّتِي سَتَظْهَرُ إلى فَناءِ هَذا العالَمِ. (p-٤٢٣)وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ في أشْهَرِ الرِّوايَةِ عَنْهُ (لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا) بِضَمَّةٍ عَلى التّاءِ في حالِ الوَصْلِ عَلى إتْباعِ حَرَكَةِ التّاءِ لِضَمَّةِ الجِيمِ في اسْجُدُوا لِعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِالسّاكِنِ الفاصِلِ بَيْنَ الحَرْفَيْنِ لِأنَّهُ حاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ، وقِراءَتُهُ هَذِهِ رِوايَةٌ وهي جَرَتْ عَلى لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ في مِثْلِ هَذا فَلِذَلِكَ قالَ الزَّجّاجُ والفارِسِيُّ: هَذا خَطَأٌ مِن أبِي جَعْفَرٍ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لا يَجُوزُ اسْتِهْلاكُ الحَرَكَةِ الإعْرابِيَّةِ بِحَرَكَةِ الإتْباعِ إلّا في لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ كَقِراءَةِ الحَسَنِ ”الحَمْدِ لِلَّهِ“ بِكَسْرِ الدّالِّ قالَ ابْنُ جِنِّي: وإنَّما يَجُوزُ هَذا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أبُو جَعْفَرٍ إذا كانَ ما قَبْلَ الهَمْزَةِ ساكِنًا صَحِيحًا نَحْوَ ﴿وقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾ [يوسف: ٣١] في سُورَةِ يُوسُفَ اهـ. وإنَّما حَمَلُوا عَلَيْهِ هَذِهِ الحَمْلَةَ لِأنَّ قِراءَتَهُ مَعْدُودَةٌ في القِراءاتِ المُتَواتِرَةِ فَما كانَ يَحْسُنُ فِيها مِثْلُ هَذا الشُّذُوذِ وإنْ كانَ شُذُوذًا في وُجُوهِ الأداءِ لا يُخالِفُ رَسْمَ المُصْحَفِ. وعَطْفُ (فَسَجَدُوا) بِفاءِ التَّعْقِيبِ يُشِيرُ إلى مُبادَرَةِ المَلائِكَةِ بِالِامْتِثالِ ولَمْ يَصُدَّهم ما كانَ في نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّخَوُّفِ مِن أنْ يَكُونَ هَذا المَخْلُوقُ مَظْهَرَ فَسادٍ وسَفْكِ دِماءٍ لِأنَّهم مُنَزَّهُونَ عَنِ المَعاصِي. واسْتِثْناءُ إبْلِيسَ مِن ضَمِيرِ المَلائِكَةِ في ”فَسَجَدُوا“ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ لِأنَّ إبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِن جِنْسِ المَلائِكَةِ قالَ تَعالى في سُورَةِ الكَهْفِ ﴿إلّا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنِّ﴾ [الكهف: ٥٠] ولَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَ أحْوالَهُ كَأحْوالِ النُّفُوسِ المَلَكِيَّةِ بِتَوْفِيقٍ غَلَبَ عَلى جِبِلَّتِهِ لِتَتَأتّى مُعاشَرَتُهُ بِهِمْ وسَيْرُهُ عَلى سِيرَتِهِمْ فَساغَ اسْتِثْناءُ حالِهِ مِن أحْوالِهِمْ في مَظِنَّةِ أنْ يَكُونَ مُماثِلًا لِمَن هو فِيهِمْ. وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ إبْلِيسَ كانَ مَقْصُودًا في الخَبَرِ الَّذِي أُخْبِرَ بِهِ المَلائِكَةُ إذْ قالَ لِلْمَلائِكَةِ ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] وفي الأمْرِ الَّذِي أمَرَ بِهِ المَلائِكَةَ إذْ قالَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِآدَمَ ذَلِكَ أنَّ جِنْسَ المُجَرَّداتِ كانَ في ذَلِكَ العالَمِ مَغْمُورًا بِنَوْعِ المَلَكِ إذْ خَلَقَ اللَّهُ مِن نَوْعِهِمْ أفْرادًا