ركن التفسير
44 - (أتأمرون الناس بالبر) بالإيمان بمحمد (وتنسون أنفسكم) تتركونها فلا تأمرونها به (وأنتم تتلون الكتاب) التوراة وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل (أفلا تعقلون) سوءَ فعلِكم فترجعون ، فجملة النسيان محل الاستفهام الإنكاري
يقول تعالى كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بما تأمرون الناس به وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم فتنتبهوا من رقدتكم وتتبصروا من عمايتكم. وهذا كما قال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" قال كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون فعيرهم الله عز وجل وكذلك قال السدي وقال ابن جريج "أتأمرون الناس بالبر" أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ويدعون العمل بما يأمرون به الناس فعيرهم الله بذلك فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة. وقال محمد بن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وتنسون أنفسكم" أى تتركون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي وتنقضون ميثاقي وتجحدون ما تعلمون من كتابي وقال الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية يقول أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم وقال أبو جعفر بن جرير حدثني علي بن الحسن حدثنا أسلم الحرمي حدثنا مخلد بن الحسين عن أيوب السختياني عن أبي قلابة في قول الله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب" قال أبو الدرداء رضي الله عنه لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق فقال الله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له بل على تركهم له فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السلام "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي ينهى غيره عنها وهذا ضعيف وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية فإنه لا حجة لهم فيها والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله وينهى عن المنكر وإن ارتكبه قال مالك عن ربيعة سمعت سعيد بن جبير يقول لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء؟ "قلت" لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي العمري قالا حدثنا هشام بن عمار حدثنا علي بن سليمان الكلبي حدثنا الأعمش عن أبي تميمة الهجيمي عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه" هذا حديث غريب من هذا الوجه. حديث آخر. قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا وكيع حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد هو ابن جدعان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار- قال قلت من هؤلاء؟ قالوا خطباء أمتك من أهل الدنيا من كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون" ورواه عبد بن حميد في مسنده وتفسيره عن الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة به ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث يونس بن محمد المؤدب والحجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة به وكذا رواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة به ثم قال ابن مردويه حدثنا محمد بن عبدالله بن إبراهيم حدثنا موسى بن هارون حدثنا.إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا عمر بن قيس عن علي بن زيد عن ثمامة عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم" وأخرجه ابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم وابن مردويه أيضا من حديث هشام الدستوائي عن المغيرة يعني ابن حبيب ختن مالك بن دينار عن مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس بن مالك قال لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم تقرض شفاههم فقال "يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم أفلا يعقلون" حديث آخر. قال الإمام أحمد حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال: قيل لأسامة وأنا رديفه ألا تكلم عثمان. فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه ألا أسمعكم إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه والله لا أقول لرجل إنك خير الناس وإن كان علي أميرا بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - قالوا وما سمعته - يقول؟ قال: سمعته يقول "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان ما أصابك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه" ورواه البخاري ومسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به نحوه وقال: أحمد حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء" وقد ورد في بعض الآثار: إنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب" وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن أناسا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون بم دخلتم النار؟ فو الله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم فيقولون إنا كنا نقول ولا نفعل" ورواه ابن جرير الطبري عن أحمد بن يحيى الخباز الرملي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الزهري عبدالله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره وقال: الضحاك عن ابن عباس إنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال أبلغت ذلك؟ قال أرجو قال إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل قال وما هن؟ قال قوله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" أحكمت هذه؟ قال لا قال فالحرف الثاني قال قوله تعالى "لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" أحكمت هذه؟ قال لا قال فالحرف الثالث قال قول العبد الصالح شعيب عليه السلام "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح" أحكمت هذه الآية؟ قال لا قال فابدأ بنفسك. رواه ابن مردويه في تفسيره وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا زيد بن الحارث حدثنا عبدالله بن خراش عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه" إسناده فيه ضعف وقال إبراهيم النخعي إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" وقوله "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" وقوله إخبارا عن شعيب "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".
(p-٤٧٤)﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكم وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ قَوْلِهِ ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] وقَوْلِهِ ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ [البقرة: ٤٥] ووَجْهُ المُناسَبَةِ في وُقُوعِهِ هُنا أنَّهُ لَمّا أمَرَهم بِفِعْلِ شَعائِرِ الإسْلامِ مِن إقامَةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وذَيَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٣] لِيُشِيرَ إلى صَلاتِهِمُ الَّتِي يَفْعَلُونَها، أصْبَحَتْ لا تُغْنِي عَنْهم، ناسَبَ أنْ يُزادَ لِذَلِكَ أنَّ ما يَأْمُرُ بِهِ دِينُهم مِنَ البِرِّ لَيْسُوا قائِمِينَ بِهِ عَلى ما يَنْبَغِي، فَجِيءَ بِهَذا الِاعْتِراضِ، ولِلتَّنْبِيهِ عَلى كَوْنِهِ اعْتِراضًا لَمْ يُقْرَنْ بِالواوِ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ المَقْصُودَ الأصْلِيَّ التَّحْرِيضُ عَلى الأمْرِ بِالبِرِّ وعَلى مُلازَمَتِهِ، والغَرَضُ مِن