ركن التفسير
72 - (قالوا لن نؤثرك) نختارك (على ما جاءنا من البينات) الدالة على صدق موسى (والذي فطرنا) خلقنا قسم أو عطف على ما (فاقض ما أنت قاض) أي إصنع ما قلته (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) النصب على الاتساع أي فيها وتجزى عليه في الآخرة
و"قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات" أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين والذي فطرنا يحتمل أن يكون قسما ويحتمل أن يكون معطوفا على البينات يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم المبتدي خلقنا من الطين فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت فاقض ما أنت قاض أي فافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك إنما تقضي هذه الحياة الدنيا أي إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال ونحن قد رغبنا في دار القرار.
(p-٢٦٦)﴿قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ البَيِّناتِ والَّذِي فَطَرَنا فاقْضِ ما أنْتَ قاضٍ إنَّما تَقْضِي هَذِهِ الحَياةَ الدُّنْيا﴾ ﴿إنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وما أكْرَهْتنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ واللَّهُ خَيْرٌ وأبْقى﴾ . أظْهَرُوا اسْتِخْفافَهم بِوَعِيدِهِ وبِتَعْذِيبِهِ، إذْ أصْبَحُوا أهْلَ إيمانٍ ويَقِينٍ، وكَذَلِكَ شَأْنُ المُؤْمِنِينَ بِالرُّسُلِ إذا أشْرَفَتْ عَلَيْهِمْ أنْوارُ الرِّسالَةِ فَسُرْعانَ ما يَكُونُ انْقِلابُهم عَنْ جَهالَةِ الكُفْرِ وقَساوَتِهِ إلى حِكْمَةِ الإيمانِ وثَباتِهِ. ولَنا في عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ ونَحْوِهِ مِمَّنْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ مَثَلُ صِدْقٍ. والإيثارُ: التَّفْضِيلُ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى (﴿لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا﴾ [يوسف: ٩١]) في سُورَةِ يُوسُفَ. والتَّفْضِيلُ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وما جاءَهم مِنَ البَيِّناتِ مُقْتَضٍ حَذْفَ مُضافٍ يُناسِبُ المُقابَلَةَ بِالبَيِّناتِ، أيْ لَنْ نُؤْثِرَ طاعَتَكَ أوْ دِينَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ البَيِّناتِ الدّالَّةِ عَلى وُجُوبِ طاعَةِ اللَّهِ تَعالى، وبِذَلِكَ يَلْتَئِمُ عَطْفُ (﴿والَّذِي فَطَرَنا﴾)، أيْ لا نُؤْثِرُكَ في الرُّبُوبِيَّةِ عَلى الَّذِي فَطَرَنا. وجِيءَ بِالمَوْصُولِ لِلْإيماءِ إلى التَّعْلِيلِ، لِأنَّ الفاطِرَ هو المُسْتَحَقُّ بِالإيثارِ. وأُخِّرَ (﴿الَّذِي فَطَرَنا﴾) عَنْ (﴿ما جاءَنا مِنَ البَيِّناتِ﴾) لِأنَّ البَيِّناتِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الَّذِي خَلَقَهم أرادَ مِنهُمُ الإيمانَ بِمُوسى ونَبْذَ عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، ولِأنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا بِدَعْوَةِ فِرْعَوْنَ لِلْإيمانِ بِاللَّهِ. وصِيغَةُ الأمْرِ في قَوْلِهِ (﴿فاقْضِ ما أنْتَ قاضٍ﴾) مُسْتَعْمَلَةٌ في التَّسْوِيَةِ، لِأنَّ (﴿ما أنْتَ قاضٍ﴾) ماصَدَقَهُ ما تَوَعَّدَهم بِهِ مِن تَقْطِيعِ (p-٢٦٧)الأيْدِي والأرْجُلِ والصَّلْبِ، أيْ سَواءٌ عَلَيْنا ذَلِكَ بَعْضُهُ أوْ كُلُّهُ أوْ عَدَمُ وُقُوعِهِ، فَلا نَطْلُبُ مِنكَ خَلاصًا مِنهُ جَزاءَ طاعَتِكِ فافْعَلْ ما أنْتَ فاعِلٌ (والقَضاءُ هُنا التَّنْفِيذُ والإنْجازُ) فَإنَّ عَذابَكَ لا يَتَجاوَزُ هَذِهِ الحَياةَ ونَحْنُ نَرْجُو مِن رَبِّنا الجَزاءَ الخِالِدَ. وانْتَصَبَ (﴿هَذِهِ الحَياةَ﴾) عَلى النِّيابَةِ عَنِ المَفْعُولِ فِيهِ، لِأنَّ المُرادَ بِالحَياةِ مُدَّتُها. والقَصْرُ المُسْتَفادُ مِن (إنَّما) قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلى صِفَةٍ، أيْ إنَّكَ مَقْصُورٌ عَلى القَضاءِ في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا لا يَتَجاوَزْهُ إلى القَضاءِ في الآخِرَةِ، فَهو قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ. وجُمْلَةُ (﴿إنّا آمَنّا بِرَبِّنا﴾) في مَحَلِّ العِلَّةِ لِما تَضَمَّنَهُ كَلامُهم. ومَعْنى (﴿وما أكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ﴾) أنَّهُ أكْرَهَهم عَلى تَحَدِّيهِمْ مُوسى بِسِحْرِهِمْ فَعَلِمُوا أنَّ فِعْلَهم باطِلٌ وخَطِيئَةٌ لِأنَّهُ اسْتُعْمِلَ لِإبْطالِ إلَهِيَّةِ اللَّهِ، فَبِذَلِكَ كانَ مُسْتَوْجِبًا طَلَبَ المَغْفِرَةِ. وجُمْلَةُ (﴿واللَّهُ خَيْرٌ وأبْقى﴾) في مَوْضِعِ الحالِ، أوْ مُعْتَرِضَةٌ في آخِرَ الكَلامِ لِلتَّذْيِيلِ. والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ خَيْرٌ لَنا بِأنْ نُؤْثِرَهُ مِنكَ. والمُرادُ: رِضى اللَّهِ وهو أبْقى مِنكَ، أيْ جَزاؤُهُ في الخَيْرِ والشَّرِّ أبْقى مِن جَزائِكَ فَلا يَهُولُنا قَوْلُكَ (﴿ولَتَعْلَمُنَّ أيُّنا أشَدُّ عَذابًا وأبْقى﴾ [طه: ٧١])، فَذَلِكَ مُقابَلَةٌ لِوَعِيدِهِ مُقابَلَةً تامَّةً.