ركن التفسير
71 - (ويعبدون) أي المشركون (من دون الله ما لم ينزل به) هو الأصنام (سلطانا) حجة (وما ليس لهم به علم) أنها آلهة (وما للظالمين) بالإشراك (من نصير) يمنع عنهم عذاب الله
يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما جهلوا وكفروا وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطانا يعني حجة وبرهانا كقوله " ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون " ولهذا قال ههنا " ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم " أي ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة وأصله مما سول لهم الشيطان زينه لهم ولهذا توعدهم تعالى بقوله " وما للظالمين من نصير " أي من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العذاب والنكال.
﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وما لَيْسَ لَهم بِهِ عِلْمٌ وما لِلظّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الواوُ حَرْفَ عَطْفٍ وتَكُونَ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلى الجُمْلَةِ السّابِقَةِ بِما تَفَرَّعَ عَلَيْها عَطْفَ غَرَضٍ عَلى غَرَضٍ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الواوُ لِلْحالِ والجُمْلَةُ بَعْدَها حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ في قَوْلِهِ (جادَلُوكَ) . والمَعْنى: جادَلُوكَ في الدِّينِ مُسْتَمِرِّينَ عَلى عِبادَةِ ما لا يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ بَعْدَ ما رَأوْا مِنَ الدَّلائِلِ. وتَتَضَمَّنُ الحالُ تَعْجِيبًا مِن شَأْنِهِمْ في مُكابَرَتِهِمْ وإصْرارِهِمْ. (p-٣٣٣)والإتْيانُ بِالفِعْلِ المُضارِعِ المُفِيدِ لِلتَّجَدُّدِ عَلى الوَجْهَيْنِ لِأنَّ في الدَّلائِلِ الَّتِي تَحُفُّ بِهِمْ والَّتِي ذُكِّرُوا بِبَعْضِها في الآياتِ الماضِيَةِ ما هو كافٍ لِإقْلاعِهِمْ عَنْ عِبادَةِ الأصْنامِ لَوْ كانُوا يُرِيدُونَ الحَقَّ. و(مِن دُونِ) يُفِيدُ أنَّهم يُعْرِضُونَ عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ، لِأنَّ كَلِمَةَ (دُونِ) وإنْ كانَتِ اسْمًا لِلْمُباعَدَةِ قَدْ يَصْدُقُ بِالمُشارَكَةِ بَيْنَ ما تُضافُ إلَيْهِ وبَيْنَ غَيْرِهِ. فَكَلِمَةُ (دُونِ) إذا دَخَلَتْ عَلَيْها (مِن) صارَتْ تُفِيدُ مَعْنى ابْتِداءِ الفِعْلِ مِن جانِبٍ مُباعِدٍ لِما أُضِيفَ إلَيْهِ (دُونِ) فاقْتَضى أنَّ المُضافَ إلَيْهِ غَيْرُ مُشارِكٍ في الفِعْلِ. فَوَجْهُ ذَلِكَ أنَّهم لَمّا أُشْرِبَتْ قُلُوبُهُمُ الإقْبالَ عَلى عِبادَةِ الأصْنامِ وإدْخالَها في شُئُونِ قُرُباتِهِمْ حَتّى الحَجِّ إذْ قَدْ وضَعُوا في شَعائِرِهِ أصْنامًا؛ بَعْضُها وضَعُوها في الكَعْبَةِ وبَعْضُها فَوْقَ الصَّفا والمَرْوَةِ جُعِلُوا كالمُعَطِّلِينَ لِعِبادَةِ اللَّهِ أصْلًا. والسُّلْطانُ: الحُجَّةُ. والحُجَّةُ المُنَزَّلَةُ: هي الأمْرُ الإلَهِيُّ الوارِدُ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ وفي شَرائِعِهِ، أيْ يَعْبُدُونَ ما لا يَجِدُونَ عُذْرًا لِعِبادَتِهِ مِنَ الشَّرائِعِ السّالِفَةِ. وقُصارى أمْرِهِمْ أنَّهُمُ اعْتَذَرُوا بِتَقَدُّمِ آبائِهِمْ بِعِبادَةِ أصْنامِهِمْ، ولَمْ يَدَّعُوا أنَّ نَبِيئًا أمَرَ قَوْمَهُ بِعِبادَةِ صَنَمٍ ولا أنَّ دِينًا إلَهِيًّا رَخَّصَ في عِبادَةِ الأصْنامِ. ﴿وما لَيْسَ لَهم بِهِ عِلْمٌ﴾ أيْ لَيْسَ لَهم بِهِ اعْتِقادٌ جازِمٌ لِأنَّ الِاعْتِقادَ الجازِمَ لا يَكُونُ إلّا عَنْ دَلِيلٍ، والباطِلُ لا يُمْكِنُ حُصُولُ دَلِيلٍ عَلَيْهِ. وتَقْدِيمُ انْتِفاءِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَلى انْتِفاءِ الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ لِأنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ أهَمُّ. و(ما) الَّتِي في قَوْلِهِ ﴿وما لِلظّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ﴾ نافِيَةٌ. والجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أيْ يَعْبُدُونَ ما ذُكِرَ وما لَهم نَصِيرٌ فَلا تَنْفَعُهم عِبادَةُ الأصْنامِ. فالمُرادُ بِالظّالِمِينَ المُشْرِكُونَ المُتَحَدَّثُ عَنْهم، فَهو مِنَ الإظْهارِ في مَقامِ الإضْمارِ لِلْإيماءِ إلى (p-٣٣٤)أنَّ سَبَبَ انْتِفاءِ النَّصِيرِ لَهم هو ظُلْمُهم، أيْ كُفْرُهم. وقَدْ أفادَ ذَلِكَ ذَهابَ عِبادَتِهِمُ الأصْنامَ باطِلًا لِأنَّهم عَبَدُوها رَجاءَ النَّصْرِ. ويُفِيدُ بِعُمُومِهِ أنَّ الأصْنامَ لا تَنْصُرُهم فَأغْنى عَنْ مَوْصُولٍ ثالِثٍ هو مِن صِفاتِ الأصْنامِ كَأنَّهُ قِيلَ: وما لا يَنْصُرُهم، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ﴾ [الأعراف: ١٩٧] .