ركن التفسير
56 - (ثم بعثناكم) أحييناكم (من بعد موتكم لعلكم تشكرون) نعمتنا بذلك
وقال الربيع بن أنس كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم وكذا قال: قتادة وقال: ابن جرير حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحق قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه وللسامري ما قال: وحرق العجل وذراه في اليم اختار موسى منهم سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله قالوا: يا موسى اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال: للقوم ادنوا وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا لموسى "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعا وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول "رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي" قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا؟ أي إن هذا لهم هلاك واخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ "إنا هدنا إليك" فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل فقال لا إلا أن يقتلوا أنفسهم - هذا سياق محمد بن إسحاق - وقال إسماعيل بن عبدالرحمن السدي الكبير لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موسى فاختار موسى سبعين رجلا على عينه ثم ذهب بهم ليعتذروا وساق البقية وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله "وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" والمراد السبعون المختارون منهم ولم يحك كثير من المفسرين سواه وقد أغرب الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين أنهم بعد إحيائهم قالوا يا موسى إنك لا تطلب من الله شيئا إلا أعطاك فادعه أن يجعلنا فدعا بذلك فأجاب الله دعوته وهذا غريب جدا إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هرون ثم يوشع بن نون وقد غلط أهل الكتاب أيضا في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمنع منه كيف يناله هؤلاء السبعون. القول الثاني في الآية قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية قال: لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة فوجدهم يعبدون العجل فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا فتاب الله عليهم فقال إن هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه فقالوا ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله علينا ويقول هذا كتابي فخذوه فماله لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى وقرأ قول الله "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" قال فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون قال ثم أحياهم الله من بعد موتهم وقرأ قول الله "ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون" فقال لهم موسى خذوا كتاب الله فقالوا لا فقال أي شيء أصابكم؟ فقالوا أصابنا أنا متنا ثم أحيينا قال خذوا كتاب الله قالوا لا فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماوردي في ذلك قولين أحدهما أنه سقط التكليف عنهم لمعاينته الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق والثاني أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف قال القرطبي وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورا عظاما من خوارق العادات وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح والله أعلم.
