ركن التفسير
47 - (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) بالشكر عليها بطاعتي (وأني فضلتكم) أي آباءكم (على العالمين) عالمي زمانهم [وعن الشيخ محمود الرنكوسي أن تفضيلهم على العالمين بكثرة الأنبياء فيهم وفي الحديث : "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" أي في الكثرة]
يذكرهم تعالى بسالف نعمه على آبائهم وأسلافهم وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم كما قال تعالى "ولقد اخترناهم على علم على العالمين" وقال تعالى "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين" قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "وأني فضلتكم على العالمين" قال بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان فإن لكل زمان عالما ورُوي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك ويجب الحمل على هذا لأن هذه الأمة أفضل منهم لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم" وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى "كنتم خير أمة أخرجت للناس" وقيل المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس ويلزم تفضيلهم مطلقا حكاه الرازي وفيه نظر وقيل إنهم فضلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم حكاه القرطبي في تفسيره وفيه نظر لأن العالمين عام يشتمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة صلوات الله وسلامه عليه.
(p-٤٨٢)﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأنِّي فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾ أُعِيدَ خِطابُ بَنِي إسْرائِيلَ بِطَرِيقِ النِّداءِ مُماثِلًا لِما وقَعَ في خِطابِهِمُ الأوَّلِ لِقَصْدِ التَّكْرِيرِ لِلِاهْتِمامِ بِهَذا الخِطابِ وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، فَإنَّ الخِطابَ الأوَّلَ قُصِدَ مِنهُ تَذْكِيرُهم بِنِعَمِ اللَّهِ تَعالى لِيَكُونَ ذَلِكَ التَّذْكِيرُ داعِيَةً لِامْتِثالِ ما يَرِدُ إلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ مِن أمْرٍ ونَهْيٍ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ ﷺ، غَيْرَ أنَّهُ لَمّا كانَ الغَرَضُ المَقْصُودُ مِن ذَلِكَ هو الِامْتِثالَ كانَ حَقُّ البَلاغَةِ أنْ يُفْضِيَ البَلِيغُ إلى المَقْصُودِ ولا يُطِيلَ في المُقَدِّمَةِ، وإنَّما يُلِمُّ بِها إلْمامًا ويُشِيرُ إلَيْها إجْمالًا تَنْبِيهًا بِالمُبادَرَةِ إلى المَقْصُودِ عَلى شِدَّةِ الِاهْتِمامِ بِهِ ولَمْ يَزَلِ الخُطَباءُ والبُلَغاءُ يَعُدُّونَ مِثْلَ ذَلِكَ مِن نَباهَةِ الخَطِيبِ ويَذْكُرُونَهُ في مَناقِبِ وزِيرِ الأنْدَلُسِ مُحَمَّدِ بْنِ الخَطِيبِ السَّلْمانِيِّ إذْ قالَ عِنْدَ سِفارَتِهِ عَنْ مَلِكِ غَرْناطَةَ إلى مَلِكِ المَغْرِبِ ابْنِ عَنانٍ أبْياتَهُ المَشْهُورَةَ الَّتِي ارْتَجَلَها عِنْدَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ طالِعُها: ؎خَلِيفَةَ اللَّهِ ساعَدَ القَدَرُ عُلاكَ ما لاحَ في الدُّجا قَمَرُ ثُمَّ قالَ: ؎والنّاسُ طُرًّا بِأرْضِ أنْدَلُسٍ ∗∗∗ لَوْلاكَ ما وطِنُوا ولا عَمِرُوا ؎وقَدْ أهَمَّتْهم نُفُوسُهُمُ ∗∗∗ فَوَجَّهُونِي إلَيْكَ وانْتَظَرُوا فَقالَ لَهُ أبُو عَنانٍ ما تَرْجِعُ إلَيْهِمْ إلّا بِجَمِيعِ مَطالِبِهِمْ وأذِنَ لَهُ في الجُلُوسِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ. قالَ القاضِي أبُو القاسِمِ الشَّرِيفُ وكانَ مِن جُمْلَةِ الوَفْدِ لَمْ نَسْمَعْ بِسَفِيرٍ قَضى سِفارَتَهُ قَبْلَ أنْ يُسَلِّمَ عَلى السُّلْطانِ إلّا هَذا. فَكانَ الإجْمالُ في المُقَدِّمَةِ قَضاءً لِحَقِّ صَدارَتِها بِالتَّقْدِيمِ وكانَ الإفْضاءُ إلى المَقْصُودِ قَضاءً لِحَقِّهِ في العِنايَةِ، والرُّجُوعُ إلى تَفْصِيلِ النِّعَمِ قَضاءً لِحَقِّها مِنَ التَّعْدادِ فَإنَّ ذِكْرَ النِّعَمِ تَمْجِيدٌ لِلْمُنْعِمِ وتَكْرِيمٌ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ وعِظَةٌ لَهُ ولِمَن يُبْلِغُهم خَبَرَ ذَلِكَ تَبْعَثُ عَلى الشُّكْرِ. (p-٤٨٣)فَلِلتَّكْرِيرِ هُنا نُكْتَةُ جَمْعِ الكَلامَيْنِ بَعْدَ تَفْرِيقِهِما ونُكْتَةُ التَّعْدادِ لِما فِيهِ إجْمالُ مَعْنى النِّعْمَةِ. والنِّعْمَةُ هَنا مُرادٌ بِها جَمِيعُ النِّعَمِ لِأنَّهُ جِنْسٌ مُضافٌ فَلَهُ حُكْمُ الجَمْعِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠] وقَوْلِهِ تَعالى ﴿وأنِّي فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾ عَطْفٌ عَلى نِعْمَتِيَ أيْ واذْكُرُوا تَفْضِيلِي إيّاكم عَلى العالَمِينَ وهَذا التَّفْضِيلُ نِعْمَةٌ خاصَّةٌ فَعَطْفُهُ عَلى نِعْمَتِي عَطْفُ خاصٍّ عَلى عامٍّ وهو مَبْدَأٌ لِتَفْضِيلِ النِّعَمِ وتَعْدادِها ورُبَّما كانَ تَعْدادُ النِّعَمِ مُغْنِيًا عَنِ الأمْرِ بِالطّاعَةِ والِامْتِثالِ لِأنَّ مِن طَبْعِ النُّفُوسِ الكَرِيمَةِ امْتِثالُ أمْرِ المُنْعِمِ لِأنَّ النِّعْمَةَ تُورِثُ المَحَبَّةَ. وقالَ مَنصُورٌ الوَرّاقُ: ؎تَعْصى الإلَهَ وأنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ∗∗∗ هَذا لَعَمْرِي في القِياسِ بَدِيعُ ؎لَوْ كانَ حُبُّكَ صادِقًا لَأطَعْتَهُ ∗∗∗ إنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطِيعُ وهَذا التَّذْكِيرُ مَقْصُودٌ بِهِ الحَثُّ عَلى الِاتِّسامِ بِما يُناسِبُ تِلْكَ النِّعْمَةَ ويَسْتَبْقِي ذَلِكَ الفَضْلَ. ومَعْنى العالَمِينَ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] والمُرادُ بِهِ هُنا صِنْفٌ مِنَ المَخْلُوقاتِ ولا شَكَّ أنَّ المَخْلُوقاتِ تُصَنَّفُ أصْنافًا مُتَنَوِّعَةً عَلى حَسَبِ تَصْنِيفِ المُتَكَلِّمِ أوِ السّامِعِ، فالعالَمُونَ في مَقامِ ذِكْرِ الخَلْقِ هم أصْنافُ المَخْلُوقاتِ كالإنْسِ والدَّوابِّ والطَّيْرِ والحُوتِ. والعالَمُونَ في مَقامِ ذِكْرِ فَضائِلِ الخَلْقِ أوِ الأُمَمِ أوِ القَبائِلِ يُرادُ بِها أصْنافُ تِلْكَ المُتَحَدَّثِ عَنْها فَلا جَرَمَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ العالَمِينَ هُنا هُمُ الأُمَمَ الإنْسانِيَّةَ فَيَعُمَّ جَمِيعَ الأُمَمِ لِأنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِاللّامِ لَكِنَّ عُمُومَهُ هُنا عُرْفِيٌّ يَخْتَصُّ بِأُمَمِ زَمانِهِمْ كَما يَخْتَصُّ نَحْوَ جَمْعِ الأمِيرِ الصّاغَةَ بِصاغَةِ مَكانِهِ أيْ بَلَدِهِ ويَخْتَصُّ أيْضًا بِالأُمَمِ المَعْرُوفَةِ كَما يَخْتَصُّ جَمْعُ الأمِيرِ الصّاغَةَ بِالصّاغَةِ المُتَّخِذِينَ الصِّياغَةَ صِناعَةً دُونَ كُلِّ مَن يَعْرِفُ الصِّياغَةَ وذَلِكَ كَقَوْلِكَ هو أشْهَرُ العُلَماءِ وأنْجَبُ التَّلامِذَةِ، فالآيَةُ تُشِيرُ إلى تَفْضِيلِ بَنِي إسْرائِيلَ المُخاطَبِينَ أوْ سَلَفِهِمْ عَلى أُمَمِ عَصْرِهِمْ لا عَلى بَعْضِ الجَماعاتِ الَّذِينَ كانُوا عَلى دِينٍ كامِلٍ مِثْلَ نَصارى نَجْرانَ، فَلا عَلاقَةَ لَهُ بِمَسْألَةِ تَفْضِيلِ الأنْبِياءِ عَلى المَلائِكَةِ بِحالٍ ولا التِفاتَ إلى ما يَشِذُّ في كُلِّ أُمَّةٍ أوْ قَبِيلَةٍ مِنَ الأفْرادِ فَلا يَلْزَمُ تَفْضِيلُ كُلِّ فَرْدٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى أفْرادٍ مِنَ الأُمَمِ بَلَغُوا مَرْتَبَةً صالِحَةً أوْ نُبُوءَةً لِأنَّ التَّفْضِيلَ في مِثْلِ هَذا يُرادُ بِهِ تَفْضِيلُ المَجْمُوعِ، كَما تَقُولُ قُرَيْشٌ أفْضَلُ مِن طَيِّءٍ وإنْ كانَتْ في طَيِّءٍ حاتِمٌ الجَوادُ. (p-٤٨٤)فَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ بَنِي إسْرائِيلَ عَلى جَمِيعِ أُمَمِ عَصْرِهِمْ وفي تِلْكَ الأُمَمِ أُمَمٌ عَظِيمَةٌ كالعَرَبِ والفُرْسِ والرُّومِ والهِنْدِ والصِّينِ وفِيهِمُ العُلَماءُ والحُكَماءُ ودُعاةُ الإصْلاحِ والأنْبِياءُ لِأنَّهُ تَفْضِيلُ المَجْمُوعِ عَلى المَجْمُوعِ في جَمِيعِ العُصُورِ ومَعْنى هَذا التَّفْضِيلِ أنَّ اللَّهَ قَدْ جَمَعَ لَهم مِنَ المَحامِدِ الَّتِي تَتَّصِفُ بِها القَبائِلُ والأُمَمُ ما لَمْ يَجْمَعْهُ لِغَيْرِهِمْ وهي: شَرَفُ النَّسَبِ. وكَمالُ الخُلُقِ. وسَلامَةُ العَقِيدَةِ. وسَعَةُ الشَّرِيعَةِ. والحُرِّيَّةُ. والشَّجاعَةُ. وعِنايَةُ اللَّهِ تَعالى بِهِمْ في سائِرِ أحْوالِهِمْ. وقَدْ أشارَتْ إلى هَذا آيَةٌ ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ جَعَلَ فِيكم أنْبِئاءَ وجَعَلَكم مُلُوكًا وآتاكم ما لَمْ يُؤْتِ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ﴾ [المائدة: ٢٠] وهَذِهِ الأوْصافُ ثَبَتَتْ لِأسْلافِهِمْ في وقْتِ اجْتِماعِها وقَدْ شاعَ أنَّ الفَضائِلَ تَعُودُ عَلى الخَلَفِ بِحُسْنِ السُّمْعَةِ وإنْ كانَ المُخاطَبُونَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَكُونُوا بِحالِ التَّفْضِيلِ عَلى العالَمِينَ ولَكِنَّهم ذُكِّرُوا بِما كانُوا عَلَيْهِ فَإنَّ فَضائِلَ الأُمَمِ لا يُلاحَظُ فِيها الأفْرادُ ولا العُصُورُ. ووَجَّهَ زِيادَةَ الوَصْفِ بِقَوْلِهِ ﴿الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠] مَرَّ في أُخْتِها الأُولى.