هَذا هو النِّداءُ عَلى كَمالِ خَسارِهِمْ ومَبْلَغِ سُوءِ حالِهِمُ الَّذِي صارُوا إلَيْهِ حَتّى صارُوا يَقُومُونَ بِالوَعْظِ والتَّعْلِيمِ كَما يَقُومُ الصّانِعُ بِصِناعَتِهِ والتّاجِرُ بِتِجارَتِهِ لا يَقْصِدُونَ إلّا إيفاءَ وظائِفِهِمُ الدِّينِيَّةِ حَقَّها لِيَسْتَحِقُّوا بِذَلِكَ ما يُعَوَّضُونَ عَلَيْهِ مِن مَراتِبَ ورَواتِبَ فَهم لا يَنْظُرُونَ إلى حالِ أنْفُسِهِمْ تُجاهَ تِلْكَ الأوامِرِ الَّتِي يَأْمُرُونَ بِها النّاسَ. والمُخاطَبُ بِقَوْلِهِ أتَأْمُرُونَ جَمِيعُ بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ خُوطِبُوا مِن قَبْلُ فَيَقْتَضِي أنَّ هَذِهِ الحالَةَ ثابِتَةٌ لِجَمِيعِهِمْ أيْ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهم تَجِدُهُ يُصَرِّحُ بِأوامِرِ دِينِهِمْ ويُشِيعُها بَيْنَ النّاسِ ولا يَمْتَثِلُها هو في نَفْسِهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَقْصُودُ بِهَذا الخِطابِ فَرِيقًا مِنهم فَإنَّ الخِطابَ المُوَجَّهَ لِلْجَماعاتِ والقَبائِلِ يَأْخُذُ كُلُّ فَرِيقٍ ما هو حَظُّهُ مِن ذَلِكَ الخِطابِ، فَيَكُونُ المَقْصُودُ أحْبارَهم وعُلَماءَهم وهم أخَصُّ بِالأمْرِ بِالبِرِّ، فَعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ يَكُونُ المُرادُ بِالنّاسِ إمّا المُشْرِكِينَ مِنَ العَرَبِ فَإنَّ اليَهُودَ كانُوا يَذْكُرُونَ لَهم ما جاءَ بِهِ دِينُهم والعَرَبُ كانُوا يَحْلِفُونَ بِسَماعِ أقْوالِهِمْ كَما قالَ تَعالى ﴿وكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٨٩] وإمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ النّاسِ مَن عَدَّ الأمْرَ كَما تَقُولُ أفْعَلُ كَما يَفْعَلُ النّاسُ وكَقَوْلِهِ ﴿إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣] أيْ أيَأْمُرُ الواحِدُ غَيْرَهُ ويَنْسى نَفْسَهُ، وعَلى الوَجْهِ الثّانِي يَكُونُ المُرادُ بِالنّاسِ العامَّةَ مِن أُمَّةِ اليَهُودِ أيْ كَيْفَ تَأْمُرُونَ أتْباعَكم وعامَّتَكم بِالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكم ؟ فَفِيهِ تَنْدِيدٌ بِحالِ أحْبارِهِمْ أوْ تَعْرِيضٌ بِأنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّ ما جاءَ بِهِ رَسُولُ الإسْلامِ هو الحَقُّ فَهم يَأْمُرُونَ أتْباعَهم بِالمَواعِظِ ولا يَطْلُبُونَ نَجاةَ أنْفُسِهِمْ. والِاسْتِفْهامُ هُنا لِلتَّوْبِيخِ لِعَدَمِ اسْتِقامَةِ الحَمْلِ عَلى الِاسْتِفْهامِ الحَقِيقِيِّ فاسْتُعْمِلَ في التَّوْبِيخِ (p-٤٧٥)مَجازًا بِقَرِينَةِ المَقامِ وهو مَجازٌ مُرْسَلٌ لِأنَّ التَّوْبِيخَ يُلازِمُ الِاسْتِفْهامَ لِأنَّ مَن يَأْتِي ما يَسْتَحِقُّ التَّوْبِيخَ عَلَيْهِ مِن شَأْنِهِ أنْ يَتَساءَلَ النّاسُ عَنْ ثُبُوتِ الفِعْلِ لَهُ ويَتَوَجَّهُونَ إلَيْهِ بِالسُّؤالِ فَيَنْتَقِلُ مِنَ السُّؤالِ إلى التَّوْبِيخِ ويَتَوَلَّدُ مِنهُ مَعْنى التَّعْجِيبِ مِن حالِ المُوَبَّخِ وذَلِكَ لِأنَّ الحالَةَ الَّتِي وُبِّخُوا عَلَيْها حالَةٌ عَجِيبَةٌ لِما فِيها مِن إرادَةِ الخَيْرِ لِلْغَيْرِ وإهْمالِ النَّفْسِ مِنهُ. فَحَقِيقٌ بِكُلِّ سامِعٍ أنْ يَعْجَبَ مِنها، ولَيْسَ التَّعَجُّبُ بِلازِمٍ لِمَعْنى التَّوْبِيخِ في كُلِّ مَوْضِعٍ بَلْ في نَحْوِ هَذا مِمّا كانَ فِيهِ المُوَبَّخُ عَلَيْهِ غَرِيبًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ مِنَ العُقَلاءِ فَإذا اسْتُعْمِلَ الِاسْتِفْهامُ في لازِمٍ واحِدٍ فَكَوْنُهُ مَجازًا مُرْسَلًا ظاهِرًا، وإذا اسْتُعْمِلَ في لازِمَيْنِ يَتَوَلَّدُ أحَدُهُما مِنَ الآخَرِ أوْ مُتَقارِبَيْنِ فَهو أيْضًا مَجازٌ مُرْسَلٌ واحِدٌ لِأنَّ تَعَدُّدَ اللَّوازِمِ لا