كَثِيرَةً كَما دَلَّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الجَمْعِ في قَوْلِهِ ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ﴾ [البقرة: ٣٠] ولَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ مِن نَوْعِ الجِنِّ إلّا أصْلَهم وهو إبْلِيسُ. وخَلَقَ مِن نَوْعِ الإنْسانِ أصْلَهم وهو آدَمُ. وقَدْ أقامَ اللَّهُ إبْلِيسَ بَيْنَ المَلائِكَةِ إقامَةَ ارْتِياضٍ وتَخَلُّقٍ وسَخَّرَهُ لِاتِّباعِ سُنَّتِهِمْ فَجَرى عَلى ذَلِكَ السَّنَنِ أمَدًا طَوِيلًا لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ ثُمَّ ظَهَرَ ما في نَوْعِهِ مِنَ الخَبَثِ كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى (﴿فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ٥٠]) في سُورَةِ الكَهْفِ فَعَصى رَبَّهُ حِينَ أمَرَهْ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ. (p-٤٢٤)وإبْلِيسُ اسْمُ الشَّيْطانِ الأوَّلِ الَّذِي هو مُوَلِّدُ الشَّياطِينِ، فَكانَ إبْلِيسُ لِنَوْعِ الشَّياطِينِ والجِنِّ بِمَنزِلَةِ آدَمَ لِنَوْعِ الإنْسانِ. وإبْلِيسُ اسْمٌ مُعَرَّبٌ مِن لُغَةٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ لَمْ يُعَيِّنْها أهْلُ اللُّغَةِ، ولَكِنْ يَدُلُّ لِكَوْنِهِ مُعَرَّبًا أنَّ العَرَبَ مَنَعُوهُ مِنَ الصَّرْفِ ولا سَبَبَ فِيهِ سِوى العَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ ولِهَذا جَعَلَ الزَّجّاجُ هَمْزَتَهُ أصْلِيَّةً، وقالَ: وزْنُهُ عَلى فِعْلِيلَ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ هو اسْمٌ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنَ الإبْلاسِ وهو البُعْدُ مِنَ الخَيْرِ واليَأْسُ مِنَ الرَّحْمَةِ وهَذا اشْتِقاقٌ حَسَنٌ لَوْلا أنَّهُ يُناكِدُ مَنعَهُ مِنَ الصَّرْفِ، وجَعَلُوا وزْنَهُ إفْعِيلَ لِأنَّ هَمْزَتَهُ مَزِيدَةٌ وقَدِ اعْتُذِرَ عَنْ مَنعِهِ مِنَ الصَّرْفِ بِأنَّهُ لَمّا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ في الأسْماءِ العَرَبِيَّةِ عُدَّ بِمَنزِلَةِ الأعْجَمِيِّ وهو اعْتِذارٌ رَكِيكٌ. وأكْثَرُ الَّذِينَ أحْصَوُا الكَلِماتِ المُعَرَّبَةَ في القُرْآنِ لَمْ يَعُدُّوا مِنها اسْمَ إبْلِيسَ لِأنَّهم لَمْ يَتَبَيَّنُوا ذَلِكَ، ولِصَلاحِيَةِ الِاسْمِ لِمادَّةٍ عَرَبِيَّةٍ ومُناسَبَتِهِ لَها. وجُمَلُ ﴿أبى واسْتَكْبَرَ وكانَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ مُشِيرٌ إلى أنَّ مُخالَفَةَ حالِهِ لِحالِ المَلائِكَةِ في السُّجُودِ لِآدَمَ، شَأْنُهُ أنْ يُثِيرَ سُؤالًا في نَفْسِ السّامِعِ كَيْفَ لَمْ يَفْعَلْ إبْلِيسُ ما أُمِرَ بِهِ وكَيْفَ خالَفَ حالَ جَماعَتِهِ، وما سَبَبُ ذَلِكَ لِأنَّ مُخالَفَتَهُ لِحالَةِ مَعْشَرِهِ مُخالَفَةٌ عَجِيبَةٌ إذِ الشَّأْنُ المُوافَقَةُ بَيْنَ الجَماعاتِ كَما قالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ. ؎وهَلْ أنا إلّا مِن غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ ∗∗∗ غَوَيْتُ وإنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أرْشَدِ فَبَيَّنَ السَّبَبَ بِأنَّهُ أبى