﴿وإذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللَّهَ جَهْرَةً فَأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ ﴿ثُمَّ بَعَثْناكم مِن بَعْدِ مَوْتِكم لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ أُخْرى نَشَأتْ بَعْدَ عِقابٍ عَلى جَفاءِ طَبْعِ فَمَحَلُّ المِنَّةِ والنِّعْمَةِ هو قَوْلُهُ ﴿ثُمَّ بَعَثْناكُمْ﴾ وما قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ وتَأْسِيسٌ لِبِنائِهِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿وإذْ واعَدْنا مُوسى أرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [البقرة: ٥١] الآيَةَ. والقائِلُونَ هم أسْلافُ المُخاطَبِينَ وذَلِكَ أنَّهم قالُوا لِمُوسى ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ (p-٥٠٦)والظّاهِرُ أنَّ هَذا القَوْلَ وقَعَ مِنهم بَعْدَ العَفْوِ عَنْ عِبادَتِهِمُ العِجْلَ كَما هو ظاهِرُ تَرْتِيبِ الآياتِ رَوى ذَلِكَ البَغَوِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ، وقِيلَ إنَّ ذَلِكَ سَألُوهُ عِنْدَ مُناجاتِهِ وإنَّ السّائِلِينَ هُمُ السَبْعُونَ الَّذِينَ اخْتارَهم مُوسى لِلْمِيقاتِ وهُمُ المُعَبَّرُ عَنْهم في التَّوْراةِ بِالكَهَنَةِ وبِشُيُوخِ بَنِي إسْرائِيلَ وقِيلَ سَألَ ذَلِكَ جَمْعٌ مِن عامَّةِ بَنِي إسْرائِيلَ نَحْوَ العَشَرَةِ الآلافِ وهَذانِ القَوْلانِ حَكاهُما في الكَشّافِ ولَيْسَ في التَّوْراةِ ما هو صَرِيحٌ لِتَرْجِيحِ أحَدِ القَوْلَيْنِ ولا ما هو صَرِيحٌ في وُقُوعِ هَذا السُّؤالِ ولَكِنْ ظاهِرُ ما في سِفْرِ التَّثْنِيَةِ مِنها ما يُشِيرُ إلى أنَّ هَذا الِاقْتِراحَ قَدْ صَدَرَ وأنَّهُ وقَعَ بَعْدَ كَلامِ اللَّهِ تَعالى الأوَّلِ لِمُوسى لِأنَّها لَمّا حَكَتْ تَذْكِيرَ مُوسى في مُخاطَبَةِ بَنِي إسْرائِيلَ ذَكَرَتْ ما يُغايِرُ كَيْفِيَّةَ المُناجاةِ الأُولى إذْ قالَ فَلَمّا سَمِعْتُمُ الصَّوْتَ مِن وسَطِ الظَّلامِ والجَبَلُ يَشْتَعِلُ بِالنّارِ تَقَدَّمَ إلَيَّ جَمِيعُ رُؤَساءِ أسْباطِكم وشُيُوخِكم وقُلْتُمْ هو ذا الرَّبُّ إلَهُنا قَدْ أرانا مَجْدَهُ وعَظَمَتَهُ وسَمِعْنا صَوْتَهُ مِن وسَطِ النّارِ. . . . . . إنَّ عِنْدَما نَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إلَهَنا أيْضًا نَمُوتُ. . . . . . . تَقَدَّمْ أنْتَ واسْمَعْ كُلَّ ما يَقُولُ لَكَ الرَّبُّ إلَهُنا وكَلِّمْنا بِكُلِّ ما يُكَلِّمُكَ بِهِ الرَّبُّ إلْخَ فَهَذا يُؤْذِنُ أنَّ هُنالِكَ تَرَقُّبًا كانَ مِنهم لِرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى وأنَّهم أصابَهم ما بَلَغَ بِهِمْ مَبْلَغَ المَوْتِ، وبَعْدُ فالقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلى غَيْرِهِ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ومُهَيْمِنًا عَلَيْهِ. والظّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ كانَ في الشَّهْرِ الثّالِثِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِن مِصْرَ. ومَعْنى لا نُؤْمِنُ لَكَ يَحْتَمِلُ أنَّهم تَوَقَّعُوا الكُفْرَ إنْ لَمْ يَرَوُا اللَّهَ تَعالى أيْ أنَّهم يَرْتَدُّونَ في المُسْتَقْبَلِ عَنْ إيمانِهِمُ الَّذِي اتَّصَفُوا بِهِ مِن قَبْلُ، ويَحْتَمِلُ أنَّهم أرادُوا الإيمانَ الكامِلَ الَّذِي دَلِيلُهُ المُشاهَدَةُ أيْ أنَّ أحَدَ هَذَيْنِ الإيمانَيْنِ يَنْتَفِي إنْ لَمْ يَرَوُا اللَّهَ جَهْرَةً لِأنَّ لَنْ لِنَفْيِ المُسْتَقْبَلِ قالَ سِيبَوَيْهِ لا لِنَفْيِ يَفْعَلُ ولَنْ لِنَفْيِ سَيَفْعَلُ وكَما أنَّ قَوْلَكَ سَيَقُومُ لا يَقْتَضِي أنَّهُ الآنَ غَيْرُ قائِمٍ فَلَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهم كَفَرُوا حِينَ قَوْلِهِمْ هَذا ولَكِنَّها دالَّةٌ عَلى عَجْرَفَتِهِمْ وقِلَّةِ اكْتِراثِهِمْ بِما أُوتُوا مِنَ النِّعَمِ وما شاهَدُوا مِنَ المُعْجِزاتِ حَتّى رامُوا أنْ يَرَوُا اللَّهَ جَهْرَةً وإنْ لَمْ يَرَوْهُ دَخَلَهُمُ الشَّكُّ في صِدْقِ مُوسى وهَذا كَقَوْلِ القائِلِ إنْ كانَ كَذا فَأنا كافِرٌ. ولَيْسَ في القُرْآنِ ولا في غَيْرِهِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهم قالُوا ذَلِكَ عَنْ كُفْرٍ. وإنَّما عَدّى نُؤْمِنُ بِاللّامِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنى الإقْرارِ بِاللَّهِ ولَنْ نُقِرَّ لَكَ بِالصِّدْقِ والَّذِي دَلَّ عَلى هَذا الفِعْلِ المَحْذُوفِ هو اللّامُ وهي طَرِيقَةُ التَّضْمِينِ. (p-٥٠٧)والجَهْرَةُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ فَعْلَةٍ مِنَ الجَهْرِ وهو الظُّهُورُ الواضِحُ فَيُسْتَعْمَلُ في ظُهُورِ الذَّواتِ والأصْواتِ حَقِيقَةً عَلى قَوْلِ الرّاغِبِ إذْ قالَ الجَهْرُ ظُهُورُ الشَّيْءِ بِإفْراطٍ إمّا بِحاسَّةِ البَصَرِ نَحْوَ رَأيْتُهُ جِهارًا ومِنهُ جَهَرَ البِئْرَ إذا أظْهَرَ ماءَها، وإمّا بِحاسَّةِ السَّمْعِ نَحْوَ وإنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ وكَلامُ الكَشّافِ مُؤْذِنٌ بِأنَّ الجَهْرَ مَجازٌ في الرُّؤْيَةِ بِتَشْبِيهِ الَّذِي يَرى بِالعَيْنِ بِالجاهِرِ بِالصَّوْتِ والَّذِي يَرى بِالقَلْبِ بِالمُخافِتِ، وكانَ الَّذِي حَداهُ عَلى ذَلِكَ اشْتِهارُ اسْتِعْمالِ الجَهْرِ في الصَّوْتِ وفي هَذا كُلِّهِ بُعْدٌ إذْ لا دَلِيلَ عَلى أنَّ جَهْرَةَ الصَّوْتِ هي الحَقِيقَةُ ولا سَبِيلَ إلى دَعْوى الِاشْتِهارِ في جَهْرَةِ الصَّوْتِ حَتّى يَقُولَ قائِلٌ إنَّ الِاشْتِهارَ مِن عَلاماتِ الحَقِيقَةِ عَلى أنَّ الِاشْتِهارَ إنَّما يُعْرَفُ بِهِ المَجازُ القَلِيلُ الِاسْتِعْمالِ، وأمّا الأشْهَرِيَّةُ فَلَيْسَتْ مِن عَلاماتِ الحَقِيقَةِ. ولِأنَّهُ لا نُكْتَةَ في هَذِهِ الِاسْتِعارَةِ ولا غَرَضَ يَرْجِعُ إلى المُشَبَّهِ مِن هَذا التَّشْبِيهِ فَإنَّ ظُهُورَ الذَّواتِ أوْضَحُ مِن ظُهُورِ الأصْواتِ. وانْتَصَبَ (جَهْرَةً) عَلى المَفْعُولِ المُطْلَقِ لِبَيانِ نَوْعِ فِعْلِ تَرى لِأنَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ ما يَكُونُ لَمْحَةً أوْ مَعَ سائِرٍ شَفّافٍ فَلا تَكُونُ واضِحَةً. ووَجْهُ العُدُولِ عَنْ أنْ يَقُولَ عِيانًا إلى قَوْلِهِ (جَهْرَةً) لِأنَّ جَهْرَةً أفْصَحُ لَفْظًا لِخِفَّتِهِ، فَإنَّهُ غَيْرُ مَبْدُوءٍ بِحَرْفِ حَلْقٍ والِابْتِداءُ بِحَرْفِ الحَلْقِ أتْعَبُ لِلْحَلْقِ مِن وُقُوعِهِ في وسَطِ الكَلامِ ولِسَلامَتِهِ مِن حَرْفِ العِلَّةِ، وكَذَلِكَ يَجْتَبِي البُلَغاءُ بَعْضَ الألْفاظِ عَلى بَعْضٍ لِحُسْنِ وقْعِها في الكَلامِ وخِفَّتِها عَلى السَّمْعِ ولِلْقُرْآنِ السَّهْمُ المُعَلّى في ذَلِكَ وهو في غايَةِ الفَصاحَةِ. وقَوْلُهُ ﴿فَأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ﴾ أيْ عُقُوبَةً لَهم عَمّا بَدا مِنهم مِنَ العَجْرَفَةِ وقِلَّةِ الِاكْتِراثِ بِالمُعْجِزاتِ. وهَذِهِ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لا تَدُلُّ عَلى أنَّ المُعاقَبَ عَلَيْهِ حَرامٌ أوْ كُفْرٌ لا سِيَّما وقَدْ قُدِّرَ أنَّ مَوْتَهم بِالصّاعِقَةِ لا يَدُومُ إلّا قَلِيلًا فَلَمْ تَكُنْ مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ. وبِهِ تَعْلَمُ أنْ لَيْسَ في إصابَةِ الصّاعِقَةِ لَهم دَلالَةٌ عَلى أنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعالى مُسْتَحِيلَةٌ، وأنَّ سُؤالَها والإلْحاحَ فِيهِ كُفْرٌ كَما زَعَمَ المُعْتَزِلَةُ وأنْ لا حاجَةَ إلى الجَوابِ عَنْ ذَلِكَ بِأنَّ الصّاعِقَةَ لِاعْتِقادِهِمْ أنَّهُ تَعالى يُشَبِّهُ الأجْسامَ فَكانُوا بِذَلِكَ كافِرِينَ إذْ لا دَلِيلَ في الآيَةِ ولا غَيْرِها عَلى أنَّهم كَفَرُوا، كَيْفَ وقَدْ سَألَ الرُّؤْيَةَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. والصّاعِقَةُ نارٌ كَهْرَبائِيَّةٌ مِنَ السَّحابِ تَحْرِقُ مَن أصابَتْهُ، وقَدْ لا تَظْهَرُ النّارُ ولَكِنْ يَصِلُ هَواؤُها إلى الأحْياءِ فَيَخْتَنِقُونَ بِسَبَبِ ما يُخالِطُ الهَواءَ الَّذِي يَتَنَفَّسُونَ فِيهِ مِنَ الحَوامِضِ النّاشِئَةِ عَنْ شِدَّةِ الكَهْرَبائِيَّةِ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ الَّذِي أصابَهم نارٌ، وقِيلَ سَمِعُوا صَعْقَةً فَماتُوا. (p-٥٠٨)وقَوْلُهُ ﴿وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٠] فائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِهَذا الحالِ عِنْدَ صاحِبِ الكَشّافِ الدِّلالَةُ عَلى أنَّ الصّاعِقَةَ الَّتِي أصابَتْهم نارُ الصّاعِقَةِ لا صَوْتُها الشَّدِيدُ لِأنَّ الحالَ دَلَّتْ عَلى أنَّ الَّذِي أصابَهم مِمّا يُرى، وقالَ القُرْطُبِيُّ أيْ وأنْتُمْ يَنْظُرُ بَعْضُكم إلى بَعْضٍ أيْ مُجْتَمِعُونَ. وعِنْدِي أنَّ مَفْعُولَ تَنْظُرُونَ مَحْذُوفٌ وأنَّ تَنْظُرُونَ بِمَعْنى تُحَدِّقُونَ الأنْظارَ عِنْدَ رُؤْيَةِ السَّحابِ عَلى جَبَلِ الطُّورِ طَمَعًا أنْ يَظْهَرَ لَهُمُ اللَّهُ مِن خِلالِهِ لِأنَّهُمُ اعْتادُوا أنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُ مُوسى كَلامًا يَسْمَعُهُ مِن خِلالِ السَّحابِ كَما تَقُولُهُ التَّوْراةُ في مَواضِعَ، فَفائِدَةُ الحالِ إظْهارُ أنَّ العُقُوبَةَ أصابَتْهم في حِينِ الإساءَةِ والعَجْرَفَةِ إذْ طَمِعُوا فِيما لَمْ يَكُنْ لِيُنالَ لَهم. وقَوْلُهُ ﴿ثُمَّ بَعَثْناكم مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ إيجازٌ بَدِيعٌ، أيْ فَمُتُّمْ مِنَ الصّاعِقَةِ ﴿ثُمَّ بَعَثْناكم مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ وهَذا خارِقُ عادَةٍ جَعَلَهُ اللَّهِ مُعْجِزَةً لِمُوسى اسْتِجابَةً لِدُعائِهِ وشَفاعَتِهِ أوْ كَرامَةً لَهم مِن بَعْدِ تَأْدِيبِهِمْ إنْ كانَ السّائِلُونَ هُمُ السَبْعِينَ فَإنَّهم مِن صالِحِي بَنِي إسْرائِيلَ. فَإنْ قُلْتَ: إذا كانَ السّائِلُونَ هُمُ الصّالِحِينَ فَكَيْفَ عُوقِبُوا. قُلْتُ: قَدْ عَلِمْتُ أنَّ هَذا عِقابٌ دُنْيَوِيٌّ وهو يَنالُ الصّالِحِينَ ويُسَمّى عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ بِالعِتابِ وهو لا يُنافِي الكَرامَةَ، ونَظِيرُهُ أنَّ مُوسى سَألَ رُؤْيَةَ رَبِّهِ فَتَجَلّى اللَّهُ لِلْجَبَلِ فَ جَعَلَهُ دَكًّا وخَرَّ مُوسى صَعِقًا فَلَمّا أفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ فَإنْ قُلْتَ: إنَّ المَوْتَ يَقْتَضِي انْحِلالَ التَّرْكِيبِ المِزاجِيِّ فَكَيْفَ يَكُونُ البَعْثُ بَعْدَهُ في غَيْرِ يَوْمِ إعادَةِ الخَلْقِ قُلْتُ: المَوْتُ هو وُقُوفُ حَرَكَةِ القَلْبِ وتَعْطِيلُ وظائِفِ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ فَإذا حَصَلَ عَنْ فَسادٍ فِيها لَمْ تَعْقُبْهُ حَياةٌ إلّا في يَوْمِ إعادَةِ الخَلْقِ وهو المَعْنى بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿لا يَذُوقُونَ فِيها المَوْتَ إلّا المَوْتَةَ الأُولى﴾ [الدخان: ٥٦] وإذا حَصَلَ عَنْ حادِثٍ قاهِرٍ مانِعٍ وظائِفَ القَلْبِ مِن عَمَلِها كانَ لِلْجَسَدِ حُكْمُ المَوْتِ في تِلْكَ الحالَةِ لَكِنَّهُ يَقْبَلُ الرُّجُوعَ إنْ عادَتْ إلَيْهِ أسْبابُ الحَياةِ بِزَوالِ المَوانِعِ العارِضَةِ، وقَدْ صارَ الأطِبّاءُ اليَوْمَ يَعْتَبِرُونَ بَعْضَ الأحْوالِ الَّتِي تُعَطِّلُ عَمَلَ القَلْبِ اعْتِبارَ المَوْتِ ويُعالِجُونَ القَلْبَ بِأعْمالٍ جِراحِيَّةٍ تُعِيدُ إلَيْهِ حَرَكَتَهُ. والمَوْتُ بِالصّاعِقَةِ إذا كانَ عَنِ اخْتِناقٍ أوْ قُوَّةِ ضَغْطِ الصَّوْتِ عَلى القَلْبِ قَدْ تَعْقُبُهُ الحَياةُ بِوُصُولِ هَواءٍ صافٍ جَدِيدٍ، وقَدْ يَطُولُ زَمَنُ هَذا المَوْتِ في العادَةِ ساعاتٍ قَلِيلَةٍ؛ ولَكِنَّ هَذا الحادِثَ كانَ خارِقَ عادَةٍ فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَوْتُهم قَدْ طالَ يَوْمًا ولَيْلَةً كَما رُوِيَ في بَعْضِ الأخْبارِ ويُمْكِنُ دُونَ ذَلِكَ.