يُوجِبُ تَعَدُّدَ العَلاقَةِ ولا تَكَرُّرَ الِاسْتِعْمالِ لِأنَّ المَعانِيَ المَجازِيَّةَ مُسْتَفادَةٌ مِنَ العَلاقَةِ لا مِنَ الوَضْعِ فَتَعَدُّدُ المَجازاتِ لِلَفْظٍ واحِدٍ أوْسَعُ مِنَ اسْتِعْمالِ المُشْتَرَكِ وأيًّا ما كانَ فَهو مَجازٌ مُرْسَلٌ عَلى ما اخْتارَهُ السَّيِّدُ في حاشِيَةِ المُطَوَّلِ في بابِ الإنْشاءِ عَلاقَتُهُ اللُّزُومُ وقَدْ تَرَدَّدَ في تَعْيِينِ عَلاقَتِهِ التَّفْتَزانِيُّ وقالَ إنَّهُ مِمّا لَمْ يَحُمْ أحَدٌ حَوْلَهُ. والبِرُّ بِكَسْرِ الباءِ الخَيْرُ في الأعْمالِ في أُمُورِ الدُّنْيا وأُمُورِ الآخِرَةِ والمُعامَلَةِ، وفِعْلُهُ في الغالِبِ مِن بابِ عَلِمَ إلّا البِرَّ في اليَمِينِ فَقَدْ جاءَ مِن بابِ عَلِمَ وبابِ ضَرَبَ، ومِنَ الأقْوالِ المَأْثُورَةِ البِرُّ ثَلاثَةٌ: بِرٌّ في عِبادَةِ اللَّهِ وبِرٌّ في مُراعاةِ الأقارِبِ وبِرٌّ في مُعامَلَةِ الأجانِبِ، وذَلِكَ تَبَعٌ لِلْوَفاءِ بِسَعَةِ الإحْسانِ في حُقُوقِ هَذِهِ الجَوانِبِ الثَّلاثَةِ. والنِّسْيانُ ذَهابُ الأمْرِ المَعْلُومِ مِن حافِظَةِ الإنْسانِ لِضَعْفِ الذِّهْنِ أوِ الغَفْلَةِ ويُرادِفُهُ السَّهْوُ وقِيلَ السَّهْوُ الغَفْلَةُ اليَسِيرَةُ بِحَيْثُ يَنْتَبِهُ بِأقَلِّ تَنْبِيهٍ، والنِّسْيانُ زَوالُهُ بِالكُلِّيَّةِ وبَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ فَسَّرَ النِّسْيانَ بِمُطْلَقِ التَّرْكِ وجَعَلَهُ صاحِبُ الأساسِ مَجازًا وهو التَّحْقِيقُ وهو كَثِيرٌ في القُرْآنِ. والنِّسْيانُ هُنا مُسْتَعارٌ لِلتَّرْكِ عَنْ عَمْدٍ أوْ عَنِ التَّهاوُنِ بِما يَذْكُرُ المَرْءُ في البِرِّ عَلى نَحْوٍ ما. قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿الَّذِينَ هم عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ﴾ [الماعون: ٥] أيْ وتَتْرُكُونَ أنْفُسَكم مِن ذَلِكَ أيْ مِن أمْرِها بِالبِرِّ أوْ وتَنْسَوْنَ أنْ تَأْمُرُوا أنْفُسَكم بِالبِرِّ وفي هَذا التَّقْدِيرِ يَبْقى النِّسْيانُ عَلى حَقِيقَتِهِ لِأنَّهم لَمّا طالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ في التَّهاوُنِ بِالتَّخَلُّقِ بِأُمُورِ الدِّينِ والِاجْتِراءِ عَلى تَأْوِيلِ الوَحْيِ بِما يُمْلِيهِ عَلَيْهِمُ الهَوى بِغَيْرِ هُدًى صارُوا يَنْسَوْنَ أنَّهم مُتَلَبِّسُونَ بِمِثْلِ ما يَنْهَوْنَ عَنْهُ فَإذا تَصَدَّوْا إلى مَواعِظِ قَوْمِهِمْ أوِ الخَطابَةِ فِيهِمْ أوْ أمَرُوهم بِالمَعْرُوفِ ونَهَوْهم عَنِ المُنْكَرِ كانُوا يَنْهَوْنَهم عَنْ مَذامَّ قَدْ تَلَبَّسُوا بِأمْثالِها إلّا أنَّ التَّعَوُّدَ بِها أنْساهم إيّاها فَأنْساهم أمْرَ أنْفُسِهِمْ بِالبِرِّ لِنِسْيانِ سَبَبِهِ (p-٤٧٦)وقَدْ يَرى الإنْسانُ عَيْبَ غَيْرِهِ لِأنَّهُ يُشاهِدُهُ ولا يَرى عَيْبَ نَفْسِهِ لِأنَّهُ لا يُشاهِدُهُ ولِأنَّ العادَةَ تُنْسِيهِ حالَهُ. ودَواءُ هَذا النِّسْيانِ هو مُحاسَبَةُ النَّفْسِ فَيَكُونُ البِرُّ راجِعًا إلى جَمِيعِ ما تَضَمَّنَتْهُ الأوامِرُ السّابِقَةُ مِنَ التَّفاصِيلِ فَهم قَدْ أمَرُوا غَيْرَهم بِتَفاصِيلِها ونَسُوا أنْفُسَهم عِنْدَ سَماعِها وذَلِكَ يَشْمَلُ التَّصْدِيقَ بِدِينِ الإسْلامِ لِأنَّهُ مِن جُمْلَةِ ما تَضَمَّنَتْهُ التَّوْراةُ الَّتِي كانُوا يَأْمُرُونَ النّاسَ بِما فِيها. وجُمْلَةُ ﴿وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ حالًا مِن ضَمِيرِ (تَأْمُرُونَ) ويَكُونُ مَحَلُّ التَّوْبِيخِ والتَّعَجُّبِ هو أمْرَ النّاسِ بِالبِرِّ بِقَيْدِ كَوْنِهِ في حالِ نِسْيانٍ ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلى (تَأْمُرُونَ) وتَكُونَ هي المَقْصُودَةَ مِنَ التَّوْبِيخِ والتَّعْجِيبِ ويُجْعَلُ قَوْلُهُ ﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ﴾ تَمْهِيدًا لَها عَلى مَعْنى أنَّ مَحَلَّ الفَظاعَةِ المُوجِبَةِ لِلنَّهْيِ هي مَجْمُوعُ الأمْرَيْنِ. وبِهَذا تَعْلَمُ أنَّهُ لا يُتَوَهَّمُ قَصْدُ النَّهْيِ عَنْ مَضْمُونِ كِلا الجُمْلَتَيْنِ إذِ القَصْدُ هو التَّوْبِيخُ عَلى اتِّصافٍ بِحالَةٍ فَظِيعَةٍ لَيْسَتْ مِن شِيَمِ النّاصِحِينَ لا قَصْدُ تَحْرِيمٍ فَلا تَقَعْ في حَيْرَةِ مَن تَحَيَّرَ في وجْهِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ ولا في وهْمٍ فَقالَ إنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ العاصِيَ لا يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ ولا يَنْهى عَنِ المُنْكَرِ كَما نَقَلَ عَنْهُمُ الفَخْرُ في التَّفْسِيرِ فَإنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودَ نَهْيٌ ولا تَحْرِيمٌ وإنَّما المَقْصُودُ تَفْظِيعُ الحالَةِ ويَدُلُّ لِذَلِكَ أنَّهُ قالَ في تَذْيِيلِها ﴿أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ولَمْ يَقُلْ ﴿أفَلا تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ٦٥] أوْ نَحْوَهُ. والأنْفُسُ جَمْعُ نَفْسٍ، بِسُكُونِ الفاءِ وهي مَجْمُوعُ ذاتِ الإنْسانِ مِنَ الهَيْكَلِ والرُّوحِ كَما هُنا وبِاعْتِبارِ هَذا التَّرْكِيبِ الَّذِي في الذّاتِ اتَّسَعَ إطْلاقُ النَّفْسِ في كَلامِ العَرَبِ تارَةً عَلى جَمِيعِ الذّاتِ كَما في التَّوْكِيدِ نَحْوَ جاءَ فُلانٌ نَفْسُهُ وقَوْلِهِ ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] وقَوْلِهِ ﴿تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] وتارَةً عَلى البَعْضِ كَقَوْلِ القائِلِ أنْكَرْتُ نَفْسِي وقَوْلِهِ ﴿وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ﴾ وعَلى الإحْساسِ الباطِنِيِّ كَقَوْلِهِ ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي﴾ [المائدة: ١١٦] أيْ ضَمِيرِي. وتُطْلَقُ عَلى الرُّوحِ الَّذِي بِهِ الإدْراكُ ﴿إنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: ٥٣] وسَيَأْتِي لِهَذا زِيادَةُ إيضاحٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ﴾ [النحل: ١١١] في سُورَةِ النَّحْلِ. وقَوْلُهُ ﴿وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ قَيَّدَ بِها التَّوْبِيخَ والتَّعْجِيبَ. لِأنَّ نِسْيانَ أنْفُسِهِمْ يَكُونُ أغْرَبَ وأفْظَعَ إذا كانَ مَعَهم أمْرانِ يُقْلِعانِهِ، وهُما أمْرُ النّاسِ بِالبِرِّ، فَإنَّ شَأْنَ الأمْرِ بِالبَرِّ (p-٤٧٧)أنْ يُذَكِّرَ الآمِرَ حاجَةَ نَفْسِهِ إلَيْهِ إذا قَدَّرَ أنَّهُ في غَفْلَةٍ عَنْ نَفْسِهِ، وتِلاوَةُ الكِتابِ أيِ التَّوْراةِ يَمُرُّونَ فِيها عَلى الأوامِرِ والنَّواهِي مِن شَأْنِهِ أنْ تُذَكِّرَهم مُخالَفَةَ حالِهِمْ لِما يَتْلُونَهُ. وقَوْلُهُ ﴿أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ اسْتِفْهامٌ عَنِ انْتِفاءِ تَعَقُّلِهِمُ اسْتِفْهامًا مُسْتَعْمَلًا في الإنْكارِ والتَّوْبِيخِ نَزَلُوا مَنزِلَةَ مَنِ انْتَفى تَعَقُّلُهُ فَأنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. ووَجْهُ المُشابَهَةِ بَيْنَ حالِهِمْ وحالِ مَن لا يَعْقِلُونَ أنَّ مَن يَسْتَمِرُّ بِهِ التَّغَفُّلُ عَنْ نَفْسِهِ وإهْمالُ التَّفَكُّرِ في صَلاحِها مَعَ مُصاحَبَةِ شَيْئَيْنِ يَذْكُرُ أنَّهُ قارَبَ أنْ يَكُونَ مَنفِيًّا عَنْهُ التَّعَقُّلُ. وفِعْلُ تَعْقِلُونَ مُنَزَّلٌ مَنزِلَةَ اللّازِمِ أوْ هو لازِمٌ وفي هَذا نِداءٌ عَلى كَمالِ غَفْلَتِهِمْ واضْطِرابِ حالِهِمْ. وكَوْنُ هَذا أمْرًا قَبِيحًا فَظِيعًا مِن أحْوالِ البَشَرِ مِمّا لا يَشُكُّ فِيهِ عاقِلٌ.