ركن التفسير
49 - (و) اذكروا (إذ نجيناكم) أي آباءكم ، والخطاب به وبما بعده للموجودين في زمن نبينا بما أنعم الله على آبائهم تذكيراً لهم بنعمة الله تعالى ليؤمنوا (من آل فرعون يسومونكم) يذيقونكم (سوء العذاب) أشده والجملة حال من ضمير نجيناكم (يذبحون) بيان لما قبله (أبناءكم) المولودين (ويستحيون) يستبقون (نساءكم) لقول بعض الكهنة له إن مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون سبباً لذهاب ملكك (وفي ذلكم) العذاب أو الإنجاء (بلاء) ابتلاء أو إنعام (من ربكم عظيم)
يقول تعالى اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب أي خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام وقد كانوا يسومونكم أي يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل ويقال بعد تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة وهكذا جاء حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها وههنا فسر العذاب بذبح الأبناء وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال "يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم" وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص إن شاء الله تعالى وبه الثقة والمعونة والتأييد. ومعنى يسومونكم يولونكم قاله أبو عبيدة كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها قال: عمرو بن كلثوم: إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا وقيل معناه يديمون عذابكم كما يقال سائمة الغنم من إدامتها الرعي. نقله القرطبي وإنما قال هاهنا "يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم" ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله "يسومونكم سوء العذاب" ثم فسره بهذا لقوله ههنا "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" وأما في سورة إبراهيم فلما قال "وذكرهم بأيام الله" أي بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك "يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم" بعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل. وفرعون علم كل من ملك مصر كافرا من العماليق وغيرهم كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرا وكسرى لمن ملك الفرس وتبع لمن ملك اليمن كافرا والنجاشي لمن ملك الحبشة وبطليموس لمن ملك الهند ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام الوليد بن مصعب بن الريان وقيل: مصعب بن الريان فكان من سلالة عمليق بن الأود بن إرم بن سام بن نوح وكنيته أبو مرة وأصله فارسي من اصطخر وإياما كان فعليه لعنة الله وقوله تعالى "وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم" قال ابن جرير وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم أي نعمة عظيمة عليكم في ذلك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى "بلاء من ربكم عظيم" قال نعمة وقال مجاهد "بلاء من ربكم عظيم" قال نعمة من ربكم عظيمة وكذا قال أبو العالية وأبو مالك والسدى وغيرهم وأصل البلاء الاختبار وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" وقال "وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون" قال ابن جرير وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاء وفي الخير أبليه إبلاء وبلاء قال زهير بن أبي سلمى: جزى الله بإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو قال فجمع بين اللغتين لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده وقيل المراد بقوله "وفي ذلكم بلاء" إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء قال: القرطبي وهذا قول الجمهور ولفظه بعد ما حكى القول الأول ثم قال: وقال الجمهور الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هاهنا في الشر والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان.
(p-٤٨٩)﴿وإذْ نَجَّيْناكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكم سُوءَ العَذابِ يُذَبِّحُونَ أبْناءَكم ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكم وفي ذَلِكم بَلاءٌ مِن رَبِّكم عَظِيمٌ﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ نِعْمَتِيَ فَيُجْعَلُ إذْ مَفْعُولًا بِهِ كَما هو في قَوْلِهِ تَعالى ﴿واذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: ٨٦] فَهو هُنا اسْمُ زَمانٍ غَيْرُ ظَرْفٍ لِفِعْلٍ والتَّقْدِيرُ اذْكُرُوا وقْتَ نَجَّيْناكم، ولَمّا غَلَبَتْ إضافَةُ أسْماءِ الزَّمانِ إلى الجُمَلِ وكانَ مَعْنى الجُمْلَةِ بَعْدَها في مَعْنى المَصْدَرِ وكانَ التَّقْدِيرُ اذْكُرُوا وقْتَ إنْجائِنا إيّاكم. وفائِدَةُ العُدُولِ عَنِ الإتْيانِ بِالمَصْدَرِ الصَّرِيحِ لِأنَّ في الإتْيانِ بِإذِ المُقْتَضِيَةِ لِلْجُمْلَةِ اسْتِحْضارًا لِلتَّكْوِينِ العَجِيبِ المُسْتَفادِ مِن هَيْئَةِ الفِعْلِ لِأنَّ الذِّهْنَ إذا تَصَوَّرَ المَصْدَرَ لَمْ يَتَصَوَّرْ إلّا مَعْنى الحَدَثِ وإذا سَمِعَ الجُمْلَةَ الدّالَّةَ عَلَيْهِ تَصَوَّرَ حُدُوثَ الفِعْلِ وفاعِلِهِ ومَفْعُولِهِ ومُتَعَلِّقاتِهِ دُفْعَةً واحِدَةً فَنَشَأتْ مِن ذَلِكَ صُورَةٌ عَجِيبَةٌ. فَوِزانُ الإتْيانِ بِالمَصْدَرِ وِزانُ الِاسْتِعارَةِ المُفْرِدَةِ، ووِزانُ الإتْيانِ بِالفِعْلِ وِزانُ الِاسْتِعارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، ولَيْسَ هو عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ اذْكُرُوا كَما وقَعَ في بَعْضِ التَّفاسِيرِ لِأنَّ ذَلِكَ يَجْعَلُ إذْ ظَرْفًا فَيَطْلُبُ مُتَعَلِّقًا وهو لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، ولا يُفِيدُهُ حَرْفُ العَطْفِ لِأنَّ العاطِفَ في عَطْفِ الجُمَلِ لا يُفِيدُ سِوى التَّشْرِيكِ في حُكْمِ الجُمْلَةِ المَعْطُوفِ عَلَيْها، ولَيْسَ نائِبًا مَنابَ عامِلٍ، ولا يُرِيبُكَ الفَصْلُ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أعْنِي وإذْ نَجَّيْناكم بِجُمْلَةِ واتَّقُوا يَوْمًا فَتَظُنُّهُ مَلْجَأً لِاعْتِبارِ العَطْفِ عَلى الجُمْلَةِ لَمّا عَلِمْتَ فِيما تَقَدَّمَ أنَّ قَوْلَهُ واتَّقُوا ناشِئٌ عَنِ التَّذْكِيرِ فَهو مِن عَلائِقِ الكَلامِ ولَيْسَ بِأجْنَبِيٍّ، عَلى أنَّهُ لَيْسَ في كَلامِ النُّحاةِ ما يَقْتَضِي امْتِناعَ الفَصْلِ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالأجْنَبِيِّ فَإنَّ المُتَعاطِفَيْنَ لَيْسا بِمَرْتَبَةِ الِاتِّصالِ كالعامِلِ والمَعْمُولِ، وعَدّى فِعْلَ أنْجَيْنا إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ مَعَ أنَّ التَّنْجِيَةَ إنَّما كانَتْ تَنْجِيَةَ أسْلافِهِمْ لِأنَّ تَنْجِيَةَ أسْلافِهِمْ تَنْجِيَةٌ لِلْخَلَفِ فَإنَّهُ لَوْ بَقِيَ أسْلافُهم في عَذابِ فِرْعَوْنَ لَكانَ ذَلِكَ لاحِقًا لِأخْلافِهِمْ فَلِذَلِكَ كانَتْ مِنَّةُ التَّنْجِيَةِ مِنَّتَيْنِ: مِنَّةٌ عَلى السَّلَفِ ومِنَّةٌ عَلى الخَلَفِ فَوَجَبَ شُكْرُها عَلى كُلِّ جِيلٍ مِنهم ولِذَلِكَ أوْجَبَتْ عَلَيْهِمْ شَرِيعَتُهُمُ الِاحْتِفالَ بِما يُقابِلُ أيّامَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ مِن أيّامِ كُلِّ سَنَةٍ وهي أعْيادُهم وقَدْ قالَ اللَّهُ لِمُوسى ﴿وذَكِّرْهم بِأيّامِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: ٥] وآلُ الرَّجُلِ أهْلُهُ. وأصِلُ آلٍ أهْلٌ، قُلِبَتْ هاؤُهُ هَمْزَةً تَخْفِيفًا لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلى تَسْهِيلِ الهَمْزَةِ مَدًّا. والدَّلِيلُ عَلى أنَّ أصْلَهُ أهْلٌ رُجُوعُ الهاءِ في التَّصْغِيرِ إذْ قالُوا أُهَيْلٌ ولَمْ يُسْمَعْ أُوَيْلٌ خِلافًا لِلْكِسائِيِّ. (p-٤٩٠)والأهْلُ والآلُ يُرادُ بِهِ الأقارِبُ والعَشِيرَةُ والمَوالِي وخاصَّةً الإنْسانُ وأتْباعُهُ. والمُرادُ مِن آلِ فِرْعَوْنَ وزَعَتُهُ ووُكَلاؤُهُ، ويَخْتَصُّ الآلُ بِالإضافَةِ إلى ذِي شَأْنٍ وشَرَفٍ دُنْيَوِيٍّ مِمَّنْ يَعْقِلُ فَلا يُقالُ آلُ الجانِي ولا آلُ مَكَّةَ، ولَمّا كانَ فِرْعَوْنُ في الدُّنْيا عَظِيمًا وكانَ الخِطابُ مُتَعَلِّقًا بِنَجاةٍ دُنْيَوِيَّةٍ مِن عَظِيمٍ في الدُّنْيا أُطْلِقَ عَلى أتْباعِهِ آلٌ فَلا تَوَقُّفَ في ذَلِكَ حَتّى يُحْتاجَ لِتَأْوِيلِهِ بِقَصْدِ التَّهَكُّمِ كَمّا أُوِّلَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ﴾ [غافر: ٤٦] لِأنَّ ذَلِكَ حِكايَةٌ لِكَلامٍ يُقالُ يَوْمَ القِيامَةِ وفِرْعَوْنُ يَوْمَئِذٍ مُحَقَّرٌ، هَلَكَ عَنْهُ سُلْطانُهُ. فَإنْ قُلْتَ: إنْ كَلِمَةَ أهْلٍ تُطْلَقُ أيْضًا عَلى قَرابَةِ ذِي الشَّرَفِ لِأنَّها الِاسْمُ المُطْلَقُ فَلِماذا لَمْ يُؤْتَ بِها هُنا حَتّى لا يُطْلَقَ عَلى آلِ فِرْعَوْنَ ما فِيهِ تَنْوِيهٌ بِهِمْ ؟ قُلْتُ: خُصُوصِيَّةُ لَفْظِ آلٍ هَنا أنَّ المَقامَ لِتَعْظِيمِ النِّعْمَةِ وتَوْفِيرِ حَقِّ الشُّكْرِ، والنِّعْمَةُ تَعْظُمُ بِما يَخِفُّ بِها فالنَّجاةُ مِنَ العَذابِ وإنْ كانَتْ نِعْمَةً مُطْلَقًا إلّا أنَّ كَوْنَ النَّجاةِ مِن عَذابِ ذِي قُدْرَةٍ ومَكانَةٍ أعْظَمُ لِأنَّهُ لا يَكادُ يَنْفَلِتُ مِنهُ أحَدٌ ؎ولا قَرارَ عَلى زَأْرٍ مِنَ الأسَدِ وإنَّما جُعِلَتِ النَّجاةُ مِن آلِ فِرْعَوْنَ ولَمْ تُجْعَلْ مِن فِرْعَوْنَ مَعَ أنَّهُ الآمِرُ بِتَعْذِيبِ بَنِي إسْرائِيلَ تَعْلِيقًا لِلْفِعْلِ بِمَن هو مِن مُتَعَلِّقاتِهِ عَلى طَرِيقَةِ الحَقِيقَةِ العَقْلِيَّةِ وتَنْبِيهًا عَلى أنَّ هَؤُلاءِ الوَزَعَةَ والمُكَلَّفِينَ بِبَنِي إسْرائِيلَ كانُوا يَتَجاوَزُونَ الحَدَّ المَأْمُورَ بِهِ في الإعْناتِ عَلى عادَةِ المُنَفِّذِينَ فَإنَّهم أقَلُّ رَحْمَةً وأضْيَقُ نُفُوسًا مِن وُلاةِ الأُمُورِ كَما قالَ الرّاعِي يُخاطِبُ عَبْدَ المَلِكِ بْنَ مَرْوانَ: ؎إنَّ الَّذِينَ أمَرْتَهم أنْ يَعْدِلُوا لَمْ يَفْعَلُوا مِمّا أمَرْتَ فَتِيلا. جاءَ في التّارِيخِ أنَّ مَبْدَأ اسْتِقْرارِ بَنِي إسْرائِيلَ بِمِصْرَ كانَ سَبَبُهُ دُخُولَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ (p-٤٩١)فِي تَرْبِيَةِ العَزِيزِ طِيفارَ كَبِيرِ شُرَطِ فِرْعَوْنَ، وكانَتْ مِصْرُ مُنْقَسِمَةً إلى قِسْمَيْنِ مِصْرُ العُلْيا الجَنُوبِيَّةُ المَعْرُوفَةُ اليَوْمَ بِالصَّعِيدِ لِحُكْمِ فَراعِنَةٍ مِنَ القِبْطِ وقاعِدَتُها طِيوَةُ، ومِصْرُ السُّفْلى وهي الشَّمالِيَّةُ وقاعِدَتُها مَنفِيسُ وهي القاعِدَةُ الكُبْرى الَّتِي هي مَقَرُّ الفَراعِنَةِ وهَذِهِ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْها العَمالِقَةُ مِنَ السّامِيِّينَ أبْناءِ عَمِّ ثَمُودَ وهُمُ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ في التّارِيخِ المِصْرِيِّ بِالرُّعاةِ الرَّحّالِينَ وبِالهِكْصُوصِ في سَنَةِ ٣٣٠٠ أوْ سَنَةِ ١٩٠٠ قَبْلَ المَسِيحِ عَلى خِلافٍ ناشِئٍ عَنِ الِاخْتِلافِ في مُدَّةِ بَقائِهِمْ بِمِصْرَ الَّذِي انْتَهى سَنَةَ ١٧٠٠ ق م، عِنْدَ ظُهُورِ العائِلَةِ الثّامِنَةَ عَشْرَةَ. فَكانَ يُوسُفُ عِنْدَ رَئِيسِ شُرَطِ فِرْعَوْنَ العِمْلِيقِيِّ، واسْمُ فِرْعَوْنَ يَوْمَئِذٍ أبُوفِيسَ أوْ أُبَيْبِي وأهْلُ القَصَصِ ومَن تَلَقَّفَ كَلامَهم مِنَ المُفَسِّرِينَ سَمَّوْهُ رَيّانَ بْنَ الوَلِيدِ وهَذا مِن أوْهامِهِمْ وكانَ ذَلِكَ في حُدُودِ سَنَةِ ١٧٣٩ قَبْلَ مِيلادِ المَسِيحِ، ثُمَّ كانَتْ سُكْنى بَنِي إسْرائِيلَ مِصْرَ بِسَبَبِ تَنَقُّلِ يَعْقُوبَ وأبْنائِهِ إلى مِصْرَ حِينَ ظَهَرَ أمْرُ يُوسُفَ وصارَ بِيَدِهِ حُكْمُ المَمْلَكَةِ المِصْرِيَّةِ السُّفْلى. وكانَتْ مُعاشَرَةُ الإسْرائِيلِيِّينَ لِلْمِصْرِيِّينَ حَسَنَةً زَمَنًا طَوِيلًا غَيْرَ أنَّ الإسْرائِيلِيِّينَ قَدْ حافَظُوا عَلى دِينِهِمْ ولُغَتِهِمْ وعاداتِهِمْ فَلَمْ يَعْبُدُوا آلِهَةَ المِصْرِيِّينَ وسَكَنُوا جَمِيعًا بِجِهَةٍ يُقالُ لَها أرْضُ جاسانَ ومَكَثَ الإسْرائِيلِيُّونَ عَلى ذَلِكَ نَحْوًا مِن أرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ تَغَلَّبَ في خِلالِها مُلُوكُ المِصْرِيِّينَ عَلى مُلُوكِ العَمالِقَةِ وطَرَدُوهم مِن مِصْرَ حَتّى ظَهَرَتْ في مِصْرَ العائِلَةُ التّاسِعَةُ عَشْرَةَ ومَلَكَ مُلُوكُها جَمِيعَ البِلادِ المِصْرِيَّةِ ونَبَغَ فِيهِمْ رَمْسِيسُ الثّانِي المُلَقَّبُ بِالأكْبَرِ في حُدُودِ سَنَةِ ١٣١١ قَبْلَ المَسِيحِ وكانَ مُحارِبًا باسِلًا وثارَتْ في وجْهِهِ المَمالِكُ الَّتِي أخْضَعَها أبُوهُ ومِنهُمُ الأُمَمُ الكائِنَةُ بِأطْرافِ جَزِيرَةِ العَرَبِ، فَحَدَثَتْ أسْبابٌ أوْ سُوءُ ظُنُونٍ أوْجَبَتْ تَنَكُّرَ القِبْطِ عَلى الإسْرائِيلِيِّينَ وكَلَّفُوهم أشَقَّ الأعْمالِ وسَخَّرُوهم في خِدْمَةِ المَزارِعِ والمَبانِي وصُنْعِ الآجُرِّ. وتَقُولُ التَّوْراةُ إنَّهم بَنَوْا لِفِرْعَوْنَ مَدِينَةَ مَخازِنَ (فِيثُومَ) ومَدِينَةَ رَعْمِسِيسَ ثُمَّ خَشِيَ فِرْعَوْنُ أنْ يَكُونَ الإسْرائِيلِيُّونَ أعْوانًا لِأعْدائِهِ عَلَيْهِ فَأمَرَ بِاسْتِئْصالِهِمْ وكَأنَّهُ اطَّلَعَ عَلى مُساعَدَةٍ مِنهم لِأبْناءِ نَسَبِهِمْ مِنَ العَمالِقَةِ والعَرَبِ فَكانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ أبْنائِهِمْ وسَبْيِ نِسائِهِمْ وتَسْخِيرِ كِبارِهِمْ ولا بُدَّ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِما رَأى مِنهم مِنَ التَّنَكُّرِ، أوْ لِأنَّ القِبْطَ لَمّا أفْرَطُوا في اسْتِخْدامِ العِبْرانِيِّينَ عَلِمَ فِرْعَوْنُ أنَّهُ إنِ اخْتَلَطَتْ جُيُوشُهُ في حَرْبٍ لا يَسْلَمُ مِن ثَوْرَةِ الإسْرائِيلِيِّينَ فَأمَرَ بِاسْتِئْصالِهِمْ. وأمّا ما يَحْكِيهِ القَصّاصُونَ أنَّ فِرْعَوْنَ أخْبَرَهُ كاهِنٌ أنَّ ذَهابَ مُلْكِهِ يَكُونُ عَلى يَدِ فَتًى مِن إسْرائِيلَ فَلا أحْسَبُهُ صَحِيحًا إذْ يَبْعُدُ أنْ يُرَوَّجَ (p-٤٩٢)مِثْلُ هَذا عَلى رَئِيسِ مَمْلَكَةٍ فَيُفْنِي بِهِ فَرِيقًا مِن رَعاياهُ، اللَّهُمَّ إلّا أنْ يَكُونَ الكَهَنَةُ قَدْ أغْرَوْا فِرْعَوْنَ بِاليَهُودِ قَصْدًا لِتَخْلِيصِ المَمْلَكَةِ مِنَ الغُرَباءِ أوْ تَفَرَّسُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ سُوءَ النَّوايا فابْتَكَرُوا ذَلِكَ الإنْباءَ الكَهَنُوتِيَّ لِإقْناعِ فِرْعَوْنَ، بِوُجُوبِ الحَذَرِ مِنَ الإسْرائِيلِيِّينَ ولَعَلَّ ذَبْحَ الأبْناءِ كانَ مِن فِعْلِ المِصْرِيِّينَ اسْتِخْفافًا بِاليَهُودِ، فَكانُوا يَقْتُلُونَ اليَهُودِيَّ في الخِصامِ القَلِيلِ كَما أنْبَأتْ بِذَلِكَ آيَةُ ﴿فاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلى الَّذِي مِن عَدُوِّهِ﴾ [القصص: ١٥] والحاصِلُ أنَّ التّارِيخَ يُفِيدُ عَلى الإجْمالِ أنَّ عَداوَةً عَظِيمَةً نَشَأتْ بَيْنَ القِبْطِ واليَهُودِ آلَتْ إلى أنِ اسْتَأْصَلَ القِبْطُ الإسْرائِيلِيِّينَ. ولَقَدْ أبْدَعَ القُرْآنُ في إجْمالِها إذْ كانَتْ تَفاصِيلُ إجْمالِها كَثِيرَةً لا يَتَعَلَّقُ غَرَضُ التَّذْكِيرِ بِبَيانِها. وجُمْلَةُ ﴿يَسُومُونَكم سُوءَ العَذابِ﴾ حالٌ مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَحْصُلُ بِها بَيانُ ما وقَعَ الإنْجاءُ مِنهُ وهو العَذابُ الشَّدِيدُ الَّذِي كانَ الإسْرائِيلِيُّونَ يُلاقُونَهُ مِن مُعامَلَةِ القِبْطِ لَهم. ومَعْنى يَسُومُونَكم يُعامِلُونَكم مُعامَلَةَ المَحْقُوقِ بِما عُومِلَ بِهِ. يُقالُ سامَهُ خَسْفًا إذا أذَلَّهُ واحْتَقَرَهُ فاسْتَعْمَلَ سامَ في مَعْنى أنالَ وأعْطى ولِذَلِكَ يُعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ لَيْسَ أصْلَهُما المُبْتَدَأ والخَبَرَ. وحَقِيقَةُ سامَ عَرَضَ السَّوْمَ أيِ الثَّمَنَ. وسُوءَ العَذابِ أشَدَّهُ وأفْظَعَهُ وهو عَذابُ التَّسْخِيرِ والإرْهاقِ وتَسْلِيطِ العِقابِ الشَّدِيدِ بِتَذْبِيحِ الأبْناءِ وسَبْيِ النِّساءِ والمَعْنى يُذَبِّحُونَ أبْناءَ آبائِكم ويَسْتَحْيُونَ نِساءَ قَوْمِكُمُ الأوَّلِينَ. والمُرادُ مِنَ الأبْناءِ قِيلَ أطْفالُ اليَهُودِ وقِيلَ أُرِيدَ بِهِ الرِّجالُ بِدَلِيلِ مُقابَلَتِهِ بِالنِّساءِ وهَذا الوَجْهُ أظْهَرُ وأوْفَقُ بِأحْوالِ الأُمَمِ إذِ المَظْنُونُ أنَّ المَحْقَ والِاسْتِئْصالَ إنَّما يُقْصَدُ بِهِ الكِبارُ، ولِأنَّهُ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ تَكُونُ الآيَةُ سَكَتَتْ عَنِ الرِّجالِ إلّا أنْ يُقالَ إنَّهم كانُوا يُذَبِّحُونَ الصِّغارَ قَطْعًا لِلنَّسْلِ ويَسْبُونَ الأُمَّهاتِ اسْتِعْبادًا لَهُنَّ ويُبْقُونَ الرِّجالَ لِلْخِدْمَةِ حَتّى يَنْقَرِضُوا عَلى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ. وإبْقاءُ الرِّجالِ في مِثْلِ هاتِهِ الحالَةِ أشَدُّ مِن قَتْلِهِمْ. أوْ لَعَلَّ تَقْصِيرًا ظَهَرَ مِن نِساءِ بَنِي إسْرائِيلَ مُرْضِعاتِ الأطْفالِ ومُرَبِّياتِ الصِّغارِ وكانَ سَبَبُهُ شَغْلَهُنَّ بِشُئُونِ أبْنائِهِنَّ فَكانَ المُسْتَعْبِدُونَ لَهم إذا غَضِبُوا مِن ذَلِكَ قَتَلُوا الطِّفْلَ. والِاسْتِحْياءُ اسْتِفْعالٌ يَدُلُّ عَلى الطَّلَبِ لِلْحَياةِ أيْ يُبْقُونَهُنَّ أحْياءً أوْ يَطْلُبُونَ حَياتَهُنَّ. ووَجْهُ ذِكْرِهِ هُنا في مَعْرِضِ التَّذْكِيرِ بِما نالَهم مِنَ المَصائِبِ أنَّ هَذا الِاسْتِحْياءَ لِلْإناثِ كانَ (p-٤٩٣)المَقْصِدُ مِنهُ خَبِيثًا وهو أنْ يَعْتَدُوا عَلى أعْراضِهِنَّ ولا يَجِدْنَ بُدًّا مِنَ الإجابَةِ بِحُكْمِ الأسْرِ والِاسْتِرْقاقِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكم كِنايَةً عَنِ اسْتِحْياءٍ خاصٍّ ولِذَلِكَ أُدْخِلَ في الإشارَةِ في قَوْلِهِ ﴿وفِي ذَلِكم بَلاءٌ مِن رَبِّكم عَظِيمٌ﴾ ولَوْ كانَ المُرادُ مِنَ الِاسْتِحْياءِ ظاهِرَهُ لَما كانَ وجْهٌ لِعَطْفِهِ عَلى تِلْكَ المُصِيبَةِ. وقِيلَ إنَّ الِاسْتِحْياءَ مِنَ الحَياءِ وهو الفَرْجُ أيْ يُفَتِّشُونَ النِّساءَ في أرْحامِهِنَّ لِيَعْرِفُوا هَلْ بِهِنَّ حَمْلٌ وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا. وأحْسَنُ مِنهُ أنْ لَوْ قالَ إنَّهُ كِنايَةٌ كَما ذَكَرْنا آنِفًا. وقَدْ حَكَتِ التَّوْراةُ أنَّ فِرْعَوْنَ أوْصى القَوابِلَ بِقَتْلِ كُلِّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ. وجُمْلَةُ ﴿يُذَبِّحُونَ أبْناءَكُمْ﴾ إلَخْ بَيانٌ لِجُمْلَةِ يَسُومُونَكم سُوءَ العَذابِ فَيَكُونُ المُرادُ مِن سُوءِ العَذابِ هُنا خُصُوصَ التَّذْبِيحِ وما عُطِفَ عَلَيْهِ وهو ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكم لِما عَرَفْتَ فَكِلاهُما بَيانٌ لِسُوءِ العَذابِ فَكانَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ العَذابِ لا يُعْتَدُّ بِهِ تُجاهَ هَذا. ولَكَ أنْ تَجْعَلَ الجُمْلَةَ في مَوْضِعِ بَدَلِ البَعْضِ تَخْصِيصًا لِأعْظَمِ أحْوالِ سُوءِ العَذابِ بِالذِّكْرِ وهَذا هو الَّذِي يُطابِقُ آيَةَ سُورَةِ إبْراهِيمَ الَّتِي ذُكِرَ فِيها ﴿ويُذَبِّحُونَ أبْناءَكُمْ﴾ [إبراهيم: ٦] بِالعَطْفِ عَلى سُوءَ العَذابِ ولَيْسَ قَوْلُهُ ويَسْتَحْيُونَ مُسْتَأْنِفًا لِإتْمامِ تَفْصِيلِ صَنِيعِ فِرْعَوْنَ بَلْ هو مِن جُمْلَةِ البَيانِ أوِ البَدَلِ لِلْعَذابِ ويَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى في الآيَةِ الأُخْرى ﴿يُذَبِّحُ أبْناءَهم ويَسْتَحْيِي نِساءَهم إنَّهُ كانَ مِنَ المُفْسِدِينَ﴾ [القصص: ٤] فَعَقَّبَ الفِعْلَيْنِ بِقَوْلِهِ إنَّهُ كانَ مِنَ المُفْسِدِينَ. والبَلاءُ: الِاخْتِبارُ بِالخَيْرِ والشَّرِّ قالَ تَعالى ﴿وبَلَوْناهم بِالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ﴾ [الأعراف: ١٦٨] وهو مَجازٌ مَشْهُورٌ حَقِيقَتُهُ بَلاءُ التَّوْبِ بِفَتْحِ الباءِ مَعَ المَدِّ وبِكَسْرِها مَعَ القَصْرِ وهو تَخَلُّقُهُ وتَرَهُّلُهُ ولَمّا كانَ الِاخْتِبارُ يُوجِبُ الضَّجَرَ والتَّعَبَ سُمِّيَ بَلاءً كَأنَّهُ يَخْلُقُ النَّفْسَ، ثُمَّ شاعَ في اخْتِبارِ الشَّرِّ لِأنَّهُ أكْثَرُ إعْناتًا لِلنَّفْسِ، وأشْهَرُ اسْتِعْمالِهِ إذا أُطْلِقَ أنْ يَكُونَ لِلشَّرِّ فَإذا أرادُوا بِهِ الخَيْرَ احْتاجُوا إلى قَرِينَةٍ أوْ تَصْرِيحٍ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ: ؎جَزى اللَّهُ بِالإحْسانِ ما فَعَلا بِكم ∗∗∗ وأبْلاهُما خَيْرَ البَلاءِ الَّذِي يَبْلُو فَيُطْلَقُ غالِبًا عَلى المُصِيبَةِ الَّتِي تَحِلُّ بِالعَبْدِ لِأنَّ بِها يُخْتَبَرُ مِقْدارُ الصَّبْرِ والأناةِ والمُرادُ هُنا المُصِيبَةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ (عَظِيمٌ) . وقِيلَ أرادَ بِهِ الإنْجاءَ والبَلاءَ بِمَعْنى اخْتِبارِ الشُّكْرِ وهو بَعِيدٌ هُنا. وتَعَلَّقَ الإنْجاءُ بِالمُخاطَبِينَ لِأنَّ إنْجاءَ سَلَفِهِمْ إنْجاءٌ لَهم فَإنَّهُ لَوْ أبْقى سَلَفَهم هُنالِكَ لَلَحِقَ المُخاطَبِينَ سُوءُ العَذابِ وتَذْبِيحُ الأبْناءِ. أوْ هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ نَجَّيْنا آباءَكم، أوْ هو تَعْبِيرٌ عَنِ الغائِبِ (p-٤٩٤)بِضَمِيرِ الخِطابِ إمّا لِنُكْتَةِ اسْتِحْضارِ حالِهِ وإمّا لِكَوْنِ المُخاطَبِينَ مِثالَهم وصُورَتَهم فَإنَّ ما يَثْبُتُ مِنَ الفَضائِلِ لِآباءِ القَبِيلَةِ يَثْبُتُ لِأعْقابِهِمْ فالإتْيانُ بِضَمِيرِ المُخاطَبِ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ عَلى حَدِّ ما يُقالُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنّا لَمّا طَغى الماءُ حَمَلْناكم في الجارِيَةِ﴾ [الحاقة: ١١] فالخِطابُ لَيْسَ بِالتِفاتٍ لِأنَّ اعْتِبارَ أحْوالِ القَبائِلِ يُعْتَبَرُ لِلْخَلَفِ ما ثَبَتَ مِنهُ لِلسَّلَفِ.