واسْتَكْبَرَ وكَفَرَ بِاللَّهِ. والإباءُ الِامْتِناعُ مِن فِعْلٍ أوْ تَلَقِّيهِ. والِاسْتِكْبارُ شِدَّةُ الكِبْرِ والسِّينُ والتّاءُ فِيهِ لِلْعَدِّ أيْ عَدَّ نَفْسَهُ كَبِيرًا مِثْلَ: اسْتَعْظَمَ واسْتَعْذَبَ الشَّرابَ، أوْ يَكُونُ السِّينُ والتّاءُ لِلْمُبالَغَةِ مِثْلَ: اسْتَجابَ واسْتَقَرَّ، فَمَعْنى اسْتَكْبَرَ اتَّصَفَ بِالكِبْرِ. والمَعْنى أنَّهُ اسْتَكْبَرَ عَلى اللَّهِ بِإنْكارِ أنْ يَكُونَ آدَمُ مُسْتَحِقًّا لِأنْ يَسْجُدَ هو لَهُ إنْكارًا عَنْ تَصْمِيمٍ لا عَنْ مُراجَعَةٍ أوِ اسْتِشارَةٍ كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ آياتٌ أُخْرى مِثْلُ قَوْلِهِ ﴿قالَ أنا خَيْرٌ مِنهُ خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢] وبِهَذا الِاعْتِبارِ خالَفَ فِعْلُ إبْلِيسَ قَوْلَ المَلائِكَةِ حِينَ ﴿قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ﴾ [البقرة: ٣٠] لِأنَّ ذَلِكَ كانَ عَلى وجْهِ التَّوَقُّفِ في الحِكْمَةِ ولِذَلِكَ قالُوا ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] فَإبْلِيسُ بِإبائِهِ انْتَقَضَتِ الجِبِلَّةُ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْها أوَّلَ مَرَّةٍ، فاسْتَحالَتْ إلى جِبِلَّةٍ أُخْرى عَلى نَحْوِ ما يَعْرِضُ مِن تَطَوُّرٍ لِلْعاقِلِ حِينَ يَخْتَلُّ عَقْلُهُ. ولِلْقادِرِ حِينَ تُشَلُّ بَعْضُ أعْضائِهِ. ومِنَ العِلَلِ عِلَلٌ جُسْمانِيَّةٌ ومِنها عِلَلٌ رُوحانِيَّةٌ كَما قالَ: (p-٤٢٥)فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ∗∗∗ ورِجْلٍ رَمى فِيها الزَّمانُ فَشَلَّتِوالِاسْتِكْبارُ التَّزايُدُ في الكِبْرِ لِأنَّ السِّينَ والتّاءَ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ لا لِلطَّلَبِ كَما عَلِمْتَ، ومِن لَطائِفِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ أنَّ مادَّةَ الِاتِّصافِ بِالكِبْرِ لَمْ تَجِئْ مِنها إلّا بِصِيغَةِ الِاسْتِفْعالِ أوِ التَّفَعُّلِ إشارَةً إلى أنَّ صاحِبَ صِفَةِ الكِبْرِ لا يَكُونُ إلّا مُتَطَلِّبًا الكِبْرَ أوْ مُتَكَلِّفًا لَهُ، وما هو بِكَبِيرٍ حَقًّا ويَحْسُنُ هُنا أنْ نَذْكُرَ قَوْلَ أبِي العَلاءِ: عَلَوْتُمُ فَتَواضَعْتُمْ عَلى ثِقَةٍ ∗∗∗ لَمّا تَواضَعَ أقْوامٌ عَلى غَرَرِوَحَقِيقَةُ الكِبْرِ قالَ فِيها حُجَّةُ الإسْلامِ في كِتابِ الإحْياءِ: الكِبْرُ خُلُقٌ في النَّفْسِ وهو الِاسْتِرْواحُ والرُّكُونُ إلى اعْتِقادِ المَرْءِ نَفْسَهُ فَوْقَ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ، فَإنَّ الكِبْرَ يَسْتَدْعِي مُتَكَبَّرًا عَلَيْهِ ومُتَكَبَّرًا بِهِ وبِذَلِكَ يَنْفَصِلُ الكِبْرُ عَنِ العُجْبِ فَإنَّ العُجْبَ لا يَسْتَدْعِي غَيْرَ المُعْجَبِ ولا يَكْفِي أنْ يَسْتَعْظِمَ المَرْءُ نَفْسَهُ لِيَكُونَ مُتَكَبِّرًا فَإنَّهُ قَدْ يَسْتَعْظِمُ نَفْسَهُ ولَكِنَّهُ يَرى غَيْرَهُ أعْظَمَ مِن نَفْسِهِ أوْ مُماثِلًا لَها فَلا يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ، ولا يَكْفِي أنْ يَسْتَحْقِرَ غَيْرَهُ فَإنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَوْ رَأى نَفْسَهُ أحْقَرَ لَمْ يَتَكَبَّرْ، ولَوْ رَأى غَيْرَهُ مِثْلَ نَفْسِهِ لَمْ يَتَكَبَّرْ بَلْ أنْ يَرى لِنَفْسِهِ مَرْتَبَةً ولِغَيْرِهِ مَرْتَبَةً ثُمَّ يَرى مَرْتَبَةَ نَفْسِهِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ غَيْرِهِ، فَعِنْدَ هَذِهِ الِاعْتِقاداتِ الثَّلاثَةِ يَحْصُلُ خُلُقُ الكِبْرِ وهَذِهِ العَقِيدَةُ تَنْفُخُ فِيهِ فَيَحْصُلُ في نَفْسِهِ اعْتِدادٌ وعِزَّةٌ وفَرَحٌ ورُكُونٌ إلى ما اعْتَقَدَ، وعَزَّ في نَفْسِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَتِلْكَ العِزَّةُ والهِزَّةُ والرُّكُونُ إلى تِلْكَ العَقِيدَةِ هو خُلُقُ الكِبْرِ. وقَدْ كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ ونَظائِرُها مَثارَ اخْتِلافٍ بَيْنَ عُلَماءِ أُصُولِ الفِقْهِ فِيما تَقْتَضِيهِ دَلالَةُ الِاسْتِثْناءِ مِن حُكْمٍ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَثْنى فَقالَ الجُمْهُورُ: الِاسْتِثْناءُ يَقْتَضِي اتِّصافَ المُسْتَثْنى بِنَقِيضِ ما حَكَمَ بِهِ المُسْتَثْنى مِنهُ فَلِذَلِكَ كَثُرَ الِاكْتِفاءُ بِالِاسْتِثْناءِ دُونَ أنْ يُتْبَعَ بِذَكَرِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ لِلْمُسْتَثْنى سَواءً كانَ الكَلامُ مُثْبَتًا أوْ مَنفِيًّا. ويَظْهَرُ ذَلِكَ جَلِيًّا في كَلِمَةِ الشَّهادَةِ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ فَإنَّهُ لَوْلا إفادَةُ الِاسْتِثْناءِ أنَّ المُسْتَثْنى يَثْبُتُ لَهُ نَقِيضُ ما حَكَمَ بِهِ لِلْمُسْتَثْنى مِنهُ لَكانَتْ كَلِمَةُ الشَّهادَةِ غَيْرَ مُفِيدَةٍ سِوى نَفْيِ الإلَهِيَّةِ عَمّا عَدا اللَّهَ فَتَكُونُ إفادَتُها الوَحْدانِيَّةَ لِلَّهِ بِالِالتِزامِ وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: الِاسْتِثْناءُ مِن كَلامٍ مَنفِيٍّ يُثْبِتُ لِلْمُسْتَثْنى نَقِيضَ ما حَكَمَ بِهِ لِلْمُسْتَثْنى مِنهُ، والِاسْتِثْناءُ مِن كَلامٍ مُثْبَتٍ لا يُفِيدُ إلّا أنَّ المُسْتَثْنى يَثْبُتُ لَهُ نَقِيضُ الحُكْمِ لا نَقِيضُ المَحْكُومِ بِهِ، فالمُسْتَثْنى بِمَنزِلَةِ المَسْكُوتِ عَنْ وصْفِهِ، (p-٤٢٦)فَعِنْدَ الجُمْهُورِ المُسْتَثْنى مُخْرَجٌ مِنَ الوَصْفِ المَحْكُومِ بِهِ لِلْمُسْتَثْنى مِنهُ، وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ المُسْتَثْنى مُخْرَجٌ مِنَ الحُكْمِ عَلَيْهِ فَهو كالمَسْكُوتِ عَنْهُ. وسَوّى المُتَأخِّرُونَ مِنَ الحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الِاسْتِثْناءِ مِن كَلامٍ مَنفِيٍّ والِاسْتِثْناءِ مِن كَلامٍ مُثْبَتٍ في أنَّ كِلَيْهِما لا يُفِيدُ المُسْتَثْنى الِاتِّصافَ بِنَقِيضِ المَحْكُومِ بِهِ لِلْمُسْتَثْنى مِنهُ، وهَذا رَأْيٌ ضَعِيفٌ لا تُساعِدُهُ اللُّغَةُ ولا مَوارِدُ اسْتِعْمالِهِ في الشَّرِيعَةِ. فَعَلى رَأْيِ الجُمْهُورِ تَكُونُ جُمْلَةُ أبى واسْتَكْبَرَ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا، وعَلى رَأْيِ الحَنَفِيَّةِ تَكُونُ بَيانًا لِلْإجْمالِ الَّذِي اقْتَضاهُ الِاسْتِثْناءُ ولا تَنْهَضُ مِنها حُجَّةٌ تَقْطَعُ الجِدالَ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ. وجُمْلَةُ (وكانَ مِنَ الكافِرِينَ) مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمَلِ المُسْتَأْنَفَةِ، و(كانَ) لا تُفِيدُ إلّا أنَّهُ اتَّصَفَ بِالكُفْرِ في زَمَنٍ مَضى قَبْلَ زَمَنِ نُزُولِ الآيَةِ، ولَيْسَ المَعْنى أنَّهُ اتَّصَفَ بِهِ قَبْلَ امْتِناعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، وقَدْ تَحَيَّرَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ في بَيانِ مَعْنى الآيَةِ مِن جِهَةِ حَمْلِهِمْ فِعْلَ كانَ عَلى الدِّلالَةِ عَلى الِاتِّصافِ بِالكُفْرِ فِيما مَضى عَنْ وقْتِ الِامْتِناعِ مِنَ السُّجُودِ، ومِنَ البَدِيهِيِّ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ فَرِيقٌ يُوصَفُ بِالكافِرِينَ فاحْتاجُوا أنْ يَتَمَحَّلُوا بِأنَّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الكافِرِينَ أيْ في عِلْمِ اللَّهِ، وتَمَحَّلَ بَعْضُهم بِأنَّ إبْلِيسَ كانَ مُظْهِرًا الطّاعَةَ مُبْطِنًا الكُفْرَ نِفاقًا، واللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلى باطِنِهِ ولَكِنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ المَلائِكَةَ وجَعَلُوا هَذا الِاطِّلاعَ عَلَيْهِ مِمّا أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنِّيَ أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠] وكُلُّ ذَلِكَ تَمَحُّلٌ لا داعِيَ إلَيْهِ لِما عَلِمْتَ مِن أنَّ فِعْلَ المُضِيِّ يُفِيدُ مُضِيَّ الفِعْلِ قَبْلَ وقْتِ التَّكَلُّمِ، وأمْثَلُهم طَرِيقَةً الَّذِينَ جَعَلُوا (كانَ) بِمَعْنى صارَ فَإنَّهُ اسْتِعْمالٌ مِنِ اسْتِعْمالِ فِعْلِ ”كانَ“، قالَ تَعالى ﴿وحالَ بَيْنَهُما المَوْجُ فَكانَ مِنَ المُغْرَقِينَ﴾ [هود: ٤٣] وقالَ ﴿وبُسَّتِ الجِبالُ بَسًّا﴾ [الواقعة: ٥] ﴿فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا﴾ [الواقعة: ٦] وقَوْلُ ابْنِ أحْمَرَ: بِتَيْهاءَ قَفْرِ والمَطِيُّ كَأنَّها ∗∗∗ قَطا الحَزْنِ قَدْ كانَتْ فِراخًا بُيُوضُهاأيْ صارَ كافِرًا بِعَدَمِ السُّجُودِ لِأنَّ امْتِناعَهُ نَشَأ عَنِ اسْتِكْبارِهِ عَلى اللَّهِ واعْتِقادِ أنَّ ما أُمِرَ بِهِ غَيْرُ جارٍ عَلى حَقِّ الحِكْمَةِ وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ الِانْقِلابَ الَّذِي عَرَضَ لِإبْلِيسَ في جِبِلَّتِهِ كانَ انْقِلابَ اسْتِخْفافٍ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعالى فَلِذَلِكَ صارَ بِهِ كافِرًا صَراحًا. والَّذِي أراهُ أحْسَنَ الوُجُوهِ في مَعْنى وكانَ مِنَ الكافِرِينَ أنَّ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يَقُولَ وكَفَرَ كَما قالَ أبى واسْتَكْبَرَ فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضى الظّاهِرِ إلى (وكانَ مِنَ الكافِرِينَ) لِدَلالَةِ كانَ (p-٤٢٧)فِي مِثْلِ هَذا الِاسْتِعْمالِ عَلى رُسُوخِ مَعْنى الخَبَرِ في اسْمِها، والمَعْنى أبى واسْتَكْبَرَ وكَفَرَ كُفْرًا عَمِيقًا في نَفْسِهِ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَأنْجَيْناهُ وأهْلَهُ إلّا امْرَأتَهُ كانَتْ مِنَ الغابِرِينَ﴾ [الأعراف: ٨٣] وكَقَوْلِهِ تَعالى ﴿نَنْظُرْ أتَهْتَدِي أمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ﴾ [النمل: ٤١] دُونَ أنْ يَقُولَ أنْ لا تَهْتَدِيَ لِأنَّها إذا رَأتْ آيَةَ تَنْكِيرِ عَرْشِها ولَمْ تَهْتَدِ كانَتْ راسِخَةً في الِاتِّصافِ بِعَدَمِ الِاهْتِداءِ، وأمّا الإتْيانُ بِخَبَرِ كانَ (مِنَ الكافِرِينَ) دُونَ أنْ يَقُولَ وكانَ كافِرًا فَلِأنَّ إثْباتَ الوَصْفِ لِمَوْصُوفٍ بِعُنْوانِ كَوْنِ المَوْصُوفِ واحِدًا مِن جَماعَةٍ يَثْبِتُ لَهم ذَلِكَ الوَصْفُ، أدَلُّ عَلى شِدَّةِ تَمَكُّنِ الوَصْفِ مِنهُ مِمّا لَوْ أثْبَتَ لَهُ الوَصْفَ وحْدَهُ بِناءً عَلى أنَّ الواحِدَ يَزْدادُ تَمَسُّكًا بِفِعْلِهِ إذا كانَ قَدْ شارَكَهُ فِيهِ جَماعَةٌ؛ لِأنَّهُ بِمِقْدارِ ما يَرى مِن كَثْرَةِ المُتَلَبِّسِينَ بِمِثْلِ فِعْلِهِ تَبْعُدُ نَفْسُهُ عَنِ التَّرَدُّدِ في سَدادِ عَمَلِها، وعَلَيْهِ جاءَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿أصَدَقْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ [النمل: ٢٧] وقَوْلُهُ الَّذِي ذَكَرْناهُ آنِفًا ﴿أمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ﴾ [النمل: ٤١] وهو دَلِيلٌ كَنائِيٌّ واسْتِعْمالٌ بَلاغِيٌّ جَرى عَلَيْهِ نَظْمُ الآيَةِ وإنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ جَمْعٌ مِنَ الكافِرِينَ بَلْ كانَ إبْلِيسُ وحِيدًا في الكُفْرِ. وهَذا مَنزَعٌ انْتَزَعْتُهُ مِن تَتَبُّعِ مَوارِدِ مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ في هاتَيْنِ الخُصُوصِيَّتَيْنِ؛ خُصُوصِيَّةِ زِيادَةِ كانَ وخُصُوصِيَّةِ إثْباتِ الوَصْفِ لِمَوْصُوفٍ بِعُنْوانِ أنَّهُ واحِدٌ مِن جَماعَةٍ مَوْصُوفِينَ بِهِ، وسَيَجِيءُ ذَلِكَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٣] وإذْ لَمْ يَكُنْ في زَمَنِ امْتِناعِ إبْلِيسَ مِنَ السُّجُودِ جَمْعٌ مِنَ الكافِرِينَ كانَ قَوْلُهُ (وكانَ مِنَ الكافِرِينَ) جارِيًا عَلى المُتَعارَفِ في أمْثالِ هَذا الإخْبارِ الكِنائِيِّ. وفِي هَذا العُدُولِ عَنْ مُقْتَضى الظّاهِرِ مُراعاةٌ لِما تَقْتَضِيهِ حُرُوفُ الفاصِلَةِ أيْضًا، وقَدْ رُتِّبَتِ الأخْبارُ الثَّلاثَةُ في الذِّكْرِ عَلى حَسَبِ تَرْتِيبِ مَفْهُوماتِها في الوُجُودِ، وذَلِكَ هو الأصْلُ في الإنْشاءِ أنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ الكَلامِ مُطابِقًا لِتَرْتِيبِ مَدْلُولاتِ جُمَلِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وضاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وقالَ هَذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ [هود: ٧٧] وقَدْ أشَرْتُ إلى ذَلِكَ في كِتابِي أُصُولِ الإنْشاءِ والخَطابَةِ.


ركن الترجمة

Remember, when We asked the angels to bow in homage to Adam, they all bowed but Iblis, who disdained and turned insolent, and so became a disbeliever.

Et lorsque Nous demandâmes aux Anges de se prosterner devant Adam, ils se prosternèrent à l'exception d'Iblis qui refusa, s'enfla d'orgueil et fut parmi les infidèles.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :