ركن التفسير
87 - (ولقد آتينا موسى الكتاب) التوراة (وقفينا من بعده بالرسل) أي أتبعناهم رسولاً في إثر رسول (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص (وأيدناه) قويناه (بروح القدُس) من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الروح المقدسة جبريل لطهارته يسير معه حيث سار فلم تستقيموا (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى) تحب (أنفسكم) من الحق (استكبرتم) تكبرتم عن اتباعه جواب كلما وهو محل الاستفهام ، والمراد به التوبيخ (ففريقا) منهم (كذبتم) كعيسى (وفريقا تقتلون) المضارع لحكاية الحال الماضية: أي قتلتم كزكريا ويحيى
ينعت تبارك وتعالى بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة والاستكبار على الأنبياء وأنهم إنما يتبعون أهواءهم فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب وهو التوراة فحرفوها وبدلوها وخالفوا أوامرها وأولوها وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء" الآية ولهذا قال تعالى "وقفينا من بعده بالرسل" قال السدي عن أبي مالك: أتبعنا وقال غيره: أردفنا. والكل قريب كما قال تعالى "ثم أرسلنا رسلنا تترى" حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ولهذا أعطاه الله من البينات وهي المعجزات. قال ابن عباس: من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله وإبراء الأسقام وإخباره بالغيوب وتأييده بروح القدس وهو جبريل عليه السلام - ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به فاشتد تكذيب بني إسرائيل له وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة البعض كما قال تعالى إخبارا عن عيسى "ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم" الآية. فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ المعاملة ففريقا يكذبونه وفريقا يقتلونه وما ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبالإلزام بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم وربما قتلوا بعضهم ولهذا قال تعالى "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريق تقتلون". والدليل على أن روح القدس هو جبريل كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية وتابعه على ذلك أبن عباس ومحمد بن كعب وإسماعيل بن خالد والسدي والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة مع قوله تعالى "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين" ما قال البخاري وقال ابن أبى الزناد عن أبيه عن أبي هريرة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد فكان ينافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: رسول الله الله - صلى الله عليه وسلم - أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك" فهذا من البخاري تعليقا وقد رواه أبو داود في سننه عن ابن سيرين والترمذي عن علي بن حجر وإسماعيل بن موسى الفزاري ثلاثتهم عن أبي عبدالرحمن بن أبي الزناد عن أبيه وهشام بن عروة كلاهما عن عائشة به قال الترمذي حسن صحيح وهو حديث أبي الزناد وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "أجب عني اللهم أيده بروح القدس" فقال اللهم نعم وفي بعض الروايات أن رسول الله قال لحسان "اهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك" وفي شعر حسان قوله: وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس به خفاء وقال محمد بن إسحق حدثني عبدالرحمن بن أبي حسين المكي عن شهر بن حوشب الأشعري أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا أخبرنا عن الروح فقال "أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبرائيل وهو الذي يأتيني؟" قالوا نعم: وفي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". أقوال أخر: قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا منجاب بن الحارث حدثنا بشر بن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس "وأيدناه بروح القدس" قال: هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. وقال ابن جرير حدثت عن المنجاب فذكره وقال ابن أبي حاتم وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير أيضا قال: وهو الاسم الأعظم. وقال ابن أبي نجيح: الروح هو حفظة على الملائكة وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: القدس هو الرب تبارك وتعالى. وهو قول كعب وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا: القدس هو الله تعالى وروحه جبريل. فعلى هذا يكون القول الأول وقال السدي: القدس البركة. وقال العوفي عن ابن عباس القدس الطهر وقال ابن جرير حدثنا يونس بن عبدالأعلى أنبأنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى "وأيدناه بروح القدس" قال: أيد الله عيسى بالإنجيل روحا كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله كما قال تعالى "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا" ثم قال ابن جرير وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال الروح في هذا الموضع جبرائيل فإن الله تعالى أخبر أنه أيد عيسى به كما أخبر فى قوله تعالى "إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" الآية. فذكر أنه أيده به فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل لكان قوله "وإذ أيدتك بروح القدس" "وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" تكرير قول لا معنى له والله سبحانه وتعالى أعز وأجل أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به "قلت" ومن الدليل على أنه جبرائيل ما تقدم من أول السياق ولله الحمد وقال الزمخشري "بروح القدس" بالروح المقدسة كما تقول حاتم الجود ورجل صدق ووصفها بالقدس كما قال "وروح منه" فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة وميل لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث وقيل بجبريل وقيل بالإنجيل كما قال في القرآن "روحا من أمرنا" وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره فتضمن كلامه قولا آخر وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة وقال الزمخشري في قوله تعالى "فريقا كذبتم وفريقا تقتلون" إنما لم يقل وفريقا قتلتم لأنه أراد بذلك وصفهم فى المستقبل أيضا لأنهم حاولوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسم والسحر وقد قال عليه السلام في مرض موته "ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري" "قلت" وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره.
﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ وقَفَّيْنا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وآتَيْنا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّناتِ وأيَّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ أفَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَبْتُمْ وفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ انْتِقالٌ مِنَ الإنْحاءِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ في فِعالِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِما قابَلُوهُ بِهِ مِنِ العِصْيانِ والتَّبَرُّمِ والتَّعَلُّلِ في قَبُولِ الشَّرِيعَةِ وبِما خالَفُوا مِن أحْكامِ التَّوْراةِ بَعْدَ مَوْتِهِ إلى قُرْبِ مَجِيءِ الإسْلامِ إلى الإنْحاءِ عَلَيْهِمْ بِسُوءِ مُقابَلَتِهِمْ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ أتَوْا بَعْدَ مُوسى مِثْلَ يُوشَعَ وإلْياسَ وأرْمِياءَ وداوُدَ مُؤَيِّدِينَ لِشَرِيعَتِهِ ومُفَسِّرِينَ وباعِثِينَ لِلْأُمَّةِ عَلى تَجْدِيدِ العَمَلِ بِالشَّرِيعَةِ مَعَ تَعَدُّدِ هَؤُلاءِ الرُّسُلِ واخْتِلافِ مَشارِبِهِمْ في الدَّعْوَةِ لِذَلِكَ المَقْصِدِ مَن لِينٍ وشِدَّةٍ، ومِن رَغْبَةٍ ورَهْبَةٍ، ثُمَّ جاءَ عِيسى مُؤَيِّدًا وناسِخًا ومُبَشِّرًا فَكانَتْ مُقابَلَتُهم لِأُولَئِكَ كُلِّهِمْ بِالإعْراضِ والِاسْتِكْبارِ وسُوءِ الصَّنِيعِ. وتِلْكَ أمارَةٌ عَلى أنَّهم إنَّما يُعْرِضُونَ عَنِ الحَقِّ لِأجْلِ مُخالَفَةِ الحَقِّ أهْواءَهم وإلّا فَكَيْفَ لَمْ يَجِدُوا في خِلالِ هاتِهِ العُصُورِ ومِن بَيْنِ تِلْكَ المَشارِبِ ما يُوافِقُ الحَقَّ ويَتَمَحَّضُ لِلنُّصْحِ. وإنَّ قَوْمًا هَذا دَأْبُهم يَرِثُهُ الخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ لَجَدِيرُونَ (p-٥٩٣)بِزِيادَةِ التَّوْبِيخِ لِيَكُونَ هَذا حُجَّةً عَلَيْهِمْ في أنَّ تَكْذِيبَهم لِلدَّعْوَةِ المُحَمَّدِيَّةِ مُكابَرَةٌ وحَسَدٌ حَتّى تَنْقَطِعَ حُجَّتُهم إذْ لَوْ كانَتْ مُعانَدَتُهم لِلْإسْلامِ هي أُولى فِعْلاتِهِمْ لَأوْهَمُوا النّاسَ أنَّهم ما أعْرَضُوا إلّا لِما تَبَيَّنَ لَهم مِن بُطْلانٍ؛ فَكانَ هَذا مُرْتَبِطًا بِقَوْلِهِ ﴿وآمِنُوا بِما أنْزَلْتُ مُصَدِّقًا﴾ [البقرة: ٤١] ومُقَدِّمَةً لِلْإنْحاءِ عَلَيْهِمْ في مُقابَلَتِهِمْ لِلدَّعْوَةِ المُحَمَّدِيَّةِ الآتِي ذِكْرُها في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] فَقَوْلُهُ تَعالى ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ تَمْهِيدٌ لِلْمَعْطُوفِ وهو قَوْلُهُ ﴿وقَفَّيْنا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ الَّذِي هو المَبْنِيُّ عَلَيْهِ التَّعَجُّبُ في قَوْلِهِ ﴿أفَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ﴾ فَقَوْلُهُ ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ تَمْهِيدُ التَّمْهِيدِ وإلّا فَهو قَدْ عُلِمَ مِنَ الآياتِ السّابِقَةِ فَلا مُقْتَضى لِلْإعْلامِ بِهِ اسْتِقْلالًا هُنا ولَكِنَّهُ ذُكِرَ لِيُبْنى عَلَيْهِ ما بَعْدَهُ فَكَأنَّهُ تَحْصِيلٌ لِما تَقَدَّمَ أيْ ولَقَدْ كانَ ما كانَ مِمّا تَقَدَّمَ وهو إيتاءُ مُوسى الكِتابَ وقَفَّيْنا أيْضًا بَعْدَهُ بِالرُّسُلِ فَهو كالعِلاوَةِ أوْ كَقَوْلِ القائِلِ هَذا وقَدْ كانَ كَذا. وقَفّى مُضاعَفُ قَفا تَقُولُ قَفَوْتُ فُلانًا إذا جِئْتُ في إثْرِهِ لِأنَّكَ حِينَئِذٍ كَأنَّكَ تَقْصِدُ جِهَةَ قَفاهُ فَهو مِنَ الأفْعالِ المُشْتَقَّةِ مِنَ الجَوامِدِ مِثْلَ جَبَهَهُ. فَصارَ المُضاعَفُ قَفّاهُ بِفُلانٍ تَقْفِيَةً وذَلِكَ أنَّكَ جَعَلْتَهُ مَأْمُورًا بِأنْ يَقْفُوَ بِجَعْلٍ مِنكَ لا مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ أيْ جَعَلْتَهُ يَقْفُوهُ غَيْرُهُ ولِكَوْنِ المَفْعُولِ واحِدًا جَعَلُوا المَفْعُولَ الثّانِيَ عِنْدَ التَّضْعِيفِ مُتَعَلِّقًا بِالفِعْلِ بِباءِ التَّعْدِيَةِ لِئَلّا يَلْتَبِسَ التّابِعُ بِالمَتْبُوعِ فَقالُوا قَفّى زَيْدًا بِعَمْرٍو عِوَضَ أنْ يَقُولُوا قَفّى زَيْدًا عَمْرًا. فَمَعْنى ﴿قَفَّيْنا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ أرْسَلْنا رُسُلًا وقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُ قَفَّيْنا لِلْعِلْمِ بِهِ وهو ضَمِيرُ مُوسى. وقَوْلُهُ مِن بَعْدِهِ أيْ مِن بَعْدِ ذَهابِهِ أيْ مَوْتِهِ، وفِيهِ إيماءٌ إلى التَّسْجِيلِ عَلى اليَهُودِ بِأنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ بَعْدَ مُوسى لَيْسَ بِبِدْعٍ. والجَمْعُ في الرُّسُلِ لِلْعَدَدِ والتَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ وهو مُرادٌ بِهِ تَكْثِيرٌ قالَهُ صاحِبُ الكَشّافِ أيْ لِأنَّ شَأْنَ لَفْظِ الجِنْسِ المُعَرَّفِ إذا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ أنْ يَدُلَّ عَلى الِاسْتِغْراقِ فَلَمّا كانَ الِاسْتِغْراقُ هُنا مُتَعَذِّرًا دَلَّ عَلى التَّكْثِيرِ مَجازًا لِمُشابِهَةِ الكَثِيرِ بِجَمِيعِ أفْرادِ الجِنْسِ كَقَوْلِكَ لَمْ يَبْقَ أحَدٌ في البَلَدِ لَمْ يَشْهَدِ الهِلالَ إذا شَهِدَهُ جَماعاتٌ كَثِيرَةٌ وهو قَرِيبٌ مِن مَعْنى الِاسْتِغْراقِ العُرْفِيِّ. وسُمِّيَ أنْبِياءُ بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِ مُوسى رُسُلًا مَعَ أنَّهم لَمْ يَأْتُوا بِشَرْعٍ جَدِيدٍ اعْتِبارًا (p-٥٩٤)بِأنَّ اللَّهَ أمَرَهم بِإقامَةِ التَّوْراةِ وتَفْسِيرِها والتَّفْرِيعِ مِنها فَقَدْ جَعَلَ لَهم تَصَرُّفًا شَرْعِيًّا وبِذَلِكَ كانُوا زائِدِينَ عَلى مُطْلَقِ النُّبُوَّةِ الَّتِي لا تَعَلُّقَ لَها بِالتَّشْرِيعِ لا تَأْصِيلًا ولا تَفْرِيعًا. وقالَ الباقِلّانِيُّ فِيما نَقَلَهُ عَنْهُ الفَخْرُ: لا بُدَّ أنْ يَكُونَ هَؤُلاءِ الرُّسُلُ جاءُوا بِشَرْعٍ جَدِيدٍ ولَوْ مَعَ المُحافَظَةِ عَلى الشَّرْعِ الأوَّلِ أوْ تَجْدِيدِ ما انْدَرَسَ مِنهُ وهو قَرِيبٌ مِمّا قُلْناهُ قالَ تَعالى ﴿وإنَّ إلْياسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ١٢٣]، وقالَ ﴿وإنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ١٣٩] وما كانَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ إلّا مِثْلَهم في أنَّهُ ما أتى بِأحْكامٍ جَدِيدَةٍ إلّا شَيْئًا قَلِيلًا وخَصَّ عِيسى بِالذِّكْرِ مِن بَيْنِ سائِرِ الأنْبِياءِ الَّذِينَ جاءُوا بَعْدَ مُوسى زِيادَةً في التَّنْكِيلِ عَلى اليَهُودِ لِأنَّهم يَكْفُرُونَ بِهِ ويُكَذِّبُونَهُ ولِذَلِكَ أيْضًا خَصَّهُ بِقَوْلِهِ ﴿وأيَّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ﴾، ولِأنَّ مَن جاءَ بَعْدَ مُوسى مِنَ الرُّسُلِ لَمْ يُخْبِرُوا أنَّ جِبْرِيلَ جاءَهم بِوَحْيٍ وعِيسى كانَ أوْسَعَ مِنهم في الرِّسالَةِ. وعِيسى اسْمٌ مُعَرَّبٌ مِن يَشُوعَ أوْ يَسُوعَ وهو اسْمُ عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ قَلَبُوهُ في تَعْرِيبِهِ قَلْبًا مَكانِيًّا لِيَجْرِيَ عَلى وزْنٍ خَفِيفٍ كَراهِيَةَ اجْتِماعِ ثِقَلِ العُجْمَةِ وثِقَلِ تَرْتِيبِ حُرُوفِ الكَلِمَةِ فَإنَّ حَرْفَيْ عِلَّةٍ في الكَلِمَةِ وشِينًا والخَتْمَ بِحَرْفِ حَلْقٍ لا يُجْرِي هَذا التَّنْظِيمَ عَلى طَبِيعَةِ تَرْتِيبِ الحُرُوفِ مَعَ التَّنَفُّسِ عِنْدَ النُّطْقِ بِها فَقَدَّمُوا العَيْنَ لِأنَّها حَلْقِيَّةٌ فَهي مَبْدَأُ النُّطْقِ ثُمَّ حَرَّكُوا حُرُوفَهُ بِحَرَكاتٍ مُتَناسِبَةٍ وجَعَلُوا شِينَهُ المُعْجَمَةَ الثَّقِيلَةَ سِينا مُهْمَلَةً فَلِلَّهِ فَصاحَةُ العَرَبِيَّةِ. ومَعْنى يَشُوعُ بِالعِبْرانِيَّةِ السَّيِّدُ أوِ المُبارَكُ، ومَرْيَمُ هي أُمُّ عِيسى وهَذا اسْمُها بِالعِبْرانِيَّةِ نُقِلَ لِلْعَرَبِيَّةِ عَلى حالِهِ لِخِفَّتِهِ ولا مَعْنى لِمَرْيَمَ في العَرَبِيَّةِ غَيْرَ العَلَمِيَّةِ؛ إلّا أنَّ العَرَبَ المُتَنَصِّرَةَ عامَلُوهُ مُعامَلَةَ الصِّفَةِ في مَعْنى المَرْأةِ المُتَباعِدَةِ عَنْ مُشاهَدَةِ النِّساءِ لِأنَّ هاتِهِ الصِّفَةَ اشْتُهِرَتْ بِها مَرْيَمُ إذْ هي أوَّلُ امْرَأةٍ عِبْرانِيَّةٍ خَدَمَتْ بَيْتَ المَقْدِسِ فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ امْرَأةٌ مَرْيَمٌ أيْ مُعْرِضَةٌ عَنْ صِفاتِ النِّساءِ، كَما يَقُولُونَ رَجُلٌ حاتِمٌ بِمَعْنى جَوادٌ وذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنهم في الأعْلامِ المُشْتَهِرَةِ بِالأوْصافِ؛ ولِذَلِكَ قالَ رُؤْبَةُ: ” ؎قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَزِرْهُ مَرْيَمَهْ “ فَلَيْسَ هو مُشْتَقًّا مَن رامَ يَرِيمُ كَما قَدْ يُتَوَهَّمُ. ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ وزْنُها فَعْيِلَ بِفَتْحِ الفاءِ وإنْ كانَ نادِرًا. (p-٥٩٥)وعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ هو ابْنُ مَرْيَمَ كَوَّنَهُ اللَّهُ في بَطْنِها بِدُونِ مَسِّ رَجُلٍ. وأُمُّهُ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرانَ مِن سِبْطِ يَهُوذا. وُلِدَ عِيسى في مُدَّةِ سَلْطَنَةِ أغُسْطُسَ مَلِكِ رُومِيَّةَ وفي مُدَّةِ حُكْمِ هِيرُدُوسَ عَلى القُدْسِ مِن جِهَةِ سُلْطانِ الرُّومانِ وذَلِكَ في سَنَةِ ٤٣٠ عِشْرِينَ وسِتِّمِائَةٍ قَبْلَ الهِجْرَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، وكانَتْ وِلادَتُهُ بِقَرْيَةٍ تُعْرَفُ بِبَيْتِ لَحْمٍ اليَهُودِيَّةِ، ولَمّا بَلَغَ ثَلاثِينَ سَنَةً بُعِثَ رَسُولًا إلى بَنِي إسْرائِيلَ وبَقِيَ في الدُّنْيا إلى أنْ بَلَغَ سِنُّهُ ثَلاثَةً وثَلاثِينَ سَنَةً. وأمّا مَرْيَمُ أُمُّهُ فَهي مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرانَ بْنِ ماثانَ مِن سِبْطِ يَهُوذا ولَدَتْ عِيسى وهي ابْنَةُ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَتَكُونُ وِلادَتُها في سَنَةِ ثَلاثَ عَشْرَةَ قَبْلَ مِيلادِ عِيسى وتُوُفِّيَتْ بَعْدَ أنْ شاخَتْ ولا تُعْرَفُ سَنَةُ وفاتِها، وكانَ أبُوها ماتَ قَبْلَ وِلادَتِها فَكَفَلَها زَكَرِيّاءُ مِن بَنِي أبْيا وهو زَوْجُ اليَصاباتِ خالَةِ مَرْيَمَ وكانَ كاهِنًا مِن أحْبارِ اليَهُودِ كَما سَيَأْتِي في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. والبَيِّناتُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أيِ الآياتُ والمُعْجِزاتُ الواضِحاتُ، وأيَّدْناهُ قَوَّيْناهُ وشَدَدْنا عَضُدَهُ ونَصَرْناهُ وهو مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمٍ جامِدٍ وهو اليَدُ فَأيَّدَ بِمَعْنى جَعَلَهُ ذا يَدٍ واليَدُ مَجازٌ في القُوَّةِ والقُدْرَةِ فَوَزْنُ أيَّدَ أفْعَلَ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ الأيْدِ وهو القُوَّةُ فَوَزْنُهُ فَعَّلَ. والتَّأْيِيدُ التَّقْوِيَةُ والإقْدارُ عَلى العَمَلِ النَّفْسِيِّ وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الأيْدِ وهو القُوَّةُ قالَ تَعالى ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذا الأيْدِ﴾ [ص: ١٧] والأيْدُ مُشْتَقٌّ مِنَ اليَدِ لِأنَّها آلَةُ القُدْرَةِ والأحْسَنُ أنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ اليَدِ أيْ جَعَلَهُ ذا يَدٍ أيْ قُوَّةٍ، والمُرادُ هُنا قُوَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ وهي قُوَّةُ الرِّسالَةِ وقُوَّةُ الصَّبْرِ عَلى أذى قَوْمِهِ وسَيَأْتِي في الأنْفالِ قَوْلُهُ هو الَّذِي أيَّدَكَ بِنْصِرِهِ. والرُّوحُ جَوْهَرٌ نُورانِيٌّ لَطِيفٌ أيْ غَيْرُ مُدْرَكٍ بِالحَواسِّ فَيُطْلَقُ عَلى النَّفْسِ الإنْسانِيِّ الَّذِي بِهِ حَياةُ الإنْسِ، ولا يُطْلَقُ عَلى ما بِهِ حَياةُ العَجْماواتِ إلّا لَفْظُ نَفْسٍ، قالَ تَعالى ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٨٥] ويُطْلَقُ عَلى قُوَّةٍ مِن لَدُنِ اللَّهِ تَعالى يَكُونُ بِها عَمَلٌ عَجِيبٌ ومِنهُ قَوْلُهُ ﴿فَنَفَخْنا فِيها مِن رُوحِنا﴾ [الأنبياء: ٩١] ويُطْلَقُ عَلى جِبْرِيلَ كَما في قَوْلِهِ ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٣] وهو المُرادُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيها﴾ [القدر: ٤] وقَوْلِهِ ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والمَلائِكَةُ﴾ [النبإ: ٣٨] والقُدُسُ بِضَمَّتَيْنِ وبِضَمٍّ فَسُكُونٍ مَصْدَرٌ أوِ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنى النَّزاهَةِ والطَّهارَةِ. والمُقَدَّسُ المُطَهَّرُ وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] (p-٥٩٦)ورُوحُ القُدُسِ رُوحٌ مُضافٌ إلى النَّزاهَةِ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ الرُّوحُ الَّذِي نَفَخَ اللَّهُ في بَطْنِ مَرْيَمَ فَتَكُونُ مِنهُ عِيسى وإنَّما كانَ ذَلِكَ تَأْيِيدًا لَهُ لِأنَّ تَكْوِينَهُ في ذَلِكَ الرُّوحِ اللَّدُنِّيِّ المُطَهَّرِ هو الَّذِي هَيَّأهُ لِأنْ يَأْتِيَ بِالمُعْجِزاتِ العَظِيمَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ جِبْرِيلَ والتَّأْيِيدُ بِهِ ظاهِرٌ لِأنَّهُ الَّذِي يَأْتِيهِ بِالوَحْيِ ويَنْطِقُ عَلى لِسانِهِ في المَهْدِ وحِينَ الدَّعْوَةِ إلى الدِّينِ وهَذا الإطْلاقُ أظْهَرُ هُنا، وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثٌ في رُوعِي أنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتّى تَسْتَوْفِيَ أجَلَها» . وعَلى كِلا الوَجْهَيْنِ فَإضافَةُ رُوحٍ إلى القُدُسِ إمّا مِن إضافَةِ ما حَقُّهُ أنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا إلى ما حَقُّهُ أنْ تُشْتَقَّ مِنهُ الصِّفَةُ ولَكِنِ اعْتَبَرَ طَرِيقَ الإضافَةِ إلى ما مِنهُ اشْتِقاقُ الصِّفَةِ لِأنَّ الإضافَةَ أدَلُّ عَلى الِاخْتِصاصِ بِالجِنْسِ المُضافِ إلَيْهِ لِاقْتِضاءِ الإضافَةِ مُلابَسَةَ المُضافِ بِالمُضافِ إلَيْهِ وتِلْكَ المُلابَسَةُ هُنا تَئُولُ إلى التَّوْصِيفِ وإلى هَذا قالالتَّفْتَزانِيُّ في شَرْحِ الكَشّافِ وأنْكَرَ أنْ يَكُونَ المُضافُ إلَيْهِ في مِثْلِهِ صِفَةً حَقِيقَةً حَتّى يَكُونَ مِنَ الوَصْفِ بِالمَصْدَرِ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿أفَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ﴾ هو المَقْصُودُ مِنَ الكَلامِ السّابِقِ، وما قَبْلُهُ مِن قَوْلِهِ ولَقَدْ آتَيْنا تَمْهِيدٌ لَهُ كَما تَقَدَّمَ، فالفاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ والِاسْتِفْهامُ لِلتَّعْجِيبِ مِن طُغْيانِهِمْ ومُقابَلَتِهِمْ جَمِيعَ الرُّسُلِ في جَمِيعِ الأزْمانِ بِمُقابَلَةٍ واحِدَةٍ ساوى فِيها الخَلَفُ السَّلَفَ مِمّا دَلَّ عَلى أنَّ ذَلِكَ سَجِيَّةٌ في الجَمِيعِ. وتَقْدِيمُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ عَلى حَرْفِ العَطْفِ المُفِيدِ لِلتَّشْرِيكِ في الحُكْمِ اسْتِعْمالٌ مُتَّبَعٌ في كَلامِ العَرَبِ وظاهِرُهُ غَرِيبٌ لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهامُ مُتَسَلِّطًا عَلى العاطِفِ والمَعْطُوفِ، وتَسَلُّطُ الِاسْتِفْهامِ عَلى حَرْفِ العَطْفِ غَرِيبٌ فَلِذَلِكَ صَرَفَهُ عُلَماءُ النَّحْوِ عَنْ ظاهِرِهِ ولَهم في ذَلِكَ طَرِيقَتانِ: إحْداهُما طَرِيقَةُ الجُمْهُورِ قالُوا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ مُقَدَّمَةٌ مِن تَأْخِيرٍ وقَدْ كانَ مَوْقِعُها بَعْدَ حَرْفِ العَطْفِ فَقُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِاسْتِحْقاقِ الِاسْتِفْهامِ التَّصْدِيرَ في جُمْلَتِهِ، وإنَّما خَصُّوا التَّقْدِيمَ بِالهَمْزَةِ دُونَ غَيْرِها مِن كَلِماتِ الِاسْتِفْهامِ لِأنَّ الهَمْزَةَ مُتَأصِّلَةٌ في الِاسْتِفْهامِ إذْ هي الحَرْفُ المَوْضُوعُ لِلِاسْتِفْهامِ الأكْثَرِ اسْتِعْمالًا فِيهِ، وأمّا غَيْرُها فَكَلِماتٌ أُشْرِبَتْ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ مِنها ما هو اسْمٌ مِثْلَ (أيْنَ)، ومِنها حَرْفُ تَحْقِيقٍ وهو (هَلْ) فَإنَّهُ بِمَعْنى قَدْ فَلَمّا كَثُرَ دُخُولُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ عَلَيْهِ حَذَفُوا الهَمْزَةَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ فَأصْلُ ”هَلْ فَعَلْتَ“ ”أهَلْ فَعَلْتَ“ فالتَّقْدِيرُ أفَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ فَقُلِبَ، وقِيلَ أفَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ فَعَلى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَكُونُ الِاسْتِفْهامُ (p-٥٩٧)مَعْطُوفًا وتَكُونُ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلى الَّتِي قَبْلَها أوْ مَعْطُوفَةً عَلى مَحْذُوفٍ بِحَسَبِ ما يَسْمَحُ بِهِ المَقامُ. الطَّرِيقَةُ الثّانِيَةُ طَرِيقَةُ صاحِبِ الكَشّافِ وفي مُغْنِي اللَّبِيبِ أنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ أوَّلُ القائِلِينَ بِها وادَّعى الدَّمامِينِيُّ أنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ مَسْبُوقٌ في هَذا ولَمْ يُعَيِّنْ مَن سَبَقَهُ فَإنَّهُ قَدْ جَوَّزَ طَرِيقَةَ الجُمْهُورِ وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ هي مَبْدَأ الجُمْلَةِ وأنَّ المُسْتَفْهَمَ عَنْهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ما عُطِفَ عَلَيْهِ بِحَرْفِ العَطْفِ والتَّقْدِيرُ في مِثْلِهِ أتُكَذِّبُونَهم فَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ إلَخْ. وعَلى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ تَكُونُ الجُمْلَةُ اسْتِفْهامِيَّةً مُسْتَأْنَفَةً مَحْذُوفًا بَقِيَّتُها ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْها ما عُطِفَ. ولا أثَرَ لِهَذا إلّا في اخْتِلافِ الِاعْتِبارِ والتَّقْدِيرُ فَأمّا مَعْنى الكَلامِ فَلا يَتَغَيَّرُ عَلى كِلا الِاعْتِبارَيْنِ لِأنَّ العَطْفَ والِاسْتِفْهامَ كِلَيْهِما مُتَوَجِّهانِ إلى الجُمْلَةِ الواقِعَةِ بَعْدَهُما. والظّاهِرُ مِن كَلامِ صاحِبِ الكَشّافِ في هَذِهِ الآيَةِ وفي قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ ﴿أوَلَمّا أصابَتْكم مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْها﴾ [آل عمران: ١٦٥] أنَّ الطَّرِيقَتَيْنِ جائِزَتانِ في جَمِيعِ مَواقِعِ الِاسْتِفْهامِ مَعَ حَرْفِ العَطْفِ وهو الحَقُّ وأمّا عَدَمُ تَعَرُّضِهِ لِذَلِكَ عِنْدَ آياتِ ﴿أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ [البقرة: ٧٥] ﴿أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٧٦] ﴿أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ﴾ [البقرة: ٨٥] فِيما مَضى مِن هَذِهِ السُّورَةِ فَذَلِكَ ذُهُولٌ مِنهُ وقَدْ تَدارَكَهُ هُنا. وعِنْدِي جَوازُ طَرِيقَةٍ ثالِثَةٍ وهي أنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهامُ عَنِ العَطْفِ والمَعْنى أتَزِيدُونَ عَلى مُخالَفاتِكُمُ اسْتِكْبارَكم كُلَّما جاءَكم رَسُولٌ إلَخْ وهَذا مُتَأتٍّ في حُرُوفِ التَّشْرِيكِ الثَّلاثَةِ كَما تَقَدَّمَ مِن أمْثِلَةِ الواوِ والفاءِ وكَقَوْلِهِ تَعالى ﴿أثُمَّ إذا ما وقَعَ آمَنتُمْ بِهِ﴾ [يونس: ٥١] في سُورَةِ يُونُسَ، وقَوْلِ النّابِغَةِ: ؎أثَمَّ تَعَذَّرانِ إلَيَّ مِنها ∗∗∗ فَإنِّي قَدْ سَمِعْتُ وقَدْ رَأيْتُ وقَدِ اسْتَقْرَيْتُ هَذا الِاسْتِعْمالَ فَوَجَدْتُ مَواقِعَهُ خاصَّةً بِالِاسْتِفْهامِ غَيْرِ الحَقِيقِيِّ كَما رَأيْتُ مِنَ الأمْثِلَةِ. ومَعْنى الفاءِ هُنا تَسَبُّبُ الِاسْتِفْهامِ التَّعْجِيبِيِّ الإنْكارِيِّ عَلى ما تَقَرَّرَ عِنْدَهم مِن تَقْفِيَةِ مُوسى بِالرُّسُلِ أيْ قَفَّيْنا مُوسى بِالرُّسُلِ فَمِن عَجِيبِ أمْرِكم أنَّ كُلَّ رَسُولٍ جاءَكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ وجَوَّزَ صاحِبُ الكَشّافِ كَوْنَ العَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ أيْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ إلَخْ فَفَعَلْتُمْ ثُمَّ وبَّخَهم بِقَوْلِهِ أفَكُلَّما، فالهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ والفاءُ حِينَئِذٍ عاطِفَةٌ مُقَدَّرًا مَعْطُوفًا عَلى المُقَدَّرِ المُؤَهَّلِ لِلتَّوْبِيخِ، وهو وجْهٌ بَعِيدٌ، ومَرْمى الوَجْهَيْنِ إلى أنَّ جُمْلَةَ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ إلَخْ. غَيْرُ مُرادٍ مِنها الإخْبارُ بِمَدْلُولِها. وانْتَصَبَ كُلَّما بِالنِّيابَةِ عَنِ الظَّرْفِ لِأنَّهُ أُضِيفَ إلى ما الظَّرْفِيَّةِ المَصْدَرِيَّةِ والعامِلُ فِيهِ قَوْلُهُ اسْتَكْبَرْتُمْ وقُدِّمَ الظَّرْفُ لِيَكُونَ مُوالِيًا لِلِاسْتِفْهامِ المُرادِ مِنهُ التَّعْجِيبُ لِيَظْهَرَ أنَّ مَحَلَّ العَجَبِ هو اسْتِمْرارُ ذَلِكَ مِنهُمُ الدّالُّ عَلى أنَّهُ سَجِيَّةٌ لَهم ولَيْسَ ذَلِكَ لِعارِضٍ عَرَضَ في (p-٥٩٨)بَعْضِ الرُّسُلِ وفي بَعْضِ الأزْمِنَةِ، والتَّقْدِيرُ أفاسْتَكْبَرْتُمْ كُلَّما جاءَكم رَسُولٌ فَقَدَّمَ الظَّرْفَ لِلِاهْتِمامِ لِأنَّهُ مَحَلُّ العَجَبِ، وقَدْ دَلَّ العُمُومُ الَّذِي في كُلَّما عَلى شُمُولِ التَّكْذِيبِ أوِ القَتْلِ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ المُرْسَلِينَ إلَيْهِمْ لِأنَّ عُمُومَ الأزْمانِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الأفْرادِ المَظْرُوفَةِ فِيها. وتَهْوى مُضارِعُ هَوِيَ بِكَسْرِ الواوِ إذا أحَبَّ والمُرادُ بِهِ ما تَمِيلُ إلَيْهِ أنْفُسُهم مِنَ الِانْخِلاعِ عَنِ القُيُودِ الشَّرْعِيَّةِ والِانْغِماسِ في أنْواعِ المَلَذّاتِ والتَّصْمِيمِ عَلى العَقائِدِ الضّالَّةِ. والِاسْتِكْبارُ الِاتِّصافُ بِالكِبْرِ وهو هُنا التَّرَفُّعُ عَنِ اتِّباعِ الرُّسُلِ وإعْجابُ المُتَكَبِّرِينَ بِأنْفُسِهِمْ واعْتِقادُ أنَّهم أعْلى مِن أنْ يُطِيعُوا الرُّسُلَ ويَكُونُوا أتْباعًا لَهم؛ فالسِّينُ والتّاءُ في اسْتَكْبَرْتُمْ لِلْمُبالَغَةِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إلّا إبْلِيسَ أبى واسْتَكْبَرَ﴾ [البقرة: ٣٤] وقَوْلُهُ ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ مُسَبَّبٌ عَنِ الِاسْتِكْبارِ فالفاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ فَإنَّهم لَمّا اسْتَكْبَرُوا بَلَغَ بِهِمُ العِصْيانُ إلى حَدِّ أنْ كَذَّبُوا فَرِيقًا أيْ صَرَّحُوا بِتَكْذِيبِهِمْ أوْ عامَلُوهم مُعامَلَةَ الكاذِبِ وقَتَلُوا فَرِيقًا وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى عَنْ أهْلِ مَدْيَنَ ﴿قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمّا تَقُولُ وإنّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفًا ولَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ﴾ [هود: ٩١] وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ هُنا لِما فِيهِ مِنَ الدِّلالَةِ عَلى التَّفْصِيلِ فَناسَبَ أنْ يُقَدَّمَ لِيَدُلَّ عَلى ذَلِكَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَرِيقًا هَدى وفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ﴾ [الأعراف: ٣٠] وهَذا اسْتِعْمالٌ عَرَبِيٌّ كَثِيرٌ في لَفْظِ فَرِيقٍ وما في مَعْناهُ نَحْوَ طائِفَةٍ إذا وقَعَ مَعْمُولًا لِفِعْلٍ في مَقامِ التَّقْسِيمِ نَحْوَ ﴿يَغْشى طائِفَةً مِنكم وطائِفَةٌ قَدْ أهَمَّتْهم أنْفُسُهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٤] والتَّفْصِيلُ راجِعٌ إلى ما في قَوْلِهِ (رَسُولٌ) مِنَ الإجْمالِ لِأنَّ كُلَّما جاءَكم رَسُولٌ أفادَ عُمُومَ الرَّسُولِ وشَمِلَ هَذا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّهم وإنْ لَمْ يُكَذِّبُوهُ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ لَكِنَّهم عامَلُوهُ مُعامَلَةَ المُكَذِّبِينَ بِهِ إذْ شَكُّوا غَيْرَ مَرَّةٍ فِيما يُخْبِرُهم عَنِ اللَّهِ تَعالى وأساءُوا الظَّنَّ بِهِ مِرارًا في أوامِرِهِ الِاجْتِهادِيَّةِ وحَمَلُوهُ عَلى قَصْدِ التَّغْرِيرِ بِهِمْ والسَّعْيِ لِإهْلاكِهِمْ كَما قالُوا حِينَ بَلَغُوا البَحْرَ الأحْمَرَ. وحِينَ أمَرَهم بِالحُضُورِ لِسَماعِ كَلامِ اللَّهِ تَعالى، وحِينَ أمَرَهم بِدُخُولِ أرِيحا، وغَيْرِ ذَلِكَ وأمّا بَقِيَّةُ الرُّسُلِ فَكَذَّبُوهم بِصَرِيحِ القَوْلِ مِثْلَ عِيسى وقَتَلُوا بَعْضَ الرُّسُلِ مِثْلَ أشْعِياءَ وزَكَرِيّاءَ ويَحْيى ابْنِهِ. وأرْمِياءَ. وجاءَ في تَقْتُلُونَ بِالمُضارِعِ عِوَضًا عَنِ الماضِي لِاسْتِحْضارِ الحالَةِ الفَظِيعَةِ وهي حالَةُ قَتْلِهِمْ رُسُلَهم كَقَوْلِهِ ﴿واللَّهُ الَّذِي أرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَسُقْناهُ﴾ [فاطر: ٩] مَعَ ما في صِيغَةِ تَقْتُلُونَ مِن مُراعاةِ الفَواصِلِ فاكْتَمَلَ بِذَلِكَ بَلاغَةُ المَعْنى وحُسْنُ النَّظْمِ.